مقالات ودراسات

 د. محمد سمير الخطيب يكتب: ماذا نعني بالتجريب ونحن نتحدث عن المسرح؟!


المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات

ـ

د. محمد سمير الخطيب| مسرحي وأكاديمي

 

في البداية يمكن القول إنه من الصعب وضع تعريف جامع مانع للتجريب، لأننا إذا وضعنا تعريف له فمعنى ذلك أن هناك وصفة جاهزة له تم الاعتراف بها وبالتالي يدخل في صلب المؤسسة المسرحية.

فالتيارات المسرحية المختلفة التي كانت تجريبية في زمان معين عندما يتم وضع قواعد معينة لها تندرج في إطار التقاليد المسرحية، لذلك أرى من الأفضل طرح  سؤال الكيفية وليس الماهية عند التحدث عن مصطلح زئبقي مثل التجريب، وأن نطرح اسئلة من قبيل كيف يشتغل التجريب وعلاقته بالممارسة المسرحية بالأساس وليس بسؤال الماهية الذي ينشغل بتعريف محدد له.

من ثم، فإن سؤال الكيفية يجعلنا نتعامل مع التجريب بأنه يمثل دائماً حالة معرفية تستعصي على التصنيف وترفض الأطر والقوالب الجاهزة التي يتم ترسيخها من قبل النموذج المسرحي السائد، الذي يجعل الممارسة المسرحية متعالية على …

بعنايتها المعهودة.. تُشرِّفُني الجريدة العتيدة ملفات تادلة بنشر مقالي بأجزائه الثلاثة، وهذا الجزء ختام السلسلة، والختام حق عليه أن يكون مسكا. مع فائق تقديري للقائمين على صرحها العالي، وطبعا في ذكرى فقيدها محمد نجيب الحجام الرحمة والسلام.

“أيها الداخلون اتركوا وراءكم كل أمل من النجاة” إذا كان هذا المنقوش على باب جحيم دانتي يجعل من الأمل مجرد خدعة، فإننا نجد في جحيم MMimoun El Oualidi عزاءً، ومُتَّسعا من الحلم والأمل رغم فظاعة المشاهد المتصلة بذاكرة قادمة من السديم الخراب، استطاع المبدع ميمون الواليدي في جحيمه المغري أن يُشرع الباب على الحياة واسعا، أن يقيم نشيده  على مساحة إنسانية مدهشة في زمن لا إنساني. “أن ننحت التمثال…!”

__

إن من المفارقات الجميلة التي يمكن أن نقف عندها في هذا الطريق الذي نذرعه مُصيخين الأسماع حيث دوي الانفعالات، الأحاسيس والعواطف يبرق بضربة قلم عميقا في القلب مع كل خطوة، مع كل سؤال وجودي، قلق مقلق، “أكان من الضروري أن يموت جداي وأبقى وحيدا؟ لماذا يموت من نحبهم؟ لماذا لم يمت أبي مثلا عوض جداي؟ لماذا لم يبق أحدهما على الأقل؟ (ص32)

أنا أفضل نار جهنم على العيش مع ذلك الوحش، أنا لا أعرفه ولا أحبه، لماذا تريدون أن أعيش معه، إن وجهه يخيفني. (ص36)… إن المفارق-عكس التصور-هو أننا نعرف إلى أين نمضي، إننا نمضي إلى الجحيم، وهو الجحيم الوحيد الذي نذهب إليه بكامل شوقنا، ورغبتنا، إنه جحيم آبائنا ، كما تقدمه الدموية على لوحة شفيفة، جاذبة، تعكس عجز طفل مستسلم، لا حول له ولا قوة، قد يكون ذلك الطفل الذي انتحر المصور بعدما تخطّف النسر هزالته من قلب إفريقيا، أو آخر، أو شبيهه، أو هو.

نعم، إن الخلفية تؤسس للتداخل الرمزي للين يانغ Yin Yang بما هو أساس للفلسفة التاوية الصينية، حيث يتداخل الخير في الشر والشر في الخير، الإيجابية في السلبية والسلبية في الإيجابية، بمنطق الغواية كما في حدية العنوان الشعور في اللاشعور.. كما يحدد محمد أسليم الغواية باعتبارها فعلا إراديا يعكس خوفا من الخرق، وفي الوقت نفسه، تحمل بين طياتها رغبة في انتهاك المحظور  وتجاوزه… إنه لا مجال لهذا التداخل أو التدفق المفترضين في العمل للانسيابية فثمة حواجز/محظورات، فها نحن وإن كنا نمشي فرحين فعلينا أن نتهيأ لقفز مفترض، لكن أي قفز وأي حاجز؟ وأي تجاوز؟

كيف نقرأ؟

لكن كيف يمكننا “قراءة” ما لا نبلغ كماله ويستحيل بلوغه-حتى وإن كنا من أصحاب غوته الحالمين-؟ بأي شكل يمكن أن تولد هذه القراءة/ النص النقدي من قلب النُّقصان والتيه وما لا غاية له ولا نهاية كما تأسَّس/استقرَّ مع اللعب الحر للدوال(التفكيك الدريدي/فاعلية الانزياحات)؟ وهل فعلا ثمة مجالا للحديث حرفيا عن الكمال، وهل يعقل؟ قياسا، أليس من المعقول بل من غيره (المعقول) الادعاء بإنجاز قراءة تامة، مكتملة قائمة على النقصان وما هو غير تام؟

إن هذا الملمح هو ما يؤبِّده النص-عنصري الثراء و”الحافِظية”-فليست الحقيقة أحادية ولا سبيل للسيطرة عليها أو ادعاء امتلاكها لأن في درب الحالمين كما يقول باولو كويلو كما في أفق غوته الحالمون لا يمكن ترويضهم. إن الحلم المُشع في مناعة الطفل “ميمون” الذي كافح لأجل حريته وتحرره في الواقع وبالكتابة حينما امتلكها بالقوة وهو يستعيد بالسرد الفعل “الرامز”؟.

يداهمنا نص “جحيم أبي” أو يغمرنا دفعة واحدة من البداية بعد التوريط المباغت “نحن الآن في أواخر شهر شتنبر من عام ألف وتسعمائة وست وتسعين. أنا على موعد مع حياة جديدة بعد أن أنهيت دراستي الإعدادية بتفوق” (ص13) حيث يتحول هذا “الأنا” في علاقته بال”نحن” ضمن ما يسميه جورج غوستدورف ب”كتابة الأنا”   إلى “هو” في سياق إعادة البناء والاستعادة كما سبق أن عرّف السيرة، إن المؤلف-بحسب أرنستو ساباتو- عندما يكتب” لا يكون هو نفسه، بل يدور حول الإبداع الذي يشير إليه” .

إن المؤلف السير-روائي “جحيم أبي” مؤلف يدفع بقرائه إلى أفق يتسع إلى أكثر من قراءة، إنه يمثل ما تمثله الحجرة للبركة الراكد ماؤها، فهو يجعل ما هو خامد/خامل في حالة صحو، حركة، تأهب، يقظة، نشاط وحيوية… وهذا ما يجعل العمل مستفزا على نحو يدفع بنا إلى ليس إلى التعاطف المؤَسّس على نوع من الشفقة الأرسطية، بل إلى الوعي بضرورة الحكم على كل آليات القهر التي تجعل الطفل فينا يتقهقر عبر ضرورة الانفصال عن الأحداث من أجل تلقٍّ نموذجي لحكم مُنصف. ومن ثم، ووفقا لهذا الموجِّه، فإننا لا نكون في هذه الحالة بعيدين أو غير معنيين بل إن عنف السرد، قوة اللون، نصاعة الغلاف، ودموية الحرف، وجحيم العنوان… كل ذلك يدفع بنا إلى الركح من أجل التفكير والمشاركة الإيجابية والحُكم.

إن للنصوص الحية دهشتها، الخاصة، أما دهشة نص “جحيم أبي” كما فتحنا هذا “المحضر” وكما يُفاتحنا إدريس الزمراني في “أفق رؤياه” بما تعنيه الدهشة حقيقةً: “دهشة النص-يقول-تبدأ من رفضه للمصالحة مع الواقع، وفضحه لمكوناته، في جسارته السامقة لهدم هشاشة اللغة، واستحضاره للحقائق المفجعة المشكلة لمناخات الأشياء. دهشة تبدأ من ذات المبدع، حين يقترب من الموجودات، وحين يلامسها، ويضعها في شكلها الفني” .

 

تتشظى الهوية أو تأخذ في ترصد مسالك التشظي تلبس هوية الكلام وتأخذ حكايات الحنين والتخيلات في التصاعد إلى الركح ف”تآكل الهوية والمتخيل الجماعيين يطلقان العنانَ للحكايات والتخييلات الكفيلة بكشف الهوية الفردية التي يحملها كل واحد، وتُمسك الفروق الفردية زمام العالمية، إنها تحل محل الفروق الجماعية التي تقيد الذاكرة التاريخية، والخطاب وحياة المجتمعات، فيصبح العالم مرآة الأنا المتلهفة للتأمل فيها وتفكيكها  ” . إذ يستدرج ذلك المبهم الكامن في ذلك “القبل” الخيالي الذي يتصاعد ويتدفق صاعدا من الظلام/ الكواليس إلى الركح، منتقلا من الهامش إلى المركز حيث العرض/البوح المخترق للحدود المسيجة على حدية السيف.

 

ذلك “الجحيم” المكتوب بنصل السيف، نُظِّد بحرارة روح الكاتب المبدع ميمون، أليست الكتابة هي العذاب وشرطها هو العذاب كما يقول دوستويفسكي(سجن سيبريا، أربع سنوات داخل السجن وأربع سنوات خارجه تحت المراقبة المشددة)، فأن تكتب نصا عميقا لا يستنفد ويغرِ في كل حين بالعودة إليه دون هجره في كل مرة هو الوفاء لهذا النصل المسموم، إن النص الجحيمي نص ملهم على قساوته وفظاعة صوره يموج على نهر من الحب الدافق في أوصال الكلمات والأشياء إنه يغمرنا، يطوح بنا، ويشدنا إليه حتى قبل الولوج إلى بهوه بنظرة واحدة وفقط من بعيد.

 

إن الكتابة عند الواليدي هي تحرر، فعل تحرري ورفض قاطع غير مرن على الوراثة وركون الوعي لكسل العالم تخاذله وتحامله. إنه عندنا الأنا مفارق فليس النص تعبيرا حصريا عن الذات بقدر ما هو تمرد وخصام وغضب غير مهادن على ما آل إليه العالم الشمولي نفسه. ليس بعد التورط الجميل “نحن” قبل تخصيص الحديث في حكايات “الأنا” المفارق كتمويه وتقليعة وذريعة يأخذها الكاتب للشروع في مشوار لا زال كما نتكهن مستمرا في أجزاء “ميمون في الثانوية وما بعدها” بعدما تعالم التعالي على القهر بالتمرد كما يسرته الرفقة “حفيظ” .

إنه مسلسل التصفية في عالم متوحش تعاني فيه الذات وتسحق في الظلام حيث يعترض الكاتب بالوضوح المبين على استمرارية هيمنة الماضي وإرثه الماضوي الجائر، مع ما حمله النص من علامات ورموز من خواص منطقة هامشية أطلسية زاخرة وصامدة. إنه إلى جانب الكتابة عند المبدع تحرر وعلاج، هي فوق ذلك شهادة إثبات على إنسانية ميمون الحالم الذي اجتمعت كل الظروف لتصنع منه وحشا “صغيرا”.

إن الكتابة إذن، تروض الوحش فينا وتعوض عن الضياع وما سُرِق من طفولة، إنها الرفض الحازم، وتأكيد للوجود وإعادة تأكيد هذا الكوجيتو المجروح، “أكتب أنا، إذن أنا هو. إن إنتاج عمل أدبي هو إنتاج للذات، وإظهار لهوية مبنية من اللغة والتعبير عن موهبة معينة” .

على سبيل التعليق أو الاستراحة

الحب العظيم كالأدب العظيم لا نطوف على صعيده إلا حينما نتعالى عما هو حرفي، تقليدي، تقريري، مباشر إلى مراقٍ تأويلية طابعها البراعة في قنص الخفي من الأبعاد وفيها نفيض في محدودية اللامحدود، بلغة الفن العالية ها نحن ذا على الركح في النص/المسرحية، لسنا مدعوين للمشاهدة والقراءة فحسب بل للتمثيل والكتابة والتأويل. وما القارئ المؤول إلا ذلك القارئ النموذجي الذي يجب أن ندعمه بقوة فينا فهو يتعالى علوا عن “الفضائحية” إلى ما دون النجوم بتحديد المتنبي حيث يشحذ فيه كامل قواه لينقذف بكل بسالة في أتون الغامض على مدايات اللامحدود حيث يتآخى الرائع والمريع.

على هذا، كانت كما سبق، وتكون، القراءة رياضة، بل رقصة الحياة، أو حلبة ملاكمة حرة، قانونها الاستحضار والتغييب، التجاوز والمرافقة والتخلي، تصور وتجسيد وتمثيل، لقد كانت الحكاية هي عينها حياة الكاتب أو جزء منها ثم مع الزمن نضجت الحكاية/الحياة في المخيلة ثم عبر الكتابة وإعادة الكتابة التي تحتفي بالانزياح والتحريض على التعدد في القراءة كما يشترط كل نص يحلق في رحابة التخييل عندما يفيض على حدود النصية والحرفية التي تقيده إلى جفاف التقرير ووقائع المرجع وهوس الحافز، إن هذه الفرادة، وهذه الحساسية (الوعي الفني) الذي انكتبت به السيرة الرواية “جحيم أبي” هي ما جعل ويجعل القارئ والناقد يطفحان بثراء يحرر المعتقل عبر تفاعل أفقي عمودي وفي كل الجهات.

إن التأويل لا ينحو منحى الإحاطة بالنص أو ترسيم لحدوده، بل هو تفجير لحدوده واكتشاف خلف الممكن كامل إمكانياته، أو بعضها ربما، فهل ثمة وصول غير الدهشة وفرح الأقدام وسفر على ظهر المغامرة حيث تتآلف الحرفية، الموهبة، البراعة، والمزاج الذي ألف ودمج هذا المتنافر على عقد هي عينه هذا العمل الدموي الذي يتحرك متآلفا. إن الإفراط في القسوة، الرقابة المرضية والتعذيب الوحشي جعل النغمة الطفولية في النص في حالة غليان مستمر وتصاعد درامي يدفع لا للخضوع بل للتمرد.

 

فأن نأمل فيما نحب، وأن نصارع من أجل ما نحب، وأن نعمل لنحقق ما نريد ونحب… تأكيدا لحدي الفردية؛ كذات مستقلة، محبة، حيوية، جسورة، طموحة، ومختلفة…

في الوقت نفسه، ومن الطرف الآخر، للحد الآخر؛ التماهي الفاعل مع العالم، لتشريع آفاقات إنسانية جديدة ورحبة، حيث يمكن للحياة أن تتجاوز ذاتها، أي أن تتقدم إلى الأمام، كما تتقدم الأجيال في تجاوز مستمر لآبائهم، عبر زحزحة المرجعيات واليقينيات أي ما يُشار إليه رمزيا بقتل الأب، وبما أننا بصدد هذه “البطريركية” حيث المعاملة الفظيعة لبعض الآباء لأبنائهم، فإن هذا التوجه الرمزي في القتل يتجلى في الأبناء من خلال هذه السلطة على اختلاف أبعادها (اجتماعيا، سياسيا…) إذ تستهدف الحجر على الطاقة الحيوية للأبناء، لإخضاعهم كتابعين.

إن وجودا كهذا بلا شك كما أبرزه ببراعه “السارد” في هذا النص الجحيمي وجود سلبي، مهيأ فقط لتصريف اليأس وتأكيد السلطوية والإذلال لبقية العناصر، أي لبقية الأطراف الأخرى، إنه يجب أن تكون جميع الأطراف على درجة واحدة من المساواة بدون تعال اللهم تعال القيم والتسامي بالإنسان إلى حيث كان ويكون إلى حيث يستحق ببساطة شأن “أمون” هذا المشاغب الذي آمن، آمل، صارع، عمل فانتصر.

أن ننحت التمثال، أن نستخرج أفق الإنساني فينا من مِخلب الخراب وغياهبه، ذلك، هو نشيد الجحيم !

__

إحالات:

– غادامير: فلسفة التأويل، الأصول-المبادئ-الأهداف، ترجمة: الزين، شوقي، الدار العربية للعلوم، منشورات الاختلاف، الجزائر، ط2، 2006، ص149

– أسليم، محمد: ذاكرة الأدب، في الشعر والرواية والمسرح، سندي للطباعة والنشر، مكناس، الطبعة الأولى، 1999، ص42-44

– Georges Gusdorf, Les écritures du moi. Lignes de vie 1 (Paris : Odile Jacob, 1991)

– ساباتو، إرنستو: الكاتب وأشباحه، مرجع سابق، ص111

– الزمراني، إدريس: أفق الرؤيا مقاربات في النص والإبداع، شركة بابل للطباعة والنشر والتوزيع، الرباط، الطبعة الأولى-1991، ص24

– مادلين ويليت- ميشالسكا: الإقرار بالذاتية، ترجمة: فاطمة عبيد، ضمن: كتابة الأنا… مرجع  سابق، ص96

– كتابة الأنا… نفسه، ص96


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock