مقالات ودراسات

د. سيد خاطر يكتب في مديح مونودراما ..”سيلفي مع الموت”..مباراة التحدي الفني وإيقاظ الوعي!


المسرح نيوز ـ القاهرة | د. سيد خاطر

أكاديمي مسرحي مصري

ـ

بأنامل موهبتها تعزف كل ليلة علي أوتار أدواتها وقدراتها الإبداعية لتشدو بهمومها وصراعها مع النفس في مونودراما ( سيلفي مع الموت ) ، ليفيض عبير من نوع خاص يُغلف جنبات قاعة العرض بمسرح ميامي ، ويتخلل المقاعد ويتسرب إلي الطرقات مخترقاً بكل رُقي عقول وأفئدة وجوارح جمهور الحاضرين ، فإذا بهم يبتسمون تارة ، ويضحكون أخري ، ويتأملون ثالثة ، وقد يبكون بمرارة تارة رابعة وكأنهم يتطهرون من أوجاع النفس .. وآلام الحاضر .. ووخزات الضمير .

إنها القديرة المُبهرة نشوي مصطفي التي أصقلتها دون شك سنوات الخبرة الفنية ، وأكسبتها تجاربها العملية نكهة ومذاق النضج الفني ، فأشرقت بسيمفونيتها المسرحية بعد غيبة طويلة عن فضاءات المسارح ، لتُفاجئنا بملكات وأدوات إبداعية قد طورها الزمن حتي باتت منحوتة علي جدران موهبتها التي احتبستها _ لا أدري عمداً أم قسراً وإجباراً _ لسنوات طوال انصرفت خلالها إلي العالم ( الأربح مادياً ) وليس الأرحب فنياً ، عالم الدراما التليفزيونية وأحياناً السينمائية .

لقد قررت نشوي مصطفي _ مؤخراً فيما يبدو _ أن تكون وسيلتها لإحداث الدهشة لدي جمهورها هي المسرح ، ذلك النوع الفني الكاشف _ وبكل تأكيد الفاضح _ لحقيقة الموهبة ، حيث العلاقة المباشرة بين الممثل والجمهور دون وسيط ، في لقاء حي ينعم خلاله طرفا المعادلة بالإرسال والاستقبال الحر غير المُقيد بدواعي الإعادة بغرض الإجادة ، فالمسموع والمرئي وليدان للإحساس باللحظة الدرامية ، ورباطهما السُري في تلك المعادلة غير قابل للاستئصال ، إنما يظل شاهداً علي صدق المعايشة .. وربما زيفها ، وتزداد _ إلي حد بعيد _ صعوبة التجربة المسرحية الحية الفريدة .. عندما يقرر المبدع أن يتحمل منفرداً عناء ومشقة الاضطلاع بمسئولية أن يكون طرفاً وحيداً في مواجهة طرف المعادلة الآخر وهو الجمهور .. ذلك الطرف متعدد الأمزجة ، والأهواء ، والثقافات ، والمستويات الاجتماعية والاقتصادية ، وبالتأكيد الميول السياسية ، هنا يكون التحدي من جانب الفنان ، التحدي للذات أولاً وأخيراً ، التحدي الذي يستلزم بالضرورة ثقة متناهية بالنفس وبالقدرات ، إنه باختصار التحدي المُقامر ، فإما أن يربح الفنان الربح المتفاوت بين المقبول والممتاز ، وإما أن يخسر خسارة فادحة ويكون الخذلان نصيبه وفضح النفس جزاءه ، وللحق فقد ربحت نشوي مصطفي في تجربتها الحالية ( مونودراما سيلفي مع الموت ) واستحقت الامتياز مع مرتبة الشرف .

وتأكيداً لوصف التحدي الذي نُلصقه بممثل المونودراما .. نشير إلي أنه يحمل علي عاتقه كل الأعباء ، فهو مُطَالب بأن يملأ فراغ المسرح صوتاً وحركة مفرداً ، حيوية وتلاحقاً وشداً وجذباً دون ملل ولو لبرهة من الزمن ، إنه مُطًالب أن يقنع الجمهور بأن هناك صراعاً يجري ، غير أنه صراع من نوع خاص في حقيقة الأمر ، هو صراع أقرب إلي الأُحادية ، إنه صراع النفس الذي يُعد من أهم سمات المونودراما ، ولذا فغالباً ما تقتصر موضوعات ذلك النوع المسرحي علي هموم الفرد بعيداً عن هموم المجتمع ، فإن تطرق المؤلف إلي الهموم المجتمعية فهو تلميح من منظوره الخاص ورؤيته الذاتية ، وفي الحالتين فعبء الطرح يتحمله ذلك الممثل الأوحد الذي يسعي قدر طاقته لاستغلال كافة مهاراته الأدائية ، فإن أعانه المخرج .. فعلي استحياء .. بمفردات رمزية بسيطة سينوغرافياً .. بما يشمله المعني صورة وصوتاً .

أربعون عاماً تقريباً مرت علي مصر منذ مولد المونودراما التي تعني عرض الممثل الواحد One Man Show ، وفي أصلها اليوناني Mono أي المؤدي الفرد ، وللحق _ تقصيراُ مني دون شك _ لم يحالفني الحظ لأشاهد عروضاً مسرحية من نوع المونودراما إلا من خلال مسرح الطليعة قديماً ، رغم تواصلها حتي يومنا هذا ، فأذكر ( أشجع الرجال ) من إخراج الراحل الدكتور سامي صلاح وبطولة الفنان محمد فريد الذي اجتهد في استعراض قدراته في التمثيل والعزف والغناء وتحريك العرائس ، كان العرض بقاعة زكي طليمات قبل أن يستحدث أستاذنا المخرج سمير العصفوري عام 1979 قاعة صلاح عبد الصبور التي شهدت عروض المونودراما ( ومن العطس ما قتل ) تمثيل وإخراج الفنان الراحل أحمد راتب ، و( التربيع والتدوير ) تمثيل الفنان أحمد ماهر وتأليف عز الدين مدني وإخراج القدير مدير المسرح آنذاك ومؤسس القاعة سمير العصفوري ، و العرض الاستثناء ( الحصان ) تأليف كرم النجار وبطولة الأسطورة سناء جميل .. إخراج العلامة أستاذنا المخرج أحمد زكي .

وبالأمس فقط مر شريط ذكرياتي مع عروض مسرح المونودراما وأنا في طريقي لمشاهدة عرض ( سيلفي مع الموت ) الذي أفضل ألا أخوض في تفاصيله وجزئياته بدءاً من الكلمة المكتوبة لصاحبة التجربة نشوي مصطفي ، ومروراً بالسينوغرافيا لشباب المبدعين دينا فتحي ومصطفي التهامي وأبو بكر الشريف ، وانتهاءاً بالإخراج لمايسترو تلك السيمفونية المبدع الموهوب المتألق دائما محمد علام ، الذي لا أملك إلا أن أعاود التعبير عن الاعتزاز به وبفنه ، وتقديم التحية له عن كل عمل فني مسرحي يبدعه وأسعد بمشاهدته مستبشراً به كل الخير في مستقبل مشرق واعد للمسرح المصري إن أحسنت مؤسسة الثقافة ببلدنا احتضانه مع كثيرين من أبناء جيله الموهوبين ” المعجونين ” كما يُقال .. بحب المسرح والإخلاص لرسالته السامية التي لا تُسمن ولا تُغني من جوع بكل أسف ، لكنهم رغم هذا علي الدرب سائرون .. جزاهم الله عن كل المسرحيين ومحبي هذا الفن الرفيع خير الجزاء .

لم أشأ الخوض _ كما ذكرت _ في تفاصيل وجزئيات عرض ( سيلفي مع الموت ) حتي لا أفسد علي القاريء فرصة الاستمتاع بمشاهدة العرض ، والانتشاء بحالة الدهشة التي يحققها في إطارٍ مكانيٍ عبقري ، حيث اجتزاء عدد من مقاعد المتفرجين الأمامية بصالة المسرح الكبيرة ، الثُلثُ تقريباً ، ليتحول هذا الجزء المُقتطَع إلي شبه قاعة صغيرة .. هي الأوقع والأنسب لمثل هذه النوعية من العروض .. حيث تُعَمق الإحساس بالتلاحم الإنساني الذي لم يُفْقِدُهُ رونقه إلا استخدام ( المايك ) ، وقد اقترحت علي الفنانة نشوي مصطفي والفنان محمد علام أن يُجربا الاستغناء عنه .. ليتردد صوتها بنبراته المعبرة طبيعياً ملامساً لشغاف العقول والأفئدة ، وأرجو أن يستجيبا لهذا الاقتراح .
إ

نها رحلة تستغرق خمسين دقيقة لا أكثر .. رحلة تفيض عذوبة وشجناً .. رحلة نفس بشرية صاغتها مؤلفتها وبطلتها من واقع تجربة شخصية ، إذ تنفرد بصورتها ( السيلفي ) مع الموت ، لنكتشف في نهاية المطاف أن كلاً منا يختزن صورته الشخصية( السيلفي ) مع الموت .. دون أن يدرك ، إلا أن نشوي مصطفي ومحمد علام قد أيقظا الوعي لدينا بوجود تلك الصورة ، لنجدنا مدفوعين لتأملها ونحن نردد أروع كلمات شاعرنا الراحل صلاح عبد الصبور : يا موتانا .. ذكراكم قوتُ القلب .. في أيامٍ عَزَتْ فيها الأقوات .. لا تنسونا حتي نلقاكم .. لا تنسونا حتي نلقاكم .

ولا يجدر أن تفوتني ضرورة توجيه التحية للأستاذ أحمد السيد مدير عام المسرح الكوميدي منتج العرض ، لجرأته بتبني هذا العرض الذي رَفَضَت _ كما علمت _ فرق أخري إنتاجه علي الرغم من أنه ينتمي إلي نوعية العروض المنوط بتلك الفرق إنتاجها ، لقد خسرت هذه الفرق كثيراً في واقع الأمر ، وكسب أحمد السيد الذي يصر علي النجاح ، والذي لا يألو جهداً في إتاحة الفرص لأجيال من المبدعين منذ إدارته لفرقة مسرح الطليعة ، ثم انتقاله لإدارة فرقة المسرح الكوميدي ، فأمنيات بمواصلة المسيرة بذات الحكمة والرُشد ، ودعوات له بمواصلة العطاء والنجاح .

وأخيراً .. فإن نوع ( المونودراما ) شكل مسرحي منتشر في جميع أرجاء العالم ، تحتفي به العديد من المهرجانات المسرحية عالمياً وعربياً ، لعل أشهرها علي المستوي العربي ( مهرجان الفُجيرة الدولي للمونودراما ) الذي يُعقد في شهر يناير من كل عام منذ عام 2008 تقريباً ، وأجدني متحمساً لنشوي مصطفي ومحمد علام بترشيح مُنتجَهما الإبداعي المسرحي ( سيلفي مع الموت ) لتمثيل مصر في هذا المهرجان ..


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock