نصوص

“محاكمة هيرودوت” للكاتب د. رضا عبد الرحيم


المسرح نيوز ـ القاهرة| نصوص

ـ

مسرحية محاكمة هيرودوت

 

 

الشخصيات :

 

–   الســيد:

 

باحث أثرى شاب،فى الثانية والأربعين من عمره حاصل على درجة الدكتوراة فى الأثار المصرية، قصير القامة 160سم تقريبا ،نحيف،ذو صلعه خفيفه، يحمل على وجهه نظارة ذات عدسات سميكة”كعب كوباية”.

 

  • هيرودوت:

 

رجل تجاوز عقده الخامس ،قصير القامة 155سم تقريبا،ذو لحية كثة،بدين إلى حد ما، يرتدى ملابس أغريقية قديمة ،خفيف الظل ، يحمل- دائما- فى يدة ريشة وقرطاسا.

 

 

المشهد الأول:

 

المنظر بعد إرتفاع الستارة…لحجرة كبيرة فى نسبها شذوذ.. يتصدرها مكتب ضخم جدا قديم موجود بالناحية اليسرى،عليه كمية كبيرة من الكتب المتراصه بعضها فوق بعض. كرسيه عالى المسند..على الحائط الذى يقع خلف المكتب مكتبة ضخمة مليئة بالكتب والمجلدات الضخمة.

وسرير صغير بالناحية اليمنى من الحجرة، وهو أيضا عليه بعض الكتب.

عند فتح الستارة نجد البطل جالسا على مكتبه يكاد يختفى خلف الكتب ، يظهر فجاءة من وراء كتبه، ويظهر عليه الأجهاد المشوب بالسعادة والفخر ممسكا بملف يحتوى على البحث الذى أنتهى من إعداده فى هذه اللحظة.

من فرط سعادته يقف أعلى المكتب،رافعا الملف عاليا كتمثال الحرية ، وهو يرتدى جلابية صيفى قصيرة بعض الشىء، تكشف عن سيقان أشبه بأعواد الكبريت .

السيد :(واقفا  بهذا الوضع صامتا لمدة  خمس ثوان تقريبا ثم يصرخ )

اخيرا..اخيرا!

أنتهيت منك (ناظرا إلى الملف ) ،وقضيت  عليك

يا من يسمونك بأبى التاريخ ..هيرودوت.

(ينزل عن سطح المكتب منتشيا سعيدا مهللا ومتمتما):

قضيت عليك…. نعم قضيت عليك .

(ثم يقف أمام المكتب ،متحدثا إلى  الجماهير،ملوحا بالملف الذى فى يده)

قائلا:

غدا (ينظر إلى ساعته)…

بل. بعد ست ساعات من الآن ،

سأقف لأعرض بحثى هذا فى المؤتمر الدولى الأول للمؤرخين..

بعد ست ساعات فقط من الآن…

سأنهى أسطورة هذا القزم الثرثار.

(يمشى منتشيا بما حققه،موجها كلامه للجمهور):

سيترجم بحثى هذا إلى العديد من اللغات،

وسأُطلب لعرضه فى العديد من المؤتمرات العالمية .

(يومىء برأسه مقرا لنفسه بما قال آنفا ) :

نعم..نعم .

(يتحدث بصوت خافض كأنه يحدث نفسه):

سأصبح مشهورا، ذائع الصيت.

أسمى المؤرخ المصرى الشهير/

السيد عبد الرحيم.

(يشد جلابيته على جسمه بكلتا يديه ثم يمسح بهما على شعر رأسه الخفيف المهوش،ناظرا إلى الجمهورويفتح الملف ):

سأقرأ عليكم بعض مما قيل عن هذا الــ هيردودت.

(ويبدأ فى القراءة):

جاء هيردوت إلى مصر وعاش فيها خمس سنوات (460-455 ق.م)،وهو من الشخصيات المثيرة للجدل ما بين معجب به وساخط علية- (يشير إلى نفسه قائلا) : مثلى أنا. (يسترسل): فمن العلماء من أزدراه وحط من قدره.

(يظهر على وجهه سعادة بما يقول ثم يغلق الملف مرددا) : والله عندهم حق… عندهم كل الحق (ثم يعود لقراءة الملف مرة أخرى): وهناك من قدر الرجل حق قدره

(يقولها بإهمال وعدم رضا ثم يتحرك ليصبح خلف المكتب بحيث لا يظهر منه شيئا،وكأن الكتب الذى أمامهُ على المكتب هو الذى يتحدث ثم يقرأ )  قال عنه عالم الأثار الفرنسى الشهير “مرييت” (أقترح أن يأتى الكلام على لسان آخر غير صوت البطل ويكون صوتا رخيما مصحوبا بموسيقى ذات طابع فرنسى):

“إنى أزدرى هذا السائح الجوال؛ فقد زار مصر فى وقت كانت اللغة المصرية القديمة ما زالت معروفه،وكان بإمكانه الحصول على حقائق تاريخية أساسية،ولكن لم يتعد قوله إن أحدى بنات خوفو بنت هرما من كسب البغايا.. ،

ألم يكن من الأفضل لعلم المصريات ألا يكون هيرودوت قد وجد أصلا؟”.

(يخرج البطل من وراء المكتب،متضاحكا،متحدثا إلى الجمهور،

أرأيتم كل ما قدمه لنا تفسيرا لما يحدث الآن فى شارع الهرم.

يعنى ما يحدث(يؤدى حركة راقصة بصدره) كان يحدث من أيام خوفو(ضاربا كفآ بكف) .

ناقص كان يقول:

“إن كازينو الليل أصلا كان ملك خفرع،وأنه كان مشروعه اللى صرف منه على بناء الهرم الثانى ومجموعته الهرمية!!

لعنة الله على هيرودوت.

(ينسحب إلى ما وراء المكتب مرة أخرى ويختفى، بعد أن يقول لنستمع إلى رأى المؤرخ “سترابو” فى الرجل،يأتى الكلام على لسان سترابو بـــــــــ صوتا رخيما مصحوبا بموسيقى يونانية):

“إن هيرودوت وأقرانه من الذين يقولون الكثير المحتوى على فضول القول والهذر لمجرد التشويق ”

(يخرج البطل من وراء المكتب،وقد أرتدى بيجامة مقلمة وطقيه من نفس نوع ولون قماش البيجامة وخلع نظارته إستعدادا للنوم)

قائلا:

وشهد شاهدا من أهله.

أهو..بلدياته شايفه ُمهرج، مجرد ُمهرج،

أما أنا.

فلى حديث آخر أخطر وأنكى مما قيل فى الرجل،لذلك سأخلد الآن للنوم ،

وأدعوكم جميعا للحضور معى فى الصباح لتروا وتسمعوا ما سوف أقوله فى هذا الرجل..القزم الثرثار.

الدعوة عامة.

(يتوجه إلى السرير وينام وهو يردد مقولة):

القزم الثرثار،        ،

القزم الثرثار،

الثررررثاااااار القزززم.

(ثم يغرق فى النوم).

 

 

 

 

 

 

المشهد الثانى:

 

ينطفىء النور،ونستمع إلى موسيقى حالمة،ويخرج دخانا كثيفا من قبل المكتبة،ينقشع الدخان رويدا رويدا(أقترح أن تتغير الموسيقى من حالمه إلى موسيقى يونانية بمجرد ظهور هيرودوت) ليظهر أمام الجماهير رجلا عجوزا، قصير القامة، يرتدى ملابس أغريقية قديمة،ويحمل قرطاسا من جلد الماعز وريشة من ريش النعام يستخدمها فى الكتابة،يتقدم نحو المكتب ،يمسك ببعض الكتب ويتصفحها ، يظهر على ملامحه المرح والظرف وكأننا أمام جحا أو أبو نواس ، يمسك بالملف الذى كتبه البطل عنه يقرؤه،يظهر على ملامح وجهه الجدية والرفض لما يقرأ.

تتوقف الموسيقى وهو فى طريقه لإيقاظ البطل بعد أن وضع الملف على سطح المكتب مرة أخرى.

هيرو:(يربت على كتف البطل برفق ،يناديه بإسمة)

أستيقظ يا مؤرخ يا عظيم..

يا عرب..

يا أيها العبقرى.

(البطل بين النوم واليقظه محاولا الهروب إلى النوم دون فائدة،

رافعا رأسه.مندهشا،فاركا لعينيه)

السيد :(يجلس على السرير نصف قومه)

من؟ من أنت؟!

هيرو: (مبتسما) أنا القصير الثرثار ! أو الثرثار القصير!!

السيد :(غير مصدقا،محاولا تغطية رأسه بالملاءة وهو يصرخ)

لا..أتركنى..!!

أتركنى..من أنت؟!

هيرو: (محاولا تهدئته،وكشف الملاءة عن وجهه ورأسه، وبإبتسامة حانية ) لم أعرف أنك خواف لهذه الدرجة!!

السيد: (مضطربا،ينظر إليه طويلا)

من أنت؟

هيرو :(وقد وقف بجانب السرير ناظرا إلى الجماهير)

أنا أبو التاريخ … هيرودوتس.

(السيد  وقد فقد الوعى فأصبح نصفه السفلى على السرير ونصفه العلوى ،

رأسه على الأرض،يقوم هيردوت بأحضار كوب ماء ويأخذ منه كميه من الماء فى فمه ويرشها على وجه السيد، ضاحكا ،ومخاطبا الجماهير)

هيرو: لقد تعلمت هذه الحيله منكم أيها المصريون.. يالها من ليله !

(محاولا رفع رأس السيد من على الأرض وإعادته للسرير)

السيد :(بعد أن أفاق صارخا ، ما زال غير قادرا على التصديق)

من أنت؟!

هيرو :(بإعتزاز) أنا ..هيرودتس.

السيد :(وقد إسترد بعض من وعيه،ممسكا بطنه ،وملوحا بيده فى الهواء)

الحمام ..الحمام.

(هيرويندفع ليفتح له باب الشقة؛ليقضى حاجته بالخارج،بينما

يتجه السيد  إلى باب آخر بداخل الشقة… باب الحمام).

هيرو: (مندهشا موجها كلامه إلى الجمهور)

كل شعوب الأرض التى زوتها،يتغوطون بالخارج،ويتناولون طعامهم بالداخل. إلا أنتم أيها المصريون… تتغوطون فى بيوتكم وتأكلون فى الخارج فى الطرقات،محتجين بأن الضرورات القبيحة يجب أن تؤتى فى الخفاء.(ضاربا كفا بكف) أنتم عكس كل الناس!!

السيد :(وقد عاد من الحمام واضعا فوطه على رأسه،متمتما ببعض آيات القرآن)

“وله ما سكن فى الليل والنهار وهو السميع العليم.”صدق الله العظيم.[1]

“وله ما سكن فى الليل والنهار وهو السميع العليم.”صدق الله العظيم.

“وله ما سكن فى الليل والنهار وهو السميع العليم.”صدق الله العظيم.

السيد: (موجها كلامه إلى هيرو)

قلت لىً من أنت؟!

هيرو:

أنا يا رجل من جلست الأيام والشهور تبحث عنه، وسهرت الليل كله

تكتب عنه،أنا القزم الثرثار!!

السيد :(غير مصدق ما يرى! يهب واقفا على السرير محاولا الدفاع عن نفسه) لم أقل عنكم هذا الكلام يا سيدى..أبدا !

إنه العالم المصرى الكبير سليم حسن (محاولا التماسك،ومستنكراما قاله)

وقد أختلفت معه!

هيرو: (ضاحكا)

أما عن قصر قامتى.. (محاولا الوقوف على أطراف أصابع قدميه)

فأنا أطول من “تشارلز الأول” ملك بريطانيا العظمى، حيث كان يبلغ طوله 143سنتيمترا فقط.

أما أنا فكما ترون(يتوجه إلى الجمهور على أطراف أصابعه) أطول منه ببضع سنتيمترات.

(ينزل البطل من على السرير فيظهر قصر قامته هو الآخر،وعندها ينظر إليه هيرو )

هيرو:( ساخرا) يا لك من طويل سامق!

(يتوجه البطل إلى المكتب ،يفتح الملف يخرج ورقه منه،

يتوجه إلى هيردوت محاولا أن يريه الورق مدافعا عن نفسه )

السيد : إنه الدكتورسليم حسن- رحمه الله- هو من قال عنك إنك القصير الثرثار وليس أنا.

هيرو: (بمنتهى الجدية) أما عن الثرثرة..

فإنها مران للعقل ،ولقد كان الأثينيون والرومان فى زمنى بدرجه أكبر يضعون ممارسة الحديث فى مرتبة الشرف فى أكاديمياتهم،والإيطاليون حتى وقتكم هذا يحتفظون ببقايا ضئيلة من هذا التقليد.

فالكلام ما هو إلا الفكر المنطوق ، فاللغة تنقل الأفكار،

كما أنها تنقل المشاعر والإنفعالات أيضا.

أنتم مثلنا محبون للثرثرة أيها المصريون…

(ضاحكا):

فى الماضى،والحاضر، وأعتقد أنكم ستظلون كذلك فى المستقبل.

(متوجها ناحية المكتبة الزاخرة بالكتب والبطل يسير خلفه فى حالة إعياء أو بين التصديق والإنكار لما يراه ويسمعه.

هيرو: (بجدية يشير إلى المكتبة وما تحويه من كتب موجها حديثه إلى البطل المندهش دائما)

إن دراسة الكتب عمل هزيل بطىء لا دفء فيه على عكس الحديث الذى نجد فيه الثقافة والرياضة الذهنية فى الوقت نفسه.

السيد :(محاولا جمع شتات نفسه واضعآ نظارته السميكه على عينيه.

متلعثما قليلا)

نعم.صدقت ، إن كل المؤتمرات التى حضرتها ،كان النقاش فيها يفتح أفاقآ جديدة للمعرفة والبحث. وقد قرأت مقولة منذ أمد ،أن التجارب لا تقرأ فى الكتب،ولكن الكتب تساعد على الإنتفاع بالتجارب.

 

 

هيرو: (يربت على كتف البطل وبصوت هادىء)

إنى أحب المناقشة والجدل (مبتسما)،ولكن فى صحبة قله من الأصدقاء،وفى خلوه بعيده عن الرقباء. إن المعلومات تستجيب إما للتسليم أو التشكيك،ولكنها لا تفهم السخرية منها أو من أصحابها ،فالسخرية ليست حجة وليست حجة مضادة.

(وبنظرة من قرأ شخصية البطل وسبر غورنفسه،مما يجعل البطل يشعر بالخجل من نفسه ،ناظرا إلى أسفل يسترسل)

فعرض الإنسان لنفسه فى مجلس العظماء ،ومحاولة جذب أنظارهم إليه بسرعه بديهته وجمال ثرثرته فى مباراته مع الآخرين،عمل لايليق فى رأيى بالرجال الشرفاء.

السيد: (محاولا الفكاك من نظرات الرجل التى تكشفه، مبتعدا عن المكتب،ماسحا عرق جبينه بكم البيجامه الطويل)

أتفق معك تماما ياسيدى ،فالعلم يطلب لذاته،كنت أقول هذا هنا منذ قليل.

(يشير إلى الجماهير.. إسأل هؤلاء الساده المحترمون. يحث الجماهيرعلى أن تؤيد كلامه)

هيرو: (واقفا خلفه تماما واضعا يديه على كتف البطل)

لهذا..

ولهذا فقط حضرت إليك اليوم.

فنحن :(يقولها بفخر وكبرياء).. ننظر نظرة التسامح إلى الآراء التى تخالف آراءنا .

(يذهب إلى المكتب ،ويمسك بالملف الذى يحتوى على البحث،

ويضعه فى يد السيد )

فهلم نتناقش فى مبارازة فكرية راقية فيما أوردته فى بحثك عنى،

دون خوف أو مواربة ، وكما قلت لك آنفا الاراء التى تخالف آرائى لا تغضبنى بل على العكس  تحفزنى وتنشط عقلى.

يقف بجوار السيد معاتبآ لنفسهُ

قائلآ:

ها .. أنا أعود للثرثرة من جديد.

(ضاحكا،فى حين يتظاهر البطل بالتضاحك مجاريا إياه)

(يذهب هيرو للبحث عن كرسى يجلس عليه فلا يجد غير كرسى واحد بالحجرة،فيقررالتخلص مما على سطح المكتب من كتب بإزاحتها بكلتا يديه ، لتقع على الأرض.

أمام دهشة وإحساس مكتوم بالضيق من هذا التصرف من البطل الذى يقدس الكتب،يدفع بالمكتب لصدارة المسرح ويجلس فوقه، فى حين يحضر البطل ملفه و كرسيه ، بعد أن غير  البيجامة وأرتدى الجلابية ووضع نظارته .

وإستعاد بعض من ثقته فى نفسه؛ إستعدادا لمناظرة هيرو.

ويصبحا متقابلان فى جلستهما ،وجها لوجه أمام الجماهير

(هيرودوت فوق المكتب المرتفع،والسيد فوق الكرسى قليل الأرتفاع نسبيا عن المكتب، ضوء خافت يصاحبه موسيقى هادئة، كذا  تتركز الإضاءة على الشخص المتحدث فقط).

السيد: (بعد أن فتح ملف بحثه ،وأخذ يقرأ منه موجها سؤاله لهيرو)

ذكرت فى كتابك مصر تتحدث عن نفسها إن أحدى بنات خوفو بنت هرما من كسب البغايا.

فمن أين أتيت بهذه المعلومة التى لايقبلها عقل؟

هيرو 🙁 بنبرة واثقة، يقترب بوجهه ومن مكانه فوق المكتب إلى

وجه السيد ) تركت كل ما جاء فى الكتاب وتوقفت عند هذه المعلومة!

حسنا.. لقد نقلتها عن الكهنة المصريين الذين ألتقيت بهم أثناء زيارتى للأهرامات.

السيد: (بنبرة تحدى)

وهل تأكدت من صحة المعلومة قبل توثيقها؟

هيرو:  (بإبتسامة)

وكيف ؟!

إن الكهنة المصريين هم حفظة أسرار الفراعين العظام،والأعرف بلغتهم وفنونهم وسحرهم،فهم ثقات بحكم مكانتهم..

وقد تعلم منهم فيثاغورث علم الكلام ونظريات المساحة والحساب،

وأقتبس ليكرجوس وأفلاطون وصولون كثيرآ من السنن المصرية فى شرائعهم ، ويقال إن هوميروس شاعرنا العظيم نقل عنهم أسطورة معاشرة زيوس لهيرا.

بل إن الفيلسوف اليونانى القديم هيكاتايوس الملطي يقول: أنا أكتب ما أعتبره صحيحا؛ لأن قصص الإغريق كثيرة وتبدو لي مضحكة. وقد استخدم تحليلا عقلانيٍّا لتخفيف لهجة الأساطير الشاذة التي صادفها ،لكن دون نبذها نبذً ا مباشرا.

السيد: (متهكما)

إذا نقلت كل مل قيل لك دونما نقد أو  تمحيص!

هيرو :(بثقة)

لقد أستخدم كثير من المؤرخين فى الزمن الماضى الأصول التاريخية دون نقد أو تمحيص،إذ أنه  أسهل على الإنسان أن يصدق بغير مناقشة،ويوافق دون نقد.

السيد: (مستنكرا)

ولكنه من غير المستطاع للمؤرخ أن يصل إلى الحقيقة التاريخية،

إذا لم يُعمل النقد فى كل ما يقع تحت يده من أنواع الأصول التاريخية.

هيرو: (مبتسما)

في الوقت الذي زورت  الأهرامات، كان عمر الأهرامات ألفي عام!!

فما أكثر ما يتكلم الناس عن ضرورة النقد،ولكن كثيرين منهم لا يطبقونه عمليا،لأنه ليس بالأمر السهل.وقد يكون الإنسان فى حياته اليومية أميل إلى تصديق ما يصادف هوى فى نفسه،وأبعد عن تكذيب ما يصطدم بعواطفه ورغباته.

وليس من المستطاع قبول أقوال الناس بنفس الثقة،لإختلاف قيمهم وأغراضهم ونوازعهم .وأصحاب النفوس الزائفة يكذبون وينافقون ويغررون للوصول إلى أغراضهم ومطامعهم.

أو ليس ذلك أدعى إلى الخداع والبعد عن الحقيقة السافرة؟

فإذا كانت هذه هى الحال فيما يتعلق بالحاضر،فما بالنا بحوادث الماضى.

السيد: (متصيدا لبعض كلمات هيرو)

إّذا وكما قلت وليس من المستطاع قبول أقوال الناس بنفس الثقة.

هيرو 🙁 موضحا) :

إن المرء كي يفهم التاريخ يجب أن يفهم الأصول،وقد تعاملت مع أصول الأصول، منوها إلى أن التقاليد السائدة حيال التقاليد إنما هي محل شك، وأنه يجب علينا أن نأخذ المصدر بعين الاعتبار. وكان ينبغي أن يتذكر من ينتقدونى بسبب بعض الحكايات غير المعقولة الواردة في كتبى  دورى في تأسيس نقد المصدر.

ولكن أقول لك أن رجال الدين هم أهل الثقة دائمآ وفى كل العصور،ليس فقط فى أيام الفراعنة العظام بل أستمر الأمر فى العصر المسيحى والإسلامى أيضآ.

(يتوجه تصحبه الإضاءة إلى مكان المكتبة يمد يده باحثا عن كتاب،يمسك بكتاب،ويعود إلى حيث يجلس السيد،ويعطيه له،السيد يتصفح الكتاب أثناء حديث هيرو إليه)

هيرو:إن الرهبان والقساوسة قاموا بنفس الدور،وقد سجلوا بعض المعجزات والكرامات تناولا بعيدا عن الموضوعية،وعدم الإهتمام بتحرى الصدق فى سرد الحقائق ، وإهمال عامل الزمن فى سرد الحوادث،وبين يديك  نسخة من كتاب القديس أوغسطين الذى أطلق عليه أسم مدينة الله سنة 400م.

فهل يزعجك ما جاء فيه بصورة أكبر أم معلومتى المشينة من وجهة نظرك!!

السيد (متصفحا للكتاب،مندهشا لما تقع عيناه عليه من معلومات،وكأنه لم يطلع على هذا الكتاب من قبل)

هىرو: (بثقة) :

وستجد بين سطور هذا الكتاب إن القديس-أوغسطين- ملأه بشخصيات الأنبياء والرسل مثل آدم وأولاده واحفاده نوح وإبراهيم ،كما بدأ الماضى منذ خلق آدم حتى هبوطه إلى الأرض،ثم من الهبوط حتى ظهور المسيح وفدائه،ومن مستقبل يبدأ من حادثة الصلب والفداء حتى نهاية التاريخ.

ولعلك تلاحظ أن التوقيت الذى وضعه القديس هو توقيت خرافى صرف

إذ أنه قدر حياة الإنسانية على الأرض بسبع أيام من أيام الله،

وكل يوم منها يساوى ألف عام،ويمتد اليوم الأول من خلق آدم حتى الطوفان،واليوم الثانى من الطوفان حتى عهد إبراهيم،والثالث من عهد إبراهيم إلى داود،والرابع من داود حتى الأسر البابلى لليهود،والخامس من الأسر البابلى إلى ظهور المسيح،ومنذ ظهور الأخير تعيش الإنسانية فى يومها السادس،وفى نهاية هذا اليوم يكون الحساب الأخيروالبعث،فى حين أن اليوم السابع ،هو ذلك الذى يستريح فيه الله،ولا نهاية لمثل هذا اليوم.

ولعلك تلاحظ أيضا أن كل من  اشتغل بتدوين التاريخ من المسيحيين وجلهم من رجال الدين حاول جعل التاريخ فى خدمة الكنيسة والعقيدة،

ولهذا تضاءل النقد،ونزل الجزم عندهم منزلة الصدارة،وتضاءلت أيضا الملاحظات و التأملات التى عرف بها المؤرخون السابقون..

(ضاحكا):………

أمثال هيرودوتس.

السيد:

نعم.صدقت، ومن هنا ينشأ الفرق بين الكاتب والمؤرخ.فالمؤرخ يقوم بتحليل الحدث واستنتاجه ووصف لما وقع ويقع.

هيرو:

ومع ذلك فإن التاريخ ليس عبدا للمؤرخ يوجهه حيث شاء. وعلى المؤرخ أن يناقش ويفهم ظروف صاحب الخبر ومذهبه وهواه،والعصر الذى عاش فيه،وإمكانية وقوع ذلك الخبر فى مثل ذلك العهد ثم يحكى ما حصل عليه على أنه لسان معبر عن الحادث لا مساهم فيه ومشارك.

هيرو: (واضعا فى يد السيد كتابا آخر)

أنظر ماذا قال “المقريزى” عن أول موضوع مُعين اقترحته حكومة إسلامية- وهى الحكومة الأموية- لتثبيت أقدامها هى القصص والأساطير.

فلقد أمر معاوية بن أبى سفيان قصاصا ليجلس إلى الناس،بعد صلاة كل فجر،وبين صلاتى المغرب والعشاء ليحكى تلك القصص المتضمنة الدعوة له ولأهل الشام منذ عام 38هـ.

السيد 🙁 متصفحا الكتاب.ومصدوما من كل ما يسمع من هيرو)

هيرو: (بجدية ) إقرأ ماذا كانوا يقولون للناس؟

السيد :(يبدأ بالقراءة من الكتاب بصوت عال أمام الجمهور)

وقد جند معاوية لـ قيام الدولة الأموية وتوطيد دعائمها، خطباء المساجد،والشعراء،والقصاص.وبلغ الأمر إلى وضع أحاديث ونسبتها إلى أساطين رواة الحديث أمثال أبى هريرة وعائشة،وابن عمر لفرض الطاعة،وإعفاء الخلفاء من العقاب يوم القيامة،فقد جاء فى إحدى الروايات أن جبريل(عليه السلام) أتى  إلى الرسول (صلى الله عليه وسلم) فقال:

” يا محمد أقرىء معاوية السلام،واستوص به خيرا فإنه أمين الله على كتابه ووصيه، ونعم الأمين”.

وجاء فى نص آخر أن النبى قال:

“الأمناء ثلاثة جبريل وأنا ومعاوية”.

كما روجوا أحاديث تعفى الخلفاء من العقاب يوم الحساب .

مثل:

” إن الله تعالى إذا استرعى عبدا رعية كتب له الحسنات، ولم يكتب له السيئات”. ويقول نص آخر”إن من قام بالخلافة ثلاثة أيام لم يدخل النار”.

السيد : (يظهر عليه الوجم والرفض لما قرأ ثم يقف بعد أن أغلق الكتاب والملف التى بين يده ،ملتقطآ أنفاسه ، ناظرآ إلى هيردوت)

أستغفر الله العظيم….

أستغفر الله العظيم.

(يقترب من الجمهور هامسآ لهم)

إنه نفس كلام إخوانا البعده، أستغفر الله العظيم..أستغفر الله العظيم

 

(محاولآ التماسك أمام ما قدمه هيرو له من حقائق دامغة ،تؤكد أن تقديم معلومات زائفة داخل إطار دينى،لا قدرة لأحد على نقدها فى الماضى والحاضر وربما فى المستقبل)

السيد : إننى لا أتوقف أمام هذه المعلومة لكونها حقيقة أو خرافة،أننى بصراحة أرفض طريقة النقل فى كتابة التاريخ خصوصا،أننى ضد هذا المنهج، أن عكف الرهبان على نسخ وتصحيح المخطوطات القديمة،وخلط التاريخ بالديانات القديمة والحديثة أيضآ أفقد علم التاريخ إستقلاله،بل أصبح ملتصقا أشد الإلتصاق بالمواد الدينية.

أى أن التاريخ ظل فى عزلة،فرضت عليه من رجال الدين.

هيرو: (جالسا على المكتب،وبصوت مرتفع مملوء بالفخر)

معك بعض الحق ،لكن نحن الإغريقيون أول من عرف التاريخ بأنه فن من الفنون. (ثم يوجه كلامه إلى الجمهوروكأنه يتحدث إلى نفسه ،بنبره معاتبه )

وإن كنا أيضا السبب فى أن ينظر إلى الكتب التاريخية على إنها كتب لسرد أخبار المعجزات،والأساطير التى إلى جانب عنصر الإيثارة والتشويق تحمل العظات والعبر .

(ثم يسترد نفسة ويقف ناظرا إلى السيد الذى يقف بجانب المكتبه وكأنه يحتمى بها)

هيرو:

لا يعجبك منهج النقل إذآ!

وهل صار للشرق علم ؛بغير هذه الطريقة.

كان المعلم يلقن تلاميذه ما أخذه عن أساتذته ، وتكاد لا توجد فى الكتب التى أمامك (فى المكتبة يقف جنبا إلى جنب مع السيد) عبارة إلا وهى فى الكتب القديمة؛وبهذه الطريقة نجا العلم من الضياع.

السيد: (محاولا توضيح رأيه )

أقصد أنه كان على المؤرخين الأوائل مثلك أن ينقدوا ما كتبه رجال الدين من ترهات وأفتراءات،لا أن ينقلوا عنهم.

هيرو:(بنبرة هادئة،متقدما ناحية الجماهير)

إنك تهمل عامل الزمن يا صديقى،وهو المرادف الفعلى للتاريخ بل هو التاريخ؛فمنذ فجر التاريخ وحتى العصور الوسطى كان ينظر إلى التاريخ على أنه هو السجل المتضمن لأفعال الله نحو الإنسان،وهذه الفترة الطويلة أحتكر رجال الدين كتابة التاريخ،

ثم بعد العصور الوسطى ومع بداية عصر النهضة الأوربية  نُظرإلى التاريخ على أنه السجل المتضمن لأعمال الإنسان،وهكذا حرص مؤرخو عصر النهضة على صبغ التاريخ بصبغة زمنية.

السيد: (مستنكرا كل ما يسمعه ،ويقرأ) لكنى أعتبر أن الخرافات والأساطير لا يمكن أن تشكل مصدرا يمكن الإعتماد عليه،وقد تكون هذه أو تلك مغذية للحلم والخيال،ولكنها ليست مصدرا للتاريخ ، ومن دون وثائق لا تاريخ يُكتب.

هيرو :(بحزم) :

ولكن الحكمة والأمثال والأساطير مادة من المواد الأساسية فى تدوين الحياة،وأن كنت أتفق معك فى إنها وحدها غير كاف؛إذ لابد من الإستعانة بمصادر أخرى.

إن التاريخ أسئلة أكثر مما هو أجوبة،فالكتابة التاريخية تستدعى الإحاطة بمميزاته بعيدا عن الأيديولوجيا المعقدة.

فكل ما يتعلق بدراسة التاريخ ينطلق من منطلق نظرى لايمكن إثباته فى شكل قاطع.وليس هناك حقيقة تاريخية يقينية إلا إذا دخل عامل علمى حاسم كالفلك أو علم الجيولوجيا أو غيرهما.

السيد :(متسائلا)

إذا كيف يمكن أن ترى دور الحكمة الشعبية فى التاريخ بأساطيرها وخرافاتها وسائر المأثور؟

هيرو:

هى سند للمؤرخ فى دراسته للأحوال الإجتماعية والنفسية والخلقية لأمه ما ، فهى إذن من الدراسات الأساسية فى الوثائق التاريخية ،والتى يجب أن يلجأ إليها المؤرخ فى تدوين التاريخ.

فمثلا ..

يرى الباحثون المحدثون أن الملاحم الهوميرية[2] من ثمار التراث الشفهى،وتخبرنا الأوديسا عن جولات “أوديسيوس” الذى أشترك فى حرب طروادة،كما تضم العديد من اللوحات للحياة اليومية،مما يجعلها واحدة من أهم مصادر المعرفة للحقبة القديمة من تاريخ الإغريق،وكذا دراسة الأساطير الإغريقية.

السيد 🙁 يقوم بتقديم كوب من الشاى لضيفة،وبنبرة بها ترحاب)

تفضل يا سيدى، فقد أرهقتك..

وربما أثقلت عليك بحوارى السابق.

هيرو:(ممسكا بكوب الشاى،مداعبا للسيد)

كدت أنسى الكرم المصرى!!

السيد: (ممسكا بملفه يقرأ منه،وبنبرة بها شىء من الخبث،والإضاءة عليهما معا وكأنهما فى إستراحه من النقاش)

تشتهر بيننا بل فى العالم كله  بمقولتك العظيمة عن مصر:

“مصر هبة النيل”.

هيرو: (هادئا يرتشف من كوب الشاى،ينظر إلى السيد نظرة ثاقبة)

نعم.. قلت أن مصر هبة النيل.

فماذا فى هذا؟!

السيد :(ناهضا متجها إلى المكتبة،باحثا عن كتاب،يمسك به وكأنه وصل إلى هدفه،يعود إلى حيث هيرو جالسا، يعطيه الكتاب،يترك هيرو كوب الشاى ويمسك بالكتاب ويبدأ فى تصفحه)

السيد :(واقفا منتشيا،وقد تركزت عليه الإضاءة وحده،وبنبرة واثقة)

بين يديك كتاب شخصية مصر للمؤرخ المصرى العظيم جمال حمدان،

وفيه إتهام صريح ومفند لمقولتك التى أغفلت فيها عن قصد

(يخفض من نبرة صوته) أو عن غير قصد دور المصريين فى ترويض هذا النيل،وهو يضيف لمقولتكم أن مصر هبة النيل والمصريين.

يقول جمال حمدان:

إن دراما التاريخ الحضاري المصري برمتها وعلي طولها يمكن أن تختزل أساسا في صيغة صراع ملحمي بين المصري وبين النيل ،

تؤلف أدواره وفصوله (سياجا) ايكولوجية حقيقية تبدأ بالعنصر الطبيعي سيد الموقف بل إلها يعبد وتنتهي أخيرا باليد العليا للعنصر البشري.

فلماذا أغفلت هذا؟!!

هيرو:(متصفحا الكتاب،وقد تركزت عليه الإضاءة دون السيد،وبإبتسامة رقيقة) نعم.. قلت أن مصر هبة النيل،ومقولتى تلك كانت وستظل أول ما يدرسه الطلبه فى العالم عن مصر.

يعتقد البعض – وأنا أراك منهم – أن الناس ينجزون الحضارة عندما يحولون الطبيعة بجدهم الشاق؛ومن ثم وخلال هذه العملية يحسنون من أنفسهم ومن ظروف معيشتهم.

ويرى آخرون أن الإنجاز الحضارى موروث؛أعنى جزءا من تراث تاريخى تناقلته أجيال النخبة جيلا بعد جيل.

ويذهب فريق ثالث إلى أن الحضارة مغروسة متأصلة فى العلاقات الإجتماعية.

ويرى غير هؤلاء أن الحضارة تعبير عن حالة تفوق بيولوجى!!

ومصر من الحضارات النهرية ولكن دور نهر النيل فى مصر مختلف؛

فهو لم يعلمكم الزراعة والإستقرار فقط  بل غرث فيكم القيم والأخلاق ،

وهما بحق أعمدة  قيام أى حضارة إنسانية على مر التاريخ.

أنظر مثلا شعوب مثل  الهكسوس والتتار أين حضارتهم؟!!

أين ما قدموه للبشرية من إنجاز حضارى!!

لا يوجد،لأنهم ببساطه كانوا شعوبا بلا أخلاق .

هيرو:( مبتسما واضعا  يده على كتف السيد هامسا له )

هل تعرف من هو قائد ثورة 25 يناير ،30 يونيو.

السيد:(مندهشا )

وهل تعرفه – أنت- ياسيدى؟!

هيرو:

إنه نهر النيل ،هو قائد الثورتين،بل وقائد الثورات الماضية والقادمة أيضا.

السيد: (منكرا لما سمع ساخرا منه أيضا)

وكيف حدث هذا ؟!

هل ترك النيل مجراه ونزل إلى ميدان التحرير والإتحادية!!

(وبصوت خافض)

أنت تهذى يارجل.

هيرو :

سمعتك! وسأشرح لك قصدى.

علم النيل المصريون القدماء كيف يتحدون عند الشعور بالخطر وخاصة أوقات الفيضان ،ويتعاونوا فى بناء بيوتهم فوق الروابى العالية،وأن يتجمعوا معا حتى يزول هذا الخطر وبذلك رسخ فى جيناتكم الوحدة والتعاون ولكن للأسف وقت الخطر فقط!!.

فعندما تشعرون بأن كيانكم ووجودكم فى خطر تتجمعوا كأجدادكم للزود عن حياتكم ومصيركم سواء كان الخطر فيضانا أو فسادا .

(وبنبرة معاتبة متوجهآ نحو الجمهور)

إن العجب حقآ !

فى إنكم – حتى الأن- لم يخطر على قلب أحدكم أن ينادى بوضع هذا النهر كرمز على علمكم ،وتتركون لعدوكم هذا الشرف!

إن العجب حقآ ! أن ترضوا أن يعبث عدوكم بهذا النهر العظيم ،وأن يزرع السدود فى منبعه وأن تشاهدون ذلك وكأن الأمر لا يعنيكم!

السيد: (خجلا)

معك كل الحق..معك كل الحق.

ولكن كيف عرفت بأمر السدود والثورات وعدونا المتربص بينيلنا العظيم.

كيف عرفت كل هذا؟!

هيرو: (ظاهرا إعتزازه وأفتخاره بنفسه)

أنت دائما تنسى إننى أبو التاريخ..

كما أنك تنسى دائما إننى عاشق لتراب هذا الوطن،

فمصر تملك على ً خلجات نفسى.

(مداعبا)

أيها المصرى،

صغير السن..كبيرالحسب والنسب.

(السيد منهكا يبحث فى ملفه عن إتهام جديد يوجهه لهيرو،ثم يتجه إلى المكتبة، فى حين يقف هيرو موجها كلامه إلى الجمهور)

هيرو: إننا لانتريث أمام من يعارضنا عادة لنتأمل إن كان على حق ،بل يكون همنا أن نتخلص منه بإية وسيلة،طيبة كانت أم خبيثة. وبدلا من إن نمد إليه أيدينا،فإننا نمد إليه مخالبنا.

السيد: (عائدآ من امام المكتبة بكتاب يقدمه إلى هيرو)

سيدى ذكرت أن الحاكم الفارسى قمبيز،عندما غزا مصر،أراد تدمير معبد آمون بواحة سيوه ،وأنه أعد لذلك جيشهآ قوامه 50 الف جندى ومعهم معداتهم ،وأن ريح جنوبية بالغة العنف أهالت عليهم الرمال أكواما فهلكوا جميعا. فكيف حصلت على هذه المعلومة،وهل تأكدت من صحتها قبل تدوينها فى كتابك؟!

هيرو: (بنبرة هادئة)

أخبرنى بهذه المعلومة كهنة الإله آمون فى سيوه،حيث ذكروا أن آمون أرسل عليهم لعنته وغضبه وإنتقامه،وهكذا طمر جيش قمبيز تحت رمال الصحراء الغربية فى مكان ما فى منتصف  الطريق

(يفتح قرطاسه ويقرأ منه)

بين واحتى الخارجة وسيوه.

وسأذكر لك واقعة أحدث زمانيا وقعت فى نفس المكان، تؤكد لك صدق ما كتبت. ففى عام 1805م. دفنت نفس الرمال قافلة مكونة من ألفين رجل ومعهم إبلهم بينما كانوا فى الطريق من غرب السودان إلى أسيوط.

ولكن……..

( يلتفت إلى السيد ويأخذ من بين يديه الملف الذى يحتوى على بحثه،ويتصفحه سريعا،وهنا تكون الإضاءة على كلا منهما)

ثم يبادره قائلا:

كل هذا البحث المطول يخلو من كلمة حق قلتها فيكم أيها المصريون العظماء،كيف أغفلت أنت ذلك،عن قصد أم عن غير قصد!!

السيد (يهم أن يرد ولكن هيرو يمنعه)

هيرو :

بل عن قصد…

إن كل ما كتبته  نابع من تجربتى الخاصة ،المؤرخ يابنى كالمسافر الذى يروى مشاهداته وحصر التاريخ فى سرد الأحداث .

أو هكذا كان فى عصرى.

السيد: (متسائلا)

وكيف لنا أن نفرق بين الغث والثمين فى كتاباتك ؟

هيرو :(بهدوء)

يا بنى ..

ليست هناك نظرية علمية خالدة،بل لو استمرت نظرية واحدة لمدة طويلة من الزمن فهذا دليل ركود لا يحبه العلم.

(يصمت قليلا،ثم يُعيد النظر إلى السيد )

يابنى ..

لو كلفت نفسك فقط الدقة فيما قرأت عنىً من كتب،لأدركت مدى أمانتى العلمية ومنهجى فى كل ما كتبت،فعندما أُسجل بقلمى نحو َ خمسمائة ملاحظة تقييمية من نوع أو آخر على غرار: أعرف، أعتقد، أظن، لا أعرف، لا يسعني القول، أخمن، يبدو على الأرجح أو غير محتمل، بلغني …لكني لا أعتقد ،وهذا يضع ثراء المتن الخلاب وغموضه تحديات أمام القارئ تجتذبه .[3]

فعندمت أكتب بأننى رأيت كذا وكذا،فعليك أن تصدقنى ،وعندما أسجل بقلمى ..قيل لى ،حكى لى ،فعليك أن تتوخى الحذر.

وكنت فى بعض الآحايين أذكر أنه قد قيل لى،وقولهم هذا لا يبدو لىً جديرا بالتصديق. وكثيرًا ما طرحت روايات مختلفة لعدد من الأحداث التاريخية، مؤيدا أحيانً إحداها على الأخرى، وتاركا أحيانًا لكم حرية الاختيار.

كما إنى ذكرت بالحرف :

إن العهدة فيما كتبت وأسلفت على المصريين أنفسهم..

ولكن أخبرنى،

هل قرأت كل كتبى؟

السيد : (مترددا)

لا!(مترددا) نعم !

فقط قرأت الكتاب الثانى .

هيرو: (بحزم)

وهل قرأته كاملا؟

السيد: (بتردد)

نعم…لا، قرأت بعضه.

هيرو: (بفخر)

لقد قمت بكتابة تسعة كتب،حوالى ثلاثين لفافة من هذه اللفائف(يلوح بالقرطاس الذى فى يده)  وجعلت لها عنوانا “إيستوريا”،

وهى الكلمة المناظرة لكلمة تاريخ فى اللغات الأوربية المعاصرة.

والكلمة تعنى فى اليونانية الإستفهام والتقصى من أجل الفهم ،فالتاريخ هو علم  التعلم والمشاهده ،وكما سمعت فأن هذا المنهج يرتكز على خاصتين من خواص الفكر اليونانى القديم فى القرنين السابع والسادس قبل الميلاد وهما المشاهدة والتساؤل.

ولهذا،

ولهذا فقط أُعد بحق إمام الدراسات التاريخية فى التاريخ الأوربى عامة.

فهل عرفت منهجى ؟

السيد: (بخجل)

نعم.

هيرو :(بحزن)

كنت أعتقد أن هدفنا واحد وهو إظهار الحق،وإن من دواعى سرورى أن القاك فى منتصف الطريق شريطة أن تمتلك الشجاعة لتصحيح آرائى وإجتهاداتى.

إنى أشعر بالفخر والكبرياء بإنتصارى على نفسى حين أستسلم أمام حجة محدثى ولن أقول عدوى أكثر مما أشعر بالرضا حين أنتصر على عدو ضعيف الحجة،وأنت يا صديقى ضعيف الحجة..

ا(لسيد جالسا على كرسي محاولا الدفاع عن نفسه،غير أن هيرو لا يعطيه فرصة،يتوجه هيرو إلى الجمهور،مشيرا بيده إلى السيد القابع فى مكانه خجلا)

هيرو :

يا سادة كما رأيتم وسمعتم،صديقى هذا ضللكم،بحثا عن ماذا؟!

شهرة زائفة! ،ومجد لا يدوم!

إتهمنى بعدم الموضوعية ووقع هو فى الحفرة نفسها. آحببت مصر،أما هو فكان حبه لنفسه أشد،ُ جبت مصر كرحالة،والحوادث والأوصاف التى يسجلها الرحالة تمتاز فى أحوال كثيرة بإعطائها دقائق وتفاصيل ،وبتصويرها لنواح من روح العصر،وهو ما لايتاح بسهولة للكاتب المتأخر.

قضيت خمس أعوام فى تأليف كتابى عنكم . في عصر خلا من المصابيح الكهربائية والتليفزيون والإنترنت!

أما هو فأكتفى بالجلوس لنفسه الأمارة بالسوء يبحث عن كل نقيصة ليلصقها بشخصى.

هيرو:(متوجهآ إلى السيد)

أخبرنى؟ ماذا تعلمت أنت من دراسة التاريخ؟!

(السيد جالسآ لا يتكلم)

هيرو: (متوجهآ إلى الجمهور)

التاريخ يحث الناس على العدل،ويثلب الأشرار،ويقرظ الصالحين.

حتى الأساطير التى تدور حول العالم السفلى- وليس لها أساس من الحقيقة- كانت عاملآ كبيرآ فى تقوى العالم وعدله،فكم يكون التاريخ ،وهو نبى الحق ومعقل الفلسفة كلها. أشد قدرة فى توجيه الأخلاق الإنسانية نحو النبل والشرف والحق.

فيجعل التاريخ المواطن العادى قادرآ على القيام بأعباء القيادة،ويدفع القادة إلى الاضطلاع بأنبل الغايات.هذا إلى أنه يجعل الجند أكثر استعدادآ لمواجهة الأخطار فى سبيل بلادهم؛أملآ فى حسن الذكر بعد الموت،وهو يثنى الأشرار ويقمع دوافع الشر فيهم خوفآ من العار الأبدى.

هيرو:( متوجها إلى السيد )

من عادة الإنسان أن يهول فى زمانه،وأن يسخر من الماضى،لكن القادمين سيسخرون منا أيضا باعتبار أنهم أقدر وأمكن عقلية ممن تقدم عليهم .

ولكن…

هل درست التاريخ أيها الباحث فى التاريخ؟!

(لا ينتظر إجابة،بل يوجه كلامه إلى الجمهور مرة أخرى)

قائلآ:

إنت من بعض المؤرخين والكتاب الذين يرسمون القصد فى أدمغتهم ويضعون الأهداف فى رؤوسهم قبل الشروع فى الكتابة،فإذا كتبوا عمدوا إلى ما يروقهم من خبر أو أخبار،وما يلائم قصدهم من رواية أو روايات،وإستندوا إليه وبنوا حكمهم على ذلك.!!

وإن كانت رواية أبنه كيوبس[4] قد أثارت حقدك على شخصى.

فإن عالم المصريات الفرنسى الشهير ماسبيرو قد ضمها إلى مجموعة الأدب الشعبى المصرى القديم.

(يتجه إلى الجمهور)

قائلا:

يا سادة كما رأيتم وسمعتم،صديقى هذا ضللكم.

فلم يذكر لكم بإننى:

أول من قلت عنكم إنكم أكثر شعوب الأرض تدينآ،و إنكم أول من استخدم أسماء الآلهة الاثني عشر الذين اتخذهم الإغريق فيما بعد.

وأول من تنبأ بطالع المرء من يوم ميلاده، وأول من استحدث لقاءات ومسيرات احتفالية وعلم الإغريق إياها.

ولم يخبركم بإننى أول من قلت عنكم إنكم أكثر شعوب الأرض نظافة.

وإننى أنكرت تضحية المصريين بالرجال على قبر بوسيريس”أوزيريس”. وإن ما سجلته فى كتبى كان السبب فى أهتمام علماء العالم كله بمصر وساعد فى الكشف عن العديد من المواقع الأثرية..

بل إننى أنصفت حضارات مصر والعراق عندما أرجعت إليها الفضل فيما وصلت إليه الحضارة الإغريقية التى يدين  لها الغرب بالولاء.

وقد ذكرت أن معظم فلاسفة الأغريق القدامى أمضوا جانبا من حياتهم فى مصر وبلاد النهرين ،فلا تستطيع حضارة ما أن تدعى أنها نبتت من تلقاء نفسها،وتنكر فضل الحضارات الأخرى عليها.

فدائما ما يحدث تلاحق بين الحضارات.

هيرو: ( متوجها بحديثه إلى السيد):

والآن على أن أرحل يا صديقى اللدود،قدم بحثك إن شئت،وأفرح بتصفيق الحضور،فهذا لن يغيير من الأمر شيئا ،

(بزهو)

سيظل هيرودوت جغرافيٍّا مثل هيكاتايوس، الذي كتب عن العادات التي صادفها في أسفاره الواسعة، أو شاعر ا مثل سيمونيدس، الذي مجد أبطال الحرب الفارسية بأسلوب هوميري، أو بندار الذي تضمنَت قصائده الغنائية الاحتفالية حكايات أسطورية، أو قاصا مثل عيسوب، الذي سحر الألباب بحكاياته الهادفة المتضمنة الحيوانات.

فأنا كما أنا .. أبو التاريخ.

“وأن يحسدك الناس أفضل من أن يشفقوا عليك”.

المشهد الثالث:

 

(دخان كثيف يصاحب إنسحاب هيرو من على خشبة المسرح مع عودة المكتب وما عليه من كتب إلى مكانه وكرسيه،وعودة السيد إلى سريره بعد أن أستبدل الجلابية بالبيجامة،تعود الأضاءة لتقشع أثر الدخان معلنة عن الصباح،حيث يستيقظ السيد وكأنهُ مضروب على رأسه ،يشتكى من ألم مبرح فى  كل جسمه).

السيد :(متألما)

ياله من كابوس..! كم كنت قزما أمام هذا الوحش!

لقد كاد يصرعنى..

لكن ربنا ستر.

سأقصى عليكم هذا الكابوس(مترددآ)

لا .. لا..من الأفضل ألا أقص عليكم شيئا..

خير أن شاء الله.. خير.

السيد:(يقف بجانب السرير يجدد دعوته للجمهور لحضور المؤتمر)

اليوم جميع الحضور،هو يوم المؤتمر، وأرجو أن تشرفوننى بالحضور..

وا ..وا..وا……………….

(يشعر بدوار،ويجلس على السرير متذكرا كلمات “هيرو” التى تدوى فى المكان):

فعرض الإنسان لنفسه فى مجلس العظماء ،ومحاولة جذب أنظارهم إليه بسرعه بديهته وجمال ثرثرته فى مباراته مع الآخرين،عمل لايليق فى رأيى بالرجال الشرفاء.

(يضع يداه على ُأذنه محاولا الهروب من تلك الكلمات التى تسكت فجأة. يذهب إلى حيث مكان الملف على سطح المكتب

فيأتى صوت هيرو مرددا):

إنى أشعر بالفخر والكبرياء بإنتصارى على نفسى حين أستسلم أمام حجة محدثى ولن أقول عدوى أكثر مما أشعر بالرضا حين أنتصر على عدو ضعيف الحجة.

(يقف السيد واضعآ يداه على المكتب،ناكسآ رأسه،متأملآ لصدى كلام هيرو):

إننا لانتريث أمام من يعارضنا عادة لنتأمل إن كان على حق ،بل يكون همنا أن نتخلص منا بإية وسيلة،طيبة كانت أم خبيثة!!.

وبدلا من إن نمد إليه أيدينا،فإننا نمد إليه مخالبنا.

السيد :(ممسكا الملف فى يده،محاولا إخفاؤه خجلآ.

يتردد صوت هيرو مرة أخرى)

قائلآ:

إن العجب حقآ ! فى أنكم حتى الأن ، لم يخطر على قلب أحدكم أن ينادى بوضع هذا النهر كرمز على علمكم ،وتتركون لعدوكم هذا الشرف!!

 

إن العجب حقآ ! أن ترضوا أن يعبث عدوكم بهذا النهر العظيم ،وأن يزرع السدود فى منبعه وأن تشاهدون ذلك وكأن الأمر لا يعنيكم!!

 

إن التاريخ ليس عبدا للمؤرخ يوجهه حيث شاء.

وعلى المؤرخ أن يناقش ويفهم ظروف صاحب الخبر ومذهبه وهواه،والعصر الذى عاش فيه،وإمكانية وقوع ذلك الخبر فى مثل ذلك العهد ثم يحكى ما حصل عليه على أنه لسان معبر عن الحادث لا مساهم فيه ومشارك

 

(يقوم السيد بتمزيق ملفه البحثى عن هيرو ،رافضا كل ما خطت يداه عن هذا الرجل العظيم،هيرودوت).

 

 

إظـــــــلام.

 

 

 

[1] -سورة الأنعام،آية 13.

[2] – الأوديسا:قصيدة ملحمية تشكل مع “الإلياذة” أهم الإبداعات المنسوبة إلى هوميروس شاعر الإغريق العظيم (القرن الثامن- القرن السابع قبل الميلاد).

[3] جينيفر تى روبرتس، عالم هيرودوت مقدمة قصيرة جدا،ترجمة  خالد غريب على،مؤسسة هنداوى للتعليم والثقافة،2012م.

[4] -الأسم اليونانى للملك خوفو(2700 ق.م)


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock