سينما وتليفزيون

جودر وصلة رحم.. نموذجان للتطهر والعلاج بالفن!


المسرح نيوز ـ القاهرة| سينما وتليفزيون

ـ

د. خالد عاشور

 

 

أشاهد حلقات مسلسل جودر في أخر اليوم بعد يوم طويل اقضيه في متابعة الدراما المصرية.. ما أفعله هو نوع من التطهر والعلاج بالفن كما كان يفعله مسلسل #صلة_رحم في النصف الأول من الشهر..
تطهير للعين والأذن والقلب والعقل.. وسعيد بهذا العمل الذي خرج متكاملاً ومصرياً خالصاً أصيلاً دون حاجة الى التقليد او النحت..
فلم أضبط الكاتب الكبير والسيناريست العقر “أنور عبد المغيث” مقتبساً من أحد فهو يكتب بروحه ومن روحه خرج النص.. ثم يأتي دور المخرج المتميز ابن عمنا وأستاذنا “خيري شلبي” صاحب أول تجربة روائية مختلفة واحب كتبه الى قلبي “بطن البقرة” كأول من كتب في فن الجغرواية.. او جغرافية الرواية.. هذا ما فعله أيضا اسلام خيري في تجربته “جودر” فهي “جغرودراما” بامتياز ولوحات فنية رسمها المخرج اسلام خيري ومدير التصوير “تيمور تيمور” وفريق متناغم غاية في الصدق يسود بينهم المحبة وغياب الآنا في رائعة “جغرودرامية” في غاية السحر.
دلالات النص.. ودلالات الصورة.. ورائعة الجغرودراما في جودر.
منذ بداية المسلسل ومن أول كادر كانت لدى صناع مسلسل جودر خصوصية ان يكون العمل اصيل في مصريته مختلفاً عن اي تناول سابق لحكايات ألف ليلة وليلة الشهيرة في جغرافية الحكاية.. صحيح أننا عشقنا الف ليلة وليلة في المسلسل الأذاعي الذي استمر لـ 26 عام بصوت زوزو نبيل الحالم وعبد الرحيم الزرقاني القوي وكتابة القدير “طاهر ابو فاشا” واخراج “محمد محمود شعبان”..
لم يتجاوز أحد حاجز هذا المسلسل الذي تربينا عليه.. لكن ما فعله مسلسل جودر هو قدرته على تجاوز الخيال المسموع بجسر من الخيال المرئي الممزوج بواقع جميل به كثير من ذكاء الصنعة وحرفيتها وابداعها في دلالات النص المكتوب اولا ثم ترجمتها الى دلالات وسميولوجيا الصورة التي ابدع فيها المخرج ومدير التصوير وباقي فريق العمل المتميز في كل ركن من اركانه.. وتصنيف جديد سيؤرخ لدراما جديدة هي “الجغرودراما” والخيال الواقعي.
أولاً: دلالات المصرية الخالصة.
في كل حلقة يتعمد المخرج ومدير التصوير ومهندس الاضاءة والديكور والملابس على ان تقع الكاميرا على ما يؤكد مصرية الحكاية دون صخب او اعلان صارخ..فقط يترك الكاميرا كميكروسكوب راصد لمواطن المصرية في كل ما تراه تاركا للمشاهد متعة المشاهدة ليتعلق بالعمل ويراه مرة اخرى..
المرة الأولى يكون مهتما بسحر الصورة ونقائها وتحولها الى لوحات فنية.. في المرة الثانية سيري بواطن الدلالات التي اشار اليها بنعومة الساحر في حركاته.. فمثلا في بداية الحلقة 12 وفي المشهد الأفتتاحي تجلس “شهريار” على مقعد بجوار اختها وحولها الجواري.. الكرسي في خلفيته نقش “جعران” مصري..
وهو نوع من الخنافس تسمى “خنفساء الروث” وهي واحدة من أقوي الكائنات الصغيرة على وجه الأرض لأنها قادرة على جمع كمية من الروث ودحرجتها امامها بكل سهولة.. هذه الخنفساء عند المصريين القدماء رمز الخير والخصب والقوة.. دلالة على مصرية الحدث.. ثم اسقاط على قوة الأنثى بداخل شهريار ودفعها للملك الى محبتها وخير المملكة وايقاف قتل النساء كل ليلة حتى وهي تكيد لتودد فهي تكيد لها بمكر ناعم بلا عنف فيه.
دلالة مصرية أخرى في أصالة العمل كدراما خيالية من الملابس..
فملابس الفنان “ياسر جلال” في شخصية “جودر” كفلاح مصري بسيط طيب يبدو ساذجا ولكنه ليس غبياً.. عمامة مصرية تشبه عمامة الفلاحين في محافظات الدلتا والصعيد.. فلا هي بالطويلة الرفيعة كعمامات اهل فارس.. ولا هي مستطيلة كطرابيش الأتراك.. ولا هي منبعجة لتدل الى طائفة دينية بعينها…
ثم تأتي ملابسه الكتان والسديري القديم لدى فلاحين مصر وقميصه الكتان كأول قماش مصري استخدمه المصري القديم مع تحكم كامل لدى ياسر جلال في تقاسيم وجهه وجسمه كاستاذ تشريح يشرح لطلاب الطب عضلات الوجه وكيف تعمل وتعبر ليستخدمها في التعبير عن ابعاده الثلاث كممثل “البعد النفسي الداخلي.. والبعد الخارجي الظاهر لجسمه ووجهه..
والبعد الفني للشخصية” يفعل ياسر جلال ومعه فريق العمل ما فعله “رامبرانت في لوحته العظيمة “درس التشريح مع الدكتور تولب”.. هذه ادوات الفنان التي يجب ان يدركها ويعمل على اظهارها بعيدا عن ممثلي التخشب والتحجر الداخلي والخارجي والفني.
ثانياً: الشمعيون.. اسقاطات دينية وتاريخية ذكية دون افصاح.
الفن لا يشرح.. الفن وجهات نظر.. وكل متلقي يراه من منظوره ومن ثقافته ومن بصيرته.. ولكي نصل الى البصيرة دون مبالغة في سرد صراع الخلافات الدينية والعدائية لأعداء تاريخيين بعينهم يتربصون بمصر ويحتلون جزءاً عزيزا من وطننا العربي جاء اسقاط الشمعيين.. وللغرابة ان الشمعيين اسم شديد التكثيف والدلالة..
فهم مجرد شمعيين من “الشمع” يكره الضوء ويعيش في المؤمرات والخبث والمكر والدهاء..
نعم! شمعيون سيذوبون مهما طال صراعهم مع الخير المتمثل في جودر وعالمه.. عالم الشمعيين دائما تكون الأضاءة فيه معتمدة على النار.. وهي مفارقة اخرى لها دلالة.. فهم سيحرقون انفسهم بانفسهم.. حتى اللوحات في عالم الشمعيين لها اسقاطات كهنوتية ودينية دون افصاح.. وهذا ذكاء يحسب للسناريو والأخراج والديكور والأضاءة.. قل ما تريد.. دون ان تتكلم.. فالصورة وحدها تتكلم.
ثم نأتي الى دلالت الأسماء كما في “شواهي” فهي الشهوة.. الشهوة في الأنتقام والغدر والخيانة.. اما اخوتها الشمعيين فوشم العنكبوت دلالة اشد تعبيرا وذكاء.. العنكبوت هو اوهن البيوت.. والمفارقة ان اخوتها الذكور فقط هم من رسم على وجوههم وشم العنكبوت..
والأنثى في عالم العنكبوت تقتل الذكر بعد ان تنال غرضها منه ويكون عشائها الأخير قبل ان تعتكف لحراسة بيضها… عناكب ستموت قريبا مهما طال الوقت.. وذكر العنكبوت لا ينسج خيوط لأن الأنثى وحدها هي التي تنسج.. وهذا ما كان ذكيا في شخصية شواهي.. فلا يوجد وشم “عنكبوت” على وجهها لأنها هي في الحقيقة انثى العنكبوت التي تجذب اخوتها الذكور وتلقي بهم الى التهلكة فيما بعد.
ثم نذهب الى رحلة جودر”ياسر جلال” مع الشيخ عبد الأحد “أحمد بدير” ورحلة من بحيرة قارون الى المغرب.. بحيرة قارون مصرية بداية الرحلة.. ثم يقف الكادر على البغلتين.. وهما في الأصل ماردين.. بغلة منهم تقف على ثلاثة ارجل تعبيرا عن الأجهاد ليبين المسافة التي قطعتها دون ان يشعر جودر والتي يمتطيها الشيخ “عبد الأحد” حامل العلم والنور..
أما جودر فبغلته هي الأخرى يبدو عليها الأجهاد في وقفتها وابعاد اقدامها الخلفية عن بعض.. ثم “كلوز” على البغلتين ليبدو على اعينهم الأجهاد وتصديق انهما ماردين.
وحين نذهب الى اسقاط أخر وهو البومة التي ظهرت لجودر والشيخ العارف “عبد الأحد” واختيار نوع من البوم “ذات القرون” الأتي من الشمال والمستوطن مصر فيما بعد.. هذا النوع من البوم المقرن “ذو القرنين” يسمى عند العامة “أم قويق”.. وهي نذير شوم وحذر.. وقبل هذه اللقطة كانت لقطة كاميرا “اسلام خيري” بعين الطائر” كأشارة الى كونها “شواهي” ذاتها التي تراقب “جودر” وهي نذير شوم.
في كل كادر من كادرات المسلسل يظهر ابداع فريق عمل جودر بداية من دلالات النص ثم دلالات الصورة لتأكيد مصرية العمل في الأكسسوار لدى جميع الشخصيات والأضاءة في الأماكن التي يتواجد فيها الأبطال سواء في عالم الملك شهريار او جودر أو حتى الشمعيين..
وللغرابة..  أن هناك حالة طبية يعرفها زملائنا الأطباء وهي الأطفال الشمعيين وهم الأطفال الذين يولدون بوجه يكسوه جلد يشبه الشمع لا يسطيعون تحريك عضلات وجههم وطيلة حياتهم يظلون بعيدا عن الضوء والحرارة وفي رطوبة لا تعجل من موتهم..
هكذا كان عالم الشمعيين المولوين ليموتوا مهما كان شرهم وشر ما يدبرون.. ويبقى جودر عملا مصريا متميزاً بابداعة في الكتابة والأخراج والإضاءة والديكور والملابس والتمثيل.. والأهم أفتخارنا باننا صنعنا عملا ابداعيا سيتعلم منه الجميع كيف يكون الأبداع وكيف يكون اعطاء العيش لخبازه من البداية لنستمتع بهذا الجمال بعيدا عن الشلة والمحسوبية والاستسهال والعك والخوف من التابوهات والأعراف والمجتمع.
فشكرا لصناع مسلسل #جودر
وشكرا لصناع مسلسل #صلة_رحم
آن لنا أن نفتخر بان لدينا صناعة دراما مصرية خالصة الكتابة والأخراج والأبداع.


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock