مقالات ودراسات

حصريا.. الناقد والأكاديمي د. جبار خماط يكتب: الممثل العيادي والمسافة الجمالية


المسرح نيوز ـ بغداد| د. جبار خماط*

  • أكاديمي وناقد عراقي

 

تنمو اتجاهات التمثيل مع حاجات الأسلوب للمغايرة في النظرة إلى الحياة، وتعدد زوايا التواصل معها، بهدف الإحاطة بالمعنى والقصد الجمالي ، الذي يبحث عنه الفنان طوال رحلته الإبداعية ، فلا راحة في البحث، ما دام يدور في الرأس هاجس القبض على اللحظة الإبداعية المغايرة، هذا السعي تراه منذ كان الفن بدائيا إلى مرحلة ما بعد الحداثة، رحلة في المستقبل في مسافة يصنعها وعي الانسان مع الوجود جماليا ، لعله يصل الى مرمى اليقين، الذي يلوح سرابا، ما إن يصل إليه في التجربة الفنية، حتى يغيب، لتبحث رحلة جديدة مع يقين فني آخر.

يمكن وصف لعالم من حولنا بأنه علامة إدراكية ، يختص بها الوعي، يستدعي من تياره الجارف، ما يريد ويتفاعل معه، من حيث تراكم خبرة المعرفة لديه، إذ تتباين خبراتنا في فهم الوجود الذي من حولنا، منهم من يراه ضروريا للتجربة والمعرفة ومنهم من يراه ضرورة لا خيار لنا في التواصل معها، لانها سابقة لوجودنا زمنياً، ومنهم من يجد العالم غير مكتمل الصورة، ينبغي بإدراكنا الوصول به إلى الاكتمال، هذه النظرات المعرفية، لا تقوم أو تستنتج إلا بالمسافة الإدراكية ما بين الوعي والظاهرة التي من حولنا، إذ نجد نظريات التلقي تنظر إلى العالم بوصفه رسالة تنتظر مشاركة المستقبل للتفاعل والاضافة، أو ما يعرف بالتغذية الراجعة في نظرية الاتصال، وهنا يكون السؤال، هل جميع الفنون تتطلب تغذية راجعة لنجاحها وإثبات فاعليتها الفكرية والجمالية ؟ أم ان الفنون محض وجود مستقل بذاتها لا تنتظر تدخلا من الخارج – المتلقي – لتكون مكتملة الإنشاء والتاثير؟

إن مسافة الوعي مع الظاهرة أما عاطفية أو ذهنية، انعكست جماليا على المسرح، فاصبح المسافة الجمالية في بعدها العاطفي في عروض التي تعتمد التطهير الأرسطي، أذ المتلقي يستقبل الرسالة كاملة، والغاية منها تطهير وعي المتلقي من بعض المشاعر السلبية التي حددها لنا ارسطو بعاطفتي الشفقة والخوف، وثمة مسافة جمالية تسمح للمتلقي بان يكون شريكاً في صناعة الفعل المسرحي ذهنياً ، قد يكون بالكلام او الاشارة الحركية او السمعية، لان العرض غابته البحث عن متلق ٍ واعٍ ، يبحث عن التغيير في واقعه الخاص، والعام من حوله، وبالتالي يمكن التعرف على المسافة الجمالية في بعدها التفاعلي / الذهني، في عروض المسرح التجريبي الذي ينظر الى المسرح بوصفه طقساً ينتجه صانعوا العرض والجمهور على حد سواء، ولنا في تجارب بريخت في مسرحه الملحمي تأكيدا على مسافة التفكير الجمالي، الذي تختلف عمليا عن مسافة العاطفة الجمالية التي نجدها في المسرح الذي نظر له ارسطو في كتابه فن الشعر .إذاً ثمة مسافتان أسلوبيتان تعالجان الواقع كلما اقتربت من الواقع حد التطابق مثل ما ارادت الطبيعية، نجد ان المسافة الاسلوبية غير متحققة، أما إذا كانت المسافة الاسلوبية بعيدة في معالجتها للواقع المحيط بنا، فإن منسوبها النوعي تصعد درجته مثل ما نجده في عروض مسرح اللامعقول ، لذا حين نشد الرحال نحو المعالجة المسرحية، ينبغي التفكير في درجة المسافة الاسلوبية مع الواقع ، ودرجتها ما بين التطابق أو الاختلاف .

 

وهذا ما دفع العيادة المسرحية أسلوبياً، ألا تقترب من الواقع ولا تبتعد عنه، لأن مسافتها تعمل أولا في وعي المشارك وإزاحة ذاكرته المؤلمة، تلك مسافه ذهنية بين الذات وذاكرتها السلبية، ثم تبدأ مسافة عاطفية جدبدة، تتمثل في تعاطف المشارك مع الشخصية الدرامية التي يواجهها لأول مرة، وهو ما يخلق لديه إرادة الكف لما هو سلبي والميل الى مساحة سلوكية جديدة يتدرب عليها بشكل جماعي مع المشاركين الاخرين في العيادة المسرحية، وهنا يعيش المشارك مسافتان ذهنية وعاطفية على حد سواء، يبدا بالذهني، فيها يتجاوز المشارك ما هو سليي من الافكار النمطية في حياته، بوساطة التفكير الابتكاري البسيط وليس المعقد، بعدها يتم الانتقال الى المسافة العاطقية، التي تتمثل في لذة التمثيل التي تعزز لديه الثقة، كلا المسافتين – الذهنية والعاطفية – تتطلبان مسافة أسلوبية مع الواقع تبتعد عن المتراكم منه في ذاكرة المستفيد ، وتقترب من الجديد بصرياً وسمعياً وحركياً، ليكون في التكرار اليومي للتماربن، خبرة مسرحية ذات طابع سلوكي جديد يشعر به المشارك ويتفاعل معه.

 

وهنا تتحقق لدى المشاركين المسافة الجمالية في بعديها الذهني والعاطفي، وهو ما يميز أداء الممثل العيادي في العيادة المسرحية، الذي يتمكن بوساطة تمثيله من العودة إلى ذاته المفقودة، بسبب مركب الإحباط والغربة، الذي يقيد الارادة لدى المشاركين والذي تعمل العيادة المسرحية، على فك القيود الفكرية والشعورية، ليكون حراً ومنتجاً للمعنى الجمالي الذي يتفاعل معه الآخرون.


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock