نصوص

حصريا ننشر نص مسرحية “هذيانات شكسبير ” للكاتب الأردني إياد الريموني


المسرح نيوز ـ القاهرة| نصوص

ـ

 

 

مسرحية

هذيانات شكسبير

تأليف:

إياد الريموني

 

2019

شخصيات المسرحية

شكسبير: الكاتب المسرحي.

ديدمونة: عشيقة هاملت وصديقة أوفيليا.

أوفيليا: عشيقة عُطيل وصديقة ديدمونة.

هاملت: عشيق ديدمونة وابن عم عُطيل.

عُطيل: عشيق أوفيليا وابن عم هاملت.

روميو: المحقق.

اياغو: مساعد المحقق روميو.

جولييت: القاضية.

شايلوك: الادعاء العام.

جرترود: المحامية.

بتريشيو: المُنادي.

 

 

 

 

المشهد الأول

التّوصيف المكاني والضّوئي لخشبة المسرح

(تُفتح الستارة على رجل يجلس على كرسي وأمامه طاولة، منهمكٌ في الكتابة، المسرح شديد العتمة إلا الطاولة تضاء بمصباح نوره خافت. يتوقف الرجل فجأةً عن الكتابة).

شكسبير: أيها العالم المحكوم بنتائجه، والمكلوم بهوان صبره، والمتألم من وخز أشواكه والموبوء بنباح كلابه، والمتعثرُ بتقدير قدره، والمهووس بفعل سلطانه، والمتجبرُ بحكم قوته، والعاشق المحبُّ لسيطرته، كم ستسخر مني؟ وكم سيتبادل جواسيس بواطنكَ ضحكات سقفها العُلا؟ والطاهرون من يشربون مياهكَ العذبة، كم سيتبادلون الهمز واللمز في سيرتي بشيءٍ من الحياء؟ أعلمُ أنهم يعشقون عظمتي الساطعُ نورها، وكتاباتي الخالدُ ذكرها، ومغامراتي التي في أوراقي قد أخفيتها، إلا أني عشتُ حياةً الشكُّ فيها عبادةٌ أنتسَّكها، فلا أشعرُ بطمأنينةٍ فيها حتى أرى ما يروي عطشي، من الذي سولت لهُ نفسهُ أن يقذفني صوب جدار النسيان المرعب، والنهاية الموحشة التي لطالما سكنت الأحلام التي تراودني. أيها العالمُ الذي ولدتَ في رحم سبع أيام، استر الحجرة المظلمة من حياتي تخليداً لتاريخي، وإكراماً للمسرح الذي ارتوى من حبات العرق، تلك المنصهرة التي تغسلُ بعذوبتها دنس أقدام المارقين فيها… أجبني يا ابن السبع ليال ما يُفيدكَ إن افتضح أمري؟ وعلمَ أبناؤكَ أني لستُ أنا الذي… لا لا، ما أقبحكَ وأعظمَ شأنكَ يا وليدَ الرحم الذي لم تسل منه الدماء! ما أقبحَ بساتين الشيطان التي تُروى بمائك، وما أجملَ دموع الثكلى التي تفيض بها أنهارك! في الماضي ظننتُ أَن أسراري لن يُمسحَ عنها الغبار، ظننتُ أني قد امتلكتُ الذكاء الذي بهِ أُقدرُّ كيف أموت، وكم كنتُ خائباً في حدسي! وكم سرقَ مني الغرور لحظة إفاقةٍ للعقل أرى بها الصواب! ما أقبحكَ يا بحر الوهم! وما أوهنَ أمواجك! ليتَ آهات المظلومين بسوطها جلدتني، وليتَ دماءهم بطهارتها غسلتني، ما أقبحكَ يا كأس النزوة! غررت بي وأوهمتني أنكَ متعة، وهجرتني وقيود الذكريات تشدُّ وثاقها عليّ، فيا ليت الظنّ كان كالقلم، ويا ليت الأُمنيات بكتابتها تُستجاب، ويا ليتَ عمري كان كأقلام القديسين؛ إن كتبت في الصواب صاب، وإن كتبت بالظن توقفت إلى أن يأتيها اليقين، فتكتب منه ما صاب. أيتها النجوم الشاهدةُ على عصري، سِتراً سِتراً، أيتها الشهبُ المتوهجةُ لحرقي كُفي، أيها القمرُ الذي أنرتَ صفحات كتبتها، أقسمُ أن مقلتيّ تبكيان منك خجلاً، وأنتِ يا أعمدة السماء ابقِ كما أنتِ صامدة، وامنعي من تحملينها أن تُطبقَ علي؛ فأنا المكلوم في جوارحي، وأوردة قلبي نازفة، وأنفاسي كالجحيم حارقة… لا، لن ينال مني التاريخ بسطوته؛ فالموروث أنا، والحياةُ بجمالها أنا، أنا العظيم، أنا التاريخ القادم، أنا سيدُ القلم هنا.

(تصدر أصوات تأوهات خافتة تتصاعد تدريجياً، ترتفع الإضاءة على قفصٍ في يسار أعلى المسرح، نرى فتاة ترتدي ثوباً أسود، يبدو عليها ملامح الخوف والهلع، ببطء ينظر شكسبير إلى خلفهِ ليراها تتأوه).

ديدمونة: أنتَ مجنون، أنتَ مجنون، أنتَ مجنون، سيلعنكَ التاريخُ كما لعنَ أسلافكَ من الكاذبين؛ أولئك الذين لم يأبهوا لسطوة الدُنيا وعدالتها، أولئكَ الذين هبطوا من قمم نقائها ليعيشوا مندسّين في قذارتها.

شكسبير: اصمتي ديدمونة، فأمثالكِ لا يملكن الحق بالتحدثِ أمامي هكذا، اصمتي أيتها الخائنة وإلا جعلتكِ تتجرعين العذاب أكثر.

ديدمونة: عجباً لكَ أيها الكاتب المذموم! تجزيني بما خطَّ قلمكَ وقدرت لي من نصيب، ما ذنبُ البشرِ إن كانت أقدارهم محتومة؟

شكسبير: ذنبكِ أنكِ شبيهةٌ لها، تمتلكين مثلها قواماً ممشوقاً، عطشةٌ في نفسكِ للنجاسة التي تُخلف ما قُطع من العهود.

ديدمونة: أجزم أنها لا تعيشُ إلا في كُتبك، أنا طاهرةٌ من قومٍ ناسكين، أنا المسكونة بحبِّ الزاهدات والزاهدين، أنا من لم يُغسل جسدها من الخطايا، لبراءته ونقائه أيها المجنون.

شكسبير: جسدكِ بريءٌ من الخطايا! إياكِ ديدمونة!  إياكِ أن تنسي الماضي الأليم.

ديدمونة: ما الذي دهاكَ أيها المجنون، أيُّ داءٍ هذا الذي أصاب عقلك؟

شكسبير: الداء الذي تتحدثين عنه هو الذي أبقاكِ على قيد الحياة، لماذا أخفيتِ عني ذلك؟
ديدمونة: لم أفهم! ماذا تقصد؟

شكسبير: تعلمين أيّ شيءٍ أرمي اليه، إياكِ والإنكار.
ديدمونة: لا تحدثني بلسان المحقق.
شكسبير: المحقق! ذلك الذي زجَّ بحبيبكِ في السجن.
ديدمونة: وما شأني، لماذا تفتح باب التحقيق على مصراعيه؟
شكسبير: حدثيني، كيف ستخرجينه من سجن ذلك المحقق؟
ديدمونة: دراهم معدوداتٍ أدفعها لقاء ذلك.
شكسبير: أنتِ لا تملكين المال، كيف ذلك؟
ديدمونة: يعطف عليَّ أحدهم ويقرضني المال.
شكسبير: يعطف عليكِ! أم يعشق جسدكِ؟ لا جدوى من الإنكار، علمتُ ما سيحدث.
ديدمونة: ليس كما تظن أيها المجنون.
شكسبير: مومسٌ في جنبات الطريق.
ديدمونة: بل عاشقةٌ لهاملت الأسير.
شكسبير: أنتِ تكذبين.
ديدمونة: أقسمُ برب الدين.
شكسبير: أيُ ربٍّ هذا الذي تقسمينَ بهِ كذباً؟
ديدمونة: ربِّي وربُّ هاملت، ربُّ العاشقين.
شكسبير: يا لكِ من عاهرةٍ كاذبة.
ديدمونة: أقسمُ أني من الصادقين.
شكسبير: تبيعينَ نفسكِ بالرخيص؟
ديدمونة: بل أشتري حريتهُ بالنفيس.
شكسبير: بدراهم معدوداتٍ يا بائعة الهوى؟

ديدمونة: لأجلهِ جعلتُ جسدي هذا رخيصاً.

شكسبير: تُبيحينَ لأجلِ أهوائكِ هذا؟

ديدمونة: تُراكَ أصبحت كالعجزة الخرفين! عجباً لكَ شكسبير.

(تصدر تأوهات تتصاعد تدريجياً، تضاء الإنارة على قفصٍ في يمين أعلى المسرح، نرى فتاة مستلقية على الأرض، ترتدي ثوباً أسود، تحاول النهوض ببطء إلى أن تقف على ركبتيها ممسكةً قضبان القفص).

أوفيليا: أما زلتما تتراشقان بالتهم؟ يكادُ المرءُ لا يشبع النوم في هذا القفص القبيح.

ديدمونة: أُقسمُ أني أُشفقُ عليكِ أوفيليا من بطشِ هذا المعتوه، رحمةً أيها الربُّ بأوفيليا.

شكسبير: اصمتي وإلا قطعتُ لسانكِ ديدمونة الخائنة، وأنتِ أوفيليا يا أرقّ معشوقات قلبي، أما ذقتِ حلاوة النوم في قفصكِ هذا؟ يجبُ أن تشكريني أيتها الحبيبة المخلصة.

أوفيليا: سُحقاً لكَ من رجل، أنتَ مسكونٌ بنظرية خيانة النساء لك.

شكسبير: أجل، أنا آمنتُ بخيانة النساء للرجل بعد أن أمسكتكما في أحضان عشيقيكما.

ديدمونة: تتحدثُ عن الخيانة وكأنكَ بريءٌ من نجاستها.

أوفيليا: يا لكَ من وقح! تتحدثُ وكأنكَ صاحب ولاية علينا.

شكسبير: أنا لستُ كباقي البشر، أنا المعشوق لنساء الأرض، أنا المخلص في هذا العالم، وأكادُ أكون النور الذي ينيرُ عتمته الحالكة.

ديدمونة: ولماذا أيها المخلص حاولتَ أن توقعنا في شباكك المسومة، ولعبتَ دور العاشق على كل واحدة منا دون أن تدري الأخرى؟

أوفيليا: أتظنُّ أني صدقتكَ عندما أخبرتني أنكَ تتجرع أرق الليل بسبب نظرات تلقيتها مني عبثاً؟

ديدمونة: كم كُنتَ تستجدي رحيق الشفاه من شفتيّ، ومن أوفيليا كنت طالباً له!

أوفيليا: طننتَ أنكَ أسكنتني في قصر الحب وديدمونة تجلسُ في إحدى حجراته.

دزدمونة: أقسمتَ أنكَ الناسكُ في عشقي، وبعيني رأيتُكَ تطوف على غيري.

أوفيليا: حاولت تكبيل قلبي بحبال عِشقكَ الواهنة، وسلب أحلامٍ تمنيتها حقيقة.

شكسبير: كفى… كفى… أهكذا يكون جزاءُ القلب الذي قسمتهُ لكما؟ الجزاء يكون الخيانة! ومع من؟ مع عبيد الحرب ودق الطبول، مع أرذل البشر خنتماني! قسماً لأسلطنَّ عليكما قلمي؛ فأجعلهُ يُلهبُ ظهور تاريخكما بسوط عذابه، ويحرقُ قلبيكما بمرارة تقدير كتاباته، ولأجعلنَّ هذا العالم البائس بساكنيه شاهداً على مأساةِ نهايتكما.

 

 

 

 

 

                                        المشهد الثاني

التّوصيف المكاني والضّوئي لخشبة المسرح

(تُفتح السّتارة على خشبة مسرح معتمة تماماً، إلاّ من بقعتي ضوء، إحداهما مسلّطة على رجل يلبس بنطالاً دون أن يرتدي قميصاً، مصلوب على ألواح خشبية في يسار وسط المسرح، أمّا البقعة الضّوئية الأخرى فمسلّطة على رجل يلبس بذلة غير أنيقة، مفتوحة بالكامل أزرار قميصها، مصلوب كالآخر على ألواح خشبية في يمين وسط المسرح،  وفي وسط وسط المسرح يوجد كرسي خشبي أمامه وعاءٌ كبيرٌ للماء وعصا متوسطة الطول).

هاملت: أيُّ عذابٍ هذا الذي أُصلى به! وأيُ نارٍ هذه التي تلفحُ قلبي؟ ما عدتُ أدري مقدار نصيبي من الهلاك، وخزات تصيبُ قلبي كلما تذكرتها، وأوجاعُ الماضي تعاودني في كل حين، سكراتُ الحبِّ تشتاقُ لها روحي، فلا أدري متى أذوقها، ولا أدري من الظالم الذي تربَّص بنا؟

عُطيل: ما أجملها السنين التي قضيتها برفقتها! قلبها دافئٌ كماء الينبوع، مبسمها كالقمر الذي يبهرنا بسحره، تضاءُ بابتسامتها عتمة القرى، لمجيئها تُففلُ نسوة المدينة نوافذ منازلهنَّ غيرةً وحسداً، يا أيتها السماء كيف هي أوفيليا الحبيبة؟

هاملت: شهرٌ بأكمله وها نحن هنا نتجرع العذاب، ذبلت أجسادنا شوقاً لمن نعشق، سئمتُ هذه اللعنة التي حلت بنا، ما الذي يُريدهُ هذا المجنون منّا؟

عُطيل: يُعذبنا كل يومٍ وكأننا مجرمان، يريدُ انتزاع الاعتراف منّا لأمرٍ نجهله، أيكون الحبّ جريمةً في شريعة هذا المحقق؟ أم أنَّ غذاءهُ قد أصبح في تعذيبنا؟

هاملت: الذي أخافُ منهُ حقاً هو ما أجهلهُ عن قدرِ ديدمونة، أيّ حال أصبحت عليه؟

عُطيل: أشعرُ بقلبي يبكي من تلقاءِ نفسه، أجزمُ أنه يشعرُ بمن تملكه.

هاملت: صبراً عُطيل المخلص، فلا بدَّ للشمسِ أن تشرق وتطهرُ الأرض من الدنس.

عُطيل: أما آن للظلام أن ينجلي، ويسحق برعبهِ كل متجبرٍ قد سُلطَّ علينا.

هاملت: أتشتاقُ إليها يا رفيقي؟

عُطيل: كالشوق الذي يطغى عليكَ هاملت، طيفها أراهُ أمامي، أتنكرُ شوقك؟

هاملت: أعترفُ وأنا الذي أتغنى بحبها، روحي تاقت إليها عُطيل.

(يسمعان صوت باب الزنزانة يُفتح ويغلق، ويسمعان قرع حذاء يقتربُ منهما، يصمتان خوفاً، يدخل عليهما محققٌ يرتدي لباس محققين، يجلس على الكرسي الذي يتوسطهم، يشعلُ غليوناً وقد بدت عليهِ علامات الغضب واللؤم).

روميو:  يبدو على العاشقين التعب، ما أخباركما اليوم؟

عُطيل: كما ترى، لا نزدادُ إلا صلابة.

روميو: يا لكَ من عبدٍ وقح! أما شبعتَ عذاباً؟

عُطيل: سِكينُكَ لا يقطعُ إلا اللحم الفاسد، أما أنا فالدماءُ ما زالت تجري بجسدي.

روميو: أستطيع أن أجعلها تنزفُ أمامك، وأن أجعل رأسك يغفو على وسادة قبرك.

هاملت: حسبكَ أيها المحقق؛ فأنت إن كنتَ قادراً على تعذيبنا فإنما تفعلُ ذلك ونحن مقيدان، فكني وسترى من سيجعلُ الآخر يصيحُ ألماً.

روميو: حتى أنتَ أيها الموهوم ازددت صلابة! رجال الدولة أيها الأحمق لا يُعيرهم صياح الشعب ما دام ذلك لا يؤثر على سطوتهم، ونباح الكلاب لا يزعجني سيد هاملت، فانبح كما شئت إلى أن تأتيكَ عظام من تعشق.

هاملت: أُقسم إن أصاب ديدمونة أي سوء، لأجعلنَّ أعجوبة موتك حديث صبيةِ المدينة.

روميو: المهم أيها الوغدان سأقرأُ عليكما الإفادة التي ستوقعان عليها، اسمعاني جيداً لكي لا تقولا أمام عدالة المحكمة أنكما لم تعلما ما الذي وقعتما عليه، فنحنُ دقيقون في سير إجراءات التحقيق وصولاً إلى أعدل الأحكام التي ستصدرها المحكمة الموقرة.

عُطيل: دون أن أسمع، بهتانٌ وزور ما كتبت أيها المحقق.

هاملت: لو قطعت أجزائي والروح ما زالت تسكن جسدي لن أوقع على هذه الإفادة.

روميو: (ضاحكاً) ستوقعان رغماً عنكما، (يتناول الماء ويقذفه بوجه هاملت) سمعتني هاملت… أنا أعلم أسراركَ الفاضحة كلها ومحاولاتكَ الدائمة في التمرد على سلطة المدينة، وعليك أن تعلم أني سأجعلُ ديدمونة عاهرة تطلبُ دراهم زهيدة لقاء أجرها بعد موتك أيها الوغد.

هاملت: أسراري الفاضحة بالنسبة لك وسام شرفٍ عند الأحرار، وتمردي هو التمردُ على الطغيان، وقوتي هي رحمةٌ بالمساكين، وعذابٌ للخائنين أمثالك، واعلم أن البصق في وجه من ينتهكُ سِترَ الناس فضيلة (يبصق بوجه روميو).

روميو: (يلطم هاملت) أُقسم لأجعلنكَ تتمنى الموت فلا تجده، ترتجي عفو السماء فلا ترحمك، سأشدُ قبضتي عليك لتعرفَ حجم قوتي… سُحقاً لعنقكَ هذا (يمسك عصا ويضرب هاملت على رأسه فيفقد الوعي).

عُطيل: هاملت… هاملت… يوماً ما سأخرج من هنا وسأقتلكَ روميو الحقير.

روميو: (يقترب من عُطيل ضاحكاً) اوووه الثائرُ الثاني، هل أشفقتَ على ابن عمكَ عُطيل؟ أجل أجل… أعلم أنكَ أشفقت عليه، وأنا أيضاً أشفقُ عليه لأنه لن يستطع أن يُشفق عليك أيها الحقير (يلطمهُ بقوة).

عُطيل: لن يُخيفني بطشكَ هذا، ولن يُثنيني عن قرار قتلك، فلا بدَّ للنور أن يقتل العتمة.

روميو: (يمسكهُ من شعره) العتمة التي تتحدث عنها سأجعلُ خيلكَ التي تعشق، تصهلُ فيها نشوةً.

عُطيل: ما أقذركَ أيها الجلاد! وما أجبنك!

روميو: دُلني على كلِ الثائرين معكما، وسأطلق سراحكَ لتذهب إلى أوفيليا الحبيبة.

عُطيل: الثائرون ليسوا بشراً أيها الأحمق؛ بل هم أرواحٌ عشقت قضبان الكرامة.

 روميو: (ثائراً) نستطيعُ تعذيبكم، نستطيع سلبَ كلَّ ممتلكاتكم؛ بيوتكم، حقولكم، وحتى عقولكم نستطيع غسلها من القذارة التي تتغلغلُ فيها.

عُطيل: وقلوبنا لمَ غفلتَ عنها؟

روميو: (ضاحكاً) إن امتلاكنا للعقل هو امتلاكٌ للقلب وسائر الجسد، هل يخطرُ لببالكَ أن القلب بمعزلٍ عن الجسد؟

عُطيل: ليس لديَّ شكٌ في هذا، وليس في كلامكَ أي صوابٍ إلا امتلاككَ للجسد.

روميو: ماذا تعني بقولكَ هذا؟

عُطيل: ها أنتَ تحتجزني هنا وتملكُ جسدي، لكنكَ لم تمتلك عقلي ولا قلبي.

روميو: (يجلس على الكرسي) ما هذا الهراء؟ تُراكَ أصبحت من عشاق الفلاسفة الأولين، أم أنكَ للكتبِ قد صرت من المؤلفين؟

عُطيل: أمثالكَ أيها المحقق لم يذق صحوة الضمير، لم يعرف طعم العشق؛ عشق الأرض، وعشق من تمشي عليها حياءً، أفهمتَ قصدي أيها اللعين؟

روميو: (ينهض عن الكرسي غاضباً) عندما يتحدثُ الزنادقة أمثالك عن أسيادهم فعليهم أن يتحدثوا بأدب (يلطمه) وعندما يُسألون فعليهم الإجابة دون إنكار (يلطمه) والأرض التي تتحدث عنها سأحفر لكَ فيها قبراً عما قريب، (يمشي ويلتقط العصا) وسأجردُّ من تمشي عليها من ردائها أمامكَ قبل أن تموت، وسأجعلك تموت قهراً قبل أن أقتلكَ ألماً وأدفنكَ جيفة ( يضربه بالعصا على رأسه فيفقد عُطيل وعيه).

 

 

 

 

 

 

 

المشهد الثالث

التّوصيف المكاني والضّوئي لخشبة المسرح

(حجرة خاصة للمحقق، فيها مكتبٌ وثلاثة كراسٍ وضعت في وسط المسرح؛ كرسيٌ خلفه يجلسُ عليه المحقق وكرسيان أمامه أحدهما على اليمين يجلس عليه شكسبير والآخر على اليسار، تتوسطهما طاولة صغيرة وضعت عليها بعض الأوراق. الإنارة خافتة بعض الشيء).

روميو: أهلاً بالكاتب الشهير وليم شكسبير، اشتقتُ لكَ يا رجل، لماذا كل هذا الجفاء؟

شكسبير: (ضاحكاً) أهلاً بضاري القلب الذي لا يعرف للرحمة طريقاً، صدقني لولا الجميلتان اللتان بحوزتي لكنتُ جالساً هنا كل يوم، اشتقتُ لك أيها المحقق الصنديد.

روميو: (ضاحكاً) دعكَ من هذا الكلام يا رجل وأخبرني ما هي أحوال معشوقاتك؟

شكسبير: أعيشُ أجمل اللحظات وأنا أستمتعُ في تعذيبهما، والفضلُ يعود في ذلك لكَ سيدي، فما كنتُ لأفعل هذا لولا مساعدتكَ، وإصرارك على حجزهما لدي وتجريعهما عذاب الحبِّ، فكما تعلم منذُ سنين طويلة وأنا أُعاني كبرياءهما ورفضهما لي بحجة حبهما للعينين هاملت وعُطيل.

روميو: هذا واجبي سيد شكسبير، فأنا وكما تعلم رجل قانون وأفي بالعهود التي أقطعها، والوعد الذي قطعتهُ لكَ ها أنا في المراحل الأخيرة من تنفيذه، والآن حان دوركَ لأن تفي بوعدكَ الذي قطعتهُ لي، فأنا مؤمنٌ بأن العلاقات البشرية قائمة على المصالح المشتركة، أقدمُ لكَ لحم الغداء فتقدمُ لي نبيذ العشاء.

شكسبير: (معجباً بكلامه) حديثُكَ له نغمٌ يطربني، اطمئن سيادة المحقق، أنا عند عهدي، وسأفي بالوعد بكل تأكيد، تُخلصني أولاً من هاملت وعُطيل من ثم أقوم بتخليد ذكركَ في التاريخ القادم، سأجعلُ العالم كلهُ يحتفي بكَ بسبب ما سأكتبهُ فيك.

روميو: (يمشي إلى يسار مقدمة المسرح) كل شيء قد شارف على الانتهاء ولم يبقَ سوى أن يوقِّع الاثنان على الإفادة التي أضمنُ لهما إن قُدمت للمحكمة حُكماً بالسجنِ لسنواتٍ طوال.

شكسبير: (يتقدم إلى يمين مقدمة المسرح) وما الذي يؤخر ذلك؟ ألم يأخذ كلُ واحدٍ منهما نصيبه من العذاب؟

روميو: (يلتفت إليه) أجسادهما أصبحت هزيلة من الجوع، وصراخهما يفيقُ له الميت، لكن ما يؤخر ذلك هو إرادتهما، لم أرَ في حياتي قط أصلبَ منهما، وكأن عذابي لا يزيدهما إلا ثباتاً، أُقرُّ أمامك أني معجبٌ بهما.

شكسبير: (يعود إلى كرسيه) ما الذي دهاكَ سيادة المحقق؟ تتحدث عنهما وكأنهما أبطال، وهما ليس إلا وغدين لا يجيدان سوى الحديث مع البهائم.

روميو: (يجلس على الكرسي مقابله) أستطيعُ الكذب على كل الناس حتى أنت، لكنني لا أستطيع الكذب على نفسي، أعجزُ عن خداعِ عقلي، عن كبتِ مشاعري أمام قلبي، في عالم التحقيق يجبُ على المحقق أن يكون قادراً على الظهور بعدة وجوه، يبدلها كما تفعل الأفعى بجلدها، لكن نقاء هاملت وعُطيل جعلني عاجزاً عن فعل هذا أمامك.

شكسبير: بدأت الريبة تمتلكني أيها المحقق، حذارِ أن تُخرجهما من المعتقل، سيفتضحُ أمرنا دون شك.

روميو: (ضاحكاً) لم ينل مني الجنون بعد سيد شكسبير، ما قلتهُ لكَ شيءٌ قد ضاق بهِ صدري، فوجدتُ في الإفصاح لك بهِ راحةً لي وخلاصاً من عذاب الضمير.

شكسبير: (ماشياً نحو وسط مقدمة المسرح) فهمتُ ما تشعرُ به، فالأمر ليس بالعسير، لم أعلم أنك تمتلكُ مشاعر جياشة بهذا الشكل، أُهنئكَ على هذا، إلا أن هذا الشعور في قضيتنا هذه لا يفيد، هذا الشعور إن استسلمنا لهُ أهلكنا فهو طهارةٌ من الدنس، وما أعلمهُ فيك أنكَ رجلُ قتال توصد أبواب قلبكَ بالأغلال إن علمتَ أنهُ سيهوي بكَ في قاع الجحيم، والظنُّ فيك سيادة المحقق أنكَ تفتحُ نوافذ عقلكَ لترى بصيص النور.

روميو: لا تخف سيد شكسبير وهيئ قلمكَ منذُ الآن ليدون خلودي في صفحات التاريخ، ولا تقلق بشأنهما فقد أعددتُ خطةً لإجبارهما على توقيع الإفادة، والأمرُ إن حدثَ كما خططتُ له، فلن يأخذَ وقتاً في الخلاص من هذه القضية.

شكسبير: هذا هو صديقي المحقق الشرس، يمتلكُ عقلاً لا يستطيع عاقل أن يشكك فيه، أو أن يستهزئ بحجم براعته في صنع المكائد، ما هي خطتك سيد روميو؟

روميو: في الليلة القادمة سأجعلهما يتذوقان عذاباً ليس كالمألوف، جحيمٌ يُدمي القلوب، فيوقّعان على الإفادة مقابل أن نطفئ النار وهكذا نضمن لهما الحياة التي نريد.

 

 

 

المشهد الرابع

التّوصيف المكاني والضّوئي لخشبة المسرح

(حجرة حجز ديدمونة وأوفيليا، المكان معتم بالكامل إلا بقعتا ضوء إحداهما تضاء على قفص في يسار أعلى المسرح، والأخرى تضاء على قفص في يمين أعلى المسرح).

ديدمونة: أيُّ هوىً قد هوى بنا إلى هنا؟

أوفيليا: هل جلب القلبُ لنا قفصاً يحجبنا عن رؤية المحبوب، أم أن قدرنا فيه قد بات محتوماً؟

ديدمونة: ما يُعجبكِ بعُطيل؟ عيناه أم وجهه الذي بالسواد مسكون؟

أوفيليا: آهٍ يا ديدمونة… لولا أن الدنيا فيها عُطيل لسئمتُها ولشارفت روحي على الهلاك.

ديدمونة: وكأن الأرواح تلتقي على غير ميعاد، لا زلتُ أذكر كيف هو لقائي الأول بهاملت عندما كنتُ أُرافقكِ لرؤية عُطيل، (تضحك) كان مُحتالاً في نظرتهِ لي، كان يمسكُ صندوقاً من العنب عندما اقترب منّا ليسأل عُطيل عن الوقت الذي سيغادران فيه إلى المدينة لبيعه، وعندما كنتما مشغولان بتبادل غزل الحديث، اقترب مني وأهداني عقداً من الياسمين وعنقوداً من العنب، قال لي وقتها إنه لم يرَ فتاةً أجمل مني بحياته، وأنه لا يستطيعُ الإشاحة بوجهه عني.

أوفيليا: (ضاحكة) لا زلتُ أذكر ذلك اليوم، وأذكرُ كيف كان عُطيل يغمرُ قلبي بكلامه العبق، رائحتهُ كعقد الياسمين الذي أهداكِ إياه هاملت ومذاقهُ حلوٌ كعنقود العنب، كم كان يرسي قواعد بيت الزواج في حديثهِ لي! كم كان يحلق فيحجبُ الشمس الحارقة عني بجناحيه! كم كان فارساً يضربُ بسيفه عتمة الليل خوفاً علي.

ديدمونة: من أي شيءٍ هو الحب أوفيليا؟ كنتُ قد قرأتُ أنه من عصارة القلوب، وأشياء لا ندركها تسكن الروح، نكادُ نفارق الحياة لألمها ونعيشُ في كدرٍ لجرحها.

أوفيليا: الحبُّ هو الطريق الذي بأنفاسنا مسكون، نسيرُ بهِ في عتمة الليل، قناديل دربنا فيه نظرات العيون، نتعثرُ بأحجار زمانه، نوخز بأشواك آهاته، نتكئُ قليلاً تحت خضار أشجاره، نسائمُ وروده تلفحنا في هباتٍ عاتية، نقوم ونسيرُ بعد طمأنينة فلا نجد أنفسنا إلا أمام مدافن للعشاق الذين سبقونا.

ديدمونة: يا لوحشة هذا المكان! كأن رياح الموت تُداهمنا فيه (تسمع صوت الباب) أوفيليا… هل تسمعين هذا؟ (تخفض صوتها) يبدو أن الكاتب المجنون قد عاد.

أوفيليا: يبدو أنه ليس وحده، سنرى الآن من برفقته.

(يدخل المحقق روميو برفقة مساعدهُ الخاص اياغو، يجلبان برفقتهما هاملت وعُطيل مغميان العينين، يُخرجان ديدمونة وأوفيليا من القفصين ويضعان هاملت وعُطيل بدلاً منهما بعد أن يُزيلا عنهما غطاء عينيهما).

روميو: والآن يا سادة يجبُ أن تشكروني لأني قدمتُ لكم فرصة لتناول وجبة من الحب اللذيذ الممزوج بطعم الحب المصهور، هذه الليلة ستكون شاهدة بنجومها على المأساة التي ستحدث إن لم يحدث ما أُريد (يُمسك ديدمونة).

هاملت: ديدمونة… دعها أيها الوغد الحقير… هل أنتِ بخير حبيبتي؟

ديدمونة: (تحاول الإفلات فيشدُّ روميو قبضته) حالي كالقلب الذي يفقدُ الدماء، فرحة أنا برؤيتكَ حبيبي.

اياغو: (لديدمونة) اصمتي… (ينظرُ لعُطيل) ما بالُ العاشق عُطيل لا يحدثُ محبوبته؟ (يشدُّ قبضته على أوفيليا).

عُطيل: (غاضباً) سأقطعُ يدكَ التي تُجيدُ البطش، اترك أوفيليا.

روميو: على رِسلكَ أيها الفارس، فما زالت المعركة بحاجةٍ إليك، وربما ما ينتظرُ معشوقتكَ ما هو أثمن لتقدمَ لأجله.

ديدمونة: تكادُ تخنقني أيها اللعين… أنتَ هو ذلك المحقق المتجبر الذي تتحدث عنهُ نسوة المدينة، وتقذفهُ ألسنةُ الرجال بالسباب والشتائم لبشاعةِ فعله.

اياغو: (لديدمونة) تأدبي في الحديث يا حمقاء، فأنتِ تُخاطبين سيادة المحقق روميو.

أوفيليا: سُحقاً لكَ ولسيادة المحقق روميو اللعين.

هاملت: عما قريب سنجعلكما داخل هذه القضبان ونحنُ خارجها، ولا يكون طعامكما إلا لحم الخنازير؛ فأنتما تستمتعان بأكل من يأكل روثه.

عُطيل: ولا تشربان فيها إلا ماء الحميم، بول كلاب يُصهرُ ويدسُّ في فميكما.

روميو: (غاضباً) بل سنأكلُ لحم من تُحبان، وسنشرب بعد هذه الوجبة جعة المساء.

(يقوم المحقق روميو واياغو بجر ديدمونة وأوفيليا إلى المكتب الذي يُضاء تدريجياً، يُجلس روميو ديدمونة على سطح المكتب من جهة اليمين، ويُجلسُ اياغو أوفيليا على جهة اليسار).

روميو: أخبرتكما سابقاً عن الإفادة، وعليكما الآن أن توقِّعا عليها.

اياغو: جبراً وليس فضلاً، وإلا ستشهدان حادثة ستغير مسار قلبيكما.

روميو: (يقترب من وجه ديدمونة) ستشاهدان الآن مسرحية لا يصلحُ عرضها أمام الصغار.

اياغو: كتبها وليم شكسبير ليلة البارحة، والمكتب هذا هو خشبة المسرح (يحاول تقبيل أوفيليا).

روميو: (يحاول تقبيل ديدمونة) نعتذرُ منكما كثيراً، فلن نحترم الذائقة الفنية لديكما، وسنقدمُ عرضاً قصيراً لا يتجاوز طوله خمس عشرة دقيقة.

اياغو: ذروة المسرحية هي المتعة… (يحاول احتضان أوفيليا).

روميو: لم نخبركما بالبداية لأنكما تشاهداها الآن (يحاول احتضان ديدمونة).

اياغو: أما النهاية فتقسم إلى قسمين، متعة ولذة هما قسمنا، وحسرة وندم هما قسمكما، والآن نأمل أن ينال هذا العرض إعجابكم.

عُطيل: (يضرب القفص بجسده) اتركوهما أيها الوحشان الضاريان، سأصبُّ عليكما الذي صُبَّ في سد يأجوج ومأجوج.

روميو: أغلق فمكَ بالروث أيها السفيه، (ينظر لديدمونة) يا لهذا الطبق الشهي!

هاملت: (ثائراً في القفص) إن نُلتما منها خسفت الأرض فيكما ببكاء قلبي، يا لقلة حيلتي اليوم!

ديدمونة: (تحاول الدفاع عن نفسها) لن تنال مني إلا وروحي قد غادرت هذا الجسد قبل أن تدنسه، قُبحتَ أيها القذر، فأنا ثائرة كالذي أعشقه.

روميو: (لديدمونة) ها هي المرحلة الأولى تشارف على الخلاص (يحاول تمزيق ردائها).

اياغو: (لأوفيليا) دعيني أرى ثمار هذا الجسد لأحكم على لذته (يحاول احتضانها).

عُطيل: سأوقِّع على الإفادة… فروحي أرخص من أن أُشاهد هذا بكِ أوفيليا.

هاملت: أجل… أنا كعُطيل سأوقع حالاً… اللعنةُ عليكِ أيتها القضبان، عذراً ديدمونة.

 

المشهد الخامس

التّوصيف المكاني والضّوئي لخشبة المسرح

(قاعة محكمة، وسط أعلى المسرح توضع طاولة المحاكمة، في يسار منتصف المسرح يوجد قفص للمتهمين، وعلى يمين وسط المسرح يوجد مكتبٌ للادعاء العام، تُفتحُ الإنارة على رجلٍ يُدعى بتريشيو يقفُ على مستوى عالٍ خلف طاولة المحاكمة، وعلى رجل الادعاء العام يُدعى شايلوك الذي يكون مشغولاً في ترتيب أوراقه).

بتريشيو: (للجمهور)عند دخول هيئة المحكمة أرجو منكم الوقوف تحيةً لقضائنا العادل، فكما تعلمون أيها السادة إن للقضاء سطوة على الجميع، وسيفاً يجزُّ بهِ رقبة من تطاول عليه، (يخفض صوته) لكن أتعلمون… قرأتُ في كتبِ التاريخ سابقاً حكمة لطالما فكرتُ في معناها، فقد كتبَ أحد الحكماء قائلاً، واعلموا يا من تحكمون بشرف القانون، أنه إن وجد أحد الخلقِ فوقه فقد فض غشاء بكارته. (يرفع صوته) أرجو منكم الاستعداد فالقاضية على وصول (يلتفت إلى اليمين وينادي بسرعة) محكمةهيئةُ القاضية جولييت (يقفُ الجمهور احتراماً).

شايلوك: إن أذنت هيئةُ المحكمة أمرت بإدخال المتهمين.

جولييت: أمرنا بإدخال المتهمين ووكيلهم.

بتريشيو: فليدخل المتهمون التالية أسماؤهم، عُطيل، أوفيليا، هاملت وديدمونة، كما ويسمحُ بدخول السيدة المحامية، وكيلتهم بالصفة القانونية.

(يدخل المتهمون برفقة حارسين على موسيقى تلائم الحدث وتتبعهم محاميتهم، يدخل المتهمون القفص، وتجلس المحامية على كرسي أمامه طاولة بجانب القفص).

جولييت: إن المشرعين الذين باتوا أيام عمرهم يقدرون موازين العدالة، ويحرصون على أن تكون القوانين قد وضعت بنزاهة، وأن أحكامها لا تشوبها شائبة، فتكون نُصرةً للمظلومين، وردعاً وجزاءً للظالمين، هم مشرعون قد بلغَ منهم العمرُ عتيا، وامتلأت رؤوسهم شيباً، فلا ناقة لهم ولا جمل في وضع هذه الأحكام، وهمهم الأكبر في هذا الصدد هو سيادة القانون على جميع سكان المدينة، حفاظاً على الأمن والاستقرار، وتوفير حياة آمنة لمستقبل شعبنا، وفي هذا اليوم تجتمع هيئة المحكمة للنظر في الدعوى المقامة إحقاقاً للحق وعقاباً للمجرمين، فليتفضل الادعاء العام بالتحدث.

الادعاء العام: (واقفاً) عدالة المحكمة الموقرة… إن هذه المدينة منذُ تأسيسها هي مدينةٌ شعارها الأخلاق، ووسامها الأدب وحسن السيرة والسلوك، أما الآن فباتت مدينتنا الشماء أُضحوكة بين سائر المدن المجاورة، فأخذ سكانها يكتبون بنا الأمثال التهكمية التي من شأنها أن تحطَّ من قدرنا، والسببُ في هذا هو الفعل الفاضح الذي قام به هؤلاء المتهمون، ففي الأوراق الخاصة بملفات التحقيق (يُمسك الأوراق) ثبُتَ أن المدعى عليهم بالحق العام ضبطوا في وكرٍ لممارسة الرذيلة أقصى المدينة، فكانوا يا عدالة المحكمة عُراةً لا يخجلون، وسُكارى يتراقصون، عندها هرعت إحدى نسوة المدينة المخلصات إلى المركز الأمني وأبلغت مساعد المحقق بما رأت، ولأن قواتنا المظفرة تحرسُ المدينة ليل نهار، هبَّ الجنود إلى المكان، وسرعان ما تمت محاصرته والقبض على المتهمين هاملت وعُطيل فيه. وبعد أيام لم تطلْ تم القبض على المتهمتين أوفيليا وديدمونة. وبناءً على هذا فإني أطلبُ من عدالة المحكمة إنزال أشدِّ العقوبات المنصوص عليها في قانون المدينة. (تحدث فوضى من قبل الجمهور).

جولييت: (تضرب بالمطرقة على الطاولة) يُرجى المحافظة على الهدوء، فلتتفضل الأستاذة المحامية، وكيلة المتهمين الأربعة بالتحدث.

جرترود: هيئة المحكمة الموقرة، السيد الادعاء العام، جمهور الحق الكريم… تحيةُ العدالة عليكم، وخطابٌ من حُكماء القانون قد جئتُ به إليكم، إن طبقتموه نصرتم أنفسكم أمام التاريخ والأجيال القادمة، وإن قذفتموه فيا حسرةً على الحبِّ النقي، وعلى عيون تاقت لتتلاقى، وعلى قلوب تعاهدت، وأجساد تعانقت وفق شريعة القانون.

شايلوك: (مقاطعاً للمحامية) هذا كلامُ يصلحُ لأن تلقيهِ في ملتقى للشعراء وليس أمام عدالة المحكمة، أنتِ امرأة قانون ويجب عليكَ أن تتحدثي بلغته، أنا أسجلُّ احتجاجي عليكِ.

جرترود: لغة القانون هي أن تسجل الاحتجاج لدى هيئة المحكمة، وأنت تحتج على حديثي لا علي، فأنت تمثلُ الحقَ العام في هذه القضية ويجب أن تُراعي حقَ من تمثله، فأنا بحسب القانون لدي حق عام، وأنتَ هنا لتمثلني، عارٌ عليكَ أن تقاطع من تُدافع عن حقوق الناس.

شايلوك: بل عارٌ سيلحق بكِ بسبب دفاعكِ عن هؤلاء القمامة.

جولييت: (غاضبة) صمتاً صمتاً… لا يجوز التحدث بهذه اللغة حضرة الادعاء العام.

جرترود: لقد اخترق قواعد الحماية الخاصة بي والمنصوص عليها وفق القانون.

شايلوك: سيادة القاضية، لم يبقَ سوى أن تتغنى بهم في قاعة المحاكمة.

جولييت: (للادعاء العام) أرجو منك الهدوء، وأنتِ يا حضرة المحامية أرجو أن توجزي في دفاعكِ.

جرترود: الادعاء العام تحدث عن ارتكاب فعل فاضح من قبل المتهمين الأربعة، وهنا يخطرُ ببالي سؤال مفاده: ما هي الطريقة التي تم التحقيق بها مع المتهمين؟ وهل تم الاعتراف جبراً؟

شايلوك: هذا قولٌ فيه تشكيكٌ لنزاهة عمليات التحقيق في المدينة، وهذا طعنٌ بضمائر المحققين الشرفاء الذين يحرسون ليلكِ وأنتِ نائمةٌ أيتها المحامية، أُسجلُ احتجاجي على هذا السؤال لدى عدالة المحكمة.

جولييت: يبدو أن هذا السؤال لا يُسمنُ ولا يغني حضرة المحامية.

جرترود: أطلبُ من عدالة المحكمة تسجيل إصراري على هذا السؤال؛ ففيه إجابةٌ لشيءٍ في خاطري قد يحقق العدالة المنشودة.

شايلوك: (صائحاً) تم الاعتراف فضلاً من تلقاء أنفسهم، هل هناك سؤالٌ أخر أيتها المحامية؟

جرترود: (مبتسمة) هذا يعني أنهم لم يتعرضوا للإجبار أو الضرب أو أي ضغوطٍ أُخرى.

شايلوك: (بانفعال) هذا تجاوزٌ للقانون، واتهامٌ واضح لرجال الدولة، أُسجلُ احتجاجي.

جولييت: حضرة المحامية، يُرجى الإيضاح للمحكمة ما الذي تقصدينه بقولكِ هذا؟

جرترود: عدالة المحكمة الموقرة، الادعاء العام أقرَّ أن الاعتراف قد تم من قبل المتهمين فضلاً، أي أنه لم يتم تعريضهم لأي أساليب من شأنها الامتهان من كرامتهم، وهذا ما لا أراه على وجوه من يمثلون في قفص الاتهام أمام عدالتكم (يُشير إلى القفص) فبحسبِ تقرير الطبيب الشرعي الذي أضعهُ أمام عدالتكم (تتقدم وتضع ورقة أمام جولييت) فإن المتهمين يعانون من أثار تعذيب وجروحٍ من الدرجة المتوسطة، وهذا لا يدلُّ إلا على سوء المعاملة التي تعرض لها هؤلاء الأربعة (يشير إلى القفص) والتعذيب طوال أيام التحقيق، ومحاولة اغتصاب للمتهمتين ديدمونة وأوفيليا من قبل المحقق روميو ومساعده اياغو، عندما كانتا محجوزتين في بيت الكاتب وليم شكسبير المشترك مع المحقق ومساعده في ممارسة التعذيب، وبما أن هناك شكّاً في إجراءات التحقيق، فيجبُ على المحكمة إعلان براءة المتهمين من التهم المنسوبة إليهم، تطبيقاً لقاعدة أن الشكَ يُفسر لصالح المتهم.

شايلوك: (صارخاً) هذا قذفُ سوء لأعمدة الثقافة في المدينة، وطعنٌ في مهنية المحقق الأشهر في المدينة، السيد روميو ومساعده اياغو مشهودٌ لهما بحسنِ السيرة والسلوك والانضباط العسكري.

جرترود: هذا تسترٌ واضح منكَ على من يقوم بهذا الفعل المشين، وأنتَ مُدانٌ كما هما.

شايلوك: سأعمدُ إلى شكوى ضدكِ، تُشطبين بفعلها من سجلات المحامين.

جولييت: (تطرقُ بغضب) بحسب قانون المدينة فإن الشاهد في هذه القضية هو المساعد اياغو؛ فالقانون لا يسمح لمحقق المدينة الرسمي أن يدلي بشهادته، ولهذا تُرفعُ الجلسة لحين حضور شاهد العدالة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المشهد السادس

التّوصيف المكاني والضّوئي لخشبة المسرح

(حجرةٌ فيها كرسيان متقابلان في وسط مقدمة المسرح، تتوسطهما طاولة صغيرة، آلةٌ للموسيقى موضوعة وسط الكرسيين من الخلف، تُرفع الإنارة فيشاهد شكسبير جالساً وحده وقد بدت عليه علامات الارتباك، ويُسمع صوت عقارب الساعة).

شكسبير: مصائبٌ تلو المصائب تلاحقني، وبرودة غضبِ السماء تقرصني، شيئان ما زلتُ فيهما محتاراً، من يسبقُ من؟ الموتُ بعد الحياة أم الحياة بعد الموت؟ إن كنتُ أنا كعابر النهرِ في هذه الدنيا، فما هي حياة الخلود؟ (يلتقطُ القلم من جيب صدره) أجبني أيها القلم… تجرأ مرةً واحدة على عصياني واكتب ما تُمليه عليك أعماقك، تجرأ على رفض جرائم ارتكبتها نصب عينيك واكتب بحبر النور وثُر… هل تدري أيّ شيءٍ عن حياة الخلود؟ أقدارها، أسرارها، سُكانها… هل حقاً أن من يعيشُ فيها تسلبُ منه الغرائز جبراً؟ والقلوب فيها تغسلُ بماءٍ طهور؟ أيّ حياةٍ هذه التي قُدرت لنا لكي تسلب منا أنفاسنا؟ أنفارقُ الدنيا بعد أن أحببنا فيها… بعد أن ذُقنا عسل عدن… سُحقاً لكَ أيها القلم… (يرمي القلم فتدخل القاضية جولييت وتلتقطه).

جولييت: كعادتكَ تُحادث القلم، منذُ أكثر من عشرين عاماً وأنتَ على هذه الحال.

شكسبير: أعتذرُ منكِ… رياحٌ عابر تجوب عقلي بين الفينة والأخرى، لا عليكِ.

جولييت: لا زلتَ تؤنبُ نفسكَ بعد كلِ خطيئة، ما أغرب طباعك شكسبير.

شكسبير: نعم كما أنا جولييت، وأظنُّ أن الطباع لا تخرج من الإنسان إلا بعد الموت.

جولييت: ألا تخشاهُ وأنتَ على هذه الحال؟ نزواتٌ تعيشها كل يوم، أما اكتفيت؟

شكسبير: الموت… ومن منّا يجرؤ على أن لا يخشاه، إلا زاهدٌ في نفسه تمناه.

جولييت: أُشفقُ عليكَ من فعلِ نفسك، وأنا التي عشتُ نزوة برفقتك.

شكسبير: ما الذي تهذين بهِ؟ أنتِ عشقٌ دائمٌ لا نزوة.

(تقوم جولييت بتشغيل أسطوانة الموسيقى، تُمسكُ بيد شكسبير وتراقصه).

جولييت: ومن طباعكَ التي لا تخرج إلا بعد الموت، الكذب…

شكسبير: أكذبُ على الجميع، إلا أنتِ والقلم… فالقلبُ موصدٌ بحبكِ.

جولييت: والذي فعلتهُ بأوفيليا وديدمونة ماذا تسميه؟ غراماً أم عشقاً دفيناً؟

(يتركها شكسبير ويعود ليجلس، بينما تقوم هي بإطفاء آلة الموسيقى وتعود لتجلس).

شكسبير: لماذا استدعيتني في هذا الوقت؟

جولييت: قضيةٌ إن أصرَّ محاميها أهلكتكَ لا محال.

شكسبير: بريءٌ منها كغيرها من القضايا.

جولييت: قرأتُ الصدقَ في صُراخ المحامية، والكذب في صفحات الادعاء العام.

شكسبير: أتبُنى الأحكام لديكم بناءً على صراخ الخصوم وشعور القضاة؟

جولييت: اسمعني  جيداً… كُنتُ حبيبةً لكَ في يومٍ ما، وأعلمُ كيف تُفكر وأيّ دهاءٍ تُبطنه، لكن أفعالكَ القبيحة المتجددة دائماً، كانت سبباً مبرراً لي للخروج من حياتك، وربما هذا الأمر كان صواباً لي أكثر منك؛ فأنا اليوم قد قاربتُ على الزواج من الذي أعشقه، يُشبهكَ كثيراً في قذارتك إلا أن ما يُعجبني فيه هو أنني في كل حينٍ أسكنه، أرافقهُ حتى أحلامه، بالنسبة لهُ أنا حياة الخلود التي تتفكرُ فيها أنت، حتى أنفاسهُ أنا مصدرها، أقسم لي مراراً أنهُ الأرض وأني الورود التي تنمو فيه، أنهُ السفينة وأنا طائرُ البجع الذي يُحلقُ فوقه، وزوجي القادم هو من أطلعني على الحقيقة التي حاول الادعاء العام إنكارها تحت إصرار المحامية على قولها في المحكمة، وإسنادها بالأدلة الثبوتية.

شكسبير: (بذهول) من هذا الذي تُسمِّينه عاشقاً لكِ؟ أتلدُ النساء غيري عاشقاً؟

جولييت: صديقكَ المخلص، المتواطئُ معك في الجريمة، المحقق روميو.

شكسبير: ما هذا الجنون الذي يُعيدُ من ولد فيه إلى صوابه؟

جولييت: ليس هذا بجنون، بل حقيقةٌ ستشهدها بنفسكَ عما قريب.

شكسبير: ولمَاذا لم يُخبرني بهذا؟ هل هو على علمٍ بالذي بيننا؟

جولييت: اطمئن، ليس على علم بأي شيء، ما يعرفهُ أني معجبةٌ بكتاباتكَ المسرحية، تماماً كغيري ممن هم مغرمون بتلك الخشبة التي تكتبُ لأجلها، هو غيورٌ جداً عليَّ وعلى علمٍ تام بمدى عِشقكَ للنساء وهذا الذي دفعهُ لعدم إخباركَ.

شكسبير: وما الحكمُ الذي سيصدرُ بحقي بهذه المناسبة العطرة؟

جولييت: السجن من ثم الطرد من المدينة هو جزاء الذي يُقدم على ارتكاب جريمة اختطاف أُنثى والتحرش بها، وبالنسبة لك فالعقوبة ستزيدُ قليلاً، سنقوم بتعميم الحكم الصادر بحقك على كافة المدن المجاورة، فكما تعلم أصحاب الشأن الرفيع في المدينة ليسوا كغيرهم من ساكنيها، جفّت الصحف سيد شكسبير.

شكسبير: يبدو أنهُ ليس بالإنسان السهل هذا المحقق، فكما أخفى عني رماكِ بنفس السهم، ولم يُخبركِ أيضاً، وكأن حبهُ الشديدُ لكِ ثناه عن الإباحة لمعشوقته بعهدنا الذي قطعناهُ لبعضنا عندما اتفقنا.

جولييت: أيّ عهدٍ هذا الذي تتحدثُ؟ وما الذي اتفقتما عليه؟ لا تحاول خداعي مرةً أُخرى، أُقسمُ إن كذبت ثانيةً لشدَّدتُ عليك العقوبة، فلا تخرج من السجنِ إلا شيخاً.

شكسبير: لا أكذبُ على من عشقتُها، المحقق روميو ساعدني في كل ما يتعلق بهذه الجريمة، فهو الذي أجبرَ عُطيل وهاملت على الاعتراف جبراً، ولم يكن أمامهما إلا هذا الخيار… فقد كاد بمساعدة من اياغو أن يغتصبا أوفيليا وديدمونة أمامهما لإجبارهما على الاعتراف، صرخاتُ ديدمونة بين يديه لا زال صداها عالقاً في ذاكرة الجدران.

جولييت: وما الذي دفعهُ لفعل ذلك؟ لا تقل لي المال فأنا أعرفه جيداً.

شكسبير: لا ليس المال، بل هو الحبُّ في أن يكون، هذا المحقق لديه اكتفاءٌ في كل شيء إلا ذاته، فسلم الحاجات يعلو رأسهُ تقدير الذات وهذا ما يفتقدهُ.

جولييت: وكيف ستجعلهُ يجدُ ذاته المفقودة؟

شكسبير: القلم… القلمُ هو من سيجدُ ذاته، وأنا سأساعدهُ في هذا الشيء، فالاستخدام السليم للقلم يجعلنا نحصلُ على النبيذ اللذيذ، أما الاستخدام السيء فدون شكٍ سيكون نصيبنا منه العنب فقط.

جولييت: وعدتهُ أن تُخلِّد اسمهُ في التاريخ إذن.

شكسبير: كما عهدتكِ جولييت، صاحبة فطنة تُبدع دائماً في تحليل الشخصيات التي أكتبها.

جولييت: ها أنتَ تنتصرُ عليَّ مرةً أخرى، استدعيتُكَ لأخبركَ أن نهايتكَ باتت محتومة، فوجدتكَ تُخبرني أني من سأجدِّد لك ولقلمكَ البقاء.

شكسبير: وسأجزيكِ بالثمن الذي سأجزي بهِ زوجكِ القادم، حبّ دائم الذكرِ على لسان من ذاقوا طعم العشق، وحياة الخلودِ يكتبها لكما قلمي.

جولييت: ما عدتُ أثقُ بالرجال! وما عادت لدي القدرة على حُبٍّ جديد يقذفني إلى الهاوية.

شكسبير: تذكري أن قلمي سيكتبُ بكِ ما يشعرهُ قلبي لا رداً للجميل، وأياً كُنتُ أنا! فثقي أني عاشقٌ لكِ وما سأكتبهُ عينٌ للحق، فلا يكتبُ القلم إلا بهوى صاحبه، وداعاً.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المشهد السابع

التّوصيف المكاني والضّوئي لخشبة المسرح

(مكتب الادعاء العام؛ السيد شايلوك. مكتب أمامهُ كرسيان متقابلان في وسط مقدمة المسرح، تتوسطهما طاولة صغيرة، تُرفع الإنارة فيشاهد شايلوك جالساً على كرسيه خلف المكتب، والمحامية جرترود تجلس على كرسي يسار وسط المسرح).

شايلوك: أهلاً بالخصم اللدود في ساحة النزال، أشرقَ مكتبي بقدومكِ سيدة جرترود.

جرترود: تتجردُ من صفتكَ القانونية في الوقت الذي تريده ولا تأبه في الحفاظ على مكانتكَ حضرة شايلوك.

شايلوك: أتحدثُ إليكِ الآن بلغة الشعب حتى أحظى بمكانةٍ قريبةٍ لديكِ؛ فأستطيعُ عند ذلكَ مفاوضتكِ.

جرترود: إلام ترمي أيها النزيه؟

شايلوك: تعلمين سيدتي أن القانون ما وجد بدايةً إلا لحماية الصالح العام من ثم الصالح الخاص، والدولة بأركانها الثلاثة مستفيدةٌ منه، والصالحُ العام في قضيتنا سيدة جرترود هو إدانة العاشقين الأربعة… أرجوكِ أن تعي ما أقوله، وأن تُلقي براحة يدكِ في يدي إذعاناً بالموافقة.

جرترود: إذن طلبتني لهذا الأمر؟

شايلوك: ولا شيء سواه… دعي عقلكِ يُبحرُ في النور؛ فالصالح العام يقتضي ذلك، ومصلحةُ الدولة فوق كل شيء.

جرترود: أنسيتَ يا سيدي أنَّ الشعبَ هو أحد أهم أركان الدولة، وهو أساسُ الركنين الآخرين؟

شايلوك: (محاولاً تدراك السؤال) ما رأيكِ بشرب النبيذ في هذه الليلة المقمرة؟

جرترود: إياكَ وخلط الزيت، أنا أتحدث عن حقوق الركن الأساسي في الدولة، العاشقون الأربعة هم أفرادٌ من الشعب، أقسمُ بشرفي القانوني أني سأدافع عنهم حتى الرمق الأخير.

شايلوك: (بغضب) الشعب، الشعب، الشعب جزءٌ من ثلاثة، أمامه ركنان، ولهما السطوة الأكبر عليه، ولا ينبغي على أستاذة القانون أن تنكر دورهما.

جرترود: أتعلم سيد شايلوك… رغم أنكَ رجلٌ لا يُستهان به في الدولة إلا أنني أرى أنكَ تتسمُ بالغباء بشكل واضح.

شايلوك: (بانفعال) تنعتينني بالغباء حضرة المحامية! هذه جريمة وأستطيعُ أن أوقعَ عليكِ عقوبة تليقُ بالضرر الذي لحقَ بي.

جرترود: تستطيع! أنتَ لستَ بقاضٍ. آه… نسيتُ أنكَ صاحب سطوة في السلطة القضائية، وبإمكانكَ أمر القضاة الذين يتصفون بصفاتكَ، بئس رجل الدولة أنت.

شايلوك: ومع ذلك فأنا رحيمٌ بالجنس اللطيف، هل من الممكن يا حضرة المحامية أن توضحي لي وجهة نظركِ في أن الشعب هو الركن الغالب في الدولة وأهم جزء فيها؟

جرترود: مع علمي بمكركَ الذي تمتازُ بهِ كونك يهودياً، وعلمي المسبق أنكَ على درايةٍ بما سأقول، إلا أنني سأوضحُ ما طلبت؛ فالشعب يا سيدي يزرعُ ويحصدُ بعد السقاية في ركن الأرض؛ يعمرها، ينحتُ تضاريسها البشرية، يُشكلها كيفما يشاء، يقتلعُ أشواكها التي تُدمي الصغار وتؤلم الكبار، يملأها بالورود، يبني فيها عروشاً ظنَّ أنها النجاة لهم من وحوش الغابة، ولم يعلم أنه شيَّد أقفاصاً لوحوش تأكل وتضاجعُ وتلدُ فيها، وبعد الموت تشبُّ صغارها وترثُ القفص، فلا هي خارجة منه ولا لغيرها أن يدخله، وأما ركن السلطة فلا يكون إلا من الشعب؛ فالوحوش تأتي منه بحيلة، تعطفُ في بادئ الأمر على صغار الشعب، وتأوي مساكينه، تدافعُ عن كل مظلوم منه، حتى إذا دخلت القفص أبت واستكبرت ونقضت العهود والوعود، والقسم الذي أدت به أمام شعبها، وأصبحت بذلك وحوشاً ضارية لا تأبهُ إلا لمأكلها ومشربها ومتعتها، وأما الركن الذي لولا أن كان لما وجد الشعب والسلطة فهو الأرض؛ هذه التي شربت باكيةً دماء المظلومين المهدورة والمفرقة في شتى بقاعها. أنتم يا سيدي لا تأخذون من القانون إلا ثغراته، هذه التي سقطت لربما عمداً من مشرعيه خدمةً منهم لوحوش الغابة التي تنهشُ لحم المكلومين.

شايلوك: (بدهشة) أنصحكِ الاحتفاظ بهذا التحليل لنفسكِ، ومن جهتي سأعتبرُ نفسي كأني لك أسمع شيئاً من هذا القبيل، أنتِ محامية مشهودٌ لها بالكفاءة في هذا المجال، ولن يُفيدكِ بشيء تصريحكِ بهذا القول للعامة، القضاء ميدانٌ يا سيدتي والصراعُ فيه حتماً.

جرترود: القضاء ليس بحلبة للنزال، وأيّ إنسان تقدم طوعاً لأن يكون فيه عليه أن يتحلى بالمبادئ والأخلاق والجرة المقدسة التي منها يستقي قواعده.

شايلوك: إدارة الدولة تحتاجُ إلى تنازلات منّا، وأيّ شيءٍ يقفُ في طريق المصلحة العامة يجبُ اجتثاثه من جذوره، والقضاء عليه، انتهى اللقاء، لا تنسي ما قلتهُ لكِ.

 

المشهد الثامن

التّوصيف المكاني والضّوئي لخشبة المسرح

(مكتب المحقق روميو، حجرةٌ بها مكتب خلفهُ كرسي، وأمامهُ كرسيان متقابلان في وسط مقدمة المسرح، تُرفع الإنارة فيشاهد المحقق روميو جالساً على كرسي ناحية يمين وسط المسرح، يقابله في الجلوس مساعده اياغو الذي يجلس على كرسي ناحية يسار اليسار وقد بدت عليه علامات الارتباك).

روميو: المخلص اياغو، أعلم ما تتمتعُ بهِ من إخلاص لي وما تملكهُ من حبٍ لمدينتك، واليوم أطلب منكَ أن تُكمل ما بدأت به؛ فأنتَ ستكون الشاهد على القضية أمام القاضية جولييت، وما أريده منك هو أن تُدلي بالشهادة التي أخبرتكَ بها، وأن تُقسم على ذلك، أعلم أن هذا ليس بالشيء الصعب عليك.

اياغو: (بخوف) أفعل أي شيء لأجلك سيدي، لكن أن أقسم على الكتاب المقدس فهذا أمرٌ تخافُ منه فطرتي، وترتعشُ لهُ يداي، أرجوك أن تعتقَ رقبتي من هذه المهمة.

روميو: (بغضب) أترفضُ الأوامر أيها الوغد؟

اياغو: (بخوف) عذراً سيدي، أنتَ تعلمُ حجم حبي لك، لكني خائف.

روميو: إياك أن تخاف وأنت معي، فأنا أضمنُ لكَ المغفرة من الرب ببركة ما سيكتبهُ وليم شكسبير عنكَ بعد انتهاء القضية.

اياغو: وليم شكسبير! حقاً! سيكتبُ عني أنا؟

روميو: أجل اياغو العزيز، فأنتَ تملكُ من المكانة في قلبي ما تؤهل شكسبير للكتابة عنك، وتمجيدكَ عبر التاريخ، أنتَ يا اياغو بطل، أجل بطل، وستكون بطلاً أيضاً في كتابات شكسبير، وكل هذا متوقفٌ على ما ستشهدهُ أمام عدالة المحكمة.

اياغو: ولكن يا سيدي، ماذا سيكون مصيري وأنا شاهدُ زور؟

روميو: أيُّ زورٍ يا أبله؟ أنتَ شاهد عدالة على شيء حدث أمامك… بدأتُ أضيقُ بكَ ذرعاً اياغو، (صارخاً) لماذا تتردد؟

اياغو: أياً كانت الذنوب التي اقترفتها في حياتي، إلا أنني أقفُ عاجزاً أمام يمين كاذب أقسمهُ إن بعتُ ضميري.

روميو: ضمير! (بغضب) وهل تملكُ ضميراً أيها الخائن؟

اياغو: (بهلع) ما الذي دهاكَ سيدي؟ أنا اياغو خادمكَ المخلص.

روميو: لست بمخلص أيها اللعين، سأجعلكَ تتمنى رؤية الشمس فلا تجدها، والقمر فلا تنعم بجمال سحره، سأزجُ بكَ في سجني السري، تقضي بهِ ما تبقى من عمرك إن لم أقتلكَ وأدفنكَ فيه (يمسك اياغو من عنقه).

اياغو: (برجاء) الرحمة يا سيدي، لا أريدُ أن يكون مصيري كأسلافي من المساعدين لك، فهذا ليس بسجن، (يحاول التنفس) إنما هو مقبرةٌ موحشة، رائحة الجثث تعجُّ في أرجائه، أرجوكَ سيدي، سأفعل ما تأمرني به، وأكون طوع أمرك.

(يُطرق الباب، ويأذن روميو بالدخول بعد أن يُفلت قبضته عن عنق اياغو، يدخل وليام شكسبير ويتوسط روميو واياغو من خلال جلوسه على الكرسي خلف المكتب).

روميو: أهلاً بمن خطَّ قلمهُ حروف الإبداع.

شكسبير: أهلاً سيادة المحقق (ينظر إلى اياغو ويُثيره منظره).

روميو: لا تقلق حضرة الكاتب، فهذا مساعدي المخلص اياغو، وهو من سيدلي بالشهادة التي قدرتها له.

اياغو: (متظاهراً بالسعادة) أهلاً بحضرة كاتب المدينة.

شكسبير: لقد تحدث لي المحقق روميو عن مكركَ سيد اياغو، وعن الدهاء الذي تتمتعُ به، وعن درجة وفائك له، أقسمُ إن نفذتَ ما أمركَ بهِ المحقق روميو، أني سأجعلُ العالم كلهُ يتحدثُ بالدهاء الذي فُطرتَ عليه، وعن شجاعتكَ وبسالتكَ اياغو المخلص.

روميو: أرأيتَ اياغو، ها قد أكد لك حضرةُ شكسبير ما قُلتهُ لك قبل قليل، والآن ما رأيكَ؟

شكسبير: (بخبث) لا أظنُّ أيها المحقق أن رجلاً ببسالة اياغو يرفضُ طلب سيده الذي لا يريدُ له إلا حياة الرغد والشهرة.

اياغو: (بثقة) سأقسمُ يا سيدي على أي شيء تريده، وليغفر لي الله، وأطلبُ من كاتب المدينة الشهير أن يفي بعهده لي، بعد أن يُدان أولئك الأوغاد الذين يدعون للرذيلة في المدينة.

شكسبير: وليم شكسبير لا يُخلفُ عهداً قطعهُ، تشهدُ أنتَ وأكتبُ أنا.

روميو: ما أسعدني بكَ اياغو الوفي! وفائقَ امتناني لك حضرة الكاتب الشهير.

 

 

المشهد التاسع

التّوصيف المكاني والضّوئي لخشبة المسرح

(قاعة محكمة، وسط أعلى المسرح توضع طاولة المحاكمة، ترتفعُ قليلاً من الوسط عن اليمين واليسار، في يسار منتصف المسرح يوجد قفصٌ وضع بداخله المتهمون الأربعة، بجانب القفص طاولة وكرسي تجلسُ عليهِ محامية الدفاع، وعلى يمين وسط المسرح يوجد مكتبٌ للادعاء العام، بتريشيو يقفُ على مستوى عالٍ خلف طاولة المحاكمة، تفتحُ الإنارة عليهم تدريجياً).

بتريشيو: (للجمهور) أُسعدتم صباحاً أيها الحضور الجميل، شمس الصباح لهذا اليوم تبدو حارقة بعض الشيء كنار أحكامنا في هذه المدينة، أتعلمون… منذُ سنوات وأنا أُسجلُ احتجاجي ببيتي الذي أُقيم فيه وحدي، على بعض الأحكام الصادرة عن عدالة المحكمة والتي أرى فيها أنها تفتقدُ لمعايير النزاهة العالمية التي قرأتها.

شايلوك: (غاضباً) كفى أيها الثرثار… سأقدمُ إلى عدالة المحكمة كتاباً جديداً بالإضافة إلى التي قدمتها سابقاً أطلبُ فيها تحويلك إلى الطبيب المختص لتحديد درجة الجنون التي تتمتع بها أيها الخرف، وأعتقدُ أنكَ ستزور القبر عما قريب.

(يدخل المحقق روميو برفقة الكاتب شكسبير ويجلسان في قاعة المحكمة بين الجمهور ليشاهدا أحداث المحاكمة وقرار صدور الحكم).

بتريشيو: (ضاحكاً وهو ينظر لهما) هكذا هي حياتي، لا أحد يُصدقني، وعندما أقترب من الحقيقة ينعتوني بالمجنون وأنا إلى الصواب أقرب، حياةٌ لا تبعثُ بداخلي إلا على الاشمئزاز، بشرٌ أصبحوا كالحيوانات المفترسة، لا رحمة عند المطاردة والانقضاض على الفريسة، وشفقة يكادون لا يملكونها إلا على صغارهم (ينظر لليمين) ها أنا أرى القاضية قد أتت… (صائحاً) محكمة… هيئةُ المحكمة الموقرة، القاضية جولييت (يقف الجميع احتراماً).

جولييت: (جالسة) كنا في السابق قد رفعنا الجلسة لغاية في نفس المحكمة بأن تستمع لشهادة المساعد في قسم التحقيق، السيد اياغو، هل حضر الشاهد حضرة الادعاء العام؟

شايلوك: أجل سيدتي… وأستأذنُ من عدالة المحكمة الإذن له بالدخول.

جولييت: فليُنادى على الشاهد…

بتريشيو: الشاهد اياغو.

(يدخل الشاهد اياغو إلى قاعة المحكمة ويقف بالقرب من الادعاء العام).

هاملت وعُطيل: الموتُ لكَ أيها اللعين… العارُ سيلحقُ بكَ ولن تستطيع الهروب.

ديدمونة وأوفيليا: أرواحنا ستطاردكَ اياغو… لن نصفحَ عنكَ يا صاحب القلب المسموم.

 جولييت: (تطرق على الطاولة) اصمتوا وإلا عرضتم أنفسكم لعقوباتٍ أُنزلها جزاء لكم.

شايلوك: أنا أُسجل احتجاجي لدى المحكمة وأطلب توثيق الشتائم في محضر الجلسة، التي صدرت أمام الجميع من قبل المتهمين الأوغاد.

جرترود: وأطلبُ من عدالة المحكمة تسجيل القذف الصريح لموكليّ من قبل الادعاء العام.

جولييت: حضرة الادعاء العام والمحامية، المحكمة ستأخذُ ملاحظاتكم بعين الاعتبار بعد الاستماع لشهادة الشاهد في القضية المنظورة، والآن فليتقدم الشاهد بعد أدائه للقسم بإدلاء شهادته بشكلٍ موجز. (يتقدم اياغو قليلاً ويرفعُ يده تعبيراً عن القسم).

اياغو: أُقسمُ بشرفي العسكري أن أقول الحق ولا شيء سواه… هاملت وعُطيل أولادُ عمومة، يسكنان بالقرب من بعضهما في أطراف المدينة، يعملان في حقل أبويهما الذي يُنتج أفخر أنواع العنب من ثم يقومان ببيعه لأحد تجار المدينة الذي يستخدمهُ في صنع النبيذ، وفي اليوم الذي ارتكبت به الجريمة، ذهب المدعى عليهما إلى التاجر وباعاه خمسة عشر صندوقاً من العنب، وقبل أن يغادرا قاما بطلب زجاجتيّ جعة من النبيذ المعتق ليشرباها في الليل برفقة فتاتين عاشقتين لهما، وحدث في تلك الليلة ما أرادا، بحيث استدعى هاملت المدعى عليها ديدمونة من خلال رسالة غرامية طلب فيها أن تحضر لملاقاته برفقة صديقتها المدعى عليها أوفيليا، وأخبرها أن ابن عمه عُطيل سيكون برفقته، فيطيبُ اللقاء باجتماع كل واحد منهما بمعشوقته في بيتٍ ريفيٍ مهجور بالقرب من حقل العنب، وبعد التاسعة مساءً كان اللقاء الحميم؛ سكرٌ ومجون، لهوٌ وعربدة، وتحت تأثير وطأة السكر خلع الجميع ثيابهم وراحوا يمارسون الرذيلة، التي تحرّمها تشريعات المدينة وينبذها أهلها الشرفاء، وفي تمام العاشرة وخمس عشرة دقيقة تمت مداهمة ذلك المنزل، وتمت رؤية المتهمين الأربعة من النوافذ يمارسون الرذيلة، كانت أبوابُ المنزل موصدة بقوة، مما أتاح الفرصة أمام المتهمتين ديدمونة وأوفيليا للاختباء في سرداب لا يتسعُ إلا لهما، يُغلقُ من داخله، ولا يبدو ظاهراً من الخارج، فيما قررَ المتهمان هاملت وعُطيل التستر عليهما وتسليم نفسيهما كأسلوبٍ لتضليل القوة المداهمة، جرى البحث في كافة أرجاء المنزل عن المتهمتين فلم تجدهما القوة، وظنت أنهما قد فرّتا من باب خلفي للمنزل يؤدي لغابات واسعة كثيفة أشجارها، تم جلب المتهمان إلى حجرة خاصة، وتحت ضغوط التحقيق الذي تم بمنتهى الاحترام لمبادئ حقوق الإنسان اعترف المتهمان بالتهمة المنسوبة إليهما، كما اعترفا عن السرداب المذكور وكيف أن المتهمتين قامتا بالفرار بعد مغادرة القوة الأمنية، وما كانت هذه الجريمة تُكشف لولا أن إحدى نسوة المدينة قدمت لي وأبلغتني أن هناك عدداً من الشبان من المعتقد أنهم يمارسون الرذيلة، فقمتُ فوراً بمداهمة المكان وإلقاء القبض على هاملت وعطيل، بينما استطاعت أوفيليا برفقة ديدمونة الهرب من المكان، وكما قلت سابقاً، على كرسي التحقيق اعترف المتهمان بفعلتهما دون إجبار، وأخبراني أن عشيقتيهما قد هربتا، فقمتُ بالتعميم عليهما في كافة أرجاء المدينة، إلى أن جاء الكاتب وليم شكسبير وأخبرني أنه قد رأى فتاتين مختبئتين في حديقة منزله تحت الأشجار، قمتُ بالمداهمة وبالفعل كانتا أوفيليا وديدمونة، وأيضاً على كرسي التحقيق اعترفتا بفعلتهما دون أي ضغوط، وهذه هي شهادتي أمام عدالة المحكمة.

جرترود: سأطرحُ عليكَ بعض الأسئلة سيادة المساعد اياغو.

شايلوك: (معترضاً) يُسأل الشاهد من خلال عدالة المحكمة أولاً، بعد أن تسمح بذلك.   

أوفيليا وديدمونة: اللعنة عليك اياغو… كم أنتَ كاذبٌ أيها الخائن!

هاملت وعُطيل: سنقطعُ يدكَ التي أقسمت بها، وسننتقم من المحقق اللعين والكاتب المذموم.

شايلوك: (غاضباً) أطلب من المحكمة تغليظ العقوبات عليهم جزاءً لإهانة شاهد الحق أمام عدالتكم، وتهديد وترويع السادة الحضور.

جرترود: إن كان هناك عدالةٌ فيجبُ أن يُحكم بتنحيتك عن هذا المنصب الذي تملأه فساداً، وتجلبُ بسطوتهِ شاهداً باع الضمير بثمنٍ بخس.

شايلوك: هذا قذفٌ لأشراف المدينة يا من تترافعُ عن شرذمةٍ من حثالة القوم.

جولييت: (تطرق بالطرقة) صمتاً أيها السادة… فهذا المكان ليس حلبة للمصارعة، وزقاق مدينة لتصفية الحسابات، هذه محكمة واحترامها واجبٌ عليكم جبراً، وأنتِ أيتها المحامية قيدنا حقكِ في سؤال الشاهد جزاءً لكِ ولموكليك، الحكم بعد الاستراحة. (تعتم خشبة المسرح تدريجياً وتخرجُ القاضية وتدخل موسيقى يتراشق على صوتها الخصوم بالتهم المتبادلة، وما أن يُعتم المسرح بالكامل حتى يُضاء مرة أُخرى على دخول القاضية جولييت)

بتريشيو: محكمة… على الجميع الوقوف لإصدار قرار الحكم (يقف الجميع والجمهور).

جولييت: (واقفة في مكان كرسيها) سلامٌ على شرفاء القانون، وسلامٌ على المخلصين فيه، بعد المداولة والاطلاع وبناءً على ما تقدم من قبل سيادة الادعاء العام من دلائل صحيحة لا تقبل الشك،  ونظراً للتجاوزات التي صدرت من المتهمين ومحاميتهم، وتهجمهم على شاهد العدالة في قاعة المحكمة، وقذف الادعاء العام الذي يمثل الحق العام بعبارات لا تليقُ أن تصدر من محامية أدت القسم القانوني عند توليها المهام، وبعد سماع شهادة الشاهد التي جاءت متوافقة مع ما قدمهُ الادعاء العام من إفادتين وتطبيقاً لأحكام القانون في مدينتنا، قررنا الحكم على كل من هاملت، عُطيل، أوفيليا وديدمونة  بالسجن مدة عشر سنوات مع الأشغال الشاقة، وتكليف الكاتب المسرحي وليم شكسبير بتشريدهم في كتاباتهِ الأدبية ليعيشوا حسرةً في بطون الكتب، كما وقررت المحكمة الحكم على المحامية وكيلة المتهمين الأربعة وفق الوكالة الخاصة التي قُدمت لنا بالسجن ثلاث سنوات مع الأشغال الشاقة المؤقتة جزاءً لخرقها قانون أُصول المحاكمات وآدابها، والتنسيب لمجلس المدينة الأعلى بشطبها من سجلات المحامين النظاميين لتكون عبرةً لمن تسوِّل له نفسهُ أن يخترق قواعد العدالة، قرارٌ وجاهي غير قابل للاستئناف، صدر بتوقيع القاضية جولييت.    

 (تُسمع هتافات حماسية قادمة من الجمهور، ويصعد روميو برفقة شكسبير للسلام على شايلوك بعد صدور القرار، وفجأةً يصدرُ صوتٌ كالصرخة المرعبة، تؤدي إلى إفقاد جميع من في قاعة المحكمة الوعي، فيسقطون أرضاً، ثم يُبعثُ الصوت مرةً أُخرى بشكل متقطع فتفيق في كل مرة إحدى الشخصيات وتبدأ بالحديث).

روميو: سيدٌ مغرور أصابهُ الجنون، بطشَ بهذه وفتكَ بذاك وجنودٌ بحكم القانون لهُ حارسون. بنى عروشاً قد شيدت بقوت الجوعى، وقصوراً رُفعت على جثثِ الثكلى. أهي الحياةُ من تُقدر لي فعل ذلك أم أن قدري قبل مجيئي إلى هذا العالم الموحش قد كان محتوماً؟ يا ليتَ زادي في الدنيا كان ثمار شجرة الزقوم، وليت شرابي فيها بملوحة حبات عرق الكادحين، أمرانِ يا قدري قد حرتُ فيهما؛ الموتُ بدايةً، ونهايةً كيفَ أُهُلِكَ أباطرة مدينة اسمها سلوم؟ لأتركَ لعقلي الموصد بأغلال الجهل طريقاً يسيراً يتفكرُ فيه، وباباً يفتحُ مغلاقهُ بمفتاح المعرفة. ما أجهلكَ أيها المحقق الجاهلُ بقدسية القانون! وما أهونكَ على قادتكَ الظالمين! ألم تقل يوماً لأمك ما السعادة التي أنعمُ فيها؟ فأجابتكَ أن لا يُعلق في عُنقكَ قطرة دمٍ لمظلومٍ من المكلومين. أيّ سعادةٍ أستجديها اليومَ وبعنقي قد عُلقت أرواحٌ يا أمي! يا حسرةً على مصيركَ روميو.

(يصدرُ الصوت المرعب فيصعقُ روميو ويفيقُ اياغو).

اياغو: تخلى عني عقلي الجامح وترنح، لم يعد لجسدي عليه سلطة وقتذاك، رُفعت يدُ البطشِ التي نالت ممن عانوا آهاتِ الحسرة في الحياة، ليتني لم أُقدّر كبشرٍ يستنشق رائحة دماء صغارٍ بكوا آباءهم، مغفرةً أيها الربُّ جزاء قسمي الذي يبترُ قلبي.

(يصدر الصوت المرعب فيفيقُ شكسبير جزعاً).

اياغو: قل أيها الكاتب واعترف كيف كتبت التاريخ؟

شكسبير: جزاءً لمؤامرة القاضية جولييت، ورداً لمعروف المحقق روميو معي كتبتُ مسرحية تذوب فيها القلوب العاشقة، وتعلقُ الآمال الهائمة، وتتزاوج فيها الطيور المهاجرة، أقرُّ أني كتبتُ جزاءً لهما على مساعدتهما لي مسرحية روميو وجولييت.

اياغو: والأبرياء أولئكَ العشاق، كيف لعنتهم في التاريخ؟

شكسبير: هاملت وديدمونة عاشقان، ومثلهما عُطيل وأوفيليا، عمدتُ  إلى لعنهم في التاريخ بعد أَن أصدرت عليهم القاضية جولييت حُكماً ظالماً، أشردهم من خلال كتاباتي عن بعضهم بعضاً، أزرعُ الكراهية والشكَّ، الغيرة والحقد بينهما، قُمتُ يا سيدي بكتابة مسرحية عُطيل، وجئتُ بمعشوقة هاملت المدعوة ديدمونة وجعلتها معشوقة لعطيل في المسرحية، جعلتُ عطيلاً همجياً في شكه مما أدى إلى قتله لديدمونة، كما كتبتُ مسرحية هاملت وفعلتُ كما في السابق؛ جئتُ بمعشوقة عُطيل أوفيليا وجعلتها محبوبة هاملت الذي جعلتهُ يقتلُ والدها، فيذوب الحبُّ الزائف في وحل الدماء النجسة التي تجري في أجساد الخائنين أمثال شايلوك الذي جعلتهُ شخصيةً مرابية في مسرحية تاجر البندقية، وبتريشيو المنادي المسكين جعلتهُ شفقةً مني أن يكون الوحيد من يستطيع أن يروض كاثرين المجنونة في مسرحية ترويض النمرة، أما جرترود المتمردة فشتتها في مشاعرها وجعلتها تعيشُ تارةً حسرة وتارةً سعادة عندما جعلتها أُمّاً لهاملت في مسرحيته، أمّا اياغو الذي فتكَ بضميرهِ عندما أقسم اليمين فجعلتهُ صانعاً للقتل ظُلماً في مسرحية عُطيل، ينقمُ عليه كل من قرأ سطور المسرحية، فيا ليتَ عمري كان دون قلم أوداني إلى حبل مشنقة الزمن، فالتاريخُ أضحوكة لمن يُصدقه ودليلٌ لم يحلمُ به. 

(يصدر الصوت المرعب فيصعقُ اياغو وشكسبير ويفيق هاملت وديدمونة).

هاملت: كأساً شربناهُ معاً ديدمونة، ترتشفين منهُ وأرتشفُ أنا، فنبحرُ في أعماقه سابحين، وللقدر شاكرين.

ديدمونة: أهو الحبُّ الذي ينتصرُ رغم بطشِ الطغاة؟

هاملت: لا شيء غيرهُ ديدمونة، فهو من تتوق أنفسنا لتملكه والاغتنام بخلوده.

ديدمونة: لو تدري أيّ شيءٍ أصابني وشعرتُ به في مغيبكَ عني؟

هاملت: أيّ شيء يُصيبكِ وأنا الذي نذرتُ نفسي قُرباناً أتقربُ فيهِ إلى روحكِ!

ديدمونة: ألم الفراق… هذا الذي أبكاني في ليلي البائس، ما أروع القمر الذي كنتُ أراكَ فيه!

هاملت: عجزي أن الفراق ليس بفارس، وما هو بسائل منه الدمَ إن طعنتهُ بسيفي.

ديدمونة: يكفيني أنكَ على بطشهِ بي ثائرٌ، وأنكَ تعلمُ أنهُ لا يليق بي.

هاملت: عهداً لكِ سأقطعهُ، لن ينال الفراقَ منكِ إلا وقد غرسَ رُمحهُ بي.

(يصدر الصوت المرعب فيصعقُ هاملت وديدمونة ويفيق رجل الادعاء العام).

شايلوك: المكرُ شريعةُ الحاقدين، وقارب للنجاة يفرُّ فيه من أمام قول الحق المبين، سحابة تحملُ أمطار اللعنة يُحلقُ بها فوق رؤوس الآمنين، يقذفُ بعكرة مائها نقاء ألوان الزهور، فتذبلُ تبكي ألم القهر الذي قتل زهاء شبابها وأصبحت كالأشجار الكهلة قد شارفت على السقوط في أيّ حين.

(يصدر الصوت المرعب فيصعقُ شايلوك ويفيق بتريشيو).

بتريشيو: أُنادي للحق عند مطلع بصيص النور، أيها السادة ارحموا جوعى أكبر أحلامهم كسرة من خبز تنور، واعطفوا على رضيع قد جفَّ صدر أمهِ، واستمتعوا بالحبِّ الطهور، فهو شريعةُ المتعاقدين في هذه الحياة، وسلامٌ فيها على الآمنين. (يصدر الصوت المرعب فيصعقُ بتريشيو وتفيق المحامية جرترود).

جرترود: أقسمتُ أني لأحكامه من المطبقين، فإن كان للناس عليَّ رضختُ لهُ وأنا من الصاغرين، وانصعتُ لعدالتهِ طوعاً وإكراماً لأرواح كُرست في حمل عنائه حتى الفجر المبين، فما هي الحياةُ إن وليتُ نفسي ورغباتي وشرور نفسي! كيف أحيا بعد أن تزول هذه الدنيا؟ كيف ألقى من بالروح بي ألقى؟ ما نفعُ السلطةِ في الدنيا إن كان عليها رقيب؟ فيا ليت قومي يسمعون، ويا ليت لرحيلهم يعدّون.

(يصدر الصوت المرعب فتصعقُ المحامية وتفيق القاضية جولييت).

جولييت: ما بكِ يا أحكامي المعلقة؟ لماذا تجلدينني بأسواطكِ اللاذعة؟ صدقيني لقد غرر الحبُّ بي، أذعنتُ له ولرغباته النجسة فبتُّ ورقةً تتطاير يدوسها الصبية على أرصفةِ الطريق، ندمتُ في ليالٍ اشتدَّ ضميري في بكائه فيها، لكن كما تعلمين فالضميرُ يغيب، وأدخلُ من جديدٍ بين ضحكٍ ونحيب، عُذراً يا أحكام القانون، واعزفي ألماً يا أوتاره، فالقلبُ مُدمى والروحُ لفراق جسدها تُعاني سكرات العذاب.

  (يصدر الصوت المرعب فيصعقُ القاضية جولييت ويفيق عُطيل وأوفيليا في القفص)

أوفيليا: كُحلة العين سوداء، والعطرُ قد لبى النداء، وأنا من ترتدي لك أجمل رداء.

عُطيل: والفارس تصهلُ جواده، يلتقفُ المحبوبةِ مسرعاً إلى واده، وها هو أمامكِ قد نال مراده.

أوفيليا: تُراكَ أصبحتَ شاعراً عُطيل!

عُطيل: عجباً لحروفٍ عجزت عن وصفكِ.

أوفيليا: ابحث عن غيرها أيها الفارس، فجوادكَ الممشوق يسبق الريح.

عُطيل:  بل سأركبُ بساط الريح، باحثاً عن حروفٍ تليقُ بحرارة شفاهكِ.

أوفيليا: ويحك! أتغازلني وأنا ابنةُ الأمير، لأخبرنَّ عنكَ أبي.

عُطيل: أخبريه أني في هواكِ قد بتُّ مغروماً، وأن عشقي لكِ قد قدّر أنه مقسوم.

أوفيليا: حسبكَ أيها الفارس! قد شبه لي أنكَ الشاعرُ المجنون.

عُطيل: أجل أوفيليا… مجنونٌ هائمٌ في بساتين قلبكِ، ولا أرضى بغير ذلك.

أوفيليا: أعشقكَ أيها المجنون.

(يصدر الصوت المرعب فيُصعقُ عطيل وأوفيليا ويفيقُ شكسبير).

شكسبير: الحبُّ مقبرةٌ لناسكيه، بلاءٌ لا خير فيه، عذابٌ لأقوام أفصحوا أنهم من مُعتنقيه، كم من السالفين أُهلكوا في مغامرة التجربة فيه! أمطريني أيتها السماء غضباً، واطردي قلباً كان مُعلقاً فيه، يا أغصان الأشجار التي شهدت حكاياتهما كفاكِ جلداً بالذكريات، يا رياح الدعابة بينهم كفاكِ جراً لرمال عذاب الروح، فها أنا اليوم صريعاً سكنتُ قبوراً غير قبورهم التي زُرعت بالورود، تُسقى ولا أُسقى إلى يوم الخلود، تُحادثُ عن الربيع فيها، وأُحادثُ عن سقوطِ أوراقي في الخريف، كم أنتِ موحشةٌ يا عتمة الفراق، وما أقسى وسادتكَ أيها القبر! لم أجد في حياتي فارساً يبترُ يدي بسيف الحق، ويطعنُ صدري بخنجر يتامى المقهورين، ما أقذركَ أيها العقل عندما تبول، وما أبشع رائحتكَ عندما لجسدي الهالكُ تقول، ما ذنبي إن كنتُ أظنُّ نفسي صحيحاً، وإن كنتُ معتقداً أني الصواب أقول؟ يا لندامتي التي جاءت بعد رحيل، لماذا لم أسمع قول المرأة التي جاءت تسعى شفقةً علي؟ لا زلتُ أذكرُ كلماتها؛ اصمت ثم فكر ثم فكر، تروَّ ثم استنشق الحب، تأتيكَ نسائمهُ طوعاً ثم فكر ثم فكر، تروَّ ثم انطق بما يُمليه العقل بشيءٍ من القلب، وقل لا تلمني بما لا أملك. ما أقبحكَ شكسبير! وما أقبح قلمك!  رحمةً بحالي أيها القدر، رحمة بشموخي الوهن، ومجداً حسبتهُ كأبرهة الذي تربع على عرش عدن.

(يصدر الصوت المرعب فيصعقُ شكسبير، تُعتم الإنارة تدريجياً، يقطعُ الصوت بصدوره الاعتام فيفيقُ الجميع ببطءٍ شديد، وتنزل من سقف المسرح لوحة إعلانية عليها صور جميع الممثلين مكتوب عليها الصيغة التالية:

فرقة المصحة العقلية للمسرح المجنون

تقدم

مسرحية

هذيانات شكسبير

(يقفل الستار على موسيقى راقصة للممثلين)

تمت.

 

 


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock