مقالات ودراسات
عواض الفيتوري يكتب: المقدمة المونودرامية في مسرحيات يوربيديس
المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات
ـ
عواض الفيتوري*
مسرحي من ليبيا
(1)
المونودراما شكل من أشكال المسرح، يعتمد على قدرات ممثل واحد في التمثيل فيه، وهذا الممثل يقوم بالسرد لأحداث سابقة، والتعبير عن أحداث حاضرة، وما ينتظر حدوثه في المستقبل، وكل هذا من خلال نص مسرحي مكتوب، أو من خلال سيناريو مسرحي فيه خطوط عامة لما يمكن أن يؤديه هذا الممثل على خشبة المسرح في عرض مسرحي.
(2)
وكانت نشأة المسرحية عند الإغريق من خلال قيام الممثل ثيسبيس بالتمثيل والغناء وحده أو بمشاركة جوقة يحاورها، ويوجه إليها كلامه حينًا، وتنفرد بالحديث وحدها في أحيان أخرى بابتهالاتها إلى الآلهة الإغريقية، لا سيما الإله الوثني باخوس الذي نشأ المسرح من خلال الاحتفالات الخاصة به، وكانت أوائل المسرحيات عن تقديسه وشكره وسرد جوانب من حياته.
ومع تطور الدراما عند الإغريق على أيدي كتابها العظام في التراجيديا (أيسخيلوس وسوفوكليس ويوربيديس) وفي الكوميديا (أرسطوفان وميناندر) – أصبح لدينا أكثر من ممثل يقومون بالتحاور والفعل المسرحي في تلك المسرحيات اليونانية القديمة، ومع ذلك فلم تختف الصورة الأولى التي نشأ عليها المسرح الإغريقي في تلك المسرحيات، من خلال وجود مشاهد في بعض مسرحيات هؤلاء الكتاب الكبار لا يوجد بها سوى شخص واحد يحدث نفسه في مونولوج طويل، ويكشف من خلاله جوانب من الحدث المسرحي في تلك المسرحيات.
(3)
واهتم يوربيديس – على وجه الخصوص – بأن يجعل كثيرًا من مسرحياته تبدأ بوجود شخص واحد يتحدث إلى نفسه أو إلى الجمهور
أو إلى جوقة، ومن خلال حديثه هذا يكشف عن الأحداث السابقة للحدث الذي سيتم عرضه في المسرحية، ونرى مثالًا لهذا في مسرحية “إفيجينيا في تاوريس” في حديث إفيجينيا في بدايتها عن الأحداث التي حدثت لها قبل مجيئها إلى تاوريس، وتقول: إنها أسيرة فيها، وتنتظر وصول أخيها أوريستيس؛ ليخلصها من هذا الأسر، وتتتابع الأحداث بعد ذلك، ويحدث ما تمنته في حديثها الطويل في بداية هذه المسرحية.
وأيضًا نرى أندروماخا في بداية مسرحية “أندروماخا” تلخص الأحداث التي تتابعت عليها وعلى أهلها خلال حرب طروادة، وتذكر أسرها مع غيرها من نساء طروادة بعد هزيمة الطرواديين فيها على أيدي الإغريق، ثم تتتابع الأحداث بعد ذلك في هذه المسرحية.
وهذه الصياغة في وجود ممثل واحد يسرد الأحداث السابقة على الحدث الرئيس في مسرحيات يوربيديس نراها – كما قلنا – في مسرحيات عديدة له، وقد ذكر أرسطوفان في مسرحية “الضفادع” أن يوربيديس هو الذي أدخل هذه الصياغة على التراجيديا اليونانية؛ ليسهل للمشاهدين معرفة الأحداث السابقة على الحدث الرئيس فيها من خلال السرد.
وأعتقد أن هذه المقدمة في تلك المسرحيات أشبه – إلى حد كبير – بمسرح المونودراما.
بل إن هذه المقدمة في تلك المسرحيات تجعل مسرحيات يوربيديس تنقسم إلى قسمين: قسم أول تبدأ به المسرحية، يحتوي على السرد من أحد شخصيات المسرحية، وغالبًا ما يوجه حديثه لجوقة تشاركه في هذا القسم، والقسم الآخر يتم فيه عرض الحدث الأساسي بالمسرحية بعد التمهيد له – في القسم الأول الذي تكلمنا عنه – من خلال التمثيل والفعل.
(4)
وغالبًا ما نرى الشخص الذي يقوم بالسرد في هذا الجزء من المسرحية يهتم بعرض المآسي والفواجع التي مرت عليه وعلى من حوله حتى وصلت به وبهم إلى ذروة المأساة، وأنه ومن معه في انتظار الخلاص، مثلما رأينا في بداية مسرحية “إفيجينيا في تاوريس” على لسان إفيجينيا، ومسرحية “أندروماخا” على لسان أندروماخا.
وفي بعض الأحيان يستخدم يوربيديس هذه الصياغة في مسرحه من أجل تجميع أحداث كثيرة كان لا بد من المرور عليها قبل عرض الحدث الرئيس المتشعب، كما نرى في مسرحية “الفينيقيات” التي تبدأ بحديث جوكاستا عن المآسي التي تعرضت لها عائلتها، وخوفها من الحاضر والمستقبل خاصة في القتال المتوقع حدوثه بين جيشين كبيرين، ويقود كل جيش منهما ابن لها.
وغالبًا ما يقوم بهذا المونولوج في بداية مسرحيات يوربيديس الشخصية الرئيسة فيها، كما رأينا إفيجينيا في بداية مسرحية “إفيجينيا في تاوريس” وأندروماخا في بداية مسرحية “أندروماخا” تمهيدًا للحدث الرئيس فيهما.
وأحيانًا يجعل يوربيديس من يقوم بذلك المونولوج الطويل في بداية مسرحياته شخصية غير رئيسة فيها؛ أي شخصية ثانوية، كالوصيفة في مسرحية “ميديا” التي تسرد في بدايتها التضحيات التي قامت بها سيدتها ميديا من أجل زوجها ياسون، وكيف أنه غدر بها في النهاية، وتقول: إنه بعد أن وصل مع ميديا إلى كورنتة هجرها، ويستعد للزواج من ابنة الملك كريون؛ مما جعل ميديا في شدة الغضب، وتقول الوصيفة أيضًا: إنها تتوقع أن ينفجر غضبها هذا عن أحداث مفجعة.
وكذلك قامت جوكاستا في بداية مسرحية “الفينيقيات” – وهي شخصية ثانوية بها – بعرض المآسي التي تعرضت لها أسرتها في الماضي، وتذكر أيضًا فواجع تتوقع حدوثها.
وفي أحيان أخرى يقوم بهذا الدور في هذا الجزء الذي يشبه المونودراما – أحد الآلهة الوثنية، فيعرض ملخص أحداث سابقة على الحدث الرئيس في المسرحية، ولا يكتفي بهذا، بل يتنبأ عن علم بما سيحدث في الحدث الرئيس في المسرحية، وما سينتهي إليه، كما نرى في مسرحية “هيبوليت”، ففي بدايتها تظهر الإلهة أفروديت – ربة الجمال والعشق عند الإغريق – وتتحدث عن كره هيبوليت لها، وكيف أنه لا يتوجه إليها بالدعاء والقرابين في حين يهتم بإلهة الصيد أرتيميس، وتقول: إنها ستنتقم منه، وتوضح ما ستفعله به، وتسير الأحداث بعد ذلك وفق نبوءتها هذه.
(5)
وفي ظني أن هذه المقدمة في مسرحيات يوربيديس هي أقرب ما تكون لمسرحيات المونودراما في عصرنا، ومن الممكن اجتزاؤها من المسرحيات التي بها، وتمثيلها وحدها على سبيل التجريب، وأرى أيضًا أن هذه المقدمات فيها ما يمكن تسميته بالنص شبه المكتمل، ويمكن أن يشعر المشاهد بالتشبع حين قيام الممثل بعرضها دون عرض سائر الأجزاء الأخرى في تلك المسرحيات.