د. طارق عمّار يكتب عن وحيد حامد: سيد الدراما .. وبطله الهامشي!
المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات
ـ
د. طارق عمار
كاتب وشاعر وناقد مصري
الشخصية الدرامية ليست مجرد اسم أو كلام يقال ، إنها اللبنة الأساسية وحجر الزاوية للعمل الدرامي والذي من خلاله تتوالى الأحداث ويتتابع تسلسل الدراما راسماً مسارات الحبكة . لذلك فإن الاعتناء ببناء الشخصية الدرامية هو سمة رئيسة للكتاب الكبار يمتازون بها دون غيرهم فعندهم لن تجد شخصية مفتقرة لدوافع الفعل وعندهم لن تجد شخصية تثرثر بكلام لا يمكن أن تقوله ، وعندهم كذلك لا تنطق الشخصية إلا بما يفيد الحدث الدرامي دون أدنى وجود لجمل مجانية
وعندما تشاهد فيلم طيور الظلام من المؤكد سوف تتوقف طويلاً أمام “فتحي نوفل” القروي الفقير الذي تعلم في الجامعة وتخرج في كلية الحقوق . شاب مصري عادي لكنه يتميز بذكاء شديد وبراجماتية واضحة ونزعة غير طبيعية لانتهاز الفرص للتحسين من وضعه المادي والأدبي والاجتماعي .
ولكي تبني شخصية كتلك أمامك مساران ، إما أن تستعرض في بدايات الفيلم التاريخ السابق لفتحي وبذلك تعتمد طريقة البناء الخطي للشخصية حيث تظهر ملامح الشخصية شبه المكتملة بعد دقائق قليلة ، أو أن تعتمد الأسلوب المضمر اللاخطي في بناء الشخصية – وهو ما حدث في الفيلم – فتشاهد فتحي في أروقة المحاكم يقبل قضايا تافهة أتعابه فيها ربما لا تتجاوز “كيلو كباب” وزجاجة من الخمر الرديء وليلة تقضيها عاهرة في فراشه لكنه مع ذلك يشع ذكاءاً فيختار بنفسه صديقه “علي” المحامي الملتحي المنتمي لليمين المتطرف لأنه قرأ في وجه القاضي ميلاً طبيعياً لتصديق هذه الشاكلة من المحامين . ثم تراه في زيارة للقرية لتعرف الخلفية الاجتماعية الفقيرة التي ينتمي لها .
ثم الاستعانة به من قبل محام شهير للبحث عن ثغرات فنية في القضية وتقاضيه لمبلغ ربما لا يوازي 1% من أتعاب “الباشا” الكبير لكنه “نواية تسند الزير” أو فرصة يج=ب اغتنامها . لا يضيع فتحي وقتاً فعندما يعرفه “الباشا” الكبير على مجتمع الصفوة لا يتردد في انتهاز الفرصة ليتقرب مباشرة من وزير مرموق ليتحول فتحي المحامي “الكحيان” إلى كاردينال رمادي يتحكم في حياة معالي الوزير بل ويمهد الطريق لإحدي العاهرات للزواج به ويقيم معها أعمالاً تجارية خاصة لكنه يمتنع عن إقامة أي علاقة أخرى معها في إبراز واضح للخلفية الريفية بالجملة الشهيرة “الست اللي تقبل القسمة على اتنين ما تلزمنيش” لكنها تظل ذراعه التي تراعي مصالحه التجارية رغم ذلك .
كل ذلك سيدفعك للتساؤل هل فتحي مؤمن بالنظام القائم لدرجة مساعدته المباشرة وتسخيره لذكائه ليثبت هذا النظام أركانه؟ تأتي الإجابة في براعة فائقة عندما تظهر شخصية “محسن” الزميل الثالث الياسري الحالم بالعدالة والاشتراكية وتدخل فتحي في حياة محسن محاولاً تغييرها . فتحي إذن ليس يمينياً مثل علي ولا يسارياً كمحسن لكنه ببساطة كذلك سيبحث عن مكان تحت شمس الفساد وبمنتهى القوة والإصرار .
حتى عندما يدخل السجن وبحكم درايته القانونية يعرف أنه سيخرج كما يعرف أن علي سيخرج وأن الصراع سيدور بينهما .. الفاسد والمتطرف !! تلك الرسالة الضمنية التي يرسلها وحيد حامد للجمهور والتي تتسق مع مبدأ سياسي واضح وهو أن الأنظمة الفاسدة تنتج معارضات ربما تشبهها في الفساد كذلك حتى وإن انتمت إلى تيار اليمين الراديكالي .
بذرة أخرى يضعها وحيد حامد في شخصية فتحي عند لقائه بسيدة الأعمال التي تواجهه بحقيقة نواياه وتوافقه على الزواج ومساعدته في أن “يخبئ ثروته الفاسدة داخل ثروتها التي لن تخلو من الفساد” لتكتمل أركان شخصية البطل القادم من قاع المجتمع إلى قمته على سلم الانتهازية دون انتماء سياسي أو وطني أو أخلاقي والذي يتأكد في جملة “روح خدهم منه” عندما يطالبه أحدهم برد رشوة أخذه والده قبل أن يموت لتوظيف أحد الأبناء ..
شخصية رسمت بمنتهى البراعة ودون مواربة وبطريقة معقدة لا تحرق لك كافة أوجه الشخصية دفعة واحدة ، بل وتضعك في مأزق مواجهة الذات فأنت لن تفقد التعاطف مع فتحي بسبب الظروف التي دفعت به للفساد ولكنك كذلك لن تحزن عليه عندما يسجن ويلقى جزاءه . وكأن وحيد حامد يريد أن يقول أن “طيور الظلام” – وهو اسم الفيلم – ليست فقط جماعات التطرف والإرهاب لأنها مجرد وجه واحد لنظام فاسد متهرئ متصابي تثمله حكومة تضم “رشدي الخيال” كوزير بها . طوير الظلام هي أركان النظام الفاسد كلها سواء كانت في صفوف الحكومة أو في مقاعد المعارضة .
صرخة تحذير مدوية تنطلق في تسعينات القرن الماضي لتحذر مما سيحدث إن تركنا الفساد يرعى في جسد المجتمع ولم ننتبه إلى أن الفساد أرض خصبة لظهور التطرف والإرهاب .
سلام لروحك التنويرية يا سيد الدراما .. صرخت فينا بما يكفي .. لعلنا نفيق !!