مقالات ودراسات

د. علي خليفة يكتب: شخصية المهرج في المسرح المصري الحديث


المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات

ـ

د. علي خليفة

 

(1)
لا أعتقد أنه توجد أمه لا يرى بها مهرج يقوم بإضحاك من حوله، وبعث البهجة في نفوسهم، لا سيما من الأطفال، وفي الأمم القديمة التي لم تعرف المسرح – كالعرب – كان المهرج _أو المضحك_ بديلاً للمسرح، فهو يقوم بتأليف الحكايات المضحكة وتمثيلها وإخراجها وحده أو بالاستعانة بغيره معه في ذلك.
وليس لدينا معلومات واضحة عن المسرح الفرعوني غير الطقسي، ونظن أنه كان موجودًا إلى جوار المسرح الطقسي، فهناك إشارات لوجوده، كما وضح هذا إيتين درايتون في كتابه “المسرح المصري القديم”، وأظن أن شخصية المهرج كانت حاضرة فيه.
ولم أر فيما قرأته مما وصلنا من المسرح الإغريقي وجود هذه الشخصية فيه بشكل واضح وصريح، ومع ذلك فغالبًا ما يتم تصوير العبيد بشكل ظريف في المسرحيات الكوميدية لأرسطوفان؛ مما يجعل العبد في هذه المسرحيات قريبًا من المهرج في ظرفه وتنكيته وسخريته، كما نرى في مسرحية “السلام”، ومسرحية “الضفادع”.
وكذلك لم أر هذه الشخصية فيما قرأت من مسرحيات رومانية وصلت إلينا، ولكن بعض العبيد في المسرحيات الكوميدية لبلاوتوس وترينتيوس كانوا يقومون بأدوار قريبة مما يقوم به المهرج، كما نرى في مسرحية “الحماة” لترنتيوس، ومسرحية “كنز البخيل” لبلاوتوس.
وفي مسرح العصور الوسطى كان يتم تجسيد الشيطان وأتباعه من الجن، بأسلوب ساخر من أجل الضحك والسخرية، ونرى في الكوميديا ديلارتي أنماطًا كوميدية قريبة من المهرج.
ولعل شكسبير كان أول كاتب مسرح يهتم بشخصية المهرج في مسرحه، وعلى الرغم من أنه يقوم بأدوار ثانوية فيه – فإن أثره في هذه المسرحيات مهم، وفي المسرحيات التراجيدية التي يظهر فيها المهرج في مسرح شكسبير يكون دوره في تخفيف الأثر المأساوي فيها، كما نرى في مسرحية “الملك لير”، في حين يقوم في المسرحيات الكوميدية بإضفاء الفكاهة والنقد الساخر فيها، كما نرى في مسرحية “الليلة الثانية عشرة”، ومسرحية “العبرة بالخواتيم”.
ولم أر فيما قرأته من مسرحيات موليير وجودًا لهذه الشخصية بصفاتها المعروفة عنها، وأعتقد أن موليير لم يكن محتاجًا في مسرحياته الكوميدية لهذه الشخصية؛ لأن مسرحياته فيها أنماط كوميدية متطرفة في سلوكها، ومن خلال المواقف التي توضع فيها تلك الشخصيات تنشأ الكوميديا فيها، ومع ذلك يمكن أن نقول إن شخصية سكابان في مسرحية “مقالب سكابان”، وشخصية “سجاناريل” في مسرحية “الطبيب رغم أنفه” – شبيهتان بالمهرج؛ لما نراه من قيامهما في هاتين المسرحيتين بأفعال تشبه أفعال المهرج.
(2)
وقد زاد الاهتمام بشخصية المهرج في المسرح الحديث، وغالبًا ما يكون دوره رئيسًا في تلك المسرحيات التي يوجد فيها، في حين كان دوره ثانويًا في المسرحيات التي وجد بها في المسرح القديم.
وأيضًا نرى شخصية المهرج في المسرح الحديث يتم عرضها فيه ليس من أجل الضحك والتنكيت – وإن كان هذا يمكن أن يوجد – ولكن من أجل إعطاء نظرة وموقف من الكون والحياة، كما نرى في مسرحية “المسامر” لجون أوزبورن، ومسرحية “أسكوريال” لميشيل دي جلدرود.
ففي مسرحية “المسامر” نرى المهرج يأسى لقلة الاهتمام بفنه، وينتقد مجتمعه الذي يتغير بفعل التطور العلمي، وفي مسرحية “أسكوريال” نرى المهرج يواجه ملكًا ظالمًا مستبدًّا، يسىء إلى زوجته التي يحبها هذا المهرج، ويتلذذ هذا الملك بأسلوب المهرج معه؛ في الإساءة إليه وتعنيفه، ولكن حين يعرف المهرج نبأ موت الملكة يرتد له ضعفه، فيبطش به الملك، ويقتله، وكأن رسالة هذه المسرحية أن الضعفاء لا مكان لهم في هذا العالم الذي صارت القسوة شعاره.
(3)
ونصل في عرضنا لشخصية المهرج في المسرح الحديث بالحديث عنها في المسرح المصري المعاصر. ونرى أنها قد تم تقديمها فيه بأشكال مختلفة، ومنها أنه تم تقديم المهرج فيه بالشكل القريب من صورته في التراث العربي والإنساني.
وليس بغريب أن يكون تعامل كتاب المسرح المصري في العصر الحديث مع شخصية المهرج – في الفترة التي كان النص المسرحي المصري والعربي يبحث له عن كينونة وجود – من خلال الصورة التراثية عنه في التراث العربي والإنساني أيضًا، في أنه شخص ظريف يضحك الخلفاء والملوك وبطانتهم، وبعض أبناء الشعب.
ولعل أشهر مسرحية قدمت نموذجًا من المضحكين في التراث العربي هي مسرحية “أبو دلامة مضحك الخليفة” لعلي أحمد باكثير، وعرضت هذه المسرحية في مصر، وباكثير في هذه المسرحية يقوم بجمع نوادر أبي دلامة ويمزج بينها في عمل مسرحي.
وبالطبع يحسب لباكثير في هذه المسرحية اهتمامه بشخصية المهرج في شخص أبي دلامة مضحك السفاح والمنصور والمهدي – خلفاء بني العباس الأوائل – ومحاولته تحويل النوادر إلى بناء درامي مسرحي، ولكن يأخذ عليه أنه لم يستطع في هذه المسرحية أن يقدم بناء دراميًّا محكمًا، فظهرت هذه المسرحية كأنها أقرب للإسكتشات المتتابعة منها للمسرحية المتقنة البناء، بخلاف ما فعله في مسرحية “مسمار جحا” فقد أحسن بناءها، على الرغم من أنه اعتمد في نسجها على بعض النوادر المنسوبة لجحا، وهو أيضًا كان يقوم في مجتمعه –
من خلال النظر لبعض النوادر المنسوبة إليه – بدور المهرج.
وإذا كان المهرج – أو المضحك – في مسرحية “أبو دلامة مضحك الخليفة” يقوم بالدور الرئيس فيها، فإن دوره في مسرحية “ابن جلا” لمحمود تيمور يبدو ثانويًّا جدًا، ولم يظهر في هذه المسرحية إلا مع نهايتها، وكان ضمن بطانة الحجاج بن يوسف الثقفي، ويقوم بإضحاكه، وأغلب الظن أن الحجاج لم يكن له في واقع الأمر مضحك؛ فقد كان جادًّا قاسيًا، والأمر الآخر أن شخصية المهرج في هذه المسرحية كان ظهورها غير مهم، وغير ذي تأثير فيها سوى أنها بثت قدرًا من الفكاهة في هذه المسرحية قرب نهايتها، وأظن أن هذا الجو من الفكاهة لم تكن المسرحية بحاجة إليه أيضًا.
ومسرحية “قمبيز” لأحمد شوقي نرى فيها ساحرًا اسمه حوسيب، وهو يقوم بدور المهرج في إضحاك الفرعون وبطانته وضيوفه إلى جانب ما يقوم به من فنون السحر، ونراه في هذه المسرحية يقوم بتسلية ضيوف الفرعون من الفرس الذين جاءوا لخطبة ابنة الفرعون لقمبيز ملك الفرس.
والساحر المهرج في هذه المسرحية ليس له أي دور مهم فيها سوى بث جرعة من الفكاهة بها، والقيام ببعض أعماله السحرية فيها.
(4)
وفي مرحلة تالية من تطور المسرح المصري لا سيما في الستينيات وبعدها نرى شخصية المهرج فيه تقدم ليس من أجل الضحك والتهريج فحسب، ولكن أيضًا من أجل توجيه بعض النقد السياسي والاجتماعي على لسانه، فكأنه بهذا صوت المؤلف في هذه المسرحيات، كما نرى في مسرحية “عريس لبنت السلطان” لمحفوظ عبد الرحمن، فالمهرج فيها دوره ثانوي، وهو حكيم أكثر منه مضحك، ويسوءه حال بلده الذي صار ضعيفًا متخلفًا، ولا يؤمن أهله بقيمة العلم، ولكنه يعتمد في تصريف أموره على كلام المنجم المدًّعي، ونرى هذا المهرج يقف ثائرًا مع الثائرين في هذه المسرحية على أوضاع بلده السيئة لا سيما مع هجوم التتار عليه،
ويحبس المهرج مع بعض هؤلاء الثائرين، ويتوقع سقوط بلده في أيدي التتار للحال المتردّي الذي وصل إليه.
وفي مسرحية “الرجل الذي يريد أن يضحك” لوحيد حامد يقوم المهرج مع رفاق له بمحاولة إضحاك حاكم ظالم له بطانة فاسدة قد استعصى عليه الضحك، ويمثل المهرج – واسمه بهلول – ورفاقه أمام هذا الحاكم صورًا من ظلمه وظلم بطانته للرعية، ويعرف عند هذا ذلك الحاكم أسباب استعصاء الضحك عليه، ويترك مصير هذا المضحك ورفاقه غامضًا بعد ذلك مع نهاية هذه المسرحية.
ويأخذ على هذه المسرحية أن بهلولاً المهرج الذي يقوم بنقد الحاكم وتعريفه بظلمه بمشاركة رقاقه _أنه ورفاقه _جماعة من السكارى العابثين، وغير مقنع قيامهم بهذا الدور التوجيهي، وكذلك يأخذ على هذه المسرحية أننا نرى المشهد الأول منها – وهي من مشهدين– يمتلئ بالضحك والفكاهة في حين جاء المشهد الثاني منها جادًّا يخلو من أي فكاهة، وبالطبع هذا يؤدي لوجود خلل في هذه المسرحية القصيرة.
ونرى جحا المهرج في مسرحية “الحمار والمرآة” لعبد الغفار مكاوي يقوم بالدور نفسه الذي قام به بهلول في مسرحية “الرجل الذي يريد أن يضحك”، ففي مسرحية “الحمار والمرآة” نرى تيمورلنك عاجزًا عن الضحك، ويبحث عن شخص يضحكه من قلبه، ويأتيه جحا، ويعرف من حديثه معه أن ظلمه وبطشه بالبلاد التي دخلها غازيًا مع جنوده هما السبب الأساسي في عجزه عن الضحك.
ولا شك أننا نرى في هاتين المسرحيتين إسقاطات على المجتمع المصري في الفترة التي كتبت فيها كل مسرحية منهما، ومن هنا فقد كان المهرج فيهما صوت المؤلف في توجيه هذا النقد السياسي للحاكم وبطانته في العصر الحديث من خلال عرض أحداث تاريخية أو خيالية.
وأيضًا نرى المهرج في مسرحية “ثوب الإمبراطور” لعبد الغفار مكاوي يوجه النقد السياسي لحاكم ظالم اعتاد أن يقتل كل يوم خياط له، بعد أن ينسج له ثوبًا ويراه لا يعجبه، وقد كان المهرج في هذه المسرحية خياطًا، ولكنه ترك مهنة الخياطة حتى لا يضطر لصناعة ثوب لذلك الإمبراطور ويعدم بعد ذلك، ومارس مهنة المهرج، ومع ذلك يصحبه خياطان بالقوة لقصر الإمبراطور، ويعملان له ثوبًا وهميًا، والغريب أن الإمبراطور يعجب به، ويقتل كل من يقول إنه لا يراه، كطفل شجاع صرح بهذا، والمهرج نفسه ليؤكد صحة كلام ذلك الطفل.
ولا شك أن هذه المسرحية تشير لظلم هذا الإمبراطور ولعدم بصيرته، ومع ذلك فأنا أرى أن شخصية المهرج بها غير واضحة المعالم، ولم يكن دوره مؤثرًا فيها على الرغم من كبر المساحة التي ظهر بها فيها.
(5)
وفي مسرحيات مصرية قليلة نرى المهرج لا يكتفي بالنقد السياسي والاجتماعي، ولكنه يقوم أيضًا بعرض رؤية المؤلف عن الحياة والكون، كما نرى المهرج في مسرحية “الفرافير” ليوسف إدريس، ويقوم الفرفور فيها بشخصية المهرج، وهو فيها أشبه بالأراجوز الذي بعثت فيه الحياة، وينقد جوانب كثيرة من المجتمع المصري في فترة نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات، ولكنه- بالإضافة لذلك – يقدم تصوره لهذا العالم الذي يقوم على سادة وعبيد، أو طبقات بينها فوارق واضحة، وينقد هذا الوضع، ويحاول تغييره، ولكنه لا يستطيع، ومع ذلك تبقى صرخته الواضحة في هذه المسرحية على ذلك الوضع الكوني في الحياة على الأرض بين الناس في كثير من المجتمعات.
وأيضًا رأينا المهرج في مسرحية “البهلوان” ليوسف إدريس لا يكتفي بمجرد الإضحاك والنقد السياسي والاجتماعي، ولكنه إضافة لهذا يعبر عن رؤيته للناس والحياة، ويقوم بدور المهرج في هذه المسرحية الصحفي “حسن المهيلمي”، وهو شخص يحب الشهرة والإعلام، ومن أجل أن يبقى في منصبه رئيسًا لتحرير جريدة الزمن يعيش في نفاق وكذب طوال الوقت، ويشعر أنه بهذا يكاد يختنق، ويرغب أن يفسح لنفسه مساحة يقول فيها كل الحقيقة حتى يحدث له توازن في الحياة، لا يجد هذه المساحة لإفراغ هذه الحقيقة من نفسه إلا من خلال عمله بهلوانًا في السيرك القومي، وخلال قيامه بهذا العمل في الليل يقول كل ما يريد قوله بصراحة عن رؤسائه وعن كل المحيطين به، وعن كل شيء في المجتمع والحياة، ويطهر نفسه من الأكاذيب التي كان يتنفسها طوال النهار في عمله كصحفي.
وتعد هذه المسرحية أروع ما كتب يوسف إدريس، وهي أيضًا من روائع المسرح العربي، وأظن أنه تأثر فيها بمسرحية “المسامر” لجون أوزبورن، ففي هاتين المسرحيتين نرى المهرج يمارس حياته العامة في مشاهد منها، وفي مشاهد أخرى يقدم فنون المهرج.
(6)
ولم يخل مسرح الطفل المصري من شخصية المهرج، بل إن هذه الشخصية أبرز فيه عن مسرح الكبار؛ لأن مسرح الطفل يعتمد على الفكاهة بشكل كبير، والمهرج أحد الأنماط الكوميدية التي يلجأ إليها كتاب مسرح الطفل في المسرحيات التي يقدمونها له.
وغالبًا ما يظهر المهرج في مسرحيات الطفل شخصية طيبة قريبة من البطل الطيب، ويرشده للطريق القويم، كما نرى المهرج في مسرحية “قميص السعادة” للسيد حافظ.
وأحيانًا يظهر المهرج في بعض مسرحيات الطفل شخصًا يعاني مشاكل اجتماعية مع زوجته أو بعض المقربين منه، ويشكو للأطفال حاله ذلك المضطرب، ويساعدونه في وجود حلول لمشاكله مع زوجته وبقية أسرته، كما نرى في مسرحية “أحلام السقا” لسمير عبد الباقي، ومسرحية “المهرج بمبة” لأمين بكير.
(7)
وهكذا رأينا أن شخصية المهرج لها حضور مهم ومؤثر في المسرح المصري الحديث خلال مراحل تطوره، وأن شخصية المهرج كانت في المسرحيات المؤلفة الأولى منه قريبة في شكلها من وضعها في التراث العربي والإنساني القديم من خلال قيامها بإضحاك الحكام وبطانتهم وعامة الناس، وفي مرحلة تالية من تطور المسرح المصري صار المهرج صوت المؤلف في توجيه بعض النقد السياسي والاجتماعي للمجتمع المصري ، وأخيرًا رأينا المهرج في بعض المسرحيات المصرية يقوم مع نقده السياسي والاجتماعي للمجتمع المصري بعرض موقف له – وللمؤلف في الوقت نفسه – من الكون والحياة.


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock