إصدارات

د. محمد سيف يكتب عن ..سيميولوجيا الممثل بوصفه علامة وحامل للعلامات في كتاب شرجي “سيمولوجيا المسرح الصادر عن دار عدنان


د. محمد سيف

مخرج وناقد عراقي مقيم بباريس

ـ

صدر مؤخرا للمسرحي والباحث العراقي الدكتور احمد شرجي عن دار نشر مكتبة عدنان في العراق كتاب “سيميولوجيا المسرح”، الذي يتناول فيه موضوع الممثل، الذي خضع ادائه وشخصه لمختلف المفاهيم التي يتطرق لها الكتاب على امتداد فصوله الثلاثة وتفرعاتها. ولكن اختيار الممثل كموضع يعنياختيار الحديث عنالمسرحبشكل أو بآخر، لاسيما أن “فن المسرح هو فن الممثل” بموجب مايرهولد، ولان الممثل، وبكل بساطةيمثل المركز، وانهاكثر من أي عنصر آخر، يمكن ان يُعرفّ المسرح، والفعل المسرحي.بل انهليس المركز فحسب،وانما المكان الوحيد الذي تحدث فيه ومن خلاله الأحداث، فعندما نتساءل حول المسرح وعلاقته بالواقع نتساءل بشكل اوتوماتيكي عن الممثل، وعن هذا الذي يحدث اثناء عملية لعبه. لهذا السبب بالذات وضع احمد شرجي عنوانا ثانيا لكتابه “الممثل بوصفه علامة وحاملا للعلامات”. وهذا يعني اننا امام بحث يتعامل مع فن الممثل من خلال السيميولوجيا التي تعتبر أهم حدث في تطور تاريخ العلوم التي نسميها بالعادة، الانسانية. وتعرف السيميائيةعادة، مثل علم لإنتاج المعنى في المجتمع، وتهتم بالمعنى والاتصالات، أي بالوسائل التي يلد منها المعنى الذي يعبر عن اهتمامه أيضا بجميع أنظمة الإشارة، وعملية الترميز، وفك الرسائل المشفرة. مثلما تهتم ايضا بالممثل وخاصة بخصائصه الجسدية والاخلاقية. وهكذا فإن الممثل وفقا لـ” فالتروسكي” (هو الوحدة الديناميكية لمجموعة كاملة من العلامات). لا سيما إن جسد الممثل في كل العروض المسرحية يكتسب قواه التعبيرية من تحويل نفسه إلى شيء آخر، وشخص آخر غير ذاته.

لكي يتناول الدكتور احمد الشرجي هذاالموضوع الشائك، لابد له أن يبدأ بدراسة وتحليل واستعراض اهم المحطات التي مرت بها البنيوية في مدرسة براغ والعلامة المسرحية، مسلطا الضوء على الاهمية البالغة لعام 1931 في مجال الدراسات المسرحية، التي كانت قبل هذا التاريخ عبارة عن دراسات وصفية شهدت تطورا باهتا منذ اصولها الارسطوطاليسية. حيث كانت الدراما قبل هذا التاريخ مجالا للنقد الادبي، وكان ينظر الى العرض المسرحي باعتباره حقيقة سريعة الزوال، ومتلونة ويصعب دراستها منهجيا باستمرار. ولهذا السبب ظلت العروض المسرحية ولفترة طويلة مجالا لاستقصاء واستجواب الممثلين، والمؤرخين، والمنظرين المزيفين البعيدين عن التحليل العميق. ولكن ظهور دراستين عن المسرح التشيكوسلوفاكيشكل تحولاحاسما في الدراسات المهتمة بالمسرح: جماليات الفن والدراما لـ “أوتكارزيخ”، التحليلالبنيوي لظاهرة الممثل لـ “يان موكاروفسكي”.

لم يعطي “اوتكارزيخ” اولوية للنص المكتوب واعتبره مثل عنصر من بين عناصر أخرى، في حين اتخذ “يان موروفسكي”، من التحليل البنيوي عنصرا اساسيا بالنسبة لسيميولوجيا العرض. منذ هاتين الدراستين (بدأ يُنظر الى العرض المسرحي بوصفه وحدة سيميائية متكاملة، لم تجزأ وفق المفهوم السوسوري إلى دال ومدلول، بل أصبح العرض المسرحي علامة واحدة، تضم كل الانساقالعلاماتية الأخرى، بمثابة علامة كبرى) (سيميولوجيا المسرح، ص53-54).

في كتاب “سيميولوجيا الممثل”، يوسع احمد شرجي ويعمق تصريحاته، بملامسة جميع مناطق البحث السيميائي تقريبا، ويتطرق لاآراءوتنظيرات اكثر البحاثة الذين ساهموا برويةوأناةتطوير هذا المجال العلمي. يتناول في الفصل الاول من كتابه”الاصول والبدايات”، “السيميولوجيا”، ” فرديناندو دو سوسير، “شارل ساندرس بورس”، و”مادية العلامة”.وفي الفصل الثاني يتطرقإلى سيميولوجيا المسرح، وسيميولوجيا النص الدرامي، وسيميولوجيا الارشادات المسرحية والشخصية، اما الفصل الثالث والاخير فيكرسه لبحث سيميولوجيا الممثل في المسرح الاغريقي، الممثل من وجهة نظر دنيس ديديرو، وستانسلافسكي، ومايرهولد، وبرتولدبريشت.

يسلط الباحث الضوء في هذه الفصول الثلاثة، على مسألة ظهور المنهج البنيوي في بداية القرن العشرين،(على يد سوسير “الذي احدث ثورة علمية كبرى، تجاوزت دراسة اللغة الىالعلوم التواصلية في حياة الإنسان، مؤسسا علما جديدا اطلق عليه السيميولوجيا)“صفحة 16″؛ وعلى تطور العلامة في مدرسة براغ تحت تأثير مزدوج من الشعرية الشكلية الروسية ولسانيات فرديناندوسوسير البنيوية،حيث ورثت عن (سوسر) مشروع تحليل السلوك الاتصالي للإنسان. وورثت ايضا انالعلامة تتكون من وجوه، وأنها تربط مادية الدال بمفهوم عقلي أو بالمدلول،معتمدا في ذلك على رأي “إيلام كيري”.  ويشرح الباحث كيف استوحى”يان موكاروفسكي” الانقسام السوسير المتعلق بالعلامة اللغوية وتطبيق نفس الانقسام على النص المسرحي. وهكذا يصبح الدال في المسرح عبارة عن مجموعة عناصر مادية والمدلول الموضوع الجمالي لاكتشاف الوعي الجمعي لدى الجمهور من خلال ردود فعله في عملية التصفيق او الاستهجان. في هذا السياق يصبح النص المسرحي عبارة عن (مكرو علامة) يبحث عن معناه في رد فعل الجمهور. ويعتبر هذا النهج مهما جدا لأنه يؤكد على ان كل عناصر العرض المسرحي تخضع لكيان شامل والذي هو النص، وإنه غاية في الاهمية ايضا ولا تشوبه شائبة لتأكيده ايضا على دور المشاهد كعنصر لا غنى عنه في ولادة المعنى. ومن المهم الاشارة الى ان هذا الـ”مكرو علامة” يمكن تقسيمه الى وحدات أصغر حجما.وفي هذا المنطق تكمن الاستراتيجية التي اعتمدها موكاروفسكي والتيتستند على تحليل العرض ليس بوصفه علامة مفردة وإنما كشبكة من الوحدات السيميائية التي تنتمي الى مختلف مجالات الانظمة. وقد اشار احمد شرجي ضمنياالى “بيتر بوكاتيريف” احد اهم الشكليين الروس الاوائل، التيتشيردراساتهلأهمية المسرح كونه يغير بشكل جذري كل الاشياء وجميع الهيئات التي تتحرك فيه بمنحها قوة دلالية متفوقة لم تكن تملكها في الحياة اليومية. ففي المسرح الاشياء التي تكون بمثابة علامة تكتسب خصائصتفتقدها في الحياة الحقيقية.وفي هذا المعنى نفسه يؤكد “يري فلتروتسكي” على اسبقية المعنى في جميع مقومات العرض المسرحي.فكل شيء يصدر من الممثل على خشبة المسرح هو علامة، مثلما يقولتاديوركاوزان في صفحة رقم 63 من الكتاب.  ويمكن تسمية المبدأ الاول لنظرية مدرسة براغ بمبدأ سيميائية الموضوع. لان الظهور الاول للمواد على خشبة المسرح قد حرمها من وظيفتها الواقعية لصالح معناها ودورها الرمزي، ويسوق لنا الباحث احمد شرجي مشهد المنديل من مسرحية عطيل لشكسبير، فيقول:(فالمنديل في مسرحية عطيل، اصبح فعلا مهما داخل العرض المسرحي، وتجرد من وظيفته الحياتية كمنديل، وتحول الى دليل ضد ديزدمونة) “صفحة 65. ثم يتطرق الباحث الى موضوع تحول العلامات الطبيعية الى علامات اصطناعية في العرض المسرحي، وهذا الموضوع يلقي بنا مباشرة فيما طرحه رولان بارت في عام 1964، عندما اعلن بأن المسرح يتميز بتعدد اصواته والكثافة العلاماتية، مما يجعله حقلا خصبا جدا للبحث السيميولوجي. وإن (طبيعة العلامة سواء كانت رمزية، او تقليدية متفق عليها، وإن معنى الرسالة، سواء كان دلالي أوتلميحي، فإن جميع هذه العناصر السيميائية تجد نفسها في المسرح) “سيميولوجيا الممثل، ص 63. وقد استانف البولندي تاديوزكاوزان ما بدأ به رولان بارت، عندما بدأ بتصنيف العلامات وجعلها اكثر صلة بالمسرح. وهكذا خضعت العلامات الطبيعية لعلاقة السبب والنتيجة بين الدال والمدلول (كما في الدخان الذي يدلل على النار) “صفحة 64”. في حين تتميز العلامات الاصطناعية بالغياب التام لعلاقة السبب والنتيجة. بلا شك ان المحطات التي توقف عندها احمد شرجي بالتحليل والشرح والإضافة كثيرة ولا يمكن الحديث عنها جميعها، ولكنها بمجملها استطاعت ان تجيب على القلق العلمي للباحث وأسئلته الجوهرية التي طرحها في مدخل كتابه، مثل: هل وصف الممثل بالعلامة مع طروحات حلقة براغ ؟ أم انه علامة منذ بدأ المسرح عند الاغريق ؟وهل يمثل الممثل علامة في العرض المسرحي؟وإن كان كذلك، فكيف اشتغل سيميولوجيا ؟. لقد كانت هذه الاسئلة بمثابة مدخل جوهري للقراءة الألسنية والسيميولوجية التي وظفها الكاتب في بحثه من خلال تطبيق نهج علاماتي حول تحليل لعب الممثل، المضطرب خاصة في فك الشفرات المنظمة. فهو قد ناقش كيف كان الممثل عند الاغريق سيميولوجيا، وسيلة لحمل الخطاب اللغوي، وشكل الاقنعة، في مسرح لفظي حيث الأهمية الكبرى داخل العرضللنص، وما الممثل إلا علامة محنطة جسديا، وعاطلة ايمائيا، (انه طاقة صوتية لان شخصيته ظلت مستترة وراء الملابس والاقنعة) (ص129).في حين يشكلعند دينس ديدرورأس المثلث السيميولوجي مع ضلعي العقل والخيال الذي لا يمكن تجزئة مكوناته، (فعدم وجود الخيال، معناه عدم وجود ممثل خلاق، وهذا ينطبق على العقل، لان الايعازات الحسية والعضلية، تصدر عنه، وتنفذها اجزاء الجسم) “ص 137”. ويشبه احمد شرجي علاقة الافعال الداخلية والخارجية لدى ستانسلانفسكي(بعلاقة الدال والمدلول، اللذان لا يمكن ان يعمل واحدهما بمعزل عن الاخر)”ص 138″. في حين اهتم مايرهولد (بالتقنية الخارجية للممثل متخذا منها المادة الاساسية لحمل علاماته المسرحية (…)باعتماده على الفعل الحركي الميكانيكي قبل الشعور،وهذا هو جوهر الاختلاف مع ستانسلافسكي) “ص152”. اما بريشت فقد جعل الممثل يبتعد حسيا عن الشخصية، من أجل تحميله علامات متعددة، مثل (الشخصية/الشخصيات، الأفعال، الحدث، الأزياء، الموسيقى، الأغاني، الديكور) “ص168“.

في الواقع، ان الاسئلة حول هذا الموضوع بالذات قد تراكمت بشكل كبير، لاسيما ان الممثل يضع سلسلة كبيرة من العلامات غير اللغوية والتي يمكن ترجمتها – أو لا- لغويا من قبل المشاهد. علامات لا تبرر الرموز غير اللفظية فحسب، وإنما هي متشابكة، ومتنوعة، ويصعب عزلها. وإن اغراءات الحفاظ على عمل الممثل بلا تحليل كبيرة، وتنطوي على وجهة نظر غير موضوعية، وغامضة. ولهذا فإن كتاب “سيميولوجيا الممثل”، لا يدعي حل جميع المشاكل المتعلقة بسيميائية التمثيل والممثل، بقدر ما يبدو لنا ان المقاربة التي قام بها الدكتور احمد شرجي والتي تمثلت في مراقبة نشأة التمثيل اللفظي للعرض، وتشكيله، عن طريق الكلام، والعلامات، عبارة عن محاولة لشرح هذا الغموض دون الاستسلام لإغراءات التناول البسيط، وعدم التحليل.


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock