مقالات ودراسات

عبده وازن يكتب: بتي توتل تسعى إلى مسرح كوميدي ملتزم


عبده وازن 

ــ

من يقرأ عنوان مسرحية الكاتبة والمخرجة بيتي توتل «مسرح الجريمة» يظن للوهلة الأولى أنها إما مسرحية بوليسية وإما مسرحية تجريبية قائمة على مقولة «القسوة» الطقوسية التي رسخها الكاتب الفرنسي انطونان آرتو. لكنّ مشاهدة المسرحية تؤكد حال «سوء الفهم» الجميل القائم بين العنوان وطبيعة العرض الذي ينتمي الى الكوميديا، الكوميديا الحقيقية لا المزيفة التي تعم اليوم مطاعم لبنان وفنادقه. «مسرح الجريمة» هنا يعني الحيز المكاني الذي تقع فيه الجرائم على اختلاف انواعها والذي يحصره رجال الامن ضمن مساحة محددة ويطوقونه بالشرائط الصفر. اما «الجريمة» التي شاءتها توتل فهي وقوع انفجار (نعلم في الختام انه متوهم)، في منطقة مونو وهي المنطقة التي يقع فيها المسرح الذي يقدم عليه العرض.
عرض كوميدي إذاً قائم برمته على مفارقة «سوء الفهم» (نتذكر مسرحية البير كامو السوداء) التي تؤدي الى زج مواطنين في سجن هو اولاً وآخراً مسرح في المعنى المجازي، ألقيت عليهم جميعاً تهمة ارتكاب الجريمة او التفجير الذي أودى بحياة امرأة عجوز. لكنّ التفجير لن يكون، كما تفيد خاتمة المسرحية، سوى انفجار قناني في احدى حرائق المزابل المتكاثرة في بيروت. انفجار «افتراضي» قاد هؤلاء الاشخاص الى سجن ليس سوى مسرح وتحديداً مسرح بيتي توتل، الفريد جواً ونصاً وإخراجاً.
تسعى توتل الى البحث بإصرار عن مسرح كوميدي لبناني الهوية، يفي الشروط «الاكاديمية» للفن الكوميدي ويتمثل المعايير الحقيقية التي يفترضها هذا الفن. ولعل مسرحيتها هذه تجسد الخطوة الثابتة في ترسيخ مشروعها، سواء من ناحية النص المكتوب بحذاقة والمبني بمتانة -حتى وان كان يحتاج في بعض فواصله الى المزيد من السبك والتركيز- أو من ناحية الإخراج والبناء المشهدي وإدارة الممثلين، وهي هنا بدت على عادتها، متمكنة من هذه اللعبة وواعية تمام الوعي لعناصر «التأليف» البصري والحركي. ناهيك عن إصرارها على معالجة قضايا تعني الإنسان اللبناني، بصفته مواطناً ينتمي الى جماعة والى زمن ومكان. فمسرحها هو مسرح اللحظة العامة الشاملة والعميقة، مسرح الراهن والواقع، مسرح «ملتزم» وإن في صورة هزلية و«بارودية» في أحيان، وساخرة بألم وأسى.
وها هي في «مسرح الجريمة» تجمع بين «مأساة» التفجير والتفخيخ والاغتيال التي تشكل جرحاً وجودياً في الذاكرة اللبنانية وبين مشكلة «النفايات» المتفاقمة التي هي في حقيقتها مشكلة سياسية وأخلاقية فاضحة.
تستهل توتل عرضها بشريط مصور يطل خلاله أحد شخوص المسرحية وهو مهندس معماري لبناني – فرنسي على غرار الكثيرين من اللبنانيين المزدوجي الهوية والانتماء، يستعد للسفر الى لبنان بغية إجراء تحقيق عن المسارح اللبنانية في مرحلة ما قبل الحرب الأهلية والبحث عن جدته العجوز التي كانت واحدة من أولى الممثلات اللبنانيات. إلا إن المسرحية تبدأ عقب وصوله الى بيروت وبُعيد وقوع الانفجار (المتوهم) وزج المتهمين الأبرياء الذين يقطنون شارع مونو في السجن وكان هو واحدا منهم لوجوده في الحي.
ومنذ اللحظات الأولى يعلن العرض نزعته «البارودية» من غير تردد: السجن هو صورة كاريكاتورية عن السجن الحقيقي الذي يرمى فيه دوماً الأبرياء والذين يحاكمون احياناً من غير ذنب (نتذكر جوزف ك. في رواية كافكا «المحاكمة»)، وهذه مسألة مطروحة الآن في لبنان بإلحاح. مدير السجن ليس سوى نسخة كاريكاتورية ايضاً عن السجان «التاريخي» الرهيب (أدى الدور بطرافة الطبيب المعروف جاك مخباط) وكذلك مساعده العسكري شبه المتخلف الذي يعتمد قوة عضلاته أكثر من فكره (كميل يوسف)… لكنّ هذا السجن لم يخل بدوره من أكياس النفايات التي تجتاح لبنان (في دلالة سياسية ذكية) ولا من الصورة المعلقة فوق مكتب السجان وتحمل شعار الجمهورية ولكن من دون وجه الرئيس (في دلالة الى الفراغ الرئاسي الذي يعانيه الوطن).
وقد نجحت توتل في تقسيم المسرح الى فضاءات عدة او ما يشبه الغرف المفتوحة ومن خلفها ممر يشكل بذاته فضاء آخر. على أن هذه الفسحات لا تلبث ان تختلط بعضاً ببعض خلال العرض وتداخل الممثلين والمشاهد المتعاقبة.
اما الشخصيات الأخرى فكانت طريفة جداً، شخصيات لبنانية اهلية، سوية ومنحرفة، طبيعية وذات أمزجة مختلفة: الممثل جورج دياب يؤدي دور صاحب محالّ في الحي ويملك ذاكرة المسرح اللبناني الذي كان في قلب أجوائه قبل الحرب، الممثل هشام خداج في دور ممثل كان يستعد لدخول «مسرح مونو» لإجراء تمارين على مسرحيته الجديدة، الممثلة لمى مرعشلي في دور فتاة الهوى التي أوقعت السجان في حبائلها، وديع افتتيموس يؤدي دور المواطن المسالم والمهذب الى حد التخنث والذي كل همه ان ينزه كلبه في الحي، ميريام وطفا صديقة الممثل، اللطيفة والرقيقة، جسي خليل صاحبة «الباركينغ» الملاصق لمسرح مونو، المرأة القوية الجشعة الى المال ولو احتيالاً، جوزيت افتيموس في دور المختارة… اما الشخصية الطريفة فهي شخصية الشاب اللبناني – الفرنسي التي اداها سيريل جبر.
مزجت بيتي توتل بين انواع مسرحية كوميدية متعددة ولم تعتمد مدرسة واحدة وهذا «المزج» الذكي الذي يدل على ثقافتها المسرحية العميقة، منح مسرحيتها الكثير من الخصائص، «الدرامية» والجمالية والحركية. انها اللعبة الكوميدية الشاملة إن أمكن القول، الكوميديا «المضحكة» (الكوميك) ذات البعد الجمالي، الكوميديا الهزلية، الكوميديا الذكية التي تهتم بالحبكة ونسج الأحداث والمواقف بعضاً ببعض، كوميديا البورلسك (كانت تحتاج الى المزيد من البلورة) والموقف (سيتيوياسيون) والسلوك (كومبورتمان) … ولم تغب حتى الكوميديا «الدامعة» (لارمويانت) التي تمثلت في استعادة الممثلة الراحلة سعاد كريم التي أدت في غيابها دور جدة الشاب اللبناني – الفرنسي الذي جاء الى لبنان بحثاً عنها، فإذا هي المرأة العجوز التي ماتت لحظة وقوع الانفجار المتوهم. لم تبدُ مقنعة جداً هذه الفكرة كذريعة مسرحية ولا كحيلة لتبرير لاستعادة الممثلة الراحلة، ولو ان توتل شاءت ان تقدم تحية وفاء الى الممثلة القديرة التي رحلت في حال من البؤس والفقر والعزلة.
بدت الفكرة طارئة على العرض ومفتعلة وآتية من خارجه. وكانت ربما تكفي التحية التي وجهتها المخرجة الى ماضي المسرح اللبناني والى صالاته البديعة التي غابت وغاب معها جزء كبير من الذاكرة، وهي بدت تحية مبررة كون وقوع الانفجار المتوهم قرب مسرح مونو.
اما اعتماد المخرجة العنصر المرئي – المسموع في صلب العرض المسرحي من خلال الكاميرا الحاضرة فكان موفّقاً على المستوى الإخراجي والسينوغرافي. وقد شاهد الجمهور بعض اللقطات تجري في وقت واحد على الخشبه وعلى الشاشة في طريقة مباشرة وحية، مما ساهم في خلق مساحة اضافية داخل العرض. ولعل اللعبة الغنية العناصر التي اعتمدتها المخرجة تمكنت من التعويض عن ضعف بعض الممثلين الهواة الذين لم يكونوا في حجم الشخصيات التي أدّوها. انها مشكلة الانتاج التي دفعت المخرجة الى الاستعانة بهؤلاء الهواة لعدم قدرتها على دفع أجور عالية. لكنّ حضور بضعة ممثلين محترفين وفي مقدمهم الممثل القدير جورج دياب وجسي خليل كان كفيلاً برفع مستوى الأداء الجماعي وتغطية نقاط الضعف.

ــــــــ

الحياة

 

 

 

 

 

 

 

 


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock