نصوص

حصريا.. ننشر “دموع إيزيس” نص مسرحي للكاتب السوري الكبير “عبد الفتاح رواس قلعه جي”


المسرح نيوز ـ القاهرة| نصوص

ـ

 

عبد الفتاح رواس قلعه جي

 

دموع إيزيس

 

 ملاحظة:

هذه قراءة معاصرة لآسطورة إيزيس وأوزوريس، هذه المسرحية هدية للشعوب المقهورة باسم المقدس والحاكمين بأمرهم.
عنوان الكاتب: ar.kalaji@gmail.com
هاتف: 00963955680098
أي تقديم للمسرحية على المسرح يجب الرجوع إلى الكاتب مباشرة أو عن طريق المسرح نيوز

 

 ـــــــــــــــــــ

 

 

 

مسرحية

دموع إيزيس

الشخصيات

 

رجال ونساء من الصالة

المخرجة الراوية

إيزيس

الحاجب

أوزوريس

نيفتيس     : أخت إيزيس

بوغات     : أميرة من أوغاريت

إيزي       :  قروية

آزر        :  قروي

 

 

    (المكان بقايا ساحة قصر أو( معبد فرعوني).

 في صدر المسرح منحوتة جدارية لإيزيس وأوزوريس وبينهما قرص الشمس.

جوانب من جدار هو بقايا هيكل أو قصر فرعوني قديم وحجارة مرمية هنا وهناك، وعلى الجدار بقايا منحوتة للوحة مكتوبة بالهيروغيفية.

بضعة مقاعد حجرية وشجرة ظليلة وركية ماء مقدس تحتها يمكن أن تكون على حامل، يغسل المرء منها وجهه ويديه للتطهر.

إناء فخاري للماء قسمه السفلي ملفوف بقماش لتبريد الماء وأمامه كأس على شكل طاسة.

قَفَصان معلقان يمين ويسار المسرح فيهما طائران بلبلان، الذكر في قفص والأنثى في الآخر.

شاشة لعرض الظلال والشرائح الضوئية والمشاهد.

على المخرجة الراوية أو أصحاب المداخلات في الصالة أن يضعوا في اعتبارهم إمكانية مداخلات أو ملاحظات عفوية توجه إليهم من الجمهور، وعليهم معالجتها بحذر واختصار ليحقق العرض غرضه التفاعلي).

   

 

 

    المشهد الأول
     
    (جمهور الصالة يجلس مترقباً بدء العرض المسرحي، لكن الستارة لم ترفع، والممثلون حائرون لم يبدؤوا العرض؛ فالمخرجة لم تحضر .

ترفع الستارة فجأة (أو يستعاض عنها بالإنارة) فنرى الممثلين مجتمعين ينظرون في ساعاتهم بقلق ويشير بعضهم إلى بعض. أحدهم وقد فوجئوا برفع الستارة يشير إلى غرفة المراقبة فتضاء الصالة من جديد وتُنزل الستارة أو تظلم خشبة المسرح).

رجل1 : (من الصالة) ما هذا؟ هل تلعبون معنا؟ منذ ساعة ونحن ننتظر بدء العرض؟
امرأة1 : (من الصالة) ما هذه المواعيد !؟ أنا قلقة، تركت أولادي وحدهم في البيت.
رجل2 : (من الصالة) أظن أن المخرجة عندها موعد غرامي فتأخرت.
امرأة2 : أعيدوا لنا ثمن البطاقة أو ابدؤوا العرض.
رجل3   (من الصالة) أنتم يا من وراء الستارة أفهمونا ماذا يحصل؟
    (ترفع الستارة وتدخل مخرجة العرض وهي الراوية نفسها، فتاة جميلة جداً بملابس جذابة لافتة للنظر. تقف لحظة صامتة وهي تنظر إلى الجمهور)
المخرجة : أنا مخرجة المسرحية وراوية العرض، ها قد وصلت، لم يكن عندي موعد غرامي. أنا آسفة حقاً ولكن الطرق مقطوعة بسبب الحرب، والمواصلات غير متوفرة، وما حدث معي في الطريق أمر هو أغرب من الخيال.
رجل2 : (من الصالة) من جهتي أنا مسامحك، ومن لا يسامح هذا الجمال؟
امرأة1 : لأنك أعمى، كلها ديكور ومكياج وصباغات، لبِّس المكنسةْ بتصير سِت النِّسِا*.
رجل1 : لا بأس، حدثينا عما حصل معك في الطريق.
المخرجة(الراوية) : كنت في الطريق إلى المسرح فشاهدت اثنين يتقاتلان بالأيدي ويتشاتمان، ثم عرفت أنهما أخوان أحدهما ملتح والآخر أجرد، بدا لي أنها مجرد أسباب تافهة، وأن القتال عبثي، ما كنت أعرف أن الأخ يمكن أن يحمل مثل هذا الحقد على أخيه، فقد استل الأول سكيناً ولما هرب أخوه منه مبتعداً قذف السكين ورماه في ظهره وصاح: خذ أيها المارق الكافر، لكن الأخ حاد عن الرمية فانغرزت السكين في بطيخة خضراء كبيرة، ذهل البائع المسكين، وغاصت السكين في عمق البطيخة محدثة شقاً كبيراً، دخل الأخ الهارب في الشق وتوارى وتبعه أخوه وتوارى أيضاً داخل البطيخة، وكنت حريصة على أن أشهد النهاية فلحقتهما ودخلت في شق البطيخة.

عندما دخلت وجدت مدينة عامرة بأهلها: شوارعَ طويلة متعرجة وأزقةً ضيقة، وحدائق وبيوتاً أنيقة كالقصور، لكن جدران المدينة، حتى سورَها، كانت مطلية باللون الأحمر. وفي الساحة العامة للمدينة رأيت صفوفاً من الجنود شاكي السلاح يلبسون البِذَّات والخوذات الخضر، ولهم لحىً طويلة غليظة تغطي كروشهم، والموسيقى العسكرية تضرب على الطبول وعلى مختلف الآلات الإيقاعية إيقاعات مهيجة، وموسيقى القرَب تعزف مقطوعات حماسية. وسألت عن المناسبة فقالوا: الجيش ينتظر الملك ليعلن الحرب على أخيه المارق الكافر الذي ينازعه على الملك، وبعد قليل وصل الملك في موكب فخم، ونظرت فإذا هو حامل السكين نفسه، وأخوه ليس معه فتعجبت.

وآثرت السلامة لنفسي فغادرت الساحة إلى الجامع الكبير فرأيت الناس وهم يصلون وقد أدار كل منهم ظهره إلى الآخر وكل منهم يتجه إلى قبلة غير قبلة الآخر، هذا إلى الشرق وهذا إلى الغرب، وذاك إلى الشمال والآخر إلى الجنوب، فازداد عجبي.

ثم دخلت الأسواق فرأيتها عامرة بالباعة والمشترين، والكل يَتَموَّن بما يلزم وما لا يلزم، ومن الغريب أنهم يشترون الأكفان البيض أيضاً، فسألتهم عن ذلك وعن الأكفان لماذا يشترونها؟ فقالوا: إنهم يتموّنون فالحرب المحتومة الآتية طويلة، وأيام الجوع قادمة، والقتلى من الشهداء والمجاعة سيكونون كثيرين فهم في حاجة إلى الأكفان.

وسألت عن الطريق إلى المسرح فقالوا: إياك أن تذكري ذلك فهو من المحرَّمات.

ركبني الخوف ورحت ألتمس الخروج، فغادرت المدينة أتلمس طريق العودة، حتى رأيت نفقاً في الجبل المطل عليها، وبصيص ضوء فيه، فسلكته، وعندما خرجت وجدت نفسي أمام باب المسرح.

(تسود المسرح حالة من الصمت والاستغراب)

رجل3 : (من الصالة) هل هذه خرافة؟
امرأة1 : (من الصالة) هذه واحدة من دهاليز الحكايات الشعبية التي كانت تحكيها لي جدتي فتسلب قلوبنا بغرابتها.
رجل2 : (من الصالة) “إذا قالت خَذامِ فصدقوها..”* وأنا لا يمكن أن أكذِّب هذا الجمال. وكل ما يدهشك هو الجدير بالاحترام.
امرأة1 : ما شاء الله.. بدأت بالغزل وانتهيت بالفلسفة!
امرأة2 : (من الصالة) هل دفعنا ثمن البطاقة لنسمع مثل هذه التخاريف غير المعقولة؟
رجل1   (من الصالة) وهل العرض أيضاً من اللامعقول؟

(الصمت يرين على الصالة)

المخرجة : وهل الحياة التي تعيشونها اليوم معقولة، أليست هي واحدة من كوابيس اللامعقول؟ أنصحكم أن تشاهدوا العرض وتقرؤوا ما بين السطور.

(تخرج.إظلام)

 

 

 

    المشهد الثاني
     
    (إنارة.

إيزيس تغسل وجهها ويديها بالماء المقدس وتتأمل الطائرين، والطائر الذكر يغرد).

إيزيس : غرد أيها الطائر، غرد فأنت تذيب السكر في مسمعي. هل تريد أن أترجم ما تقول فقد أوتيتُ منطق الطير، أنت تغازل أنثاك، تلك الطيرة الجميلة. يا لكما من ثنائي رائع. أجمل ما في الوجود تلك الثنائيات التي يقوم عليها نظام الكون.

غرد، لكن قصائدك لن تتفوق على قصائد حبيبي أوزوريس التي ينشدها لي وهو يذوب عشقاً.

لم أكن أعلم أن البلابل تنظم الشعر أيضاً! إنها قوة العشق. إني أسمعك تقول لحبيبتك:

(بصوت إيزيس مسجلاُ مع الصدى)

أنتِ

يا ذات الجناحين الخضراوين

والمنقار الذهبي

الذي ما خلق إلا للقبلات

جودي بوصلٍ

أعطك مُلْكَ سليمان

وأنزع التاج من على رأسه

وأضعه على رأسك

.   .   .

أنت

يا ذات الريش المخملي

والمنقار الذهبي

أنتِ

يا ذات العيون العسلية

التي تطَّلع على غيب القلوب

انظري إلى الحب الذي يجمع إيزيس وأوزوريس

والذي تترصده المبْكيات

أعطني حباً كحبهما

أحفرْ كنقار الخشب

بمنقاري الظامئ للتقبيل والخلود

صورتَك السماوية العُلوية

وصورتي  الأرضية  البهية

على جدار هذا المعبد

وأضع بينهما قرصَ الشمس

فيتوضأ الداخلون إلى حرم المعبد القدسي

بالماء المقدس

ويعبدونك

مرتلين بلساني

قصائدَ العشق

التي تمنحهم الخلود

والجنة الموعودة.

(إيزيس تبتسم، يدخل حاجب القصر)

الحاجب : سيدتي المقدسة، وصل أوزوريس المعظم حاملاً قوسه وكنانته على ظهره.
إيزيس : وصل باكراً. حمداً لسلامته. اذهب واطلب من الطهاة أن يعدوا لنا الطعام.
الحاجب : الطعام جاهز يا سيدتي.

(الحاجب ينحني ويخرج).

    (يدخل أوزوريس حاملاً قوسه وكنانة سهامه على ظهره، ويعلق في يده طيوراً وحيوانات صادها)
إيزيس : أوزوريس، أراك عدت باكراً.
أوزوريس : شاقني وجهك الملائكي فعدت أتعبد في محرابه قبل أن تغرب الشمس.
إيزيس : لا أدري أينا يحب الآخر أكثر، لكن كلماتك تبعث الدفء والحياة في قلبي ( تبتسم) ولكنك غير قادر على أن تمنحني ما يَعِد به هذا الطائر حبيبته. كانت قصيدته التي غردها لها رائعة حقاً.
أوزوريس : وأي شيء لا يقدر عليه حبيبك ويقدر عليه هذا الطائر الصغير؟(صمت) وبماذا يعد حبيبته؟
إيزيس : (تبتسم) سمعته وهو يعدها بملك سليمان، وأنه سينزع التاج من رأس سليمان ويضعه على رأسها إن هي أعطته قبلة.
أوزوريس : الشعراء عادة يقولون ما لا يفعلون، فكيف حالهم إذا كانوا عشاقاً؟ ولكن قوله لذيذ.
إيزيس : (تتفحص الطرائد) يبدو أن صيدك اليوم لم يكن وفيراً.
أوزوريس : بل كان وفيراً، ولكنني وزعت منه على السابلة وبعض البيوت الفقيرة ، وما تبقى نصفه لنا ونصف للمعبد. كل ذلك بفضل هذه القوس المباركة التي أهداني إياها جدي الذي في الأعالي.
إيزيس : حافظ عليها فإنها منحة السماء.
    (يضع الطرائد جانباً ويتجه إلى الركية فيغسل كفيه ووجهه. تقدم له إيزيس المنديل ليجفف يديه، يتجه إلى الإناء الفخاري ويصب قليلاً من الماء ويشرب).
إيزيس :  أنت تقوم بهذا الطقس كلما جئتني.
أوزوريس : لا بد لمن يدخل معبدك يا إيزيس من أن يتوضأ من هذا الماء المقدس ويشرب جرعة منه.
إيزيس : أنت حبيبي وزوجي وأخي ومليكي، وأنا أتوضأ بقدس محبتك كل يوم، حين تطلع الشمس وحين الغروب.
أوزوريس : كثيراً ما يسأل الحبيب حبيبته: هل تحبينني؟ أما أنا فلم يخطر في بالي هذا السؤال.
إيزيس : حين أتأمل الطبيعة المعطاء وأتماهى فيها أراك في كل زهرة ترتشف الندى، وفي كل شجرة تغتسل بالأشعة الذهبية، وفي رائحة الأرض بعد إطلالة المطر المسافر، وفي النيل المعطر بثرثرات الساهرين.

آه يا أوزوريس ، يا وطني الجميل!

أوزوريس : أما أنا فحين يداعب النعاس جفونك أجلس وحدي على ضوء الشموع المقدسة أتأمل وجهك الملائكي فأرى فيه شطآناً تمتد، ومنارة ترسو إليها روحي الوالهة، وأرى تراب طيبة الحنون، ومروجاً وحقولاً مثمرات يعمل فيها الفلاحون..

أتماهى..أتماهى في وجهك الناعس بالأحلام حتى أصير ذرة فيه تضيء الكونَ الرحيب المترامي.

آه يا إيزيس .. يا وطني الجميل!

إيزيس : نتماهى في بعضنا! ولماذا لا نتماهى وقد أرضعتنا هذه الأرض الطيبة معاً؟
أوزوريس : أجل.. والشمس تدفئنا.
    (صمت، يلاحظ بعض القلق في وجهها)
إيزيس : أصلي لله أن تدوم هذه السعادة.
أوزوريس : هل تشكين؟ ما لهذا القلق الذي يغشِّي وجهك يا إيزيس؟
إيزيس : كان هذا الطائر يغرد ويقول لمحبوبته:

انظري إلى الحب الذي يجمع إيزيس وأوزوريس والذي تترصده المبكيات، أعطني حباً كحبهما.

أنا خائفة يا أوزوريس.

أوزوريس : لا..لا تخافي، أبعدي عنك الهواجس. إنها مجرد ثرثرة طائر.. ومن يتعرض لهذا الحب فإن معي قوسي التي لا تخطئ.

هيا يا حبيبتي ، أبعدي الهموم عنك. مركبي في النهر جاهز ولنمض ليلتنا هذه على النيل في ضوء القمر نستمع إلى عرائس الماء وهن يغنين.

(إظلام)

 

 

 

    المشهد الثالث
     
    (إضاءة فضية خفيفة هي ضوء القمر الذي يظهر هلالاً مكتنزاً في السماء.

في نهر النيل مركب نهري صغير يتهادى على صفحة الماء وإيزيس تجلس في مقدمته وأوزوريس في نهايته وهو يجدف ببطء.

عرائس الماء يمددن رؤوسهن من الماء وبشكلن حلقة حول المركب وهن يغنين).

عرائس الماء : نحن عرائس الماء

حوريات البحر

حين يمتطي الشيخ الوقور

جدنا الجالس فوق عرشه الواسع الكبير

مركبةَ الشمس في الصباح

ويبحرُ في السماء

نغني لأبنائه الحاصدين على الضفاف والشطآن

وفي السهول المترعة بالخمرة

أغاني الشروق والحبور والعمل

.   .   .

نحن عرائس الماء

حوريات البحر

حين يغمر القمر المنير

روابي البلاد والجبال والخلجان والشجر

وينزل عن عرشه الواسع الكبير

جدنا الشيخ الوقور

إلى الأرض المترعة بالحياة والشقاء والتعب

يستمع إلى ثرثرات الأحفاد

وشكاوى الأبناء

نَجوس في النهَر

ونغني للساهرين المتعبين

على الضفاف

والمياه

أغاني القمر

.   .   .

نحن عرائس الماء

حوريات البحر

نغوص في النفوس

نسبح في النفوس

نغوص في المياه

ونجتلي غوامضَ القدَر

غناؤنا يحمل للأرواح

سرائرَ البشر

.   .   .

يا أيها الساهر في ضوء القمر

حين يجف الماء من هذا النهَر

وينتهي فصل المسرات

وتأتي المبْكيات

ويغضب الشيخ الوقور

جدنا الجالس فوق عرشه الواسع الكبير

وحين يمتطي الشمسَ الكدورَ

والقمر

سيفُ القدر

ويُصْدَعَ الإنسانُ والبلاد

وتُقسم البلاد

وتغرق الحقول والأوطان في الجفاف والدماء

ويعمُّ الصمتُ الغاضب

أرجاءَ الكون

لن تسمعَ الغناء

غناءَنا

نحن

عرائس الماء

حوريات البحر

(إظلام)

 

 

 

    المشهد الرابع
     
    (إضاءة. تدخل الراوية)
الراوية : أيام الهناء لا تدوم، تذهب المسرات وتأتي المبكيات.
رجل1 : (مقاطعاً) عفواً.. هل جئنا لنبكي؟ ألا يكفي ما نلاقيه من شقاء الحياة وقهر النفوس؟
الراوية : بل جئنا لنقرأ ونعتبر، والتاريخ لا يتكرر ولكنه يتماثل.

(تتابع) كانت البلاد كما تحدثنا الأسطورة تنعم بالسعادة والعيش السعيد في ظل حكم إيزيس وأوزوريس. النيل يفيض من دموع السعادة في عينيها فترتوي الأرض وتنتج الغلال الوفيرة، والسلام يعم أرجاء البلاد.

(تعرض على الشاشة مناظر للنهر والطبيعة الجميلة، وحاصدون يحصدون سنابل القمح ورقصات في أعراس).

وفي أيام الربيع تحبل الأرض، وتستيقظ الحياة من رقدتها ، ويعود الخصب والنماء والفرح إلى الأرض الباكية، وتقام الأعراس، وتعقد حلقات الرقص في الحقول، والسلام يعم أرجاء البلاد.( ينتهي عرض المشاهد على الشاشة)

ثم..ثم بدأ صراع الأخوة على الحكم بين أوزوريس وأخيه سِت

(تنعكس على الشاشة ظلال عملاقة بين أخوين يتصارعان، ثم تتوالى مشاهد حية لمعارك حديثة. دبابتان تتبادلان القصف ضد بعضهما، مشاهد دمار وخرائب)

وهكذا راحت الخرائب والدمار ومشاهد الموت والحصار والجوع تحل في البلد الوادع المطمئن.

رجل3 : (من الصالة) هل تروين لنا أسطورة أم تصورين الواقع؟
الراوية : اقرأ كما تشاء فما أنا إلا راوية.
امرأة3 : (من الصالة) دعها تكمل، فقد فقدت ولدي الوحيد في مثل هذا الصراع وترك لي زوجته الشابة، وقد جئت لأتأسّى وأرى مأساتي في هذه الرواية.

(ينتهي عرض المشاهد على الشاشة)

الراوية : وهذا ما حصل، فقد سقط أوزوريس قتيلاً في معارك الأخوة الأعداء، وأصبح ست بما عرف من قسوةٍ وعنفٍ الحاكمَ المطلق، وعساكرُه ورجال أمنه يلاحقون الناس بالاتهام والقتل والتعذيب والسجون، وكهنته يكفرون الناس باسم أمون ويقدمونهم قرابين للموت.

توقفت الأعراس، وغاب المتنزهون على ضفاف النهر، وغاصت عرائس الماء في الأعماق فلم تعد ترافق المراكب، وهاجر الفرح القديم، وبدأت أحزان إيزيس، والنيل يفيض من دموعها حزناً على حبيبها أوزوريس.

رجل4 : (من الصالة) يا سيدتي أنت تستأثرين بالمسرح، وتروين القصة كما يحلو لك لتفصِّليها على مقاس الواقع، ونحن يجب أن يكون لنا دور في هذه الرواية. المسرح تفاعل، انتهى عصر الصمت، ولا نريد أن نبقى متفرجين.
الراوية : هل تريد أن تقدم شيئاً؟
رجل4 : (من الصالة) أجل. فأنت تحرفين الأسطورة.
الراوية : وماذا تقول الأسطورة، تفضل وشاركنا العمل.
    (رجل4 يصعد إلى المسرح ويحكي القصة).
رجل4 : الأسطورة تقول: إن ست صنع صندوقاً أو تابوتاً فاخراً  مطعماً بالعاج وكِسْوته من الذهب على مقاس أخيه أوزوريس، وفي حفل أقامه في قصره للملك ورجال الدولة قال: إنه سيهديه لمن يكون هذا الصندوق على مقاسه، وجربه الجميع فلم يكن على مقاسهم، وعندما تمدد فيه أخوه سارع وأغلقه عليه ورماه في النيل فغرق، وهكذا اغتصب الحكم، وحمل النهر الصندوق إلى البحر حتى رسا في مدينة بيبلوس*،  ونمت في مكانه شجرة كان التابوت داخلها، فذهبت إيزيس بحثاً عن جثة زوجها إلى هناك واستخلصت الصندوق من داخل الشجرة وعادت به إلى بلدها لتعيد زوجها أوزوريس إلى الحياة، لكن عيون ست علموا بها، فسرق ست جثة أخيه وقطعها ستة عشر جزءاً وزعها في أقاليم البلاد الستة عشر.

(بخاطب الراوية منهياً مداخلته)

آسف للمقاطعة، ولكن هذا ما حصل يا سيدتي، والموضوعية تفرض علينا أن نكون أمناء في التعامل مع التراث.

(يعود إلى مكانه في الصالة)

الراوية : حسن، ما تقوله جميل، ولكل أسطورة روايات متعددة تتيح لنا مجال التأويل، وهذا حق المبدع، ولكن جميع الروايات تنتهي إلى حقيقة واحدة، فما قلته أنت يؤكد بأن البلاد تمزقت بصراع الأخوة وهذا ما يرمز إليه تمزيق جسد أوزوريس.
    (يعبر الصالة رجل5 يضع البيريه على رأسه، كثير الشبه بغيفارا، ويرتدي ثياباً كثيابه، يصعد إلى خشبة  المسرح).
الراوية : يبدو أن هنالك مشاركاً آخر.
رجل5 : أجل يا سيدتي.

إن مجال عملي هو الأنثروبولوجيا، دراسة الشعوب من خلال حكاياتها وأساطيرها. ومنذ مدة طويلة وأنا أدرس أسطورة إيزيس وأوزوريس، وأقلب أحداثها ورواياتها المتعددة على مختلف وجوهها.

لقد تبين لي أن أوزوريس لم يكن كما صوَّرتِه أنت في هذه المسرحية. واسمحي لي أن أقول بأنك أعطيتنا مخدِّراً في المشاهد السابقة: حاكم لطيف وزوجة جميلة وسهرات سحرية على النيل، وشعب يموت عشقاً في سيده. فهو نموذج للخير المطلق أما أخوه ست فهو نموذج للشر المطلق.

(يتناول من جيبه جهاز تحكم ويوجهه نحو الشاشة فتضاء بصورة أوزوريس)

لم يكن أوزوريس كما تصوره الأسطورة، كان يخفي وراء مظهره الجميل ونعومته ودماثته وحبه للحياة حقيقة أخرى. أعطى شعبه الخبز والملح والزرع والضرع والأعراس لكن سلبهم أهم شيء في الحياة وهو الحرية.

ولم يكن خيره عاماً وإنما اختص به طائفته ومؤيديه ومن تملقوه بالركوع والسجود، وأما الباقون فلهم الفقر والمعاناة.

كان حريصاً على أن يزور المعابد وبعض البيوت ويوزع بعض الهبات التافهة على الكهان وبعض الفقراء ليبدو بمظهر الحاكم الشعبي الطيب

(يطفئ بجهاز التحكم الشاشة)

بنعومة فائقة أمر الناس أن يعبدوه ويقيموا له التماثيل في ساحات طيبة، ويبنوا له المعابد، ويسجدوا له ولزوجته إيزيس.

(يضيء الشاشة بجهاز التحكم ليعرض مشهد تمثالين لإيزيس وأوزوريس والناس سجود لهما، يرافق ذلك موسيقى معبدية، وترتيلة جماعية).

ترتيلة جماعية: : المجد لكَ يا اوزوريس

المجد لك يا حامي النيل

تمجد اسم الرب

المجد لكِ يا إيزيس المقدسة

المجد لربة النيل

ودموعها الفياضة

المجد لكما

المجد لكما

إيزيس وأوزوريس

إيزيس وأوزوريس

(يطفئ الشاشة)

رجل5 : استعمل القوة الناعمة لعبادته وتقديسه مع إيزيس : الموسيقى والتراتيل وأغاني المديح الوطنية، والاحتفالات الخاصة بمناسبات حياته، والحكايات الشعبية المؤسطرة عنه تتلى في المعابد والسهرات.

كانت طائفته هي الطبقة الذهبية، وطبقة الجند في خدمتها، ومن تبقى فهم الرعاع العاملون في الأرض والمصانع وصغار الكسبة.

وكانت عيونه مبثوثة بين البيضة وقشرتها، فمن آنس فيه المعارضة اختفى بنعومة فائقة من الوجود.

استأثر أوزوريس وجماعته بماء النيل والأراضي الخصبة، ودفع بأخيه ست إلى الصحراء المجدبة.

(يعرض على الشاشة صورتين متجاورتين إحداهما للنيل والأراضي الغناء حوله، والأخرى لصحراء مجدبة).

وهكذا نشأ أوزوريس في الرفاه وحب الذات والحضارة الصورية، ونشأ ست بين البدو في الصحراء والحياة القاسية الخشنة فكان فظاً غليظ القلب. وعلى الرغم من الفوارق بينهما فقد كانا وجهين لعملة واحدة.

كان من الطبيعي أن يعلن ست الثورة على أخيه، ويرتكب المجازر باسم أمون، وكان الذي يدفع الثمن دائماً في هذا الصراع هو الشعب المسكين.

كان أوزوريس يقول للناس: أنا هو النيل، ولولا دموع إيزيس ما جرى النيل ولا فاض، ولا كان زرع ولا ثمر.

وكان ست يقول للناس: أنا حامي معبد أمون وأوزوريس وجماعته كفرة متزندقون، وكان ست وعلى لسان كهنته يعدهم بالفردوس والحور العين.

المعارك التي بدأها أوزوريس ضد أخيه ست أكملها ابنه حورس ضد عمه، حتى تقسمت البلاد وغزاها الغزاة.

مليون قتيل من أجل العرش، مليون قتيل من أجل أمون، مليون قتيل من أجل أبوفيس.*

كانت في البداية ثورة المهمشين ثم صارت ساحة حمراء لأمراء الموت.

(يصمت متأثراً)

لم يعد يجدي البكاء على البلاد… فات الأوان.

(لحظة صمت، ثم يوجه كلامه للراوية)

تفضلي يا سيدتي، أنا لا أريد أن أستأثر بالرواية فالعمل عملك، ونحن مستمتعون به، وهذه وجهة نظر فقط.

    (ينزل من على خشبة المسرح إلى الصالة)

(إظلام)

 

 

 

    المشهد الخامس
     
    (في القصر.

موجودات المكان نفسها وإنما زادت تابوتاً هو الصندوق الذي كان يحوي جثة أوزوريس. الطائران في القفصين  لا يغردان.

إيزيس في قمة أحزانها على زوجها تشعل الشموع حول التابوت).

إيزيس : أنيري أيتها الشموع المقدسة

درب الروح الطاهرة.

إذا كان الجسد قد تمزق وتفرق في البلاد المنكوبة

فإن الروح لا تقطعها السيوف

وستهتدي

أيتها الشموع المقدسة

روح أوزوريس بنورك

لتعود إلى إيزيس

(يدخل الحاجب متأثراً بدموع إيزيس وكلماتها).

الحاجب : سيدتي لا يليق الحزن بإيزيس المقدسة.
إيزيس : للأحزان قوة الخلق أيها الحاجب، وإني آمل أن تعيد أحزاني الحياة إلى الحبيب المغدور.
الحاجب : فليتقدس اسم أخيك أوزوريس يا مولاتي. (صمت).
إيزيس : أعندك ما تقول؟
الحاجب : لقد وصلت شقيقتك نيفتيس يا مولاتي.
إيزيس : دعها تدخل.
الحاجب : إنها زوجة ست يا مولاتي!
إيزيس : أعرف، ولكنها شقيقتي.
الحاجب : كما تريدين يا مولاتي.

(يخرج، وتدخل نيفتيس).

إيزيس : أهلا بشقيقتي نيفتيس.
نيفتيس : أهلاً بحبيبتي الصغيرة إيزيس.

(تجلسان)

إيزيس : ما الذي جاء بك على بُعد المسافة؟
نيفتيس : أحزانك ضجت بها البلاد فجئت أواسيك، ولعلي أكون ذات فائدة.
إيزيس : شكراً لك، نبقى شقيقتين رغم ما احترب بين زوجينا.
نيفتيس : ما شأننا والحرب، فلنتركها للرجال، وأشرس الحروب تلك التي تكون بين الأخوة.
إيزيس : كيف لي أن أنساه يا نيفتيس، كان يدفئ مخدعي، وروحه تذوب في روحي كما يذوب السكر في الماء. إن دموعي لا تكف عن الهطول، وأخشى أن تجف المآقي من الأحزان.
نيفتيس : ألا تجدين في ابنك حورس سلواناً؟ إني أغبطك على أنك مخصبة ولود، أما أنا فزوجي عقيم كالصحارى المجدبة التي عاش فيها.
إيزيس : العقم يا نيفتيس هو عقم الروح، وأنت بمجيئك إليَّ تبرهنين على أنك الخصب المقدس نفسه.
نيفتيس : شكراً، ولكن حدثيني يا حبيبتي ما حدث معك، لعلي أفيدك في شيء.
إيزيس : عندما أغلق ست التابوت على جثة أخيه ورماه في النيل ليموت غرقاً ذهبت إلى الشاطئ وبكيت، نثرت دموعي في الماء حتى فاض النيل حزناً عليَّ، ناديت عرائس الماء الحزينة لتدلني على جثة زوجي فأنبأتني بأن النهر حملها إلى البحر حتى أرست على شاطئ بيبلوس بين الغابات.
نيفتيس : وهل ذهبت إلى هناك؟
إيزيس : أجل، ركبت البحر مع حاجب القصر هذا الإنسان الطيب إلى بيبلوس وعدت بالجثة والتابوت.
نيفتيس : إذن هو هنا الآن (مشيرة إلى التابوت).
إيزيس : كلا، لقد أرسل ست عساكره بحجة تفتيش القصر وسرق الجثة وقطعها ستة عشر جزءاً ووزعها على الأقاليم لتدفن في أقاليم البلاد المتفرقة.
نيفتيس : هذا ما لم أكن أعلمه، إنه لعملٌ مخز. أيمكن لأخ أن يصنع بأخيه مثلَ هذا الأمر!؟
إيزيس : نعم، إنها الحرب.
نيفتيس : إني حزينة من أجلك. ما الذي يمكن أن أقدمه لك يا إيزيس؟

(يدخل الحاجب).

الحاجب : مولاتي إيزيس المقدسة.
إيزيس : ماذا؟ أيها الحاجب. لقد قطعت علينا خلوتنا.
الحاجب : آسف، ولكن فتاة من أوغاريت تدعى بوغات جاءت تريدك يا مولاتي.
إيزيس : الأميرة بوغات بنت القاضي دانييل العادل، والذي طبقت شهرته الآفاق! ما الذي جاء بها؟
الحاجب : لا أدري يا مولاتي، ولكنها تقول: إن أحزانك وصلت إلى أوغاريت فجاءت إليك تزورك.
إيزيس : دعها تدخل.
الحاجب : أمر مولاتي.

(يخرج. تدخل بوغات)

إيزيس : أهلاً بك بوغات. هذه أختي نفتيس.
بوغات : أهلاً بكما..إيزيس الحزينة.
إيزيس : ما الذي جاء بك يا بوغات؟
بوغات : جاءني الهدهد يحمل إلي نبأ أحزانك يا أوزوريس.. لقد عُلِّمت مثلك منطق الطير.
إيزيس : لم يبق لي غير الدموع. كيف تركت أوغاريت يا بوغات؟
بوغات : إنها تنعم بالأمن والسلام في ظل حكم الملك نقماد الثاني،وقاضيها العادل أبي، دانييل.
إيزيس : حفظ الله أوغاريت.
بوغات : أخبرتني المراكب أنك جئت إلى بيبلوس، ولكنك لم تحضري إلى أوغاريت.
إيزيس : كانت زيارة خاصة حزينة.
نيفتيس : بودي لو استطعت زيارة أوغاريت الجميلة، إنهم هناك يصنعون الزجاج الملون، ويكتبون برسوم أسهل من كتابتنا.
بوغات : أجل ، وقد أحضرت لكما معي بعض الأواني الزجاجية الملونة التي تنعكس فيها أشعة الشمس الذهبية.
إيزيس : شكراً لك يا بوغات.
بوغات : ولك يا إيزيس أحضرت قنديلاً يضيء فيجتذب إليه فراشات السماء بنوره، وتسكن إليه الأرواح الطيبة، ويبدد الأحزان في الليالي الطويلة المظلمة.

هل تأمرين بإحضاره، إنه لدى الحاجب.

إيزيس : حالاً (تنادي) أيها الحاجب أحضر القنديل الذي أحضرته بوغات.
بوغات : سيعجبك القنديل يا إيزيس الجميلة، عندما يضيء ستكون روح أوزوريس بجانبك.
إيزيس : أوزوريس هو النور في قلبي لا يفارقني.

(يدخل الحاجب وهو يحمل القنديل)

ضعه فوق التابوت أيها الحاجب الطيب.

(يضعه فوق التابوت ويخرج، تلمسه بوغات فيضيء)

إنه رائع يا بوغات، شكراً لك.

نيفتيس : آمل أن تجدي في نوره مراحاً وسراجاً لروحك الحزينة يا شقيقتي.
بوغات : وماذا في هذا التابوت؟
إيزيس : لا شيء، عدت من بيبلوس ومعي جثة زوجي وعندما وصلت سرقها أخوه ست وقطعها أجزاء ونثرها في البلاد. ألا ترين كم هي أحزاني كبيرة؟
بوغات : لا بأس عليك، حدث معي كالذي حدث معك، وعلى نور هذا القنديل كنت ألامس روح أخي أقهات الشاب حتى أعدته للحياة.
:إيزيس : أخوك أقهات! ما الأمر، وماذا حدث له؟ حدثيني يا بوغات، لعل ذلك يساعدني في محنتي.
بوغات : سبع سنين وأبي القاضي العادل دانييل يصلي للرب كي يهبه غلاماً يحفظ له نسله وشيخوخته، وكنت أدعو معه فأنا بحاجة إلى شقيق يسلّيني ويقف بجانبي.

الأخ والأخت جناحان في البيت ليرتفع، مثلما الطائر لا يعيش بلا جناحين.

نيفتيس : صدقت يا بوغات.
بوغات : وجاء أقهات وكبر، ولما أصبح يافعاً وصار صيّاداً زاره رب الفنون كوثار وأهداه قوساً ذهبية ليصيد بها.

قال دانييل أبي يوصي ابنه أقهات:

(يفضل أن تقدم المقطوعة التالية بصوت دانييل مع الصدى)

اسمع يا أقهات

اسمع يا ولدي

لتكن أوائل صيدك للمعبد يا بني

يأكل منها الزوار والفقراء

لتكن سهامك التي لا تخيب

لخير الناس

ولتملأ قدور أبناء أوغاريت باللحم

كما جرارهم ملأى بالنبيذ

إياك أن تستعمل قوسك التي لا تخيب

في الشرور والحروب

فإن الحرب تطفئ نور الله في القلوب

اذهب يا ولدي وليباركك الرب

إيزيس : نصيحة ثمينة.
بوغات : رأت عناة القوس في يد أقهات فأعجبها وطلبتها منه قائلة:

أعطني القوس يا أقهات ، وسأعطيكَ ما تريد

سأهب لك الحياة

رفض أقهات فهددته بالموت فرفض وسخر منها وقال:

لا تخدعيني يا عناة

لا تخدعي البطل بثرثرات النساء

مادام الجميع سيموتون ، أقهات  أيضاً سيموت .

ما هي آخرة الإنسان ؟ وماذا يأخذ من دنياه ؟

سأموت كالآخرين .

نيفتيس : شاب صغير لكنه ذو حكمة.
بوغات : أمرت عناة أتباعها وهم في هيئة النسور بمهاجمته وانتزاع القوس منه، قادهم في الهجوم زعيمهم وَطْفن، كانت معركة رهيبة.

ضرب  أقهات مرتين ، وثلاث مرات

وقبل أن يموت رمى القوس والسهام في البحر

سُفك دمه ، كدم شاةٍ  نحرت على ركبتيها

خرجت روحه كعصفة ريح ٍ

كنسمة ٍ خرجت روحه من أنفه

وتوزع جسده في بطون النسور

إيزيس : يا لخسارة الشاب الجميل، وماذا فعلت يا أوغات؟
بوغات : من أجل هذا ركبت السفينة وخضت البحر وجئتك يا إيزيس لئلا ينهش قلبك اليأس.

اسمعي ما فعلت:

لبست ملابس الرجال وتقلدت وأخفيت فيه سلاحي، ولبست فوقه ثوب فتاة، وتتبعت وطفن قاتل أقهات فوجدته مع البدو بين الخيام، دعوته إلى المبارزة وبقوة أحزاني وقهري طعنته حتى الموت.

وعدت لأجمع أشلاء أخي مع أبي دانييل من بطون النسور، وصليت لروحه وجسده حتى عاد إلى الحياة.

عندما قُتل أقهات احتبس الغيث وأصيبت الأرض بالجفاف وتوقف الخصب. وعندما عاد للحياة هطلت الأمطار، وارتوت الأرض، وعاد الخصب إلى الحقول.

إيزيس : وهل يفيدني أن أفعل مثل ما فعلت يا بوغات؟
بوغات : العاشق لا يعرف اليأس، في العشق قوة الخلق يا إيزيس، العشق نسمة من روح الرب.
نيفتيس : فلنستفد من هذه التجربة يا شقيقتي، وسآمر أتباعي بمساعدتك في ذلك.
إيزيس : منذ الغد سآمر بجمع أشلاء حبيبي أوزوريس من بطون الجبال والوديان.
  (إظلام)

 

 

 

    المشهد السادس
     
    (تدخل الراوية)
الراوية : الصراع الذي بدأ في عهد أوزوريس استمر في عهد ابنه حورس ضد عمه ست.

النيل الأبيض جرى ماؤه أحمر.

دم في صحاف الطعام، دم في كؤوس الماء والخمرة، دم في المعابد القدسية، عرش النيل يستحم بالدماء صباح مساء.

وإيزيس تجمع أشلاء أخيها وزوجها وحبيبها من رؤوس الجبال والأودية بمساعدة أختها نفتيس وحاجبها الأمين، وتقضي الليالي الطوال المظلمة بجانب التابوتِ وقنديلِ الأميرة الأوغاريتية مثلما جمعت بوغات أشلاء أخيها أقهات.

(ينهض من بين الجمهور رجل6)

رجل6 : (من الصالة) عفواً سيدتي، مشاركة في الرأي.
الراوية : تفضل.
    (يسير بين الجمهور ويقف في أقصى يمين الصالة في مواجهة الجمهور).
رجل6 : (من الصالة) عندما جئنا لمشاهدة العرض عن أسطورة إيزيس وأوزوريس قلت: إن العرض سيؤكد معلوماتنا عن هذه الحكاية ويشخصها على خشبة المسرح، ففوجئنا في البداية بخرافة السكين رويتِها لنا لا علاقة لها بموضوع العرض، وبلعناها، وقلنا: معليش، المخرجة تريد الإبهار والإغراب والخروج عن المألوف.(للراوية)  ثم سمحت يا سيدتي بمشاركات من الصالة نزعَت القدسية عن أوزوريس، فما عاد يمثل الخير في مقابل أخيه الذي يمثل الشر كما تعلمنا.

ما كان لك أن تسمحي بتشويه شخصيات عملك هكذا.

لكن المصيبة الأكبر يا سيدتي أنك مزجت بين حكايتين: أسطورة إيزيس وأوزوريس، وأسطورة فوغات وأقهات، وافتعلت حدثاً يربط بينهما. والأسطورتان مختلفتان إحداهما مصرية والأخرى سورية، وهذا خروج عن الموضوع وعن نهج الأسطورة والأمانة في روايتها.

أنا آسف لهذه المقاطعة، لكننا كمتفرجين ضعنا بين هذه الأحداث والآراء المتباينة، بين ما هو أصلي وما هو مبتدع، وما عدنا ندري أين هي الحقيقة.

    (رجل5 من الصالة يشير بيده إلى رغبته في المشاركة)
الراوية : تفضل، نحن نريد أن نرسخ الحوار الديموقراطي في المسرح والحياة معاً.
امرأة1 : (من الصالة) حوارات..حوارات.. هذا تقطيع لأوصال العرض وقضاء على المتعة فيه. أنت سيدة العرض ويجب ألا تسمحي بذلك.
الراوية : لماذا لا نقول: إنها مشاركة في العرض، وإعادة انتباه وتفكير فيه بدلاً من الاستغراق في الرواية.

أنا أريد أن يكون العرض مثل موشور لكل جانب منه صُوَره وإضاءته الخاصة، وهكذا نصل إلى حقيقة النور والأشياء.

(للرجل5) تفضل يا سيدي.

    (رجل5 يقف في مقدمة ويسار الصالة في مواجهة الجمهور)
رجل5 : (من الصالة) لا أحد يدَّعي أنه يملك الحقيقة وحده.

عندما شاهدت الحكايات الثلاث في العرض سألت نفسي: ماذا تريد أن تقول راوية العرض ومخرجته من هذا المزج والتجاور، فنحن يجب أن نحترم إبداع الآخرين وآراءهم وتلك هي آداب وثقافة الاختلاف الثقافي والحضاري، وهي بعيدة جداً عن ثقافة الاختلاف بالسيف والبارود.

ثلاث حكايات بدءاً من خرافة السكين فأحزان إيزيس وبوغات يجمعها موضوع واحد هو الصراع وحب التملك، وبخاصة الصراع بين الأخوة.

ألا نجد هذا الثوب الخرافي-الأسطوري مفصلاً على كثير من البلدان في الواقع الأمس واليوم وغداً، هذه البلدانِ التي غابت عنها الحياة، وغاب الخصب بسبب هذه الصراعات؟

إذن، إن جمع أجزاء الجسم المقطع، وجمع أجزاء البلد الذي أنهكته وقسّمته الصراعات، وإعادة الحياة لهما هو جوهر هذا العرض الذي لم يكتمل بعد.

هل تنجح عملية جمع أجزاء الجسم الميت، أو جزاء البلد المهشم، وإعادة الحياة كما كانت إليهماأجزاء البلد المقسم، وهل تعود الحياة كما كانت لهما ويعود الخصب مرة أخرى؟

هذا هو السؤال.

(مخاطباً الراوية)

الجواب عندك يا سيدتي.

(إظلام)

 

 

 

    المشهد السابع
     
    المكان نفسه في باحة القصر

القنديل معلق على الشجرة التي ذبلت أوراقها وأصبحت صفراء، الطائران لا يغردان.

مجمرة بخور تتصاعد منها الرائحة الزكية ودخان خفيف.

قوس أوزوريس وكنانة نباله معلقتان على الجدار.

إيزيس تلبس ثوبها الأرجواني وتوزع زهرات الليلك في شعرها. تصب في الطاسة قليلاً من الماء وترش قطرات منها فوق وَحَول التابوت.

إيزيس : من الماء تولد الحياة من جديد، وتخصب الأرض، وتستيقظ البراعم الغافية. ويتنفس الفجر.

(تعيد الطاسة إلى مكانها، تخاطب الطائر الذكر في القفص)

أيها الطائر لماذا لا تغرد وحبيبتك أمامك؟ هل أنت حزين مثلي على أوزوريس (تنظر في القفص الآخر) أنتما حزينان معاً، حتى الطعام أنتما لا تتناولانه، ستموتان إذا لم تأكلا. هل كنت تغرد لحبيبي أم لحبيبتك؟

(تقف أمام قوسه وكنانة نباله المعلقتين على الجدار)

آه..

مازالت أنفاسه

وهو عائد من الصيد

تسبقه إلي

وتفغم أنفي

ومازالت رائحة جسده

وهو في الفراش

تملك عليّ إحساسي

وما زالت كلماته المعسولة

عالقة تجوب أرجاء الغرف المغلقة

آه..

كانت كلماته المعسولة تغريدة عشق في قلبي.

.   .   .

فراشي اليوم

ومنذ أن رحلتَ

موحش وبارد

والوسادة الخالية

لا أسمع همساتها

وأنفاسك القدسية

لا تلفح عنقي

وجسدي من بعدك

بارد كالصقيع

وأنا

أفتقد الرعشة الأزلية

التي تأخذني بالإغماء والجنون

(تصمت في حزن، تتذكر ليلة عرسها).

إيزيس : قبل أن يجيئني لأول مرة عند الفجر

اغتسلت سبع مرات بماء الزهر

مسحت جسمي بالزيت المقدس

أحرقت البخور في أرجاء البيت

لبست ثوبي الأرجواني

وضعت الوشاح الأبيض على كتفيّ

زرعت الليلك في ضفائري

ثم نظرت في المرآة

فما رأيتني

وإنما رأيته

(تتجه نحو القنديل تلامسه فيضيء)

إيزيس : بنورك أيها القنديل

ستهتدي روح أوزوريس

إلى أشلائها الممزقة

لتعود الحياة إليه من جديد

بنورك أيها القنديل

أرفع صلواتي وابتهالاتي إلى السموات

كي يعود إليَّ حبيبي

من عالم الظلمات

.   .   .

أنت

أيها القنديل السحري

يا من أعَدت أقهات إلى الحياة

أعد لي حبيبي

(يدخل الحاجب)

الحاجب : مولاتي إيزيس المقدسة.
إيزيس : ماذا أيها الحاجب الطيب؟
الحاجب : لقد جبنا الأقاليم الستة عشر، وبحثنا في الجبال والوديان حتى جمعنا أشلاء أوزوريس المعظم وأعضاءه، وقد نظمتها في مواضعها في التابوت، ولكن بقي عضو صغير منه لم نعثر عليه (يشير بإصبعه إلى عضو الذكورة) أستحي من ذكره أمام مولاتي.
إيزيس : أعرف ذلك، راقبتك من نافذة القصر وأنت تفعل ذلك من غير أن تراني. لا بأس عليك أيها الحاجب لقد قمتم بعمل عظيم، وقد صنعت له بدلاً من ذلك العضو المفقود واحداً من الذهب.

اذهب إلى المعبد وقدم صلواتك من أجل سيدك، وأنا سأصلي هنا من أجل سيدي حتى ينهض من هذا التابوت حيّاً كما كان.

الحاجب : أمر مولاتي، سأذهب إلى المعبد وأصلي من أجل سيدي، ومن أجل أحزانك يا إيزيس المقدسة.

(يخرج).

    (تحمل مجمرة البخور ، ترش فيها ذرات من البخور فيتصاعد منها الدخان والرائحة ، تطوف بها حول التابوت ثم تعيدها إلى مكانها. تجلس أمام التابوت خاشعة متضرعة).
إيزيس : أيتها الأرواح الهائمة

في هذه الحرب المسجورة

وهي تبحث عن أشلائها

أفسحي الطريق لروح حبيبي

.   .   .

يرحل الربيع لرحيلك يا أوزوريس

ويأتي الشتاء وتبكي السماء

وتعصف الرياح بالأشجار الهرمة

ولا يبقى في الحقل سوى الصقيع

.   .   .

تناديك روحي الحزينة

تناديك روح الأرض التي يعوي فيها الجفاف

فانهض من تابوتك العاجي

وعد إليّ

وعد إليها

ليعود الخصب من جديد

ويبسط الفرح رداءه الأخضر

فوق التلال

(يتصاعد في فضاء المسرح دخان كثيف)

إيزيس : أرى الدخان يتصاعد

وأسمع هفيف الأرواح الهائمة في الدروب

وهي تضرب بأجنحتها الرقيقة القبور

وأشم أنفاسك العطرة

تملأ المكان

وأرى عينيك في الظلام

تضيئان في قلبي المشوق

.   .    .

أيها القادم من عالم الموتى والظلمات

تماثل أمامي

بقوة العشق الذي يجمعنا

انهض من تابوتك العاجي

فمن أجلك

اغتسلت سبع مرات بماء الزهر

مسحت جسمي بالزيت المقدس

أحرقت البخور في أرجاء البيت

لبست ثوبي الأرجواني

وضعت الوشاح الأبيض على كتفيّ

زرعت الليلك في ضفائري

تماثل

تماثل وانهض أمامي

يا أوزوريس

    (يشتد تكاثف الدخان. صوت سقوط من عل تتبعه صرخة، ثم طرقة مضرب على صفيح نحاسي تحدث رنيناً طويلاً.

إيزيس تتلفت باحثة عن مصدر الأصوات .

تضاء الشاشة وتنعكس عليها صورة إيزيس باللون الأحمر الناري وهو مشوه مقطع الأوصال لا يكاد يلتصق الجزء بالآخر، أما وجهه فإنه يعطي ملامحه بصعوبة).

إيزيس : أوزوريس، أهذا أنت؟
    (في الجهة المقابلة للشاشة يظهر شبح أوزوريس الحقيقي وسط سحابة الدخان)
الشبح : نعم، أنا هو.
    (إيزيس تلتفت ناحية الشبح)
إيزيس : كلا لست أنت.
الشبح : بل أنا هو.. هل أخافتك صورتي؟
إيزيس : كلا.. الصوت صوتك، لكن.. أنا لا أصدق.
أوزوريس : كنت أرتدي قناعاً، ولكن في عالم الموتى تُخلع الأقنعة.
إيزيس : والنيل الذي يفيض من دموعي، وعرائس الماء، والناس في المعابد سجود لنا.. أكان ذلك وهماً؟
الشبح : صنعته الأقنعة. الغائصون في الطين، واللاهثون وراء الرغيف والكلمة حُجبنا عنهم.. حَجَبتنا أقنعتنا.
إبزيس : وأنا، هل كنت أرتدي قناعاً أيضاً؟
الشبح : لا أدري..ربما.. وربما لا تزالين.
إيزيس : وهل كان الحب بيننا قناعاً ارتديناه؟
الشبح : لا أدري.. ولكنه كان عزلة.
إيزيس : الآن بعد رحيلك أشعر بالعزلة ، أما عندما كنت بجانبي..
الشبح : الحب الحقيقي لا يكون عزلة، المحب يوزع حبه على جميع الناس.
إيزيس : إذن، كنا نعيش وهم الحب.
الشبح : بل حبَّ الأقنعة.
إيزيس : كيف حدث ذلك؟
الشبح : نحن صنعنا القناع ثم صدَّقنا أنه وجهنا الحقيقي.
إيزيس : إذا كان ذلك فمَن الذي يعيش بلا قناع؟ أولئك الذين تبكيهم الآن لهم أقنعتهم الخاصة.
الشبح : ربما.. لا أدري.. ولكن القناع كان لنا عزلة. عَزَلَنا عن من كان يجب أن نكون إلى جانبهم ممن كانوا يحتاجون إلينا.
إيزيس : الآن وبعد رحيلك أشعر بالعزلة، أما عندما كنت بجانبي..
الشبح : الحب والعزلة لا يجتمعان. لأن الحبيب يتماهى في الكائنات فلا يشعر العاشق بالعزلة إذا غاب عن عينيه حبيبه؛ إذا جمع العشق اثنين فكل منهما بالنسبة للآخر غائب حاضر أبداً، وإذا غاب فهو الخفيُّ لشدة ظهوره..هكذا لا يجتمع الحب والعزلة أبداً.
إيزيس : إذن، كنا نعيش وهم الحب.
الشبح : بل حبَّ الأقنعة.
إيزيس : لماذا تجلد نفسك؟ كنت ملكاً، فرعوناً، يحبه الناس ويعبدونه.
الشبح : وما أدراك بقلوبهم؟ لقد خُلق اللسان بعيداً عن القلب (يشير إلى صورته الممزقة والمشوهة في الشاشة) كنت هكذا.. تلك هي حقيقتي، ولأني هكذا صارت البلاد صورة لحقيقتي.

(مشهد سينمائي. تنحل الصورة وتتبدد، ومزج إلى صورة بلد غير معين، مقسم ومجزّأ بحدود متداخلة وألوان متعددة، وتنساح في جوانبه الدماء).

الشبح : من يستطيع جمع هذه الأجزاء الدامية ويعيد إليها الوحدة والحياة.

الأقنعة يا إيزيس أرسلَتِ البلد المقدس بتاريخه وأمجاده وناسه إلى عالم الموتى، عالم الظلمات.

إيزيس : أنت تعذب نفسك. هل تُعَذب هناك أيضاً؟
الشبح : أجل، وأجد في العذاب عذوبة ولذة لأنه حق.

المحكمة هناك أدانتي، ويجب أن أواجه العقوبة بشجاعة.

إيزيس : كنت شجاعاً دائماً. لم تكن جباناً أبداً.
الشبح : الشجاعة ليست بالسيف وإنما في مواجهة النفس.

(صمت، شعاع أحمر في أفق المسرح).

ها قد طلع الفجر ، ويجب أِن أعود قبل أن يتلامع ضوء الصباح.

وداعاً إيزيس الجميلة.

إيزيس : وداعاً أيها الحبيب أوزوريس.
    (إظلام)

 

 

 

    المشهد الثامن
   
    (المكان نفسه في القصر.

اختفى التابوت والشموع والقفصان. الشجرة اختفت وقامت في مكانها شجرة زيتون صغيرة. ركية الماء ووعاء الشرب والطاسة في أماكنها.

أعشاب ونباتات صغيرة نبتت هنا وهناك في الساحة.

إيزي في لباس قروية، الثوب أرجواني، وعلى كتفيها شال أبيض، تجلس وتحيك كنزةً لزوجها بصنارتين، زرعت ضفائر شعرها بزهور الليلك. وهي شديدة الشبه بإيزيس.

تضع الشغل جانباً وتخرج.

آزر يدخل في لباسه القروي وهو شديد الشبه بأوزوريس يحمل حزمة من سنابل القمح، يضعها جانباً يتلفت فاحصاً المكان، يغسل يديه بماء الركية، ثم يشرب من الإناء)

آزر : (ينادي) إيزي.. يا إيزي
    (تدخل إيزي وتفاجأ بحضور زوجها)
إيزي : غير معقول.. يارب لك الحمد والشكر.
    (تهرع إليه، يضمها إلى صدره)
آزر : إيزي زوجتي..حبيبتي.
    (تمسح دمعتين من عينيها)
إيزي : بعد كل..
آزر : هذه السنين.
إيزي : سنون عجاف.

(تمسح دمعات تحدرت)

آزر : هل تبكين؟
إيزي : أنا لا أصدق، رغم أن قلبي يحدثني بأنك ستعود.
آزر : وها  قد عدت.
إيزي : تسع سنوات على اختفائك، حتى إن أهلك يئسوا من وجودك وكادوا يبنون لك قبراً.
آزر : (مازحاً) أنا “متل القطة بسبع أرواح”*.. اضحكي يا إيزي.

(تبتسم من خلال دموعها)

إيزي : (بعتاب) أين كنت؟
آزر : رحلة سياحية بسيطة..في السجن.
إيزي : إذن كما قال جارنا.
آزر : وماذا قال؟
إيزي : قال: إنه يوم اختفائك وجد دورية أمن سياسي تجول في المكان، ولا بد أنهم اعتقلوك. ونفى آخرون وقالوا لي: لا بد أن زوجك ركب البحر وهاجر بحثاً عن حياة أفضل. وقال شيخ القرية: يا سيدتي زوجك عشقته جنية واختطفته، وإن شئتِ طلقتك منه وتزوجتك.

لقد نسجوا حول اختفائك الحكايات يا آزر.

آزر : (ضاحكاً) إذن، أصبحت أسطورة.. هذا أمر ممتع.
إيزي : كما في أسطورة إيزيس وأوزوريس، لكن ذاك يختفي أشهراً في الشتاء ثم يعود في الربيع، أما أنت فتسع سنوات.
آزر : عصرنا هو عصر الأرقام القياسية، غيري سجن أربعاً وعشرين سنة وأهله لا يعلمون عنه شيئاً أحيٌّ هو أم ميت؟.
إيزي : تسع سنوات من الشوق والانتظار والقلق.
آزر : بالنسبة لهم تسع سنوات رقم عادي.
إيزي : ولماذا سجنت؟ أنت لم تقترف جرماً، كنت “تمشي الحيط الحيط وتقول يا رب السترة”**.
آزر : (نافخاً صدره بسخرية وضاحكاً) زوجك سجين سياسي يا إيزي، يجب أن تفخري.
إيزي : سجين سياسي. أنت لا تعرف غير العمل في الحقل. حتى نشرات الأخبار لا تستمع إليها وتقول: “اتركينا منها كلّو خرط بخرط”***
آزر : وما زلت على رأيي “كلو خرط بخرط”.
إيزي : (تضحك) هه..سجين سياسي، هذا مضحك، وبأية تهمة سجنوك؟
آزر : لا شيء.. بعد تسع سنوات وأنا في عنبر السحن مع سلة المهملات مجرد رقم منسي، تذكروني واستدعوني، ربت مدير السجن على كتفي وقال: لا تؤاخذنا، مجرد تشابه أسماء.
إيزي : تسع سنوات من عمرك هباء يا آزر!
آزر : لم تكن هباء، قرأت كثيراً، عرفت ما لم أكن أعرفه، عوّضت ما فاتني، عقلي انفتح على آفاق لم أكن لأدركها، أتقنت فن السياسة.

السجن مفيد يا إيزي، يدخل المتهم موالياً ويخرج معارضاً.

إيزي : وهل كنت تفكر بي في السجن؟
آزر : دائماً، ولكن قلت: يمكن أن تكوني خُطبت وتزوجت.
إيزي : عندما طال غيابك خطبني الكثيرون، ولكني كنت أقول لهم: حتى أنهي هذه الكنزة التي أحيكها لزوجي. هل تذكر الحكاية التي حكيتها لي عن أوليس وأن زوجته كانت ترد الخاطبين بمثل هذا العذر، وكانت تنقض في الليل ما غزلته في النهار، لقد استفدت منها، وأهلي يقولون: “يا بنتي لازم تتزوجي.. الأرملة الحكي عليها كتير، والشرع بيسمح لك”
آزر : والآن ، ماذا ستصنعين بها؟
إيزي : سأتم حياكتها، ولكن تغير مقاسك، اقترب لأرى القياس (تقيس ما نسجته على كتفيه وتقيس طول الأكمام) عرض الظهر يجب أن يكون أصغر، الأكمام أقصر، عرض الكنزة أقل،  لا بأس سأصلحها. لقد نحفت كثيراُ يا آزر.
آزر : وهل كنت تتوقعين أن يسمِّنوني في السجن؟ ولكن حدثيني كيف كنت تقضين لياليك يا إيزي؟
إيزي : بالشغل على هاتين الصنارتين وبالأحلام.
آزر : وآخر حلم رأيته؟
إيزي : كان عن إيزيس وأوزوريس، وكان هذا الحلم يتردد عليّ باستمرار حتى حفظت تفاصيله، وتفاءلت بعودتك.
آزر : من الطبيعي أن يتردد فصورتهما على الجدار في هذه الخرائب.

(صوت آلية مجنزرة في الخارج)

ما هذا الصوت؟

إيزي : آلية مجنزرة.. دورية من دوريات الأمن أو العسكر، تعودنا عليها.

هل تريد أن أحكي لك الحلم بتفاصيله.

آزر : اسمعي يا إيزي. تسع سنوات في السجن لم ألمس امرأة..أنا مشتاق إليك، دعينا نذهب إلى الفراش وغداً تحكين لي حلمك.
إيزي : كما تريد..
آزر : أما زال صوتك جميلاً وغناؤك عذباً.
إيزي : الصوت لا يهرم، والألحان لا تفنى.
  (يسيران، يقطف غصن زيتون وهي تغني لحناً خفيفاً عذباً، صوت ناي من بعيد)
إيزي : ليلة أمس

وبعد أن حلمت بإيزيس وأوزوريس

تفاءلت خيراً

وأحسست بقلبي ينبض بشدة

وشعرت بدفء غريب في جسدي

وأن خلاياه

تتفتح كما تتفتح البراعم في الربيع

فنهضْتُ من الفراش

ومن أجلك

اغتسلت سبع مرات بماء الزهر

مسحت جسمي بالزيت المقدس

أحرقت البخور في أرجاء البيت

لبست ثوبي الأرجواني

وضعت الوشاح الأبيض على كتفيّ

زرعت الليلك في ضفائري

وها أنت

تتماثل أمامي

تعال إلي

يرحل اليباس والصقيع

وتشرق الشمس من جديد

وأنا الأرض

التي ستخصب من جديد

مهما طال فصل الجفاف

(يخرجان.إظلام)

 

 

 

    المشهد التاسع والأخير
   
    (المسرح يعتم بالتدريج وصوت آلية مجنزرة تقترب من بعيد، يرتفع الصوت شيئاً فشيئاً مع ازدياد الظلمة في المسرح، يصبح الصوت قوياً جداً يملأ فضاء المسرح، ثم يسود الصمت والظلام التام).
   

 

 

– ستارة النهاية –

   
    حلب 5-24/11/2016

24/صفر/1438

 

* مثل شعبي

* شطر بيت ذهب مثلاً. والبيت: إذا قالت خذام فصدقوها    فإن القول ما قالت خذام

* مدينة جبيل الفينيقية على ساحل لبنان.

* الشيطان.

* مثل شعبي

** مثل شعبي

*** قول شعبي معناه كذب بكذب


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock