نصوص

حصريا.. ننشر القسم الأول من مسرحية “الطريق إلى سدرة المنتهى” للكاتب السوري الكبير عبد الفتاح قلعه جي


المسرح نيوز ـ القاهرة| نصوص

ـ

 

عبد الفتاح رواس قلعه جي

الطريق إلى السدرة  

سي/مسرحية

 

    (المسرح خال تماما..

في خلفية المسرح شاشة سيكلودراما لمشاهد سينمائية موازية ولعرض أسماء وعناوين وصور وكتابات رقمية حسب متطلبات المشهد.

 على يمين المسرح شجرة نخيل باسقة.

 على يسار المسرح جدار الزمن (شاشة عرض مغايرة)، خطوط الحجارة واضحة فيه، وعندما ينار تعرض عليه المناظر المختارة من أزمنة وأمكنة عدة لربط الموضوع الخاص بما هو إنساني عام.

يسود المسرح فضاءات يمتزج فيها الظلام والظلال بمطالع أنوار شارقة من الأفق بلونها الناري كأنها فجر يوم جديد يشق ظلمات الليل، وتسمع موسيقا علوية ناعمة، وهينمات وتراتيل خافتة غير واضحة التعابير لكنها جزء من أجواء علوية تحملك إلى الشعور بالجلال والجمال)

     
    دار أم هانئ
     
    (ليل ساج، والقمر يتوسط السماء بدراً، وظلال بيوت مكة تتناثر في المكان، يخترق السكون بين الحين والآخر قهقهات جافية يعقبها صدى أنات معذبين.

في دار أم هانئ وقد عاد الرسول (ص) من الطائف دامي القدمين بعد أن أغرى أهلُها صبيانهم بقذفه بالحجارة.

ابنته فاطمة تمسح الدم عن قدميه وهي تبكي ومحمد صامت)

فاطمة : هل تؤلمك رجلاك يا أبي؟
محمد : قليلاً.
فاطمة : اللعنة على الطائف وعلى ربتهم اللات.. كيف أغروا صبيانهم بقذفك بالحجارة؟
محمد : المؤمن ليس بسباب ولا لعّان يا فاطمة. ادعي لهم بالهداية. (صمت)
محمد : (صوت النفس) اللهمّ إليك أشكو ضعف قوّتي وقلّة حيلتي وهواني على النّاس، يا أرحم الرّاحمين، أنت ربّ المستضعفين، وأنت ربّي، إلى من تَكِلني؟ إلى بعيدٍ يتجهّمني؟ أم إلى عدوٍّ ملّكته أمري؟ إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي.
    (فاطمة تنهي تضميد الجروح)
فاطمة : لا تحزن يا أبي.. ولسوف يعطيك ربك فترضى.
    (يسمع طرق على الباب)
محمد : انظري مَن بالباب يا فاطمة.

(فاطمة تخرج)

صوت فاطمة : يا أبي بالباب شخص قد هالني وأفزعني، ما رأيت مثله قط، قال: أريد محمداً.
    *   *   *
    (شعلة متوهجة من النور تنحدر من السماء، تعلو فوق تلال مكة، تحط فوق الكعبة، تتوثب، تتنقل بين البيوت، تعلو ثانية ثم تهبط رويداً لتتوضَّع أما باب بيت أم هانئ، تتشعشع، تتناثر، ثم تتكشف عن شخص له جناحان أخضران، وعلى رأسه تاج مرصع وهو ينتظر فتح الباب. يبرز محمد من وراء الباب) 
محمد : من؟.. جبريل!
جبريل : هيا أيها النبي المختار إلى الكريم الغفار.
محمد : الكريم يدعوني إليه..! وما يصنع بي؟
جبريل : ليغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر.
محمد : هذا لي، فما لأمتي؟
جبريل : ولسوف يعطيك ربك فترضى.
محمد : مهلا حتى أتوضأ.
جبريل : (يمد يده فيتناول من الفضاء ماء في كوز يقدمه له)

جئتك بماء من الكوثر، وكوز من جوهر (يتناول باليد الأخرى عمامة وحلة ويقدمهما له) وعمامة من نور وحلة من سندس أخضر. هيا، نَعِمْتَ بما أعطاك الله، أنتظركَ خارج البيوت على أول الطريق من حراء.

    (تحيط هالة النور بجبريل حتى يختفي فيها، تَمِضُ وتتشعشع، ترتفع فوق البيوت متجهة خارج مكة)
    *   *   *
    (بعيداً عن البيوت، وفي أول الطريق إلى غار حراء حيث كان محمد يتعبد يُرى جبريل شاباً أنيقاً  في عباءة خضراء طويلة وقد لامست ذيولها الأرض،  وفي يده صولجان مضيء، وشعره مرسل على كتفيه، وقد خلع جناحيه، وإلى جانبه البراق وهو دابة برزخية غريبة يشبه السنطورات، له وجه إنسان وجسم حصان مجنّح, يقترب منه محمد ويسأل)
محمد : ما هذا يا جبريل؟
جبريل : هذا البراق، مركوب الملوك والأنبياء، يحملك إلى ربك.
محمد : هذه دويبة لا تحملني إلى ربي.. لا يحملني إليه سوى شوقي.
جبريل : يا حبيب الله اركب.

(محمد يمسح دمعتين صامتتين من عينيه)

لِم تبكي يا محمد؟

محمد : وأمتي؟ هل يركبون معي إلى الحبيب؟
جبريل : نعم يركبونَ “يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا”
محمد : الآن زال عني الكرب.

(يتقدم ليركب فيضطرب البراق)

جبريل : اسكن براق، أتنفر بين يدي سيد الخلق وحبيب الحق؟
البراق : (البراق يهدأ) أنت تعلم يا جبريل، ركبني آدم صفيُّ الله وإبراهيم خليل الله من قبل، وركبني إدريس حكيم الله، وعيسى كلمة الله.
جبريل : وهذا محمد حبيب الله ورسوله، أفضل أهل السموات والأرض، شفيع الناس يوم القيامة، الجنة عن يمينه والنار عن يساره.
    (البراق يدنو من محمد فيركبه، يركب جبريل ويقود الزمام، ويسير قاطعاً الصحراء ويسمع صوت غناء من بعيد مع الجوقة)
صوت غناء : لأجلك يا مدينة الصلاة أصلّي

لأجلك يا بهيّة المساكن يا زهرة المدائن

يا قدس يا مدينة الصلاة أصلّي

عيوننا إليك ترحل كل يوم

تدور في أروقة المعابد

تعانق الكنائس القديمة

وتمسح الحزن عن المساجد

يا ليلة الإسراء يا درب من مرّوا إلى السماء

عيوننا إليك ترحل كلّ يوم وإنّني أصلّي*

     
    بيت المقدس
     
    (فضاء السيكلودراما منظر من الجو ليثرب وبيوتها وأشجار النخيل المنتشرة على مساحات واسعة، والبراق في الأعالي يجتازه ويأخذ شكل مركبة فضائية مجنَّحة، ويسمع الحوار تسجيلياً)
صوت جبريل : هذه طيبة يا محمد، تهاجر إليها يوم يُخرجك قومك.
صوت محمد : أوَ مخرجيَّ هم يا جبريل؟
صوت جبريل : نعم، ما جاء غيرك بمثل ما جئت به إلا وأخرجه قومه.
    (ينار جدار الزمن فتظهر عليه جماعات صغيرة متباعدة مهاجرة من مكة إلى المدينة. ثم  رجلان يقطعان الصحراء “إنهما محمد وأبوبكر”، يختبئان في غار على الطريق، يتابعان السير.

– تتلاشى الصور لتظهر على الجدار مشاهد حديثة لمعارك في الشوارع والناس يهربون من بيوتهم خوف القتل.

 – تتلاشى الصور ليظهر شريط حدودي يزدحم بالنازحين، وغابة من الخيام منصوبة للنازحين الفارين من الموت، وأطفال بائسون شبه عراة بين البيوت والثلج يتساقط.

  – تتلاشى وتظهر صور لملصقات سياسية وعنوانات لصحف معارضة وموالية، وإعلانات تجارية ودعايات لنجوم فنية وملاه ليلية.. وغيرها..

يعتم الجدار)

    *   *   *
    (فضاء المسرح جبريل ومحمد يتابعان السير كمسافرين عاديين، يعترضهما رجل1)
رجل1 : قف يا محمد فإنني أنصح لك ولأمتك.
محمد : (  ويتابع السير) من هذا يا جبريل؟
جبريل : هذا من غلاة الإفرنج والحروب الصليبية المستمرة حتى القيامة، يقول من ليس معنا فهو عدونا، لو تبعته لهلكت أمتك.
    (يعترضهما رجل ثان)
رجل2 : قف يا محمد فإني أنصح لك ولأمتك.
محمد : (لا يلتفت ويتابع السير) من هذا يا جبريل؟
جبريل : هذا داعٍ ماسوني من اليهود، لو أجبته لتهودت أمتك وهلكت من بعدك.
محمد : يارب.. لك الحمد والشكر.
جبريل : أمتك نجاتها في نفسها، لا أن تكون غيرها.
    (تعترضهما امرأة متزينة فائقة الحسن، ناهدة الصدر، تكشف عن ساقيها) 
المرأة : قف يا محمد، أنت تعجبني، قف حتى أكلمك، فالحياة قصيرة والسعادة تنتظرك.
محمد : (لا يلتفت ويتابع السير) جبريل ، من هذه المرأة المتزينة؟
جبريل : هذه الدنيا، لو أجبتها لغَوَت أمتك وهلكَت واختارت الدنيا على الآخرة.
    (تنشق الأرض ويخرج منها شيخ أنيق ملتح في جلباب من نار)
الشيخ : يا محمد، تمهل واستمع إليَّ أنصحك وأعطك الملك والغنى ومتعة لا تفنى، وأدلك على شجرة الخلد.
جبريل : سر يا محمد، هذا هو العدو الذي أغوى أباك آدم وأخرجه من الجنة.
    (يسمع صوت ارتطام مجلجل)
محمد : ما هذا الصوت يا جبريل؟
جبريل : هذه صخرة لها خمسمئة عام تهوي في جهنم والآن استقرت في قعرها.
  : *   *   *
    (فضاء السيكلودراما والمسرح. مركبة البراق في أعالي الفضاء، أنوار مدينة القدس تلوح من بعيد، وتتضح البيوت شيئاً فشيئاً)
جبريل : هاهي الشام، وهاهي مدينة القدس عروسها يا محمد.
محمد : اللهم بارك لنا في شامنا ويمننا.
جبريل : وستمر بها من بعدك أحداث وأحداث.
محمد : ويل للعرب من شر قد اقترب.
    (ينار جدار الزمن وتتوالى عليه الأحداث التاريخية:

1– الحملة الصليبية وتحرير القدس وتتوضع على الجدار لافتة بعنوان حطين)

محمد : ويل للعرب من شر قد اقترب.

2– على الجدار التتار يهاجمون ثم يتراجعون وتتوضع على الجدار لافتة بعنوان عين جالوت.

محمد : ويل للعرب من شر قد اقترب.

3– طائرات اليهود تقصف والدبابات تزحف.

جبريل : يقاتلكم اليهود فتسلَّطون عليهم.
محمد : يقلقني أمر أمتي واليهود “لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى”
جبريل : أبشر، لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود فتقتلونهم.
    *   *   *
    (أما باب اليماني بمدينة القدس، جبريل يطرق الباب ، يفتح ويبرز منه شاب حسن الوجه والثياب)
الشاب : أهلا بك يا محمد في مدينة القدس. (يعانق محمداً) المسجد الأقصى يتلألأ بالأنوار لقدومك، وأخوتك الأنبياء في انتظارك.

(يسير جبريل ومحمد)

محمد : من هذا الشاب الذي فتح لنا الباب وسلم وعانقني، شممت منه رائحة الطيب وليست كالطيب.
جبريل : هذا شاب شهيد، أما الرائحة فرائحة الجنة والشهادة، أراد الله أن يكرمك ويفتح الباب لك واحد من شهداء أمتك.

(يتابعان السير)

    *   *   *
    (في المسجد الأقصى، المسجد تتراتب فيه الملائكة ذوات الأجنحة والأنبياء والمرسلون، وفي أيدي بعض الملائكة المعازف السماوية)
محمد : من هؤلاء يا جبريل.
جبريل : هؤلاء أخوتك الأنبياء والمرسلون، كلهم كانوا يبشرون الناس بمقدمك، وقد جاؤوا والملائكة ليروك وتصلي بهم. سلم عليهم.
محمد : السلام عليكم ورحمة الله.
الجميع : وعليك السلام يا حبيب الله محمد.
محمد : فلنحمد الله جميعاً على ما أعطى وما حَجَب.
آدم : (يتقدم إلى الأمام) أنا آدم، الحمد لله الذي خلقني بيد القدرة، وأسجد لي الملائكة، وجعل الأنبياء والمرسلين من ذريتي في الدعوة والإيمان.

(يعود إلى مكانه)

نوح : (يتقدم) أنا نوح، الحمد لله الذي أجاب دعوتي، ونجاني والمؤمنين من الغرق. (يعود)
إبراهيم : (يتقدم) الحمد لله الذي اتخذني خليلاً، وأعطاني ملكاً عظيما، واصطفاني بالرسالة، وأنقذني من النار وجعلها برداً وسلاماً عليّ.

(يعود إلى مكانه)

موسى : (يتقدم) الحمد لله الذي كلّمني تكليماً، وأنزل عليَّ التوراة، وألقى عليَّ محبة منه.

(يعود إلى مكانه)

داود : (يتقدم) أنا داود الحمد لله الذي أنزل عليَّ الزبور، وألانَ لي الحديد.

(يعود إلى مكانه)

عيسى : (يتقدم) الحمد لله الذي جعلني كلمته، وعلمني الحكمة والتوراة وأنزل علي الإنجيل، وجعلني أيرئ الأكمه والأبرص، وأُحيي الموتى يإذنه، ورفعني وطهَّرني.

(يعود إلى مكانه)

محمد : الحمد لله الذي أرسلني رحمة للعالمين، وللناس بشيراً ونذيراً، وأنزل عليَّ القرآن، وجعل أمتى خير أمة أخرجت للناس.
جبريل : خير أمة ما دامت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتعتلج في قلبها الرحمة، وتحمل الخير للإنسانية جمعاء عباد الرحمن”إن أكرمكم عند الله أتقاكم”.
محمد : ومن هؤلاء الملائكة؟
جبريل : (يشير إلى ميكائيل الذي يحمل حربة بشعب ثلاث) هذا ميكائيل وبيده البرق والرعد والمطر.

(ميكائيل يهز الحربة فينطلق من شعبها البرق ويتلوه صوت الرعد ثم صوت المطر).

محمد : “وجعلنا من الماء كل شيء حي” ربَّ الناس اجعله خصباً وحياة لكل الناس، وباعد عنهم الغرق والطوفان.
جبريل : وهذا هو رضوان خازن الجنان (ينحني رضوان بثوبه الأبيض والأخضر محيياً) وعن يساره مالك خازن النار (ينحني مالك محيياً، وهو أسود اللون كالغراب، بثوبه الأسود والأحمر).
محمد : ومن هذا الذي بيده البوق؟
جبريل : هذا إسرافيل (ينحنى إسرافيل محيياً) إذا نفخ النفخة الأولى مات كل أهل الأرض، وإذا نفخ الثانية انبعث كل من في القبور للقيامة.
محمد : وهذا الذي يحمل في يديه صخرة كأنها الجبل؟
ملك الجبال : (ينحني محيياً) أنا ملَك الجبال يا محمد، أمرني ربي إن شئت أطبقت على أهل الطائف الجبل فهلكوا جميعاً.
محمد : بل العافية والرحمة، اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون.
إبراهيم : أيها الأنبياء والملائكة، لقد فضلكم محمد بالحكمة والرحمة والسلام، وفضلت أمته جميع الأمم. تأمر بالخير، وتنشر الرحمة والسلام، وتنهى عن الفساد والمنكر.
جبريل : أنتم أيها الملائكة يا من لا تكف أفواهكم عن الحمد والشكران ومعازفكم عن التسبيح والأذان، ألا ترحبون بأصواتكم ومعازفكم بحبيبكم أول الخلق وسيد البشرية، وخاتم الرسل والأنبياء؟
    (الملائكة يهيئون معازفهم وتأخذ الجوقة فيهم مواقعها للغناء في تكوين جميل، تتلامع الأضواء وتصدح الموسيقا والغناء وتتدانى النجوم في السماء للسماع)
الملائكة : (تنشد)

سبّوح.. سبوح

ها قد جاءها طائر الصباح

حاملاً في منقاره

تراتيل السوسن المطلول

.   .   .

يا قوافل العمر الضاربة ما بين التيه والبحر

ها قد طلعت نجمةُ الصبح، قافيةُ الظلام المضيئة

على المسجد الأقصى

و لاح طور سيناء

وجاء الحبيب يزورنا في هذا المهرجان

.   .   .

عدد ذرات النور في المهرجان

كلمات الحبيب

كفاغية المسك في ليلة ساجية الحواشي

كلمات الحبيب

مثل كوكب دري يوقد من شجرة مباركة

كلمات الحبيب

لا تسعها أرض ولا سماء

ويسعها قلبٌ أبلاه العشق

كلمات الحبيب

.   .   .

مواكب النور

تزحف على مفارق الجبال

وصوت أجنحة جبريل

يتهادى فوق المنائر الخضراء

ولعروج الروح تنفطر السماء

وببخور السدرة تعطر الملائكة الأجواء

(تخبو الأضواء وينفضُّ الجمع)

    *   *   *
    (فضاء المسرح. في غبش الفجر جبريل ومحمد يسيران، وعن بعد صخرة تتلألأ بالأنوار)
محمد : إلى أين يا جبريل؟
جبريل : إلى القاعدة التي ستنطلق منها في رحلتك السماوية.
محمد : ولكن أخذني العطش.
جبريل : هذا عطش المعرفة والطريق، وليس عطش الماء، لقد شربت منذ قليل.
    (جبريل يمد يده في الفضاء ويتناول صفيحة فيها ثلاثة كؤوس مترعة)
جبريل : هذه ثلاث كؤوس: خمرة وماء ولبن، اختر واحدة منها واشرب.
مجمد : (يتناول الأولى) الخمرة.. اللذة والضياع والفجور (يعيد الكأس ويتناول الثانية) الماء .. الغرق والطوفان والشرور (يعيد الكأس ويتناول الثالثة) اللبن.. الفطرة والسلام والمعرفة (يشرب)
    (على جدار الزمان المضاء تتالى المشاهد التالية:

–       قابيل وفي يده زجاجة خمرة يشرب وهو يحمل جثة أخيه.

–       سيول وطوفان وأشياء وأناس غرقى لا تظهر منهم غير سواعدهم من الماء.

–       أم تحمل طفلها، تلوح لها نار عن بعد، تأتيها فتجد عليها حارساً، يقدم لها قبساً من النار، تسير نحو ربوة عالية، تجلس وترضع طفلها وقبس النار يتألق أمامها مبدداً الظلام.

يطفأ الجدار)

جبريل : أخذت الظفر كله يا محمد، لو أخذت الخمرة لغوت أمتك، ولو أخذت الماء لغرقت أمتك.
    (جبريل ومحمد يسيران حتى يصلا الصخرة التي تتلألأ بالأنوار.)
جبريل : يا إسماعيل.

(حزمة من الضوء تهبط، تتوضع أمامهما، تتكشف عن الملَك إسماعيل الهابط من السماء بأجنحته الزاهية وهو على فرس من نور)

 انصب المعراج يا إسماعيل ليرقى محمد من هذه الصخرة إلى سدرة المنتهى.

إسماعيل : أهلا بك في السماء يا محمد، سيكون المعراج جاهزاً قبل أن يرتد إليك طرفك (يختفي)
    (عمود من النور يمتد من الصخرة إلى أعالي الفضاء، وفي القسم الأسفل منه طيف مركبة فضائية تتلألأ في جوانبها المصابيح الملونة كأنها النجوم في السماء)
جبريل : ارق يا محمد واركب المعراج.
    (يختفي جبريل ومحمد داخل عمود النور)
     
    سماء من دخان
     
صوت محمد : إلى أين الآن يا جبريل؟
صوت جبريل : إلى السماء الدنيا.
    (تتوقف المركبة وتنطفئ أنوارها، دخان يعم المكان، يبرز من خلاله باب السماء الدنيا، يقف جبريل ومحمد أمامه، وجبريل يطرق الباب).
صوت الحارس : من بالباب؟
جبريل : جبريل.
    (يفتح الملَك الحارس الباب)
الحارس : أهلاً بك يا سيدي، ومن معك؟
جبريل : هذا محمد.
الحارس :  وهل بعث؟
جبريل : أجل.
الحارس : مرحباً بك يا محمد.

( ينحني محيياً ويفسح لهما المجال للعبور، ومن خلال الدخان يكون في استقبالهما الملك إسماعيل على فرس من نور).

إسماعيل : أهلاً بك يا محمد في السماء الدنيا، الخير فيك وفي أمتك إلى يوم القيامة.

(ينحني مفسحاً الطريق لهما).

    (يتابعان السير ويلمح خلال الدخان الذي يعم المكان كرات وأشكال تتوهج بالضوء)
محمد : ما هذا الدخان والأشكال المتوهجة كأنها النجوم؟
جبريل : هذه سماء من دخان، أما الأشكال المتوهجة فهي ملائكة ساجدة راكعة، وتتحدث في صمت برجفات الضوء، ومنها من يمارس أعماله العادية.
    (يتابعان السير ويتوقفان أمام نهر على ضفتيه أشجار وطيور وخيام، يحس محمد بالعطش فيشرب من النهر)
محمد : ما هذا يا جبريل؟ طعمه أطيب من العسل، ورائحته كالمسك الأذفر.
جبريل : هذا نهر الكوثر.
    (يتابعان السير فيلوح لهما خلال الدخان شيخ حسن الوجه والثياب هو آدم، يجلس على صخرة وظهره للجمهور وعن يمينه باب من عقيق مطرّز بالأنوار، وعن شماله باب من رصاص كتيم مطرّز بالنار السوداء، وتمر أمامه على شاشة العرض ظلال هي أرواح الناس من أبنائه، منها ما هي مشعشعة بالنور ومنها ما هي ظلامية، وهو يعلق على كل واحدة منها).
آدم : (تعبر أمامه روح نورانية) هذه روح طيبة، ونفس طيبة، اجعلوها في عليين.

(تقف على يمينه أمام الباب الأيمن)

(تعبر روح ظلامية) هذه روح خبيثة، ونفس خبيثة، اجعلوها في سِجّين.

(تقف على يساره  أمام الباب الأيسر)

(يتكرر ذلك مع أرواح عدة وتتجمع الأرواح أمام البابين، آدم ينظر إلى يمينه فيبتسم، وينظر إلى يساره فيحزن)

محمد : يا أخي من هذا؟
جبريل : هذا أبوك آدم، أبو البشرية، يستعرض مصائر أبنائه. ادن وسلم عليه.
محمد : السلام عليك يا أبي.
آدم : (يلتفت ويرى محمداً فيبتسم) مرحباً بالولد الصالح والنبي الناصح.
محمد : هل مر بك أيضاً قابيل وهابيل؟
آدم : ومن قابيل وهابيل؟ أبنائي مازالوا يقتل بعضهم بعضاً، وأحزاني متصلة حتى القيامة.
محمد : والخطيئة الأولى التي تلقيت فيها من ربك كلمات وتبت؟
آدم : يا ولدي، خلق الله الأرض وأراد أن يعمرها فخلق لي حواء، وكانت الخطيئة، وكل شيء بقدر.
محمد : إذن كان قدراً محتوماً.
آدم : أجل، وإنها لخطيئة فيها لذة لا توصف، إنها قرآن الوجود*
محمد : أسألك يا أبي عن الصحف والأسماء والليل والنهار.
آدم :  يا ولدي أنزل الله علي مائة صحيفة وأربع صحف  وفيها الأسماء، ولما حضرتني الوفاة، عهدت بالصحف إلى ابني شيث ليضمها إلى صحفه الخمسين، وأوصيته ألا يُطلِع عليها أخاه قابيل، وعلّمته ساعات الليل والنهار، وأعلمته بوقوع الطوفان.
محمد : أنا راحل يا أبي فهل توصيني بشيء.
آدم : أوصيك بأمتك وبالناس جميعاً خيراً فهم أبنائي وخمرة الحياة التي اعتُصرت من عناقيد هذه الخطيئة المقدسة .
جبريل : هيا يا محمد ولنعد إلى المعراج.
    (يتكاثف الدخان فيحجب كل شيء، يلتمع وسط الدخان عمود النور وترى فيه مركبة المعراج المتلألئة وهي تنطلق نحو السماء الثانية).
     
    الماعون
     
    (تتوقف المركبة أمام أسوار حديدية عالية، يطرق جبريل الباب) 
جبريل : (لمحمد) هذه الماعون السماء الثانية.
صوت الحارس : من بالباب؟
جبريل : جبريل.
الحارس : (يبرز من الباب) أهلاً بك، ومن معك؟
جبريل : محمد.
الحارس : (ينحني مرحباً ويفسح الطريق للدخول) مرحباً بك وبمن معك.
    (يسيران مبتعدين. تلال ووهاد من حديد، قصور وجنائن بألوان الحديد ، ملائكة مدججون بالأسلحة على خيول مجنحة من حديد)
محمد : أهي سماء من حديد؟
جبريل : أجل يا محمد، صخورها وتربتها مشبعة بهذه المادة، وتأخذ لون الحديد.
محمد : (مشيراً إلى الملائكة) وهؤلاء؟
جبريل : جنود مهمتهم نصرة الحق والمستضعفين.
    (يرى محمد شابين متشابهين على ضفة نهر الأردن، وأحدهما يغترف الماء من النهر وينثر منه على رأس الآخر ووجهه يديه)
محمد : من هذان الشابان المتشابهان يا جبريل؟
جبريل : إنهما ابنا الخالة يحيى وعيسى، ادن منهما وسلم عليهما.
محمد : (يدنو منهما) السلام عليكما.
يحيى : وعليك السلام، مرحباً بمحمد الأخ الصالح والنبي الناصح، أبشر فالخير فيك وفي أمتك إلى يوم القيامة.
محمد : وهل تعرفني؟
يحيى :  أجل، أنا الذي قلت مبشراً بك: “إن من يجيء بعدي قد خُلق قبلي، لأنه كان قبلي”*
محمد : أيها السيد الحصور، يا صبوح الوجه، كأني أرى رأسك على طبق من حديد يُقدَّم إلى عاهرة.
يحيى : تلك زوجة الملك وبغيّه، هوِيتني وطلبتني وأنا زاهد في النساء فطلبَت من الملك رأسي.
محمد : وأبوك زكريا؟
يحيى : نشروه بالمنشار، إنهم يهود يقتلون الأنبياء بغير حق، يا محمد احذر يهود ومن والاهم فكلما أضاء سراجٌ الظلمةَ أطفؤوه.
محمد : ويتبعهم ملوك وسلاطين بقلوب حديدية لا تدفأ ولا تنبض، كلما أسرج حكيمٌ النورَ وكشف عوراتهم ومفاسدهم قتلوه أو سجنوه وأطفؤوا سراجَه.
يحيى : يموت كل شيء إلا الكلمةَ، كلمةَ الحق فإنها تحيا.
محمد : وكيف قتلوا أباك يا صبوح الوجه؟
يحيى : بعد أن حملوا رأسي إلى الملك وبغيِّه انتصر الله لي فخسف بملكهم وبغيِّهم الأرض فتنادى يهود وقالوا: فلننتصر لملكنا ونقتل أبا يحيى زكريا. (يصمت قليلاً) نشروه بالمنشار وهو في الشجرة التي التجأ إلى جوفها.
محمد : ألم يتألم؟
عيسى : كلا، وإنما سمعت الشجرة تبكي عليه وتتألم.
محمد : وأنت، يا أخي عيسى، حدثني فأنا مشوق لسماعك.
عيسى : مرحباً بالفارقليط، أيها المـعزّي، وإني لأكثر شوقاً، أنا الحبُّ وأنت المعرفة، بك تكاملت حروف الكلمة، وأنا الذي قلت لأصحابي مبشراً بك: إنه خير لكم أن أنطلق، لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزّي”.*
محمد : وما لأصحابك تفرّقوا فيك واختلفوا وضلوا من بعدك؟
عيسى : ضلّوا ولم يشركوا، مزجوا صفاء الإيمان ونوره بمجاهيل الفلسفة، حاروا في أمري واختلفوا، ولكنهم كانوا مؤمنين يُلقَوْن إلى الأسود في ملاعب الطغاة ويحرقون في النار فلا يثنيهم ذلك عن الإيمان، ولقد حاورْتُ فيهم ربي وقلت: “إن تعذبهم فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم”.
جبريل : هيا يا محمد ولنتابع رحلتنا.
     
    المزيَّنة
     
صوت محمد : (من داخل المركبة) إلى أين يا جبريل؟
صوت جبريل : إلى المزيَّنة السماء الثالثة.
    (تتوقف المركبة الفضائية أمام أسوار عالية من نحاس، يطرق جبريل الباب النحاسي)
صوت الحارس : من الطارق؟
جبريل : جبريل.
الحارس : (يفتح الباب) ومن معك؟
جبريل : محمد.
الحارس : (ينحني محيياً) مرحباً بك وبمن معك. (يفسح الطريق لدخولهما) المزيَّنة غانية استغنت عن زينتها بحضورك يا محمد.
    (جبال ووديان وقصور تغلب على حجارتها خلائط النحاس بألوانه المميزة، ملائكة يحملون ألوية خضرا على أفراس مجنحة وفي أيديهم المشاعل)
محمد : من هؤلاء يا جبريل؟
جبريل : هؤلاء ملائكة ليلة القدر وشهر رمضان يحملون المشاعل ويطوفون الليل ببيوت الصائمين.
    (يتابعان السير، ويلوح عن بعد رجلان  أحدهما وهو داود يجلس على صخرة من نحاس يعزف على قيثارة وينشد في خشوع، وثمة جوقة خفية كأنها الجبال تردد معه، والثاني وهو سليمان يجلس بجانبه في ثيابه الملكية)
داود : (ينشد من المزامير)

طوبى للرجل الذي لم يسلك في مشورة الأشرار، وفي طريق الخطاة لم يقف، وفي مجلس المستهزئين لم يجلس

يا أيها الملوك تعقلوا. تأدبوا يا قضاة الأرض

اعبدوا الرب بخوف، واهتفوا برعده

يا بني البشر، حتى متى يكون مجدي عارا ؟ حتى متى تحبون الباطل وتبتغون الكذب ؟

يارب، بالغداة تسمع صوتي. بالغداة أوجه صلاتي نحوك وأنتظر

تهلك المتكلمين بالكذب. ورجل الدماء والغش تكرهه

يارب، لا توبخني بغضبك، ولا تؤدبني بغيظك

ارحمني لأني ضعيف. اشفني لأن عظامي قد رجفت، ونفسي قد ارتاعت

محمد : من هذا الراعي المتبتل ذو الصوت الشجي والعزف السخيّ؟
جبريل : هذا داود ينشد المزامير، وبجانبه ابنه الملك سليمان، اقترب منهما وسلم عليهما.
محمد : (يقترب) السلام عليكما.
داود وسليمان : وعليك السلام يا محمد.
داود : أبشر يا محمد، الخير فيك وفي أمتك إلى يوم القيامة.
محمد : (لداود) سمعت غناءك وعزفك، كم هما رائعان، أكنت تعزف على المقلاع عزفك هذا؟ كيف رميت بالمقلاع ذلك الجبار جالوت وقتلته؟
داود : وما رميتُ إذ رميت ولكن الله رمى.
محمد : وأنت يا سليمان ما قصتك وبلقيس.
سليمان : كانت امرأة راجحة العقل، مستنيرة، وملكة عظيمة، وهبتُها وشعبَها الإيمان والسلام فوهبتني نفسها.
محمد : السلام!؟ أليس ذو نواس من أحفادك.
سليمان : كلا.. ليس من أحفادي، هو كما قال الله لنوح حين طلب المغفرة لابنه الغريق: “إنه ليس من أهلك، إنه عمل غير صالح” ، من يكفر بالله ويقتل مؤمناً فكأنما قتل الناس جميعاً. حتى أنا الملك لم أسلم من تخرصات يهود فقالوا عني ساحر ولست بنبي، ولولا ملكي وقوتي وما آتاني الله من العلم لقتلوني مثل دأبهم في تقتيل الأنبياء.
جبريل : هيا يا محمد ولنسر، ألا تلمح شاباً فائق الجمال هناك.
محمد : أجل، وفي يده قميص ممزق الظهر.
جبريل : سلم عليه قبل أن نغادر فهو آية في الحسن.
محمد : (يقترب من يوسف) السلام عليك أخي يوسف.
يوسف : وعليك السلام ، إلى أين ذاهب يا محمد، أو قد بعثت؟
محمد : أجل، وأنا أعرج اليوم بدعوة من ربي.
يوسف : لاشك أنك أوذيتَ كما أوذيتُ أنا فأراد الله أن يكرمك ويواسيك بعد أن آذاك قومك كما أراد الله أن يكرمني بعد أن آذاني أخوتي وكادوا لي، وبعد أن سجنتني امرأة راودتني عن نفسي، فوهب لي مُلْكَ مصر. إن الله لرؤوف عزيز.
محمد : هل كان السجن عليك عذاباَ؟
يوسف : بل كان عذْباً، أوتيت فيه عذوبة الحكمة، وسرائر الحياة والناس والأحلام. إن بعض العذاب عذوبة لا يعرفها إلا أهل النار.
محمد : وامرأة العزيز؟
يوسف : غفر الله لها.
محمد : تستغفر لها بعد أن فعلت ما فعلت!؟
يوسف : وإن هي إلا بشر، الملام أنا، وهذا الوجه الذي أبدع البديع في خلقه، كانت تقول لي دائما:”كيف لا أحبك يا يوسف وجمالك ملائكي؟ لا تلمني يا يوسف في ما لا أملك”.
محمد : وأخوتك الذين كادوا لك وباعوك بثمن بخس؟
يوسف : كان ذلك بسبب ما منحني الله وأبي من محبة وحسن فاعتبر ذلك أخوتي أن ذلك غير عادل.. وقد سامحتهم واستغفرت لهم، وكنت أقول دائماً في سري: “أنا الملوم” ، ولكن لا لوم علي فيما فضلني الله،  إنهم أخوتي يا محمد والدم لا يصير ماء. (محمد تدمع عيناه) لم تبكي يا سيدي؟
محمد : سيأتي يوم على أمتي يأتمر الأخ بأخيه، ويرمي بعضهم بعضاً في بئر الحصار والجوع والدماء، وكل ذلك بدعاوى الحق والعدل والسلطان وبأسماء يسمونها ما أنزل الله بها من سلطان.
جبريل : كفكف دموعك يا محمد ما أسرينا وعرجنا لتحزن، هيا ولنتابع رحلتنا.
     
    الزاهرة
     
    (تتوقف المركبة أما أسوار عالية)
جبريل : ها قد وصلنا الزاهرة السماءَ الرابعة. (يطرق الباب)
صوت الحارس : من هناك؟
جبريل : افتح الباب، أنا جبريل.
الحارس : (يفتح الباب) ومن معك؟
جبريل : محمد وقد بعث.
الحارس : (يحييهما ويفسح لهما الطريق) أهلاً بك وبمن معك.
    (جدران وبيوت وأراض ممتدة تشع بلون الفضة)
محمد : كأنه القمر يغمر بضيائه الفضي كل شيء.
حبريل : كلا.. لا قمر.. وإنما كل شيء هنا من الفضة أو بلون الفضة.
    (يلمحان عن بعد رجلاً يكتب في سجل وتحيط به هالة من النور)
محمد : من هذا الرجل؟
جبريل : هذا هو إدريس ثالث الأنبياء بعد آدمَ وابنِه شيث وأولُ من خط بالقلم. ادن منه وسلم عليه.
محمد : (يدنو) السلام عليك يا أخي إدريس.
إدريس : وعليك السلام، مرحباً بالأخ الصالح والنبي الناصح.
محمد : وما تكتب يا إدريس؟
إدريس : منذ أن رفعني الله إلى السماء وأنا أكمل ما بدأته في أرض بابل ومصر في هذه الصحف. لقد عاصرت آدم ثلاثمئة عام وثمانية وأفدت منه، وقرأت الصحف التي أُنزلت عليه وعلى ابنه شيث، واطلعت على الأسماء ، فأوتيتُ الحكمة وشيَّدتُ المدن، وانتهجت في إدارتها السياسة، وعلمت الناس الطب.
محمد : وهذه الثياب الجميلة التي ترتديها؟
إدريس : أنا أول من خاط الثياب ، وكان مَن قبلي يرتدون جلود الحيوانات. ولكن ألا تريد أن أقرأ لك شيئاً مما كتبت؟
جبريل : اقرأ يا إدريس، سيُسر محمد بذلك، فأول ما حملتُ إليه وهو في الغار كلمة : اقرأ
ادريس : (يقرأ)

خير الدنيا حسرةٌ، وشرُّها ندم

السعيد من نظر إلى نفسه، وشفاعته عند ربه أعماله الصالحة

الصبر مع الإيمان يورث الظفر

إن الله لما أحبَّ عباده وهب لهم العقل

    (يعود إدريس إلى الكتابة، ويتابع الاثنان السير في الزاهرة، يمران برجال ونساء وملائكة مجنحين متشكلين بأشكال البشر وأشكال أخرى وبحجم طبيعي محبب، والجميع في أوضاع ومهام مختلفة: امرأة تغزل خيوطاً بمغزل فضي، رجل يحمل مشعلاً ويسير، شاب يطلي باب داره، فتاة ترسم، راع يعزف على الناي، ملائكة تغتسل في النهر..الخ، يلتقيان رجلاً يحتسي الخمرة وأمامه دنٌّ وكأس).
الرجل : هيه.. أيها العابران، شربت عشر كؤوس ولم أسكر، ما لهذه الخمرة لا تسكر؟
    (يتابعان السير وجبريل يبتسم، يلوح لهما ملاك يجلس على عرش من رؤوس الموتى، وعن يمينه لوح فيه أسماء، وعن يساره شجرة كبيرة كثيفة الأغصان والأوراق، وثمة باب على يمينه وآخر على شماله، ومساعدان له عن يمينه وشماله في يد كل منهما حربة ومباضع ومقص كأدوات الطبيب الجراح)
محمد : من هذا يا جبريل؟
جبريل : هذا هادم اللذات، ومفرق الجماعات، ومخرب الدور، ومعمر القبور، وميتِّم الأطفال، ومرمِّل النساء، وخاطف الشباب..هذا ملك الموت عزرائيل، ادن منه وسلم عليه.
محمد : (يدنو) السلام عليك يا عزرائيل.

(عزرائيل لا يرد السلام)

جبرائيل : أجب محمداً يا عزرائيل، هذا سيد الخلق وحبيب الحق.
عزرائيل : وعليك السلام يا محمد. اعذرني فأنا لا أقيم علاقات مع أحد لئلا يطمع في تجنيب نفسه ما ليس منه بدّ، ولئلا يعيقني في مهمتي، على الرغم من أنني مخلوق بلا عواطف.
محمد : يا أخي عزرائيل، كيف تقبض الأرواح وأنت على عرشك هذا وفي مكانك هنا، وكيف تعرف أن قد حضر أجل العبد؟
عزرائيل : انتظر قليلاً وتمتع بمشاهدة نفس تقبض.
محمد : أتمتع!؟
عزرائيل : بالنسبة لي هذه متعتي ومهمتي. انظر هذين البابين (يشير إلى البابين) الأول لرزق الإنسان والآخر لعمله، وهذه الشجرة ما من ورقة فيها إلا وعليها اسم إنسان

(تبدو أوراق الشجرة وعليها الأسماء)

 انظر لقد اصفرت إحدى الأوراق، وها هي تسقط أمام باب الرزق، الآن رزق العبد من الدنيا قد انتهى.

(على الشاشة يظهر اسم الشخص الذي سقطت ورقته ضمن قائمة طويلة بأسماء الموتى، يتصاعد دخان فضي، يتكاثف، يتجسد عن شخص هو صاحب الورقة وهو مريض يحتضر، يخاطب مسا عديه)

اذهبا إليه وعالجاه.

(ينهض المساعدان ويخرجان).

    (بقعة ضوء على عزرائيل)
عزرائيل : (يهز الحربتين بالتتالي) هذه حربة النور، وهذه حربة السخط. الروح الطيبة أقبضها بحربة النور، والروح الخبيثة أقبضها بحربة السخط.
محمد : أرني صورتك التي خلقك الله عليها وبها تقبض الأرواح.
عزرائيل : يا حبيبي محمد لا تستطيع النظر إليها.
محمد : أقسمت عليك إلا فعلت.
جبريل : لا تخالف حبيبي محمداً
    (على الشاشة ملك الموت يتشكل في صورة مرعبة، يحمل الأرض في كفه الضخم. محمد يرتجف، تنزاح الصورة لتحل محلها صورة الرجل الذي سقطت ورقته وهو يلفظ أناسه الأخيرة ويموت. تظلم شاشة العرض. جبريل يضع يده على صدر محمد حتى يهدأ)
عزرائيل : أتخاف مني يا محمد؟
محمد : كلا.. وإنما أخاف على أمتي.
عزرائيل : قبل الموت يخافني الناس، وبعده يعرفون أنني كنت صديقاً أحمل لهم الخلاص والسعادة والخلود.
    (يختفي عزرائيل والمشهد بكامله ضمن غمامة فضية. تحت بقعة ضوء جبريل يخاطب محمداً)
جبريل : هيا يا محمد ولنتابع رحلتنا.

(يتبع)

___

عنوان الكاتب:    ar.kalaji@gmail.com

     
     
     
     
     
     
     
     
     
     
     
     
     
     
     
     
     
     
     
     
     
     
     
     

 

* أغنية زهرة المدائن لفيروز، كلمات الأخوين رحباني

* أي نظام الوجود البشري وسر استمراره.

* انجيل يوحنا 1/15

* انجيل يوحنا إصحاح 16 فقرة 7


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock