وجوه مسرحية

نعمان عاشور.. يعود إلى خشبة المسرح بقوة


 

شعبان يوسف

شاعر وناقد مصري

ـــــــــــ

 فى 31 ديسمبر 1956 كتب الناقد والإذاعى صلاح عز الدين -أحد مؤسسى إذاعة البرنامج الثانى «الثقافى الآن»- عن مسرحية نعمان عاشور «الناس اللى تحت»، وكانت مصر آنذاك تعيش سلسلة تحديات مهولة، الرأسمالية القديمة المتوحشة تتربص بالسلطة الثورية الجديدة، وتحاول بكل وسائلها استعادة أمجادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية المفقودة، والاستعمار المتعدد الوجوه، كذلك كان قد فشل فى تركيع المصريين نظامًا وحكومة وشعبًا، ويحاول تصيُّد أى خطأ سياسى لتسويقه عالميًّا ضد السلطة المصرية، وكانت جماعة الإخوان المسلمين قد أيقنت تمامًا أنها لن تستطيع الاستيلاء على السلطة فى ذلك الوقت، بعد أن تم التخلُّص من قياداتها شنقًا أو سجنًا أو هروبًا من البلاد، فلجأ الباقون منهم إلى النظام السعودى، وتجنّس بعضهم بالجنسية السعودية، وحاولوا تأليب النظم الرجعية على النظام المصرى الجديد.

فى ذلك المناخ السياسى العام، الذى كان نتيجة صدّ العدوان الثلاثى الغادر على مصر، كانت الحركة الثقافية والفنية تطرح رؤى جديدة، ومشروعات مغامرة، وكانت الواقعية بمثابة حصان طروادة الذى راهن عليه الجميع، خصوصًا بعد أن أشعل محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس فى خشب الرومانسية القديمة النار، وصارت هذه الواقعية هى الشعار الأكثر رواجًا ومناقشةً واعتناقًا وتطبيقًا، إلى درجة وصلت إلى حد الثورة النقدية والفنية الحقيقية، فكتب الشاعر صلاح عبد الصبور عن «الناس فى بلادى»، وكتب قصيدة «شنق زهران» فى ظل القصائد الحماسية التى كانت تنطلق ضد هذا العدوان، ليستعيد بها جوّ المقاومة منذ خمسين عامًا، وكتب أحمد حجازى «يا عمّ: من أين الطريق؟.. أين طريق السيدة؟.. أيمن قليلًا.. ثم أيسر يا بنى»، وانبثقت قصص يوسف إدريس لتصبح هى المقياس الأول لهذه الواقعية، رغم أن محمد صدقى وأمين ريان وفاروق منيب كتبوا قبله قصصًا حديثة، إلا أنه كان الأنسب والأكثر اتساقًا مع ما هو مطروح على المستوى النقدى، وكذلك كانت السينما والفن التشكيلى وغيرهما من الفنون.

وجاء نعمان عاشور بمسرحيته «الناس اللى تحت»، لتصبح هى الضربة الأولى والأقوى لتضع حدًّا شبه فاصل بين مسرح قديم ومسرح جديد، وتتبعها بعد ذلك مسرحيات أخرى تبحث عن معالم جديدة واقعية فى المسرح المصرى، وبعد عرض المسرحية كتب نقاد كثيرون، واستقبلوا العرض بترحاب شديد، فكتب صلاح عز الدين فى مقاله السالف الذكر تحت عنوان «حول مسرحية الناس اللى تحت، المسرحية التى تمثل أملًا زاهرًا لمسرح مصرى حقيقى»، وبعد شرح وتحليل ومؤاخذات وشد وجذب أنهى مقاله يقول: «إن مسرحية نعمان عاشور تملأ قلوبنا إيمانًا بمستقبل الكتابة المسرحية المصرية، والمسرح الحر يخطو بهذه المسرحية وبجهود أعضائه خطوة واسعة.. قوية.. نحو تحقيق هدفه وهدف المؤمنين بضرورة الوصول إلى مسرح مصرى حقيقى»، وكان قد قام ببطولة المسرحية مجموعة من شباب المسرح آنذاك، منهم عبد المنعم مدبولى وتوفيق الدقن ومحمد رضا وعبد الحفيظ التطاوى وسعد أردش وناهد سمير وغيرهم، وكانت المسرحية تعرض الصراع القائم بين جيلين.. شباب مصر المعاصرة وهو يناضل من أجل حياة فاضلة، خالية من الاستغلال والتحكم والرياء، وكلهم شباب تربطهم قسوة الضرورة بسكنى البدروم، حتى إذا تبلورت تجاربهم اندفعوا إلى خضم الحياة الواسعة وخرجوا من تحت أنقاضها.. إلخ. ما نعرفه عن المسرحية الرائدة، وأخرج المسرحية الفنان كمال يس الذى أعجبنا -كما يكتب عز الدين- «حسن توزيعه للأدوار، وعدم محاولته فرض وجوده على خشبة المسرح، أو أو أنوارها، أو مؤثراتها الصوتية، وهذا فى الحق يمثّل اتزانًا جميلًا وصدقًا مخلصًا»،

وظلت المقالات والمتابعات تتوالى، وكذلك الأخبار، ونشر خبر عن المسرحية فى صحيفة «الأخبار» فى العدد الصادر فى 2 يناير 1957، لتحية المسرحية، واستعداد كاتبها لكتابة نص آخر تحت عنوان «الناس اللى فوق»، وبالفعل كتب عاشور النص التالى، وتم عرضه عام 1957، ليؤكد ريادته، وإصراره على خوض تجربة الواقعية بشكل واسع، وإن كان صلاح عز الدين أخذ على عاشور استطراده فى كتابة كل ما يطرق له على بال، للدرجة التى يحجب فيها خيال المخرج والممثل، فى إضافة لمسات أو لمحات بعد النص المكتوب، وتوالت مسرحياته «سيما أونطة وجنس الحريم وبرج المابغ وبلاد بره ووابور الطحين»، وغيرها من مسرحيات عديدة، استكملت البناء الأساسى لمسرح اجتماعى وواقعى مصرى.

وجاء نعمان عاشور مرة أخرى بمسرحيته «بشير التقدم»، وهى عن واحد من أنبل وأنبغ من أنجبتهم مصر، وهو الشيخ رفاعة رافع الطهطاوى، الذى ذهب إلى باريس مصاحبًا للبعثة المصرية ليكون خطيبًا لهم، ثم عاد ليصبح الأكثر نجاحًا فى نقل بعض ما رآه إلى مصر، بعدما كان يدوّن ملاحظاته ومشاهداته كلها هناك، حسب نصيحة شيخه حسن العطار.

وتم عرض المسرحية منذ سنوات بعيدة، ويرحل نعمان عاشور، ويصاب المسرح المصرى بأمراض عديدة، ويقع اختيار الدكتور جابر عصفور وزير الثقافة، أن يكون عرض مسرحية «بشير التقدم أو باحلم يا مصر»، هو أول عروض افتتاح المسرح القومى، وهذا اختيار شديد الأهمية فى ظل حالات التربص التى يعيشها العقل المصرى فى الظروف الحالية، وإظهار شخصية رفاعة المستنيرة، لاستعادة رمز من رموز العقل المصرى الذى كاد أن يصاب بالعمى والصمم فى هذه الأيام.

قام بدور رفاعة الفنان علِى الحجار، كما تألقت وأبدعت الفنانة مروة ناجى، وهى صوت وأداء مصريان أصيلان، وهى تتمتع بحضور باذخ يذكرنا بأمجاد الغناء المصرى العظيم عندما كان فى مقدمة الفنون، وقد تألق الحجار ومروة فى كل ما أدياه من الأغنيات التى صاغها الشاعر والفنان الكبير حمدى عيد، وأعتقد أن الفنان والمخرج الكبير عصام السيد يعيد لنا النهوض بالمسرح الغنائى الرائع، الذى كاد يندثر، وها هو يستعيده وينهضه بإمكانيات فنية كبيرة، ولا يبقى فى النهاية وأنا أشدد على أيدى كل من أسهموا فى إخراج هذا العرض للنور، إلا أن أهمس فى أذن صديقى الفنان الكبير عصام السيد بتصحيح بعض الأخطاء النحوية -خصوصًا الهمزات- القليلة المكتوبة على الشاشات التى تبرز فى العرض الباهر، الذى يعدّ إضافة فنية إلى المسرح المصرى.

ـــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: جريدة التحرير


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock