مقالات ودراسات

‘حلم رجل مثير للسخرية’ دوستويفسكي في المسرح الفرنسي


أبوبكر العيادي 

ـ

 

“حلم رجل مثير للسخرية” مسرحية عن قصة للروسي دوستويفسكي، تعرض حاليا في مسرح بلفيل بباريس، وهي مونولوج رجل لا يسمى، تجربة وجودية يحتدم فيها الصراع بين الخير والشر، وتعالج ثيمات الكاتب الفلسفية كالعقيدة وحرية الاختيار وصراع القيم، التي نجدها في أعماله الكبرى مثل “الجريمة والعقاب” و”الإخوة كرامازوف”، والبطل هنا يستعين بالحلم ليعطي لحياته معنى.
قصة تجل وكشف وتحول مونولوج مطول لرجل لا يسمى
مسرحية “حلم رجل مثير للسخرية” مقتبسة من قصة طويلة ذات خمسة فصول وخاتمة، كان دوستويفسكي قد أدرجها ضمن كتابه “يوميات كاتب” قبل وفاته بأربعة أعوام. وتكمن قوتها في بطلها المجهول، الذي يعيش تحولات نفسية عميقة قبل أن يتلقى حقيقة آتية من غيب.
يتبدّى أول الأمر شخصا غريبا عن العالم بالمعنى الذي يصوره كامو، على يقين تامّ بأنه الوحيد الذي يعرف الحقيقة، لا يبالي بسخرية الناس من حوله، لأنه هو نفسه مقتنع بأنه مثير للسخرية والتندر.

وفي ليلة، راودته نية الانتحار، إلاّ أن طفلة صادفته، وكانت تبحث عمن يسعف أمها المريضة، أقنعته بالعدول عن قراره. فلما عاد إلى بيته، جلس على أريكة وأخذته سِنة من النوم، فرأى في ما يرى النائم أنه يطلق على نفسه النار، فيموت ويوارى التراب.

هناك يحس بالماء ينساب عليه بانتظام قطرة قطرة، كما في زنزانات التعذيب. وفجأة يظهر كائن غريب يحمله عبر الفضاء الكوكبي إلى أن يبلغ به بلدا يشبه مسقط رأسه، حيث يكتشف شعبا يعيش عصرا ذهبيا ملؤه البراءة والمحبة. وسرعان ما ولّد حضوره بين أولئك البشر الكذب والحقد والجريمة.

وفيما هم يهمّون بحبسه، يفيق من نومه، ويقر منه العزم على نشر “الحقيقة في أجلى معانيها”. ذلك أنه وعى بأن “البشر يمكن أن يحوزوا السعادة وهم يحيون حياتهم على وجه الأرض، وأن الحقيقة الوحيدة، التي تعود مرارا وتكرارا عبر تاريخ الإنسانية، أن على “الفرد أن يحب الآخرين كما يحب نفسه”. هي إذن قصة تجلّ وكشف وتحوّل، فالحلم هنا يصبح منهجا مساريّا في طريق حب البشر، قبل الانتقال إلى حب الله.

البطل في المسرحية لا يبالي بسخرية الناس من حوله، لأنه هو نفسه مقتنع بأنه مثير للسخرية والتندر
في هذا المونولوج الطويل، يمرّ السارد البطل بأطوار عديدة، إذ يظهر في البداية في حال بين الاعتداد بالنفس والجنون، يزعم خلالها أنه الوحيد الذي يملك الحقيقة، وينخرط في هذيان نرجسي ومازوشي يفخر فيه بأنه رجل مثير للسخرية، ما يجعل المتفرج ينفر من دعيّ ثقيل الظل. ويزداد النفور منه حدة بعد لقائه بالطفلة.

ومع ذلك عندما وعى بأن لقاء الصدفة ذاك قد أنقذه من الانتحار، وانخرط في حلم قاده من حالة القلق الوجودي إلى ضفاف أرض جديدة أحس فيها بالتحرر والأمان، حتى بدأ موقف المتفرج تجاهه يتغير، خصوصا حينما راح يصف ذلك العالم البديع المتناسق، والإحساس بالذنب الذي اعتراه لكونه دنّس شعبا بريئا وسعيدا، ودعوته في الختام إلى أن يحب الناس بعضهم بعضا ويتساموا في محبة الله، حيث يقول في الختام “كيف لا يكون لي ذلك الإيمان: أنا رأيت الحقيقة، لم أكتشفها عبر عملية ذهنية، كلا، رأيتها، رأيتها، فغمرت صورتها الحية قلبي”.

أمام هذا الحلم الغريب الذي يتحول إلى نوع من الاعتراف، تتجلى شخصية البطل بكل تعقيداتها، بشكل تجعل المتفرج نفسه يتحول في حكمه عليها، إذ يتعاطف مع سذاجتها، ويفاجأ بقوة أحاسيسها، ثم يندهش من التحول العميق الذي آلت إليه.

وقد رأى النقاد أن تحولات البطل صورة مما عاشه دوستويفسكي نفسه، فالمعروف أن الكاتب حكم عليه عام 1849 بالإعدام لعلاقته بمجموعة من المثقفين الاشتراكيين التقدميين بتراشيفكسي، ثم شفعت له الشعبية التي نالها عقب صدور روايته الأولى “المساكين” عام 1846، فتحول الحكم إلى أربع سنوات من الأشغال الشاقة قضاها في سجن أومسك بسيبيريا.

دوستويفكسي عمل في سائر أعماله على إبراز تلك الحقيقة، وما هذا الحالم الغريب إلاّ خلاصة شخصيات رواياته الكبرى
هناك التقى بروسيا العميقة كما يقول، وهناك أيضا اكتشف الرحمة الإلهية وعشق الرب والمسيح. وقد عبر عن تلك التجربة بقوله “لم تكن تلك الأعوام عقيمة، فلئن أخذ مني السجن الكثير، فقد علمني الكثير”.

ومما تعلمه هو ذلك التحول العفوي الذي يطرأ على المرء، ذلك الانقلاب المفاجئ في سلوكه، الذي ظل مجهولا في طبيعة النفس البشرية، قبل أن يعالجه الكاتب في أكثر من رواية. فالإنسان، كما يقول آلان بوزنصون الباحث في مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية، يجهل نفسه، ولا يعرف ماذا يمكن أن ينتج تحت تأثير مستجد.

وقد عمل دوستويفكسي في سائر أعماله على إبراز تلك الحقيقة، وما هذا الحالم الغريب إلاّ خلاصة شخصيات رواياته الكبرى مثل مويشكين في “الأبله” ورسكولنيكوف بطل “الجريمة والعقاب”.

لقد حرص الممثل القدير جان بول سرماديراس على نقل أطوار تلك الشخصية الإشكالية في مسارها الواقعي والحلمي والروحي، بفضل زهد في الحركة وعمق في الإلقاء، ساعدته في ذلك بساطة في الإخراج واقتصاد في الديكور، حتى يتعلق اهتمام المتفرج بخطاب يبدو في هذه المرحلة طوباويا، وربما مثيرا للسخرية.

وفي المقابل “ألم يكن ينظر إلى الطوباويين، من غاندي إلى الأم تيريزا مرورا بمارتن لوثر كينغ، على كونهم مثيرين للسخرية لمجرد أنهم نذروا حياتهم لنقل رسالة محبة وسلام؟”، يقول المخرج أوليفيي إيتييه.

ـــــــــــــــــــــــ

العرب 


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock