مقالات ودراسات

حصريا في “المسرح نيوز”.. د. جمال ياقوت يكتب “صفحات من دفتر المحرقة” ..(2) واحترقنا!

شاهد عيان على محرقة بني سويف


المسرح نيوز ـ القاهرة ـ صفحات من دفتر المحرقة| د. جمال ياقوت

ـ

 

(2) وأحترقنا

داخل قاعة الفنون التشكيلية التي أقيم عليها عرض “قصة حديقة الحيوان”، تشعر برائحة الموت بقوة … الجدران كلها مغطاه بورق الكرافت حتي السقف … وقد تم تجعيد هذا الورق كي يعطي احساس بخنقة المغارة فضاقت القاعة أكثر وأكثر، علماً بأن الباب الرئيسي للقاعة الذي يفضي للشارع تم اغلاقه، وتغطيته بورق الكرافت أيضاً، بحيث لا يمكن تحديد مكان الباب من الداخل، أما الباب الصغير الذي يفضي لبهو المسرح فقد ترك نصفه مفتوحاً بينما أغلق النصف الآخر، و قد تم تقسيم القاعة الي جزءين الأول يمتد من الباب الخارجي الي ثلثها تقريباً ويمثل المكان المخصص للجمهور حيث جلس الجميع في صفين يفصل بينهما ممرصغير،  أما الجزء الثاني فيمتد من نهاية هذا الجزء حتي نهاية القاعة ويمثل حوالي ثلثي المساحة الاجمالية للقاعة، وهو المكان المخصص للتمثيل، وفيه وضع مصمم السينوغرافيا –أو المخرج – حوالي خمسين شمعة مضاءة علي أضلاعه الثلاثة ( يمين – يسار – مواجهة)،

و لأنني دخلت قبل بداية العرض فقد شاهدت فترة التوتر التي تسبق العروض عادة، ولكن هذه المرة كان التوتر فوق العادة، فالمخرج يصر علي ألا يتواجد أحد بالمكان غير الأشخاص الفنيين وأنا – المصوراتي – و هو ينادي صارخاً،”يا فلان … خلاص … ماتدخلش حد القاعة … مش هابدأ العرض إلا لما تخلي القاعة تماماً”، ويبدأ الناس في الخروج … علي يساري كان هناك جهاز كومبيوتر  موضوع علي الأرض … وأمامه كان شاب يجلس يجرب الصوت … وخلفه ممر ليس بالقصير به بعض أجهزة الأضاءة … وعلي الأرض كانت هناك أسلاك كهرباء ممتدة من أجهزة الضوء الموضوعة علي الأرض إلي لوحة المفاتيح … وبعد العديد من التجارب التي أجراها الشاب الجالس أمام الكومبيوتر أعطي المخرج الأمر بدخول الجمهور…….

ودخلت أعداد معقولة شغلت جميع الكراسي الموجودة داخل القاعة… إلا أنه بعد لحظات من بداية العرض بدأ شخص ما – أعتقد انه المخرج –  في الصراخ … كفاية … ممنوع دخول حد تاني .. القاعة اتملت علي آخرها .. كده العرض هايبوظ .. ثم تعالت صيحات الناس بالخارج وتحول الأمر إلي فتنة وتعالت الصيحات … فاشار المخرج لمن علي الباب بترك الباب علي مصراعيه فدخل جمع غفير من البشر اكتظت بهم القاعة الصغيرة التي لا تتسع لربع هذا العدد.

كان علي أن اقوم بالتصوير … وكنت كلما جلست أحسست بشيئ يجعلني أقف … فأقف وأصور … والعرض كان جميل بدرجة تفوق توقعي … كان الممثلان في قمة تألقهما … وبدأت أفكر في مقالتي النقدية التي سأكتبها عن العرض …  وتبادلت نظرات الإعجاب بالعرض مع مؤمن الذي افترش الأرض … وعادل حسان الجالس بجواري … وصالح سعد الجالس خلفي … وبجانبه بهائي الميرغني … وأحمد عبد الحميد  … وحازم شحاته … وعلي الجانب الآخر من القاعة كان يجلس حسن عبده مع محسن مصيلحي … ومدحت أبو بكر … ونزار سمك … ولم تتوقف لغة العيون بيني وعادل حسان طوال العرض … فالعرض كان جميل بشكل ملفت للنظر … تقاربنا أنا وعادل حسان بشكل لم يحدث من قبل…في منتصف العرض تقريباً تبادلت نظرات الدهشة مع عادل من مصور التليفزيون الذي دخل منطقة التمثيل و بدأ في تصويب كاميرته نحو الأرض ليصور الشموع المنتشرة في أرجاء المكان …  فقمت علي الفور بأخذ مجموعة من الكادرات الفنية التي تجمع بين الممثلين والمصور لتوضيح هذا الاضمحلال في ثقافتنا المسرحية التي تجعل المصور يدخل حرم منطقة التمثيل … ثم نظرت إلي عادل وابتسمت فرد الابتسامة بأخري ملؤها المرارة.

 

انتهي العرض وخرج الممثل الأول لتحية الجمهور الذي استقبله استقبالاً حافلاً لم يقل روعة عن استقبال الجمهور للممثل الثاني … لقد استغرقت تحية الممثلين وقتاً أطول من المعتاد … وقلت في نفسي يالروعة هذين النجمين … ويالبراعة هذا المخرج الجميل الواعد بمستقبل مشرق … ثم يخرج المخرج ليبدأ التصفيق الشديد … عندها يلمح الجميع لهب صغير جداً يأتي من أعلي الجانب الايمن للقاعة … ولأن اللهب كان صغيراً في البداية فلم يتسبب في حالة من الذعر … وبالتالي قمت بتصوير اللهب …

وفجأة وبلا مقدمات يتحول هذا اللهب البسيط إلي نار مستعرة … وكأن شيطاناً نفخ فيها بقوة … وتتعالي الصيحات “أجري …  أجري…. اجري” … ولأنني كنت واقفاً كان من السهل أن أتوجه مباشرة إلي الممر الوحيد الموجود في منتصف القاعة …  وما أن اقتربت من باب الخروج الوحيد حتي وقع لوح خشبي علي الباب فأغلقه … وعندها فقط أحسست بالنار تمسك في رأسي من الخلف ثم يداي التي لم تعد تقوي علي حمل الكامير فهوت على الأرض …

لم يخطر في ذهني وقتها إلا أن اقرأ الشهادة … وفجأة فقدت الوعي للحظات قمت خلالها بالمرور من وسط النار والخروج الي خارج القاعة بشكل لا إرادي غير واع … وبدلاً من أن أتوجه الي الشارع قادتني قدماي الي الاتجاه المعاكس فدخلت قاعة المسرح الكبري حيث توجد طفايات الحريق التي كنت أول المستفيدين منها حيث جري الصديق إبراهيم الفرن فور علمه بالحادثة للبحث عن الطفايات فأرشدوه الي مكانها علي خشبة المسرح فوصل إليها … وما أن استدار عائداً حتي وجدني أمامه … فأطفا ما تبقي من نيران عالقة بيداي وراسي.

هرولت إلي الخارج فوجدت سيارتي تقف أمام الباب … والنيران علي وشك أن تنال منها … فجن جنوني … وتخيلت أن كارثة أكبر ستقع لامحالة …  وناديت علي من حولي حتي جاءني إسلام رضوان فطلبت منه أن يخرج مفاتيح سيارتي من جيب البنطلون فأخرجها … وألقي بها في يدي التي يتساقط منها اللحم سائحأ من هول النار التي أتت عليها  … ولم يكن أمامي إلا أن اتحامل علي نفسي وأنسي الألم وأفتح السيارة وأدير محركها، وأقودها الي أحد الشوارع الخلفية بعيداً عن هذا الجحيم الذي استعرت ثورته.

كانت آلام مبرحة تعصف بيداي و رأسي …  ثم تهالكت  … وانتهت طاقتي وعندها وجدت كمال سمير المصور السكندرييأتي إلي بأحد الافراد الذي أجلسني بجواره في سيارتي وقادها إلي مستشفي بني سويف العام … ولحظة دخولي المستشفي تذكرت زيارتي لها بالأمس … وأدركت ساعتها أنها رسالة من المولي عز و جل وقد أحسنت فهمها … ومع الرسالة تذكرت عبوات اللبن الرايب منتهية الصلاحية التي لم تتيح لي الظروف فرصة إرجاعها … وإلقاء محاضرة أخلاقية من العيار الثقيل لهذا البائع معدوم الضمير … ورأيت صورة نزار محترقاً تخترق ذهني ورأيته مبتسماً يشرب اللبن منتهي الصلاحية ويضحك علي المقلب الغبي الذي أوقعني فيه البائع … وتمنيت ساعتها لو أن الأمر اقتصر علي شرب عبوة من اللبن منتهي الصلاحية … بالتأكيد كان ذلك سيخلف آلاماً أقل قسوة مما نحن فيه الآن.

 

في مستشفي بني سويف العام قضيت ساعات قليلة مرت علي كأنها دهراً لا تنقضي سنيه … طلبوا مني في البداية أن أحضر تذكرة

  • ممنوع الدخول من غير ما تقطع تذكرة طوارئ … الشباك هناك في آخر الصالة

لو كنت مضيت وراء المنطق لكنت قد فقدت الوعي تماماً مع آخر حرف من كلام هذا الموظف الرائع … تذكرة؟ … أي تذكرة؟ .. وكيف لي أن أعطيك ثمن التذكرة … وكيف لهذين اليدين السائحتين أن تعبث بنقود … هي لن تقوى حتى على لمس التذكرة

  • هو حضرتك مش شايف إيديا؟
  • من إيه دي؟
  • حريق في قصر الثقافة
  • يعني فيه ناس تانيين جايين ولا إنت بس
  • فيه زباين كتير … وأنا أولهم … إنسى موضوع التذاكر وقولي فين فسم الحروق لأني هاقع من طولي …

بدأ يفهم .. بعد أن أطال النظر إلى يديا … واستوعب إلى حد بعيد أن من الصعب أن يصر على موقفه … خاصة أن سيارة ميني باص قادها حظها العثر إلى موقع الحادثة ألقت بأول فوج من المصابين على باب المستشفي … بعد ثوان قليلة وجدت سيارتي تلقي بمجموعة أخرى من المصابين .. استخدموا سيارات الميني باص … استخدموا سيارتي … استخدموا كل أنواع السيارات … إلا سيارات الإسعاف … التي ظهرت مع سيارات المطافي في المشهد بعد وقت ليس بالقصير … شرح لي الموظف وللوافدين الجدد الطريق لقسم الحروق.

توجهنا نحن جماعة المصابين بمفردنا دون معاونة طبيب أو ممرض إلي قسم الحروق بالدور الثالث … ويالها من رحلة طويلة مهلكة تلك التي قطعت أشواطها الثلاث مشياً علي أقدامي المنهكة … بينما يتساقط لحم يدي أمامي في مشهد لا أعتقد أنه سيفارق ذاكرتني ما حييت.

في الدور الثالث أعطوني مخدر بعد شد وجذب بين الأطباء وطاقم التمريض … طلبو مني النوم علي السرير ويا له من سريرقذر لا توجد عليه حتي ملاءة نظيفة … وتنطلق منه رائحة أقل ما توصف به أنها نتنة … فوضعت جسدي علي السرير رافعاًيداي لأعلي  … وأنا أتابع الصرخات المتلاحقة التي تصدر من  الأجساد الملتصقة بالأسرة الأخرى … وهنا بدأت الأجساد العارية التي يتساقط لحمها في التوافد علي المستشفى.

 

كان محمد العمروسي ينام علي السرير المجاور لي و أبوه سعيد العمروسي يبكي علي رأسه  … ولأن إصابات محمد كانت بسيطة بالمقارنة بغيره … فقد قضي الساعات التي عشناها في هذا المخبأ اللعين طالباً العون لي من الأطباء والممرضين … وما هي إلا لحظات حتي وجدت د.صالح سعد يدخل الغرفة عارياً ولحمه يتساقط في مشهد دراماتيكي لن تنساه عيناي ماحييت … وتعالت الصرخات والنداءات علي الأطباء الذين بدوا وكأنهم أصنام حجرية لا تحس ولا تشعر … ولا تتعاطف لمأزق إنساني خطير … وبدت وجوههم جامدة لا تقوي حتي علي تمثيل دور المتعاطف الراثي لحال هذا الشباب الذين تسيح أجسادهم علي الارض.

 

مع مرور الوقت أحسست بالآلم يكاد يعتصرني … وسألت نفسي ساعتها هل يا تري ساعدت الدهون الزائدة في يدي علي زيادة حجم المشكلة؟ … سؤال غريب طرأ علي ذهني للحظة … ابتسمت في مرارة … وشكرت المولي العلي القدير علي أني ما زلت علي قيد الحياة … علي اية حال الرجيم القاسي قادم لا محالة … فقد بدأت أسنة المحاليل تنخر في لحمي … وبدا الجو حولي ملبداً بالغيوم … ولم أعد قادراً علي تمييز الأشياء … أو الأشخاص …  شاهدت ابراهيم الفرن كأنه شبحاً اخترق حجب الغيب … سألته:

  • أخبار باقي الناس إيه؟ … كان فيه ناس كتير من إسكندرية معايا جوه القاعة ساعة الحريقة
  • كل الناس كويسين الحمد لله … ما فيش غير ياسر يس وسامية جمال بندور عليهم

حاول عقلي أن يكذب الرسالة التي أرسلتها كلمات إبراهيم دون جدوي  … راحت سكاكينالحزن تنهش في قلبي المعتل … وراحت ماكينة الألمتعتصرني بين تروسها … وأنا أتوه بين غياهب الألم الذي بدأ يتمكن من جسدي … وبين اللوعة علي فقدان أناس أعزاء كانت الضحكة تملأ وجوههم حتى دقائق معدودات مضت … وراحت صور رباح وعصام ابني سامية تهاجم رأسي … ومن ورائها صورة يارا ياسر يس  … وهي تضحك حينا …  وهي تصرخ كأمرأة كبيرة صرخات تمزق نياط القلب أحياناً أخري …ومن ساعتها لم تفارق ذهني صورتي باسنت و عبد الرحمن طفلاي الذين لم يرد القدر أن يتيتما بعد … الحمد لله … ألف حمد وشكر لك يا رب ….  بدأت الإغماءات تطاردني … وتتناوب معها إفاقات ضئيلة … استجمعت ما تبقي من طاقة  … شاهدت أحمد زيدان يقف بجواري …  طلبت منه أن يخرج تليفوني من جيبي  … وأن يتصل بصبحي السيد … علي الجانب الآخر جاء صوت صبحي قلقاً موتوراً قلت له في كلمات منهكة :

  • تعالي خدني من هنا …..أنا في مستشفي بني سويف العام

 

 


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock