د. آمنة الربيع تكتب: كوميديا قليلة الأدب! (2ـ 1)
المسرح نيوز ـ القاهرة | مقالات ودراسات
ـ
كوميديا قليلة الأدب
د. آمنة الربيع
عندما كتب المسرحي الإنجليزي Peter Levin Shaffer مسرحيته (الكوميديا السوداء) في عام 1965م لتدور معظم أحداث المسرحية في الظلام، بالرغم من أن الرُّكح مضاء! ثمة ما يجعلنا نضحك ونُدهش من حال الشخصيات. ولا أعرف ما الذي كان يمكن أن نعتقده بعد ذلك بسنوات عندما كتب مسرحيته الكوميدية (Lettice and Lovage) سوى أن الكوميديا السوداء هي الشق المعادل لحياة الأدب الرفيع، وللتراجيديا بوجه خاص. واكتشاف مثل هذا ليس به أيّ نوع من الذهول! فالحياة تسير بخلطة معجونة من السحر والضحك والفقد. ولكن ما يدعوني إلى الكتابة حول هذا الشيء غير المذهول هو أن الكوميديا المعروفة بالسوداء اليوم لم تعد كذلك. والسبب أنها “كوميديا قليلة الأدب”؛ أي تخلو من أسلوب الأدب الرفيع. ذلك الأسلوب الذي وصفه الناقد الإغريقي لونجينوس، والمتأخر عن عصر أرسطو طاليس أنه يجعلنا حينما نقرأ قصيدة أو نشاهد عملا فنيا، نشعر بالأثر الفوري من زخم العاطفة، وأن هذا الزخم هو الذي يجعلنا نتحرك أو نهتز في أماكننا، ولا يحدث ذلك الأثر إلاّ مع الأعمال الأدبية والفنية ذات الرفعة، فهي التي تحرر طاقتنا السلبية وترتفع بأرواحنا إلى السمو. ويعتقد لونجينوس أن مصدر إصابتنا بنبالة وجلال العمل الأدبي والفني يكون في اللذة الفورية، لذة تتأتى معا من الأدب والصفات الإنسانية السامية.
والبحث عن معنى الصفات الإنسانية السامية، هو البحث عن إنسانية الإنسان. وعلى مر السنين والدهور كان اشتغال الفلسفة والدين والعلوم الإنسانية في تاريخ الأدب وفي الحضارة، هو البحث عما يجعل هذا الإنسان إنسانا ضمن منظومة من القيم والأخلاق والقوانين والتشريعات جاءت لتنظم علاقته بالطبيعة وبالكائنات.
والكوميديا أنوع، منها كوميديا الأفكار، وكوميديا الأمزجة، والبطولية، والبورجوازية، والحبكة، والدامعة، وكوميديا ديللارته، وكوميديا الصالون، والعادات أو السلوك والطباع، والكوميديا الموسيقية والسوداء. ومصطلح الكوميديا السوداء أستعمل مرجعيا لتوصيف مسرحيات لا علاقة لها بالكوميديا. صحيح أن هذه الكوميديا تمتاز بأن نظرتها للحياة نظرة متشائمة وتعتمد على السخرية لإظهار تشاؤمها إلاّ أن قدرا محتوما من الضحك الموجود بها لا يجعل نهاياتها عسلا ولبنا وقشاطا. وتاريخيا فالكوميديا السوداء تتصل بالكوميديا في أعلى مراتبها سموا ونبلا. ففي لحظة الحاضر البهية التي أعلن فيها جون شتاينر موت التراجيديا، كان علينا أن نعود للوراء لنقف بتأمل وصلاة عند مقولة نيتشه المقدسة “كي تجني من الوجود أسمى ما فيه، عشْ في خطر”؛ والخطر النيتشوي يشير إلى تخلّق الحرية والذهاب بها ومعها عميقا نحو الأقاصي والتخوم؛ والحرية معناها لديه أن “لا يأبه الإنسان للعناء والقسوة والحرمان”، وواضح مع الإحاطة بالخطر، قناعات نيتشه الفلسفية وهي تحفر في مفهومه الاستعلائي للإنسان الأعلى الذي نادى به. إذًن فغياب التراجيديا أو موتها وتلاشي فكرة العالم المثالي والأبطال العظام فتح الباب لوجود الكوميديا وهيمنتها. وبحسبة بسيطة وساخرة، إذا قلنا بحسب خارطتي الجغرافية أن ثلاث أرباع سكّان العالم هم من الفقراء والمعدمين والمهمشين والعشوائيين والباحثين عن عمل، والربع المتبقي منه يشكله الأغنياء ذوي الرساميل الفاحشة، فإن الكوميديا السوداء ستكون أكثر تمددا وامتدادا عن التراجيديا، لأن الكوميديا بكافة أشكالها الآنفة الذكر أكثر التصاقا بالواقع اليومي وأكثر ارتباطا بالحياة العادية من التراجيديا. وقد كان جمهور الكوميديا دائما أوسع (3\4) سكان العالم وأكثر تنوعا ففيه الأحدب والأكتع، والأعمى، والأصم، والساذج، والفهلوي، والفقير، والمعتوه، والقبيح، والمحدودب الظهر، والمبتور الساعد والقدم، ويتقدمهم بدرجة في سلم الحياة الاجتماعية الكريمة مجتمع التكنوقراطيين، أما عالم التراجيدين الكبار فيُنتسب إليه ذوي الجشع والبخل والاستلذاذ بالانتفاخ الاجتماعي المزيف. إنهم تراجيديون بائسون بحكم انتمائهم إلى نظرية الإنسان الأعلى أو المتفوق، مع الاعتذار لنيتشه. وغالبا ما تكون شخصيات الكوميديا مستقاة من الحياة الواقعية، فتتكون من لحم ودم وبراز، ولديها أبعادها الاجتماعية السحيقة وسلوكياتها الجميلة والشائنة، لذلك تحمل في تكوينها إمكانية قابلة للنقد، بينما شخصيات التراجيديا ترى نفسها فوق النقد وفوق (النكد) وإذا كان الإنسان التراجيدي معقدٌ في تكوينه منذّ طفولته وانتهاءً بمصيره المأسوي الحّاد [لنتذكر أوديب مثالا] فالكوميدي بسيط في تكوينه، لدرجة عاب النقاد عليه سهولة تحوله إلى أنماط.
وحتى لا يجري الخلط ما بين الكوميديا السوداء والضحك، ثمة فروق أدرجها النقاد أو استنتجوها من تاريخ الأنواع الأدبية. من ذلك على سبيل الاستشهاد أن حضور الكوميديا لا يعني وجود الضحك، فالضحك ليس شرطا لوجود الكوميديا. وإذا كانت الكوميديا من حيث هي نوع مسرحي وأدبي، فإن أفعال الضحك والمضحك والإضحاك تتجاذبها دراسات نابعة من علوم اجتماعية ونفسية وفلسفية همها دائما التركيز على كل تأثير يحدث على المتلقي في لحظة مشاهدته لعمل فني أو في أثناء قراءته لعمل أدبي ضمن مجموع حلقة بحثية. ومع هذه الفروق الإشكالية فلسفيا وجماليا وتاريخيا، يُنظر مثلا إلى ما كتبه صموئيل بيكيت على أنه كوميديا سوداء، وتندرج بعض أعمال جون آنوي وفريدريك دورنمات وتشيخوف وأوجين يونسكو ومسرحية (مهاجر بريسبان) للبناني جورج شحادة و(تاجر البندقية) لشكسبير ضمن هذا الإطار. ومن ضمن رؤيتي أن مسرح العبث أو اللامعقول هو اشتغال مسرحي فلسفي وجمالي وسياسي معا، فإن ما أطلقه النقاد وما صنفوه من أعمال وصلت إلينا تحت مسمى (مسرح العبث أو اللامعقول) وصار الكتّاب يحاكون عوالم مسرحياتهم النفسية على غرار ما قدمه الطليعيون بفهم مغاير لمفهوم العبث فتغوص المسرحية في هذيانات لا رابط لها، ولا فكرة، ولا هدف واضح ومخطط له، قد وصل حسب تقديري إلى عندنا بتطور محدود على صعيد الشكل، في حين غاب عن هذا التطور الفكر الفلسفي الذي يعزز من أطروحات اللامعقول. وهذا ما حدى ببعض الدراسات النظر إلى تراجع خطابنا المسرحي لهيمنة نظرية وأيديولوجية محددة على واقع الحراك الثقافي المسرحي. فعلى سبيل الاستشهاد ترى نهاد صليحة أن أطول نظرية درامية سيطرت على المسرح الغربي منذ أرسطو وعصر النهضة وعصر التنوير وحتى القرن العشرين هي النظرية الأرسطية. وأن سبب ذلك يعود لتشابه الأيديولوجية التي بطنت النظرية الأرسطية للدراما مع جوهر الأيديولوجيات التي تلتها. ولم تحدث موجة للثورة على تلك الفلسفة إلا مع برتولد بريخت فيلسوف المسرح الملحمي. وعربيا حينما تأثرت بعض الكيانات السياسية بمنظومة الفكر الإشتراكي والماركسي تأثر المسرح بنظريات بريخت وبشغله الملحمي تأثرا واسعا، وبانتهاء الفكر السياسي آنذاك وبتوجيه النقد للزعامات السياسية التي تبنته تلاشى المسرح الملحمي (فكرا وأسلوبا) وبات لا يوظف اليوم إلا في استثناءات جمالية قليلة.
إذًن فبيكيت ويونسكو كتّاب مسرح كوميدي الطابع، ويبدو حسب المعجم المسرحي أن الفارق بينهما وبيننا عربيا كالفرق بين نخلة في عُمان ونخلة في إشبيلية. فرواد مسرحنا العربي كمارون النقاش ويعقوب صنوع اعتبروا أن بخيل موليير (دختر شايل سمك) أقرب إلى ثقافة مجتمعاتنا العربية ومتفرجنا المحلي، فمزجوا ما بين الفصحى واللهجات لشد انتباه المتفرج لتعريفه وتثقيفه وتحبيبه لهذا الفن الوافد. وبالمضي قُدما ولأجل الكوميديا ابتدع نجيب الريحاني شخصية (كشكش بك)، وعلي الكسار شخصية (البربري عثمان)، وجورج دَخول شخصية (كامل الأصلي)، ليعتبر محمود تيمور وعلي الراعي “أن الأشكال الكوميدية الشعبية يمكن أن تشكل مفتاحا لتطوير الظاهرة المسرحية العربية وربطها بواقع المتفرج العربي لأنها أكثر قدرة على استيعاب أشكال الفرجة المتنوعة.”
وقبل أن أقف عند مواصفات العمل الكوميدي الأسود مسرحية (Lettice and Lovage) للمسرحي بيتر شافر بتحليل ما استفزني فيها من اشتغال على صعيد الفكرة وبحث المؤلف عن جماليات الفعل الدرامي في حدود النصّ أشعر أنه من العتب المرور لتتبع أسلوب الأدب الرفيع بالمسرحية، من دون الوقوف عند أهم مؤسس لمسرح الكوميديا السوداء ذات الطابعين السياسي والضاحك أرسطو فان.
وللحديث بقية