مسابقات ومهرجانات

ننشر أوراق المؤتمر الفكري.. التجارب المسرحية المغربية.. الامتداد والتجديد.. مسارات السينوغراف يوسف العرقوبي

مساءلات علمية وعملية.. لتجارب مسرحية مغربية


المسرح نيوز ـ القاهرة| مسابقات ومهرجانات

ـ

المغرب| الدار البيضاء| إعلام الهيئة العربية للمسرح

 

مسارات يوسف العرقوبي السينوغراف

من الامتداد إلى التجديد

 

على سبيل التقديم

يجمع العديد من الدارسين على أن حضور أي مبدع لحظة مناقشة إبداعه لا يزيد الإبداع إلا تعقيدا، ذلك أن المبدع نفسه غالبا ما يكون غير واع بالعديد من مساحات إبداعه التي تبقى ملفوفة بالصمت وتحتاج إلى عين ثانية ترصد الإبداع من خارجه وتنير جوانبه.

يقول عبد الفتاح كيليطو في هذا السياق: ” التجربة أظهرت أن حضور المؤلف أثناء مناقشة أعماله لا يحل مشكل القراءة بل يعقدها. ما أكثر المؤلفين الذين وصفوا بأنهم لم يفهموا معنى رواياتهم، وما أكثر المؤلفين الذين تبنوا ـ طوعا أو كرها ـ التأويل الذي اقترحه هذا القارئ أو ذاك”([1]).

قياسا على ذلك، يمكن الجزم بأن كتابة المبدع عن نفسه غالبا ما تجعله متحايلا ومراوغا يضيء ما يشاء ويغرق في الظلمة ما يشاء، يبرز شيئا ويخفي أشياء.

لهذا وكنوع من التحايل المحمود، ارتأيت أن أفصل بين ذات كاتب هذه الورقة وبين موضوعها، بين الدارس والمبدع، واخترت أن أتحدث عن يوسف العرقوبي السينوغراف بعين القارئ المواكب للتجربة راجيا ألا تكون قراءتي بروكستية، نسبة إلى قاطع طريق يوناني ” كان يعذب ضحاياه بطريقة فريدة من نوعها. كان له فراشان: فراش كبير وفراش صغير. فكان يطرح المسافرين الطويلي القامة على الفراش الصغير والمسافرين القصيري القامة على الفراش الكبير. ثم يعمد إلى أرجل الطويلي القامة فيقطعها لأنها تتعدى الفراش الصغير. أما القصيري القامة فكان يجذب أرجليهم وأيديهم حتى يكونوا تماما على قد الفراش الكبير…”([2]).

بشيء من المبالغة نستطيع أن نقول: هذا هو حال المبدع الذي يكتب عن تجربته، فقد يقطع أجزاء ويجذب إليه أخرى حتى تنسجم مع القراءة التي يقترحها ـ أو يفرضها ـ على التجربة.

لكن لحسن الحظ فإن القارئ الذي يعذب النص/ التجربة لا ينجو من العقاب. ذلك أن لقصة بروكست ـ كما يقول كيليطو ـ تتمة، فقد تسلط عليه بطل من الأبطال في يوم من الأيام وأذاقه نفس العذاب الذي كان يذيقه لضحاياه.

الامتداد والتجديد في تجربة العرقوبي السينوغرافية

  • سياقات الحضور

قبل أن نقارب تجربة السينوغراف يوسف العرقوبي ضمن المشهد المسرحي المغربي، لا بد أن نعرج على سياقات حضوره وحدود ما راكمه المسرح المغربي من تجارب خاصة وأن تجربة العرقوبي أتت بعد حوالي عشر سنين من تخرج أول دفعة من المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي([3])التي كان لها الفضل في ترسيخ مفهوم السينوغرافيا كممارسة احترافية ضمن مكونات العرض المسرحي بعد أن كان الأمر يقتصر فيما قبل على مفهوم الديكور إلى جانب المساهمة في إحداث المنعطف الجمالي من الكلمة إلى الصورة.

  • من الديكور إلى السينوغرافيا

على عكس ما يذهب إليه العديد من المسرحيين المغاربة الذين يروجون لكون مفهوم السينوغرافيا لم يتداول في سياق المسرح المغربي إلا مع إحداث المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي([4])، كما الحال مع المخرج المسرحي عبد الواحد عوزري الذي يصرح بأنه: ” كان ينبغي إذن أن ننتظر سنة 1986 وافتتاح ‘المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي’، وظهور بعض التجارب المسرحية الجديدة ليدخل هذا المفهوم الجديد قاموس مسرحنا. بداية كمفهوم فحسب، ومع الأيام كممارسة.”([5])

والحال أن تداول مفهوم السينوغرافيا في المسرح المغربي كما يؤكد الدكتور خالد أمين بدأ مع تدريبات المعمورة بداية الخمسينيات من القرن الماضي، مع جيل الرواد المؤسسين كعبد الصمد الكنفاوي والطيب الصديقي…. كما أن وثائق المركز الوطني للأبحاث المسرحية الذي أنشأته الشبيبة والرياضة إبان تلك المرحلة لا تخلو هي الأخرى من تداول المفهوم.([6])

غير أنه ورغم هذا السبق في التداول، إلا أن العديد من تجارب المسرح المغربي تعاملت بالكثير من الاختزال مع مفهوم السينوغرافيا وقيدته ضمن مقولة الديكور كمعادل بصري غايته الأناقة والجمال وأحيانا كثيرة البهرجة، إذ بقي دوره سلبيا ولم يتمكن من المساهمة في تطور الحكاية أو مساعدة الممثلين على الانخراط الكلي والعميق في الشخصية وهذا راجع لكونه يتميز بالثبات ويعتمد على الوصف فقط دون أن يتمكن من تجاوز ما تقترحه الإشارات الركحية أو النصية.

لكن ومع تخرج أول دفعة من المعهد العالي للفن المسرحي خلال بداية تسعينيات القرن الماضي، سيعاود المفهوم الظهور من جديد وسيطفو على سطح الممارسة المسرحية المغربية خاصة مع تجربة مسرح اليوم التي كانت رائدة آنذاك.

ب – من الكلمة إلى الصورة

ظل المسرح المغربي إلى فترة قصيرة، مسرح كتاب بامتياز، رغم بروز أسماء بعض المخرجين إلا أنه ارتبط في تراكماته بما حققه المؤلفون من نصوص أو من بيانات، فعلى عكس التجارب المسرحية في القرن العشرين التي قادها وأحدث ثورتها المخرجون، عرف المسرح المغربي سجالا قويا خلال فترة السبعينيات قاده المؤلفون حتى أن ما سمي بالاتجاهات في المسرح المغربي نظر لها وكتب بياناتها المؤلفون، لذلك ظل مرتبطا بالكلمة وحبيسها، وظل في كثير من الأحيان مجرد أحلام غير قابلة للتحقق في مجملها كونها لم تأت نتيجة تجارب مختبرية قادت إلى صياغة أفكار تشكلت في شكل بيان، بل بقيت مجرد أحلام لم يكتب للكثير منها أن يختبر أو يتحقق.

لهذا ومع تخرج أول دفعة من خريجي المعهد العالي للفن المسرحي سينتقل المسرح المغربي من مسرح ينتصر للكلمة إلى مسرح يؤمن بالصورة وينتصر لها، وسيجد نفسه أمام جيل جديد من الممارسين أدى انخراطهم في المشهد المسرحي المغربي إلى نوع من الثورة الهادئة التي سترخي بظلالها فيما بعد على عدد من التجارب التي سيقودها السينوغرافيون بالدرجة الأولى.

يعد الدكتور عبد المجيد الهواس المؤسس الأول للتجربة الجديدة في المسرح المغربي، فقد ارتبط اسمه في البداية بتجربة مسرح اليوم قبل أن يغادرها فيما بعد رفقة محمد بسطاوي ليؤسسا إلى جانب عبد العاطي لمباركي ومحمد خيي ويوسف فاضل تجربة مسرح الشمس منتصف التسعينات ومعها ستبدأ ملامح اتجاه المسرح المغربي نحو الاعتماد على نصوص عالمية وإبلاء الأهمية القصوى لجمالية الصورة التي تأكدت في عدد من التجارب كخبز وحجر، وسيدنا قدر، بو كتف …..

لكن ومع نهاية التسعينات وبداية تجربة ما سمي بالتناوب السياسي، ستسن الدولة المغربية نظام الدعم المسرحي خاصة بعد توقف عملية توظيف الخريجين في سلك الوظيفة العمومية، والذي سيتم بموجبه إنتاج عدد من العروض المسرحية كل سنة وبالتالي فسح المجال أمام الطاقات الإبداعية لإبراز كفاءاتها، كما قررت الدولة سنتين بعد ذلك إحداث المهرجان الوطني للمسرح الاحترافي كفضاء لعرض التجارب المسرحية الجديدة والتباري فيما بينها.

مع سن سياسة الدعم المسرحي، سيجد خريجو شعبة السينوغرافية الجدد متسعا للإبداع وترجمة تكوينهم وحساسيتهم… من ضمن هؤلاء سيبرز يوسف العرقوبي الذي سيصادف تخرجه سنة 2000 وبداية اشتغاله في السنة الموالية 2001 الدورة الثانية من المهرجان الوطني الذي سيعرف تتويجه بجائزة أحسن سينوغرافيا عن مسرحية ” مرسول الحب” لفرقة تانسيفت. إذ سيكون هذا التتويج بمثابة الإعلان الرسمي عن ميلاد سينوغراف جديد يشكل الامتداد لجيل التأسيس الذي قاده كل من الدكتور عبد المجيد الهواس والأستاذ إدريس السنوسي.

يمكن إذن أن نصنف مسار التجربة السينوغرافية في المغرب إلى مرحلتين أساسيتين:

المرحلة الأولى: تمتد على مدار عشر سنوات تقريبا، ابتدأت مع تخرج أول دفعة للمعهد العالي شعبة السينوغرافيا خلال بداية التسعينيات وتمتد إلى حدود سن سياسة الدعم المسرحي وظهور جيل جديد من السينوغرافيين.

المرحلة الثانية: تمتد مع بداية الألفية الحالية إلى الآن وخلالها ظهرت العديد من الأسماء التي شكلت الامتداد والاستمرارية لتجربة المرحلة الأولى.

2 – المسار الفني والمنعطف الجمالي في تجربة العرقوبي

قبل أن نرصد أهم ملامح تجربة يوسف العرقوبي السينوغرافية والمرجعيات الفكرية والجمالية المؤطرة لها، لا بد أن نقف على أهم المنعطفات التي عرفها مساره التكويني والإبداعي. ويمكن في هذا السياق أن نقسم مراحل تطور اشتغال العرقوبي إلى خمس محطات أساسية مرتبة زمنيا كما يلي:

  • (1991ـ 1994): الدراسة الثانوية وحصوله على شهادة الباكالوريا تخصص فنون تشكيلية والتي ستمكنه من ولوج المعهد العالي فيما بعد، خلال هذه المحطة سينسج علاقة جديدة مع الألوان والأشكال والأحجام على أسس علمية وسيكتشف المدارس التشكيلية العالمية والإرث التشكيلي المغربي، وسيشتغل على نماذج كثيرة ستكسبه فيما بعد مهارات جديدة ستشكل واحدة من منطلقاته في تصميم تصوراته السينوغرافية إذ غالبا ما يرتكن إلى إحدى التجارب التشكيلية العالمية كما الحال في سينوغرافيا مسرحية “شكون فيه الديفو” للمخرجة نعيمة زيطان التي استوحى تصورها من لوحات الفنان بيي موندغيان (Piet Mondrian)، أو سينوغرافيا مسرحية ” حرّاز عويشة” للمخرج حسن هموش التي استوحى تصورها من لوحات الفنانين المستشرقين الذين عاشوا في المغرب أمثال يوجين دولاكروا (Eugène Delacroix)، والقائمة طويلة.
  • (1996ـ 2000): الدراسة بالمعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي تخصص السينوغرافيا وخلالها سيشتغل رفقة أستاذه عبد المجيد الهواس في تنفيذ عدد من تصميماته السينوغرافية، وأيضا كمصمم لسينوغرافيا عروض العديد من بحوث تخرج طلبة المعهد الذين سيتحولون فيما بعد إلى مخرجين بارزين في المشهد المسرحي المغربي أمثال عبد اللطيف المسناوي، عبد الجبار خمران، مصطفى بهجة…، قبل أن يتوج مرحلة الدراسة بتصميم سينوغرافيا مسرحية “حلم ليلة صيف” لشكسبير، توقيع أحد رواد منهج مايرخولد (1874 ـ 1940) في العالم العربي، يتعلق الأمر بالمخرج العراقي/ السويدي فاضل جاف. حضوره المميز هذا خلال مرحلة التكوين الأكاديمي وبروز اسمه سيجعله محط اهتمام عدد من الفرق المسرحية التي كانت بارزة بداية الألفية مما سيمهد له الطريق لولوج الممارسة الاحترافية من بابها الواسع.
  • (2001ـ 2007): الاشتغال الاحترافي كسينوغراف والذي توزع على مساحة زمنية امتدت لسبع سنوات توج خلالها بجائزة السينوغرافيا بالمهرجان الوطني للمسرح لأربع مرات (2001ـ 2003ـ 2004ـ 2005) قبل أن يعود للتتويج مرة خامسة سنة (2017).
  • (2008ـ 2010): التوقف الاضطراري بسبب اشتغاله ضمن لجنة الدعم المسرحي التي تشكلها وزارة الثقافة، ورغم هذا التوقف إلا أنه اشتغل من خارج الدعم في عدد من التجارب، لكن هذه المرحلة ستشكل بالنسبة للعرقوبي لحظة الوقوف مع الذات لتقييم تجربته والتي ستقوده إلى اختيار دخول تجربة الإخراج المسرحي منذ سنة 2011 بإخراجه لمسرحية “باو” لفرقة المسرح الأمازيغي بالحسيمة([7])؛
  • (2013ـ إلى الآن): المزاوجة بين تصميم السينوغرافيا والإخراج المسرحي في ست عروض مسرحية.([8]) خلال هذه المرحلة سيدخل العرقوبي منعطفا جديدا في مساره الإبداعي متمردا بذلك على وظيفة السينوغرافيا لتصبح كتابة شاملة وغير قابلة للاختزال أو الخضوع لرؤية إخراجية أحادية.

بقي أن نشير إلى مرحلة في غاية الأهمية امتدت ما بين 2012 و 2016، لما كان لها من بالغ الأثر على الممارسة المسرحية بدولة قطر الشقيقة، إذ كان العرقوبي من السينوغرافيين المغاربة الأوائل الذين انفتحوا على المشرق إن على مستوى التأطير أو الإبداع، فقد أطر العديد من الورشات التكوينية في السينوغرافيا التي شكلت منعطفا جماليا مهما في المشهد المسرحي القطري، كما شارك إبداعيا في ست أعمال مسرحية توجت بحصوله سنة 2013 على جائزة أحسن سينوغرافيا بمهرجان الدوحة قبل أن تُغير القوانين المحلية وتقتصر الجوائز فقط على المبدعين المحلين، الشيء الذي سيدفع بلجنة تحكيم مهرجان الدوحة 2016 إلى منحه جائزة تقديرية عن سينوغرافيا عرض “مدينة كل مكان” لشركة فضائية للإنتاج الفني التي حصدت خلال تلك النسخة جل جوائز المهرجان، جائزة أفضل عرض متكامل وأفضل إخراج لفهد الباكر، وأفضل ممثلة دور أول بالإضافة إلى جائزتي أفضل أزياء وماكياج وأفضل مساهمة عربية للفنان عبد الرحمن المزيعل.

عموما فقد شكلت هذه المرحلة علامة فارقة في مسار تجربة العرقوبي السينوغرافية بالنظر إلى الإمكانيات المادية والتقنية التي رصدت لتحقيق تصوراته الجمالية والتي جعلته يجرب ويحقق العديد من أفكاره السينوغرافية مما انعكس فيما بعد على أعماله اللاحقة.

بعد أن تناولنا أهم المنعطفات في المسار الإبداعي للعرقوبي، نتساءل الآن عن أهم المنطلقات التي يعتمدها في تصميماته، ما محدداتها والمتحكم في إنتاجها؟، ما هي أهم الأبعاد التي يعتمدها في صياغة مقترحاته السينوغرافية؟.

3- أبعاد الاشتغال السينوغرافي ليوسف العرقوبي

اعتبارا لكون العرقوبي على غرار العديد من السينوغرافيين الذين أولوا الأهمية القصوى للتكوين الأكاديمي، انطلاقا من المرحلة الثانوية مرورا بالدراسة بالمعهد وصولا إلى استكمال الدراسات العليا، فقد ارتكن في إبداعه إلى أبعاد شكلت المنطلق والقاسم المشترك في جميع تصوراته السينوغرافية، والتي حددها في ثلاث مستويات:

  • البعد الوظيفي:

إن الحديث عن الوظيفة أو البعد الوظيفي يقود إلى الحديث عن الشكل، اعتبارا لكون الشكل يتبع الوظيفة، كما أن الوظيفة أو الوظائف تبحث عن أشكالها، فلا بد أن يكون الشكل نتيجة طبيعية لتحقيق الوظائف، فالأشكال هي المظهر الخارجي للاحتياجات الداخلية.

من هنا فإن تقييم السينوغرافيا لا يكون صحيحا إلا إذا كان مبنيا على أساس الربط بين الشكل والوظيفة، فالوظيفة هي الدافع الداخلي الذي يوجد الشكل، ونجاح هذا الشكل يعود إلى خدمتها والتعبير عنها.

تأسيسا على ذلك، فإن العرقوبي يقترح في تصميماته ما يمكن أن نسميه بالسينوغرافيا متعددة الأغراض الوظيفية لتأمين الحاجة والمنفعة المطلوبة وإلا تحولت إلى استخدامات أخرى لا تلائمها. ولتأمين قيام السينوغرافيا بوظائفها، ينطلق العرقوبي من تحليل النص المسرحي واستخراج الأماكن الدرامية التي يتضمنها وإيجادها بتصوره الخاص كرسوم ذهنية يسعى فيما بعد إلى تحقيقها في شكل رسوم على الورق لمعرفة مدى جدوى تلك الصور المتخيلة. قبل أن ينتقل من الفكري  إلى التطبيقي وما يصحب ذلك من متغيرات يصوغها في نسق واحد والتصور الإخراجي للمخرج.

فالعرقوبي يجمع كل المعطيات حول تصوره السينوغرافي وما يستوجبه الانتقال من الخيالي إلى المحسوس، ويسعى إلى أن يخلق منها وحدة متوازنة تجعل من السينوغرافيا المقترحة الأنسب لاحتواء نص العمل ككل بما أنه مكلف بالتعبير التشكيلي عن الوسط الذي تعيش فيه الشخصيات بعد أن يطلع على المكان المسرحي الذي سيحتوي العمل ودراسة كل خصائصه.

فالمهم عند العرقوبي هو أن يؤدي التصميم الوظائف المطلوبة بصورة عامة، فلا تكون الوظيفة خالقة وصائغة للشكل ولا يكون الشكل ناسخا للوظيفة، وإنما يكون التصميم تركيبا من الاتجاهين يؤمن الوظيفة عامة بأشكال فنية. فالفضاء بالنسبة له هو فضاء حاجات الشخصيات للحصول على علاقات وثيقة فيما بينها لجلب نظام ومعنى لعالم الأفعال والأحداث الدرامية، و توظيفه في خدمة الخطاب المسرحي، حتى يستطيع أن يبلغ معنى أو معاني واضحة تؤكد الكلمة و تخدم الحركة.  فأول ما يتحكم في صياغته لتصوره السينوغرافي تساؤلات من قبيل، من الذي سيستعمله؟ كم عدد الشخصيات التي ستشغله، وماذا ستفعل؟ ما علاقتها بالتصور الإخراجي ورؤية المخرج؟

ينطلق في تصوره من الإجابة عن هذه الأسئلة حتى يتلاءم الفضاء السينوغرافي ومتطلبات الشخصيات حتى يحقق انسيابية الحركة في الفضاء، دراسة الأحجام والأشكال وتناسبها مع وظيفة الفضاء، والمساحات المخصصة لمختلف الأفعال الدرامية…

إضافة إلى تأمين التصور السينوغرافي لمنفعة وحاجة معينة، إذ تكون مصممة لأداء وظائفها في العرض المسرحي الذي أبدعت من أجله وذلك بمواءمتها الوظيفية للحاجة والهدف من تصميمها. وتأمين الحاجات الحياتية والاجتماعية والنفسية للشخصيات، وحتى تبقى لمدة ملائمة فإن العرقوبي يراعي في تصميماته خاصية المتانة من خلال المواد والتقنيات المستخدمة في التصميم والإنجاز إضافة إلى سهولة التفكيك و التركيب لضمان عملية تركيب الديكور، و سهولة تحويله و تغييره أثناء العرض، أو عملية التنقل من مكان لآخر أثناء الجولات المسرحية.

  • البعد الرمزي والدلالي:

يعد الرمز واحدا من ثلاث تفرعات للعلامة جاء بها الفيلسوف الأمريكي تشارلز ساندرز بيرس (Charles Sanders Peirce)، فقد قسم العلامة إلى: الأيقونة، والإشارة، والرمز، الذي يعتبر أكثرها كثافة دلالية، حيث اختزال الدال وسعة المدلول.

وقد عرّف الكثير من المفكرين الفن كونه نسقا رمزيا، والإنسان كائنا رامزا، فقد أثبتت الدراسات والأبحاث أن الطفل يشرع في الترميز الصوتي والحركي انطلاقا من معطيات البيئة التي يعيش فيها، ويحول الأصوات والحركات إلى رموز يستعين بها للتفكير والتواصل مع محيطه.

فالرمز إذن من أكثر العلامات حضورا وفاعلية في الحياة العامة وفي عموم الفنون سيما في المسرح، إذ يعد أحد أهم معطيات النص المسرحي سواء باستخدام لغة الكلام أو بالتضمينات الفكرية ليمتلك أبعادا أخرى غير الظاهر منه، مما يثير المخرج و السينوغراف وباقي صناع العرض للعمل بالاتجاه نفسه من خلال التعاطي مع ما هو متوفر في النص من رموز، ومن جهة ثانية، العمل على الترميز بغية تشكيل بنية العرض المسرحي.

فالترميز يعني حرفيا حسب عبد الواحد لؤلؤة ” ( القول خلافا ) أو (قول الشيء الآخر) والترميز من المجاز الذي يقوم على توسيع الاستعارة حتى تخرج عن حدود الجملة فتصبح حكاية تطول أو تقصر، ومن هنا يكون (الترميز الإكثار من استعمال الرمز والتوسع فيه من باب (التفعيل). فالتكسير الإكثار من الكسر…. وهكذا”.([9])

من هنا، فمقترحات العرقوبي السينوغرافية تتضمن في الغالب عمليتين، تتعلق الأولى بإعادة إنتاج الرموز الموجودة في الحياة وطرحها بصيغة جمالية،  وهذا النوع من الرموز يكون غالبا في نطاق المحسوس الذي يعني تلقائية إدراكه ومباشرته دون الحاجة إلى طول تأمل وعمق التفكير من قبل المتلقي، لما تنطوي عليه من فهم شائع أو مشترك لدى جمهور المتلقين ورسوخها في ذاكرتهم من جهة، ولما يمكن أن تحتمل من تفسير أو تأويل لدلالتها من جهة أخرى.

أما العملية الثانية فتتعلق بالترميز، كعملية يستخدم فيها العلامات ويوظفها لتمتلك أبعادا دلالية وجمالية مغايرة لدلالتها المتعارف عليها، فخلالها يبتكر العرقوبي رموزا في سياق العمل الفني أو يأخذها من العلامات الموجودة في الطبيعة والحياة الثقافية لكنه يقوم بتوسيع دلالتها أو تضييقها ووضعها في نسق معين الشيء الذي يستوجب عمليات عقلية عند التلقي لفك شفراتها.

واعتبارا لكون الرمز يحتمل بالضرورة دلالة أبعد مما يبدو عليه في الواقع،  إذ يوحي بالأشياء ويوسع من معانيها ويعمق من دلالاته متخذا موقع الوسط بين العلامات المجردة والعلامات الحسية فإنه عند العرقوبي يقود إلى الغموض الذي يضفي مسحة جمالية على تصميماته السينوغرافية،  إذ يعد مصدر جاذبية ومثار تأمل عميق يعتمد في عمقه وجاذبيته على البعد الجمالي الذي يدفع بالمخرج إلى أفق أرحب في تصوره الإخراجي، وبالمتلقي إلى تعمق أكثر في تفسيرها وتأويلها وفق قراءة تتداخل ضمنها عملية التلقي بالتذوق الفني.

ولأن العرقوبي يعي أن العرض المسرحي لا يخضع بطبيعته لأية قواعد أو قوانين صارمة،  إذ لا يمكن حصر دلالاته بحدود ما وذلك لانفتاحه على تعدد القراءات، فإنه يحرص في كل مقترحاته وتصميماته السينوغرافية على تحقيق معادلة بسيطة مفادها، كلما كانت العلامات متعددة الدلالة، كلما اتسع أفق مضمون العمل الفني وتجلت قيمه الجمالية أكثر. لذلك نراه من الناحية التقنية، يصر على إيجاد نوعا من التوافق الرمزي بين الأشكال والألوان والأصوات والحركات باستخدام أساليب ومواد مختلفة في تصميماته  مراعيا في ذلك علاقتها بالنص المسرحي والتصور الإخراجي وأسلوب اللعب، ومدى قدرتها على التعبير والإيحاء، فكل مادة تختلف عن الأخرى في تاريخها، وقوتها الرمزية.

  • البعد الجمالي:

يشكل الفضاء المسرحي عنصرا أساسيا في العرض المسرحي، فإلى جانب كونه وسيلة للتعبير، فإنه يشكل الإطار الجوهري لخشبة المسرح، والبنية التحتية التي تضمن اشتغال كل العناصر الفاعلة في العرض المسرحي، فهو أول ما يواجهه المتلقي، وما يرصده الباحث وهو يفكر في جمالية العرض.  فالفضاء هو الذي يؤثث الفرجة، ويبلورها فنيا ويشكلها جماليا.

واعتبارا لكون السينوغرافيا تشتغل على الفضاء وتتحكم فيه، وتعمل على معالجته دراميا، وتنسق العناصر البصرية بآلية تحقق المشاركة الواقعية أو الخيالية بين الشكل الفني والجمهور، إضافة إلى الربط بين جميع مكونات العرض، وبين الجمهور والممثلين، وبين النص والعرض، وبين الممثلين أنفسهم في علاقتهم بالفضاء. فإن العرقوبي في تصوراته السينوغرافية يولي الأهمية القصوى للفضاء المسرحي الذي لا يقدم العالم أو يعرضه كما هو، بل يعيد إنتاجه وانتقاءه وتنظيمه بإخضاع مكوناته لمنظومة واحدة تراهن على الصورة مستفيدا في ذلك من تكوينه في الفنون التشكيلية ومواكبته لحداثتها باختلاف رؤاها البحثية والجمالية التي تطرح تعدد الأساليب وتوظيف العناصر والمواد لخدمة تصوره السينوغرافي والانطلاق به لترسيخ الوظيفة التعبيرية وتأثيرها الجمالي في المتلقي.

فالعرقوبي يؤمن أن ما يثير أحاسيس المتلقي في العمل الفني، هو قيمته الفنية والجمالية، وطريقة صياغة مقوماته التشكيلية التي تجعله معجبا به لدرجة الإثارة، إذ يخلق في دواخله حسا إبداعيا، بل ويؤثر في مدركاته الجمالية جراء نظامه البنائي الذي ينسجه العرقوبي فنيا بمقومات إبداعية تستند إلى تصورات فنية وجمالية تخاطب حواس المتلقي باعتبارها أساس التذوق الجمالي للعمل الفني بواسطتها يكتشف جماليته، ومن ثم، يعطي تصوره ويصدره أحكامه الفنية والجمالية. فعملية التذوق الفني عند العرقوبي هي أساس العمل الإبداعي وقوامه، إذ لا يمكن الحديث عن عمل فني دون متلقي ومتذوق، لذا نراه يضع وجوده دائما ضمن تصوراته السينوغرافية. فالتلقي الفني هي في الأساس عملية اتصال بينه وبين المتلقي،أي بين منجزه السينوغرافي والمتذوق له والذي يبقى حكمه الجمالي حكما ذاتيا لا يستند على العقل والمعرفة. لكن ومع ذلك، تبقى للخبرة الجمالية الدور الحاسم في تشكيل المعرفة الخاصة بالعمل الفني، فبدونها لا يمكن الإفصاح، بشكل أعمق، عن المقومات الفنية والجمالية الكامنة في العمل الإبداعي.

لذا انتبه العرقوبي إلى الدور الجمالي الذي يمكن أن تلعبه الإضاءة، من خلال قدرتها على تأسيس أنساق سينوغرافية وعلى تحديد مجال اشتغال العلامات، داخل الفضاء المسرحي، وانتبه كذلك للقيمة الجمالية والفنية التي يمكن أن تضيفها إلى العمل المسرحي لذلك اعتبرها مكونا هاما ومركزيا في اهتماماته الجمالية.

فإلى جانب كونها تسمح بإدراك مكونات العرض البصرية، الفضاء، الممثل، الملابس…. أضحت الإضاءة عند العرقوبي نسقا سينوغرافيا قائما بذاته، إذ لم تعد شرطا بصريا لإدراك الفرجة فقط، بل أصبحت لغة متميزة لها قوانينها الخاصة القادرة على خلق تغيرات درامية وانفعالية متنوعة. لذلك نراه ينيط بها مسؤولية التنسيق بين مكونات العرض المسرحي، والربط بين العوامل المحيطة به من أشكال وأحجام وديكور وملابس… لإيصال معانيها وإكسابها قيما جمالية جديدة تجعلها تتخذ أوضاعا مختلفة في العالم الدرامي.

فالعرقوبي على غرار العديد من السينوغرافيين يعي أن القيمة الجمالية والفنية للإضاءة تكمن أساسا في أسلوب توظيفها الذي يتجاوز وظيفتها العملية ويرقى بها إلى الجمالية، فتعبر عن الخيالي أو المجازي، لتتدخل في الأحداث والشخصيات وتساهم في إنتاج دلالات العرض المسرحي وتشكيل إطاره الجمالي.

الجماليات السينوغرافية في عروض يوسف العرقوبي: مسرحية “في أعالي البحر” نموذجا

كان الفيلسوف والناقد الأدبيّ الفرنسيّ رولان بارت، Roland Barthes (1915 ـ 1980) قد نادى في مقاله الصادر عام 1968 بموت المؤلف، وتحرير متنه الإبداعي من سلطته، وقطع الصلة بينه وبين نصه لتنشأ علاقة جديدة بين العمل الإبداعي وبين القارئ الذي لا يجب أن يكثرت إلا للغات النص ودلالاته. لكن هذا لا يعني إلغاء المؤلف وحذفه من الذاكرة، بقدر ما يهدف إلى تحرير النص من سلطة الطرف المتمثل بالأب المهيمن أي المؤلف، ليفتح النص للقارئ كونه هدفه الأولي.

وبالنظر إلى غياب العمل الفني على اعتبار أن العرض المسرحي لحظي من جهة، وتباعد المسافة الزمنية بين إبداعه وبين الكتابة عنه من جهة ثانية، فإننا سنكون مجبرين على بعث المؤلف للحديث عن عمله الإبداعي، وقد ارتأينا عدم التركيز على السينوغرافيا ككيان منفصل، بل سنركز على ما يسميه هناء عبد الفتاح بالمصطلح الثالث “أي “المخرج/ السينوغراف”، أوـ إن شئنا الدقةـ “السينوغراف/ المخرج” أي ” المخرج الذي يقوم عمله الإبداعي على التشيكل “السينوغرافي” للعرض المسرحي، أو يدخل إبداعه داخل عباءة “السينوغرافيا”، أو “السينوغراف” الذي لا يمكن أن تتحقق رؤيته التشكيلية لفضاءات خشبة المسرح دون أن يكون نفسه مخرجاً لهذه الرؤية”([10]).

من هنا جاء الاختيار على عرض ” في أعالي البحر”([11]) لكونه يشكل المحطة الثانية في مسار انفتاحنا على تجربة الكاتب البولوني سلافومير مروجيك([12]). لما لها من خصوصية بالنظر إلى استئناسنا ” بعوالم مروجيك وكتاباته الساخرة التي تشكل في بنيتها نسقا فنيا برؤية معرفية واضحة ومتينة، وبأسلوب خاص في إنتاج الموقف واجتراح المعنى”([13]).

فعلى الرغم من كون النقد المسرحي الغربي يصنف كتابات مروجيك ضمن مسرح العبث، إلا أن ما يميزه عن باقي كتاب “اللامعقول” كونه يكرس جل أعماله للعلاقات الاجتماعية ومتغيراتها التاريخية مع التركيز أساسا على التغيرات العنيفة التي عرفها الفرد وانعكاسها السلبي على علاقته بالآخرين([14]).

تدور فكرة المسرحية حول ثلاث شخصيات تجد أنفسها في طوف بعرض البحر معزولة عن العالم الخارجي، فيستبد بها الجوع بعد أن انتهى مخزون مؤونتها، فتهتدي في رحلة البحث عن الحل إلى فكرة التضحية بواحد منها لإطعام الآخرين، فيدور صراع فيما بينها لإقناع أحدهم بجدوى الموت في سبيل الجماعة.

كنا قد أسلفنا في ما تقدم من هذه الورقة، أن الدراسة في المرحلة الثانوية شعبة الفنون التشكيلية كان لها الأثر الكبير على تصميماتنا السينوغرافية، فقد استوحينا الكثير منها انطلاقا من أعمال العديد من الفنانين التشكيليين ومن أساليبهم وأحيانا من لوحة من لوحاتهم.

فقد سبق واستوحينا سينوغرافيا عرض “مسك الليل” إخراج بوسلهام الضعيف من لوحات الفنان التشكيلي المغربي فؤاد بلامين (Fouad Bellamine)، و سينوغرافيا عرض ” شكون فيه الديفو” إخراج نعيمة زيطان من أعمال الفنان التجريدي بين مندريان، Piet Mondrian (1872 ـ 1944) كما استوحينا سينوغرافيا عرض ” مرسول الحب” إخراج يوسف آيت منصور من الآلات الموسيقية المغربية… الشيء نفسه ينطبق على سينوغرافيا عرض “في أعالي البحر” الذي استوحينا تصوره من لوحة للرسام الرومانسي الفرنسي ومصمم المطبوعات تيودور جيركولت، Théodore Géricault ( 1791 ـ 1824)،  بين عامي 1818ـ 1819 والتي تصور محطة مأساوية في تاريخ البحرية الاستعمارية الفرنسية بعد غرق “الفرقاطة ميدوزا” التي كانت مكلفة بنقل المعدات الإدارية وموظفي الخدمة المدنية والجنود المعينين في مستعمرة السنغال. فبعد غرقها ونجاة البعض وغرق البعض الآخر، بقي  على متنها (17)شخصا، وخلال 47 يوما من بقائها في المحيط اضطر من كان بها بدافع الخوف والجوع والسكر إلى الارتماء في المحيط وإلى ذبح بعضهم وأكل لحومهم، والغريب أنه وبعد العثور على الفرقاطة لم يتبق فيها سوى ثلاثة أشخاص.([15])

انطلاقا من لوحة ” طوف الميدوزا، Le Radeau de La Méduse”، وبعد قراءتنا للنص المسرحي وتحليله والوقوف على جل أفكاره وقيمه وأنساقه الفكرية، وجرد القوى العاملة فيه وبنياتها، اهتدينا إلى تقسيم الفضاء  إلى ثلاثة مستويات: الطوف الخشبي والبحر ثم القاعة والكواليس.

المستوى الأول:

عبارة عن طوف خشبي طوله  4 أمتار  وعرضه 3 أمتار، ويرتفع عن سطح الخشبة من 0 إلى 70 س، يبدو من الوهلة الأولى ثابتا لكنه وتبعا لنوع الحركة التي تتم فوقه ومكانها وشكلها يتحول إلى مكان غير ثابت، من خلال نوابض مثبتة أسفله تسهل عملية الاهتزاز والميلان.

يشكل الطّوف فضاء للشخصيات الثلاث، يؤمن لهم الحماية من البحر الذي يحاصرهم، فمهمته تكمن أساسا في تأمين نجاة الشخصيات الثلاث من الموت، فهو الوسيلة الوحيدة التي تحميهم من الغرق، ناهيك عن كونه وسيلة نقل، فبحكم انسيابية حركته فوق الماء التي تسمح له بالانزلاق والتقدم في اتجاه ما، يحوله إلى وسيلة نقل قد تقود الشخصيات إلى اليابسة، ومنه إلى النجاة والخلاص.

كما أنه فضاء اجتماعي يؤمّن لهم اللحمة والتآزر والتعاون في مواجهة البحر كعدو خارجي يتهدد حياتهم لذلك نراهم يقتسمون مجاله بنوع من العدل الذي يسمح لهم بالبقاء أحياء، فهو بهذا المعنى أشبه بالحضن الذي يضمهم، وبالرحم الذي يعيشون داخله كالأجنة ويقتاتون على ما يؤمنه لهم من المؤونة التي يدّخرونها في الصندوق الخشبي الكبير.

لذلك نراهم ومنذ البداية نائمون كالأجنة، بعيدون عن بعضهم على مسافة تؤمن لكل واحد منهم مجاله الشخصي، وفي الوقت نفسه تحافظ على توازن الطوف في مواجهة صخب البحر وغضبه.  يقول محسن زروال في هذا السياق: ” منذ البداية إذن نجد أنفسنا في مواجهة الفراغ، والخواء ودوار البحر الذي يفرغ كل أمعائنا ويدفعنا إلى استشعار الجوع الذي يشكل الحافز والمحرك الأساس لكل تفاصيل العرض وجزئياته. مما يجعلنا على خط التماس مع شخصيات العرض الثلاث التي بدت هي الأخرى منعزلة، كل شخصية تنام في مكانها وتعيش عالمها وأحلامها الخاصة قبل أن يوقظها صوت قوي أشبه بصخب الموج وكأن البحر يعلن فيهم جوعه وتعطشه لقربان أو ضحية تنهي غضبه”.([16])

فالطوف يعيش صراعا مريرا مع البحر الجائع إلى ضحية أو قربان، ويصر على المقاومة والصمود وحماية الشخصيات في مواجهة جوع خارجي يتربص بهم.  لكنه وما إن ينتقل الجوع من الخارج إلى الداخل، ومن جوع البحر إلى جوع الشخصيات سيفقد الطوف ثباته وتوازنه، ويتحول بفعل الصراع الداخلي إلى حلبة (الرّينك).  فالعدو الذي كان يقف على حواف الطوف متمثلا في جوع البحر، سيصبح داخله، وسيفقد الطوف مهمته الأساسية في تأمين حياة الشخصيات ويتحول إلى وسيلة تتهدد حياتهم. فالشخصيات لم تعد على نفس المسافة من بعضها، ولم تعد محافظة على مجالها الشخصي، بل إن تحالف شخصيتين في مواجهة الشخصية الثالثة/ الضحية  سيجعل موازين القوى تختل، وينتقل الصخب من البحر إلى الطوف الذي لن يعود ثابتا ولا مستويا كما كان، وتتحول حركاته إلى ما يشبه حركة البحر في تموجه، إذ سيختفي التوازن ويصبح الطوف ككفتي ميزان دوما مائلة في اتجاه ما على حساب الآخر.

وهذا ما تؤكده القراءة النقدية لمحسن زروال حين تساءلت عن هوية الضحية، إذ نقرأ فيها: “من هو الضحية؟. عند هذا السؤال، سيكشف يوسف العرقوبي عن وجه السينوغراف المتمكن من أدواته والمنسجم مع تصوره ومقاربته الدلالية والجمالية لمفهوم السينوغرافيا لديه، ويقحمنا في دائرة الصراع والخوف واللاتوازن الذي أضحت تعيشه الشخصيات من خلال ميلان القطعة الخشبية الذي يوحي بعدم الثبات والاستقرار وبالخطر المحدق بها. فكل شخصية أصبحت في وضع جديد تحاول من خلاله إخراج نفسها من دائرة الاستهداف وتبتعد أكثر عن السقوط في الشراك الذي ينصب لها. ونجد أنفسنا أمام توزيع جديد لمساحة اللعب فوق القطعة الخشبية التي أضحت أشبه بميزان تتمركز في إحدى طرفيه شخصية “الطويل” الذي يبدو رزينا، قويا، وذكيا، يرسم دوما بجسده خطا عموديا يحيل على القوة والثبات وبعد النظر. وفي الطرف الآخر شخصية ” الأوسط”  الذي يبدو ضعيفا، طيبا حد السذاجة. وبينهما يتنقل “القصير” الماكر الذي ينتهج سبيل التملق والدهاء والانتصار لمصلحته”.([17])

المستوى الثاني:

يتمثل في البحر الذي يلتف حول الطوف من كل جانب، ويبدو كوحش يتحين الفرصة للانقضاض عليه وابتلاع من بداخله. يقول محسن زروال: ” بمجرد ولوجنا الصالة، يقحمنا المخرج يوسف العرقوبي في عوالم عرضه من خلال الحضور القوي للبحر بأفقه الضبابي اللامتناهي وصخب أمواجه الذي يسيطر على المكان ويشعرنا بالعزلة والخواء وفي الوقت نفسه، يزج بنا في صراع خفي بين البحر وأمواجه التي تتحرك في حركات انسيابية متموجة كأفعى تبتلع كل شيء، وبين قطعة خشب كبيرة تنتصب في وجهه وتقاومه”.([18])

إذا كان الطوف يشكل فضاء لحماية الشخصيات، فالبحر يشكل عامل تهديد خارجي يتحين الفرصة للانقضاض عليهم وابتلاعهم، فهم مجرد دخلاء عليه اقتحموا عالمه الخاص، أو بالأحرى هم ما بقي من حرب سابقة بينه وبين السفينة التي كانت تقلهم، فهم بالنسبة له ثلاث شخصيات تحدت قوته وجبروته، وتصر  على الخلاص منه لذا نراه يلتف حول الطوف في حركة انسيابية أشبه بأفعى ضخمة  تحاصره دون أن تنقض عليه، وكأنها تريد ترهيب الشخصيات وتعذيبها نفسيا أكثر ما تفكر في ابتلاعهم. فالبحر يراهن على عنصر الزمن، فمهما طال صمودهم لابد أن تنتهي المؤونة وحينها سيكونون طعما سهلا. فالبحر لم نجعله مجرد عنصر ضمن العناصر المؤثثة لسينوغرافيا العرض فحسب، بل شخصية  فاعلة في الأحداث من خلال حركات الموج وأصواتها، حتى أنه وفي مرحلة ما سيتدخل ويوجه الأحداث نحو اتجاه آخر من خلال ظهور شخصيات خارجية (الخادم وساعي البريد) إذ سيسهل لها عملية التنقل من اليابسة إلى الطوف.

من هنا فتعاملنا مع البحر كان من منطلق التعامل مع عامل فاعل في العرض، كشخصية صبورة، عنيدة، ماكرة، تنساب في حركات راقصة يغلب عليها الدلال والمكر.

وإذا كنا قد اخترنا الخشب في صنع الطوف كمادة مقاومة للماء وقادرة على الانسياب دون أن يتمكن البحر من ابتلاعها في تحدي صارخ لجبروته. فقد اخترنا الثوب للتعبير عن دلال البحر وانسيابيته، فالثوب في حركته الراقصة كان أشبه بغانية تراود الطوف عن نفسه دون أن تمكنه منها، رقصاتها تعذب الشخصيات ولا تمتعهم، تخيفهم ولا تطمئنهم، ففي أحايين كثيرة كانت حركات الأمواج المترقبة تمشي بالتوازي مع الصخب الدائر في الطوف، وكأن تلك الحركات الهادئة ما كان يتسبب في ذاك الصخب وتلك الفوضى.

ولأن المستويين متماسين، بينهما صراع يحركه جوع البحر وصمود الطوف، صراع سينتقل، كما أشرنا سابقا، إلى الشخصيات التي ستتصارع فيما بينها بحثا عن حل لمشكلة الجوع، فقد نسجنا “علاقة جدلية بين الصراع الذي تدور رحاه بين الشخصيات، وحركات الموج التي تشكل في عمقها المظهر الخارجي لغضب البحر الجائع. فكثيرا ما جعل الشخصيات تبدو هادئة في مظهرها الخارجي، لكنها تغلي من الداخل وكتعبير عن هذا الغليان جعل حركات الموج تقوم مقامه وتنقل إلينا هذا الإحساس عملا بالقاعدة التي تذهب إلى أن البحر الهادئ في سطحه يغلي في عمقه، وبالعكس أيضا، فالبحر الذي يغلي في سطحه يكون هادئا في عمقه”.([19])

المستوى الثالث:

يتحدد بكل ما يحيط بالبحر ويمتد إلى القاعة والكواليس، ويمثل هذا المستوى اليابسة كهدف يسعى الطوف للوصول إليه بعد أن يقاوم البحر وينتصر عليه.

يشكل هذا المستوى مصدرَ الأخبار والمعلومات التي تصل عبر شخصيتي ساعي البريد والخادم اللذان ينقلان للشخصيات الرسائل والأخبار. فإذا كانت اليابسة بعيدة وغير ظاهرة فإنها تحضر من خلال الشخصيتين اللتين تتدخلان في الأحداث فتكشف الكثير من الأسرار والأخبار لتغير مسار الأحداث وتعيد الأمور إلى نصابها إلا أنها تفشل في ذلك بسبب تواطؤ شخصيتي الطويل والقصير وتحايلهما على المتوسط.

كانت هذه ملامح مستويات الفضاء التي أطرت تصورنا السينوغرافي وتحكمت في تصميمنا له، غير أنها إذا كانت تحضر وظيفيا عبر ما وضحنا في شرحنا لتلك المستويات، إلا أنها رمزيا تكتسب دلالات خارج السياق الذي تبدو عليه، فالطوف لم يعد مجرد وسيلة للنجاة والسفر بل أضحى حضنا ورحما يأوي الشخصيات الثلاث في صراعها مع البحر، كما أنه تحول لحظة الصراع إلى ما يشبه ميزان العدل الذي يختل باختلال العلاقات بين الشخصيات، قبل أن يكتسب بعد الوطن حين تجرى فيه انتخابات اختيار الضحية.

كما أن البحر  وبفعل حركات أمواجه وانسيابها  أصبح كأفعى تتربص بالطوف وتسعى لابتلاعه، قبل أن يتحول بعد احتدام الصراع بين الشخصيات وتحايل الطويل والقصير على المتوسط إلى حضن يأوي ساعي البريد والخادم وينقلهما إلى الطوف لإنقاذ الضحية المتآمر عليها.

جماليا، حاولنا أن نجعل من حركات الموج ما يشبه بالرقصة التي يتحول إيقاعها تبعا لنوعية الصراع الدائر، ولحالة الشخصيات، ونسجنا علاقة جدلية بين كل من الحالات النفسية للشخصيات وحركة اهتزاز وميلان الطوف وأيضا حركات وأصوات الموج.

كما عمدنا بالإضاءة إلى التعامل مع المشاهد وكأنها لوحات تشكيلية مع التركيز أكثر على اللون الأزرق الذي كان طاغيا بحسب تدرج مستويات الحدة واللون.

 

 

 ـــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] ـ عبد الفتاح كيليطو، “مسألة القراءة“، من كتاب المنهجية في الأدب والعلوم الإنسانية، كتاب جماعي، دار توبقال للنشر، ص 23، ط 1986.

[2]  نفسه، ص 20.

[3] ـ تخرجت أول دفعة من المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي سنة 1990، وتخرج يوسف العرقوبي بعد ذلك بعشر سنوات وبالضبط سنة 2000.

[4] ـ أحدث المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي إذن، بمقتضى مرسوم رقم 2.83.706 الصادر في 26 من ربيع الآخر 1405 (18 يناير 1985) (الجريدة الرسمية رقم 3773 بتاريخ 29 جمادى الأولى 1405 (20 فبراير 1985)، وأعيد تنظيمه بموجب مرسوم رقم 2.10.624 الصادر في 21 من ذي القعدة 1432 (19 أكتوبر 2011)الذي نسخ سابقه، (الجريدة الرسمية عدد 5994، 13 ذي الحجة 1432 (10 نونبر 2011).

[5] ـ  عبد الواحد عوزري: عبد المجيد الهواس السينوغراف المتكامل، ضمن الكتاب الجماعي “عبد المجيد الهواس شاعر الخشبة”، إشراف الدكتور حسن يوسفي (فاس: مقاربات، 2019) ص. 13.

[6] ـ خالد أمين ـ السينوغرافيا الموسعة تأملات في مسار المسرحي المغربي عبد المجيد الهواس، الموقع الإلكتروني للهيئة العربية للمسرح، 2020.

[7] ـ لم تكن هذه التجربة هي الأولى، فقد سبق ليوسف العرقوبي أن دخل تجربة الإخراج المسرحي قبل ذلك في ثلاث تجارب سابقة، يتعلق الأمر بمسرحية “ماشي لخاطري (2004) للممثل الكوميدي حسن البوشاني، ومسرحية “الشخصية” (2006) لمسرح الأصدقاء بالرباط، ومسرحية “تأملات” (2010) نتاج ورشة الهيئة العامة للشباب بدولة قطر.

[8] ـ أخرج إلى حد الآن وصمم سينوغرافيا عدد من العروض المسرحية: “امرأة تؤنسها الصراصير( سينوغرافيا عبد المجيد الهواس)” (2013)،  “زمان جديد” (2014)، “التعري قطعة قطعة (2016)، “في أعالي البحار” (2017)، “كارول” (2019)، “بوطراخي” (2022).

[9] ـ جون ماكوين : الترميز ، ترجمة : عبد الواحد لؤلؤة، موسوعة المصطلح النقدي ، المجلد الرابع، الطبعة الأولى 1993، منشورات المؤسسة العربية للدراسات والنشر، هوامش المترجم، ص367.

 

[10] ـ  د. هناء عبد الفتاح ” التجريب في الإخراج و السينوغرافيا”،  قدمت الورقة في الندوة الفكرية  التي عقدت ضمن مهرجان القاهرة التجريبي الثامن عشر، ونشرت بموقع مجلة  الفنون المسرحية.

[11] ـ قدمت المسرحية ضمن عروض الدعم المسرحي سنة 2017، سينوغرافيا وإخراج يوسف العرقوبي، إنتاج فرقة الريف للمسرح الأمازيغي بالحسيمة.

[12] ـ يشكل هذا العرض الحلقة الثانية في ثلاثية سلافومير مروجيك لفرقة الريف للمسرح الأمازيغي التي أخرجها وصمم سينوغرافيتها يوسف العرقوبي بعد ” التعري قطعة قطعة ” (2016)، و ” كارول” (2019).

[13] ـ  محسن زروال: “عوالم ساخرة بأسلوب خاص في إنتاج المعنى واجتراح المعنى: قراءة في عرض في أعالي البحر”، جريدة بيان اليوم، عدد 8109، 6/ 7 ماي 2017.

[14] ـ نفسه.

[15]https://www.artlovo.com/blog/le-radeau-de-la-meduse-gericault/

 

[16] ـ محسن زروال، نفسه.

[17] ـ نفسه.

[18] ـ نفسه.

[19] ـ نفسه.

 


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock