ننشر النص المسرحي المدرسي “الفقير والغني والحكيم” للكاتب المغربي عبد الوهاب لمقدمي

المسرح نيوز ـ القاهرة| مسرح طفل

ـ

عبد الوهاب لمقدمي

مهتم بالمسرح المدرسي

جرسيف، المغرب

lamkadmiabdelouahhab5@gmail.com

النص المسرحي المدرسي: الفقير والغني والحكيم.

هذا النص يطرح إشكالية الفقر والغنى من زاوية نظر إسلامية، ويحاول مناقشة مسألة الأفضلية؛ هل هي للفقير أم للغني؟ كما يلفت النظر إلى قضية فهم القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، من خلال بيان التعامل الأمثل مع بعض الاستدلالات التي سيدلي بها كلٌّ من الفقير والغني للدفاع عن موقفه وأحقيته بالأفضلية.

-المكان: ساحة المناظرة وسط المدينة.

-الزمان: عصر يوم عيد الفطر.

-الشخصيات: جماعة الفقراء (11 فردا)، جماعة الأغنياء (11 فردا)، الفقير المنتدب، الغني المنتدب، الحكيم.

-المناسبة: يوم عيد الفطر، تواعَدَتْ نخبةٌ من فقراء المدينة مع نخبة من أغنيائها على الاجتماع، بعد صلاة العصر، بساحة وسط المدينة. وذلك بعدما دبّ الخلاف حول من يستحق الأفضلية؛ هل الفقراء أم الأغنياء؟ فتقرر أن يطلبوا من حكيم المدينة الفصل في القضية، وحسْم الخلاف لصالح طرف واحد. فكان أن قبِل الحكيمُ دعوتَهم، وجَرتِ المناظرة.

المشهد الأول:

في جهة من الساحة، يجلس الفقراء، تظهر عليهم بعض علامات الحاجة. وفي الجهة المقابلة، يجلس الأغنياء، تبدو عليهم بعض علامات الغنى. وتتمثل هذه العلامات في شكل الثياب والنعال التي يرتدونها، وطريقة أو هيئة جلستهم.

يدخل الحكيم إلى وسط الساحة مرتديا برنوسا (سلهاما) بني اللون، ومنتعلا بلغة صفراء فيها طرز خفيف ولها مقدمة حادة، ثم يحيّيهم قائلا: السلام عليكم.

يقف الفقراء والأغنياء احتراما للحكيم، ويردون التحية قائلين: وعليكم السلام أيها الرجل الحكيم.

يجلس الجميع بعدما يأذن لهم الحكيم بذلك، مبتسما ومشيرا بيديه.

يخاطب الحكيم الحاضرين قائلا: ها أنا قد أتيت لألبي مطلبكم. لقد علمت بأنكم تريدونني للفصل بينكم فيما تختلفون فيه بخصوص أفضلية بعضكم عن بعض. لكنني أريد صراحة أن أنصتَ إليكم، وأسمع منكم، فهذا هو الأساس الذي جئت من أجله.

في هذه اللحظة، ينظر الفقراء إلى زميلهم الذي انتدبوه من قبل، على أساس علمه ومعرفته وحِنكته، ويشيرون إليه ليقوم. يأخذ الفقيرُ المنتدب المبادرة، ويتجه إلى وسط الساحة، فيقف قبالة الحكيم، ويحييه بانحناءة خفيفة. يلتفت بعد ذلك الفقير المنتدب إلى زملائه الفقراء، وبإشارة فقط من يديه، يطلب منهم الوقوف، فيقفون جميعا استجابة له، ثم يرددون بمعيته النشيد التالي:

نحن الفقراء شعارنا الصبر فهو يُقوّينا

نذمّ الغنى وحطام الدنيا أبدا لا يُغرينــا

الجنة منزلنا فهي موئلنا وإليها الحَنينـا

فالله فضلنا في تنزيله ورسولُه يُزكّينـا

بعد إتمام النشيد، يجلس الفقراء. يتحرك الفقير المنتدب وسط الساحة قائلا بصوت جَهْوَرِيّ: أنا الفقير، أنا الفائز بالجنة على فقري وصبري وجَلدي، الجنة مثواي وهي غرفتي، أنا الفقير، أنا الفقير..

الحكيم مستغربا: وما دليلك على ما تقول؟

الفقير المنتدب: قوله تبارك وتعالى في سورة الفرقان: “أُولَٰئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا”. أي بما صبروا على الفقر، والغرفة الجنة سيدي الحكيم.

الحكيم يرفض هذا الفهم بشدة، ويشير بعلامة الرفض بأصبعه، ثم يقول: هكذا بهذه البساطة! لا حجة لك في ذلك.

الفقراء يتعجبون من اعتراض الحكيم على زميلهم، ويتحدث بعضهم إلى بعض بهمهمات غير مفهومة. أما الأغنياء، فينظر بعضهم إلى بعض، وهم يُظهرون الموافقة على رد فعل الحكيم بحركة رؤوسهم.

يردف الحكيم قائلا للفقير المنتدب: إنّ الصبر في الآية التي ذكرتَها يشمل صبر الشاكر على طاعته، وصبره على معصيته. كما يشمل صبر المُبتلى بالفقر وغيره على بلائه. وإذا جازى الله الصابرين الغرفة بما صبروا؛ لم يدل ذلك على أنه لا يجازي الأغنياء الشاكرين الغرفة بما شكروا.

تصدر من جهة الفقراء بعض العبارات مثل: لا يمكن! نحن الذين ابتلينا بالفقر فصبرنا! الغرفة لنا!.. أما الأغنياء، فيقول بعضهم: جميل أيها الحكيم، أنت محق، بارك الله فيك سيدي..

الفقير المنتدب: حسن. وما رأيك – سيدي الحكيم – فيما سأذكره لك من حديث أنس بن مالك، حيث دعا رسولُ اللهِ ربَّه ليكون منا بالضبط، نحن الفقراء، ودعا زوجَه، ومن ثم الناس جميعا إلى حبّنا والتقرب إلينا؟

في هذه اللحظة، تُلحظ الابتسامة على محيّا الفقراء. أما الأغنياء، فيتعجبون من قول الفقير المنتدب، يظهر ذلك على وجوههم، ومن خلال حركات الرؤوس والأيدي المناسبة.

الحكيم: تفضل، هات ما عندك!

الفقير المنتدب وهو واثق من فهمه، وبصوت عالٍ: قال عليه الصلاة والسلام: “اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة. قالت عائشة: ولِمَ يا رسول الله؟ قال: إنهم يدخلون الجنة قبل الأغنياء بأربعين خريفا. يا عائشة: لا تردّي المسكين ولو بشق تمرة. يا عائشة: أحِبّي المساكين وقرِّبيهم، فإن الله يقربك يوم القيامة”.

ينظر الحكيم إلى الفقير المنتدب، ثم يقول: هذا جميل!

يطأطئ الأغنياء رؤوسهم، ولا ينطقون بأية كلمة. أما الفقراء، فتبدو علامات الفرح بارزةً على وجوههم، وهم يقولون لزميلهم: صدقت يا رجل، لقد صدقت، معك حق، يا لك من رائع..

يهدأ الفقراء.

يخاطب الحكيمُ الفقيرَ المنتدبَ قائلا: الحديث الذي سُقته أيها الفقير لا يدلّ على مطلوبك بالضرورة؛ فالمسكنة التي يحبها الله من عبده ليست مسكنة فقر المال، كما ذهب إليه فهمك! بل مسكنة القلب؛ وهي انكساره وذله وخشوعه وتواضعه لله. وهذه المسكنة لا تُنافي الغنى، ولا يُشترط لها الفقر.

يقول بعض الفقراء: كيف ذلك؟ لماذا يا حكيم؟ لا يمكن!.. أما الأغنياء، فيقول بعضهم: أجل، لا يشترط لها الفقر، هذا صحيح..

الفقير المنتدب: مسكنة القلب لا يشترط لها الفقر؟ عجيب!

الحكيم ملتفتا إلى الفقير المنتدب: انتبه جيدا. إن انكسار القلب لله ومسكنته لعظمته وجلاله وكبريائه وأسمائه وصفاته، أفضل وأعلى من مسكنة عدم وجود المال.

الفقير المنتدب: ماذا تقول؟

الحكيم: كما تسمع. أضف إلى ذلك أمرا مهما جدا، وهو لصيق بهذه النقطة التي نحن بصددها؛ إنه صبر الواجد.

يتعجب الفقراء، فيقول بعضهم: الواجد! صبر الواجد! ما معنى صبر الواجد؟.. أما الأغنياء، فتعلو على محيّاهم علامات الفرح والرضى بما ذهب إليه قول الحكيم.

الفقير المنتدب: وما صبر الواجد؟

الحكيم: الواجد عن معاصي الله طوعا واختيارا وخشية من الله تبارك وتعالى ومحبة له، أعلى درجة وأرفع مقاما من صبر الفقير العاجز. فعليك أن تفرق بين الواجد والعاجز.

الفقير المنتدب وقد ظهر عليه نوع من الاضطراب (يردد ألفاظا غير مفهومة بين شفتيه): احم احم احم..

الحكيم: تفطَّنْ معي قليلا. لو تأملنا في كتاب الله، فإننا سنجد أن الله تبارك وتعالى قد آتى جماعة من أنبيائه ورسله الغنى والملك والنبوة في آن واحد، ولم يخرجهم ذلك عن المسكنة لله، وقصة النبيين سليمان وداود عليهما السلام تبينان جليّا هذا المعنى.

الأغنياء يبدون الموافقة على كلام الحكيم بحركات رؤوسهم، ويقول بعضهم: أجل، هذا صحيح، قصة النبيَّيْن سليمان وداود معروفة للناس جميعا.. أما الفقراء، فينظر بعضهم إلى بعض في اندهاش وحيرة.

يعمّ الصمتُ الساحة لحظات.

الفقير المنتدب: أيها الحكيم، هذه المرة، لدي دليل دامغ وواضح المعنى، على أفضليتنا نحن الفقراء، فهل تسمح لي بإيراده؟

الحكيم: يسعدني ذلك. لكن، ربما هو واضح المعنى بالنسبة إليك! على كل حال، تفضل، هات ما لديك.

الفقير المنتدب: قال عليه الصلاة والسلام: “إن فقراء المسلمين ليدخلون الجنة قبل أغنيائهم بمقدار أربعين خريفا، حتى يتمنى أغنياء المسلمين يوم القيامة أنهم كانوا فقراء في الدنيا”.

فما قولك؟ أليس هذا بدليل قاطع؟

بعض الفقراء: بلى، إنه دليل دامغ، بوركت زميلنا.. أما الأغنياء، فتتملّكُهم الدهشة بعد سماع هذا الحديث.

الحكيم متوجها بالكلام إلى الفقير المنتدب: أيها الفقير، لا تتسرع في إصدار الحكم. الحديث واضح بالنسبة إليك، ودامغ على حد فهمك ومرادك أنت.

الفقير المنتدب: عجيب! لقد أذهلتني باعتراضك سيدي الحكيم!

يتقدم الحكيم قليلا باتجاه جماعة الفقراء، والفقير المنتدب يردفه، مخاطبا إياهم جميعا، وباسطا يديه كلتيهما.

يقف الفقراء جميعا احتراما للحكيم.

الحكيم: يا جماعة، إذا قلّبتم القليل من النظر في هذا الدليل، فستجدون أنه لا يدل على علوّ درجتكم إذا دخلتم الجنة قبل الأغنياء، بل يدل فقط على السبق لعدم وجود ما ستحاسبون عليه.

الفقير المنتدب: كيف ذلك؟

يلتفت الحكيم قليلا إلى الفقير المنتدب، ثم يرجع مجدَّدا بنظره ليخاطب جماعة الفقراء: وأزيدكم؛ لا ريب أن الحاكم العادل يتأخر دخوله للحساب، أليس كذلك؟

يقول البعض من جماعة الفقراء: بلى بلى.. أما الأغنياء، فيبدون الموافقة بتحريك الرؤوس والأيدي.

ينظر الحكيم إلى الفقير المنتدب ليتعرف موقفه.

بعد لحظة صمت، يقول الفقير المنتدب بهدوء: بلى. الحاكم العادل سيتأخر دخوله للحساب.

الحكيم مخاطبا جماعة الفقراء: إذن، كذلك الغني الشاكر. فلا يلزم من تأخر دخولهما (الحاكم العادل والغني الشاكر) نزول درجتهما عن درجة الفقير.

تُسمع عبارات من جماعة الأغنياء مثل: جميل، صدقت أيها الحكيم، بارك الله فيك.. أما الفقراء، فيحنون رؤوسهم في صمت.

الفقير المنتدب: حسن. وماذا تقول في تمني الأغنياء أنهم لو كانوا فقراء مثلنا في الدنيا؟

الحكيم: إنما تمنى الأغنياء أنهم لو كانوا فقراء في الدنيا – إن صحت هذه اللفظة – لم تدلّ بتاتا على انحطاط درجة الأغنياء، ذلك كما يتمنى القاضي العادل يوم القيامة، في بعض المواطن، إن لم يقض بين اثنين في تمرة، لَمَا قضى ولا تحرّى القضاء، لِما يرى من شدة الأمر. وهذا لا يدل على انحطاط درجته ودنوِّها، أبدا أبدا.

من جهة الفقراء تُسمع عبارات من قبيل: عجيب! والله هذا عجيب! لا أكاد أصدق!.. أما الأغنياء، فيحركون الرؤوس، كدليل على الرضى، وهم ينظرون إلى بعضهم البعض مبتسمين.

يجلس الفقير المنتدب على ركبتيه جلسة الإقعاء، واضعا يده اليمنى على جبينه، وقد بدت عليه علامات الاضطراب.

يعمّ الصمتُ الساحةَ لِلَحظات.

يقف الفقراء، فيهتفون مجددا بنشيدهم، تشجيعا لزميلهم:

نحن الفقراء شعارنا الصبر فهو يُقوّينا

نذمّ الغنى وحطام الدنيا أبدا لا يُغرينــا

الجنة منزلنا فهي موئلنا وإليها الحَنينـا

فالله فضلنا في تنزيله ورسولُه يُزكّينـا

استجمع الفقير المنتدب قوته بعد سماعه النشيد وتشجيع زملائه له، فوقف. وبدأ يتحرك وسط الساحة، والكل ينظر إليه. بعد ذلك، توجه إلى الحكيم قائلا له بكل ثقة: أيها الحكيم، دعني أورِد لك دليلا آخر، لعلّه يلجم الكثير من الأغنياء.

الحكيم مبتسما: تفضل، قل ما لديك.

الفقير المنتدب: القول لرسول الله، وليس لي!

الحكيم: عليه الصلاة والسلام. جميل حرصك!  تفضل، لك الكلمة.

الفقير المنتدب: ” تَعِسَ عبد الدينار، تَعِسَ عبد الدرهم “. وكلنا يعرف معنى تَعِسَ! (يضحك الفقير المنتدب بقهقهة بسيطة وهو ينظر إلى أصحابه).

تُسمع قهقهات من جماعة الفقراء.

الحكيم متوجها بالكلام إلى جماعة الفقراء: هدوء من فضلكم، المرجو الهدوء..

بعدما يهدأ الفقراء، يقول الحكيم للفقير المنتدب: هذا جيد. لكن، تأمل معي الحديث الشريف الذي سُقته.

الفقير المنتدب: لقد تأملته عدة مرات؛ تعس بمعنى شقِيَ. المعنى واضح وبيّن! نحن الفقراء لا نحبّ درهما ولا دينارا.

في هذه الأثناء، ووسط متابعة الجميع، يقف الفقراء ويهتفون بشكل جماعي:

تعس الدينار تعس الدرهم

هما سبب كل بؤس وعناء

بئس الدينار بئس الدرهم

هما منبع كل غُرمٍ وشقاء

يجلس الفقراء.

يعود الحكيم ليخاطب الفقير المنتدب مجددا: لم أسألك عن معنى تَعِسَ! ولكن سؤالي لك سيكون كما يلي: من المذموم في الحديث؟ أجبْ.

بعض الأغنياء: نعم، أجبه، أجبِ السيدَ الحكيم، من المذموم في الحديث الشريف؟..

الحكيم متوجها إلى جماعة الأغنياء: هدوء من فضلكم.

الفقير المنتدب مجيبا بكل ثقة: الدرهم والدينار طبعا.

الحكيم: أبدا، بل المذموم عبدهما دونهما.

الفقير المنتدب: المذموم عبد الدرهم والدينار وليس الدرهم والدينار نفسيهما؟

الحكيم: أجل، الذي يعبد الدرهم والدينار هو المذموم وهو المقبوح. فتأمّل هذا جيدا.

في هذه الأثناء، تختلط أصوات جماعة الفقراء بعبارات مثل: أواه! ما هذا؟ لا يمكن!.. أما الأغنياء، فيقول بعضهم: جميل، هذا جميل، رائع سيدي الحكيم، جوزيت..

يسود الصمت الساحة لمدة قصيرة.

الفقير المنتدب متوجها إلى الحكيم: ثمة أمر آخر إذا سمحت لي ببسطه.

الحكيم: تفضل، وبلا استئذان. فأنا جد مسرور بما تطرحه، وفخور بما تمتلكه من حرص وجرأة وقدرة على المُحاججة. قل، هات ما عندك.

الفقير المنتدب: إن النبي عليه الصلاة والسلام عُرضت عليه مفاتيح كنوز الدنيا، فردّها، أليس كذلك؟

الحكيم: بلى، ردَّها. ثم ماذا بعد؟ ما المشكلة في ذلك؟ ماذا تريد أن تقول بالتحديد؟

الفقير المنتدب: اعذرني بسبب هذا الأسلوب، لأنني أسألك. وأخاف أن يكون في هذا شيء من قلة الأدب معك. فالحكيم هو الذي يسأل.

الحكيم: لا، أبدا. تفضل، لا حرج عليك.

يتوجه الحكيم إلى الجميع قائلا: كما قلت لكم من قبل، إنما جئتُ لأسمع منكم. وهذا يسعدني.

الفقير المنتدب: بماذا أجاب عليه الصلاة والسلام بعدما ردَّ هذه المفاتيح؟

الحكيم: قال: بل أجوع يوما وأشبع يوما.

الفقير المنتدب: جميل! ثم، ألم يخرُج رسول الله من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير؟ ومات ودرعه مرهونة عند يهودي على طعام أخذه لأهله؟ كما روت ذلك السيدةُ عائشةُ زوجُه؟

يطرق الحكيم رأسه، وهو ينصت لما يدلي به الفقير.

يميل الأغنياء برؤوسهم إلى الأرض وهم ساكتون.

يقول البعض من جماعة الفقراء عبارات مثل: نعم، أجل، كل هذا صحيح، رائع زميلنا، أحسنت، لم تخيّب ظننا فيك..

الفقير المنتدب يواصل كلمته بكل عزم وثقة من دليله، وهو يلتفت إلى أصحابه: ثم، ألم تدخل امرأة من الأنصار على عائشة زوج النبي عليه الصلاة والسلام، فرأت فراشه عباءة مثنية، فرجعت إلى منزلها، فبعثت إليه بفراش حشوه الصوف، فدخل عليها رسول الله، فقال: ما هذا؟ فقالت عائشة: فلانة الأنصارية دخلت علي فرأت فراشك، فبعثت إليَّ بهذا. فقال: رُدّيه. فلم أرده، وأعجبني أن يكون في بيتي، حتى قال لي ذلك ثلاث مرات، فقال: يا عائشة ردّيه، فو الله لو شئتُ، لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة. فرددته.

الفقير المنتدب متسائلا من جديد، وقد رجع بنظره صوب الحكيم: فما قولك أيها الحكيم؟

يسري نوع من الصمت أرجاء الساحة بعد التدخل الأخير للفقير، خاصة أن الحكيم قد أطرق برأسه وأماله إلى صدره، وسكت منذ أن بدأ الفقير في بسط الحديث.

وسط هذا الصمت المنتشر في أرجاء الساحة، ينظر الفقراء إلى بعضهم البعض وهم مبتسمون. أما الأغنياء، فقد أحنوا رؤوسهم، بعدما ظهرت عليهم علامات الحيرة مما أتى به الفقير المنتدب.

ينتهي الصمت الذي خيّم على الساحة. يرفع الحكيم رأسه، ثم يقول وهو يشير بيده إلى الفقير المنتدب.

الحكيم: يظهر أن جماعة الفقراء لم تخطئ الاختيارَ عندما انتدبتك لتنوب عنها. (يشير الحكيم بيده إلى جماعة الفقراء).

الفقير المنتدب مبتسما: شكرا.

الحكيم: إن ما قلته صحيح عن سيّد الخلق عليه الصلاة والسلام.

يتعجب الأغنياء من إقرار الحكيم بكلام الفقير المنتدب، وينظر بعضهم إلى بعض.

يلتفت الحكيم إلى جماعة الفقراء، ثم يتقدم إليهم خطوات، والفقير المنتدب يردفه، فيقول منبِّها بصوت عالٍ: ولكن يجب أن ننتبهَ انتباها عاما عندما نتكلم عن أحوال رسول الله، وننتبهَ انتباها خاصا عند إيرادنا لمثل هذه الأحاديث الشريفة!

بعض الفقراء: لماذا يا حكيم؟ الحديث الذي أورده زميلُنا واضح، وهو يصبُّ في صالحنا نحن الفقراء؟.. من جهة الأغنياء تُسمع همهمات وأصوات مختلطة..

الحكيم: اهدؤوا جميعا، أرجوكم.

بعدما يهدأ الجميع، يتوجه الحكيم بالكلام إلى الفقير المنتدب قائلا: انتبه جيدا. رسول الله هو سيد الفقراء الصابرين، وقد حصل له من الصبر على الفقر ما لم يحصل لفقير لسواه. وكذلك هو سيد الأغنياء الشاكرين، ولقد حصل له من الشكر على الغنى ما لم يحصل لغني سواه. لقد جمع الله له الخير على أتمّ الوجوه. فكان أصبرَ الناس في مواطن الصبر وأشكرَ الناس في مواطن الشكر.

جماعة الأغنياء، وقد وقف بعضهم، تعبيرا عن شدة الفرح: نعم، صحيح، جميل سيدي الحكيم، بارك الله فيك أيها الرائع.. أما الفقراء، فيقول بعضهم: عجيب! كيف ذلك؟ صراحة لم نفهم المقصود من هذا الكلام!..

الحكيم مردفا القول للفقير المنتدب: أيها الفقير، تأمل معي قول الله تبارك وتعالى في حق نبيه: {ووجدك عائلا فأغنى}.

يتوجه الحكيم بنظره إلى جماعة الفقراء، مشيرا بأصبع السبابة، وبلغة هادئة: عائلا، أي فقيرا.

تعمُّ الدهشة جماعة الفقراء الذين لم يكونوا على علم مسبق بمعنى هذه الآية رغم وضوحها وكثرة تداولها! أما الأغنياء، فتعلو على محياهم الابتسامة.

الفقير المنتدب متعجبا: تريد أن تقول لنا بأن الله جعل نبيه غنيا شاكرا بعد أن كان فقيرا صابرا!

الحكيم: تماما. وهذه النقطة ستجلي الغبار عن كثير من الأمور.

جماعة الفقراء باندهاش: لا يمكن! عجيب! لم نكن نعلم بهذا من قبل رغم أن هذه الآية كثيرا ما كنا نرددها!..

جماعة الأغنياء: سبحان الله! عليه أفضل الصلاة والسلام! بارك الله فيك سيدي الحكيم! بارك الله فيك!..

يخيّم الهدوء على الساحة، ويقف الفقير المنتدب في مكانه لا يحرك ساكنا، وقد وضع يده على ذقنه وهو يفكر مليا فيما سيستدل به نصرة لجماعته، فيبدو أن الإحباط لم يجد إلى نفسه سبيلا!

بعد برهة، يقول الفقير المنتدب: سيدي الحكيم، ثمة أمر أرجو أن توضحه لنا جميعا. وصراحة، نحن الفقراء نعتقد بأنه دليل قوي، وسيكون لصالحنا في نهاية المطاف.

الحكيم: بكل فرح وسرور، تفضل، قل ما لديك.

الفقير المنتدب: ماذا عن ذمّ الدنيا؟ أليست مذمومة بنص القرآن والحديث؟ أليست مقبوحة؟ ألا يعلم بهذا الأمر القاصي والداني؟ ألم يقل رسول الله؟ “ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليمّ، فلينظر بم يرجع، وأشار إلى السبابة “.

تتعالى الأصوات من جهة الفقراء: الله أكبر، الله أكبر، جميل، هذا مشهور، هذه حقيقة بائنة، كل الناس تقول بهذا، وأخيرا ظهرت الحقيقة.. أما الأغنياء، فينظر بعضهم إلى بعض وهم مشدوهون.

الحكيم: مهلا مهلا. اصغ إلي جيدا. الدنيا في حقيقتها لا تُذم، وليست مذمومة لا بنص القرآن ولا بنص الحديث.

الفقير: ماذا؟ كيف؟ لا يمكن!

من جماعة الفقراء يقول أحدهم في اندهاش: سيدي الحكيم، والحديث السالف الذكر الذي أتى به زميلنا، هل سنقفز عليه؟ ويقول آخر: هل سنمر عليه مرور الكرام؟ يقول آخرون: مستحيل! لا يمكن تجاوز الحديث الذي جاء به زميلنا! الدنيا مذمومة.. أما الأغنياء، فيصيح بعضهم: صحيح أيها الحكيم الرائع، الدنيا حقا جميلة، الدنيا بريئة فعلا، الدنيا ليست مذمومة..

يطلب الحكيم من الفريقين الالتزام بالهدوء قائلا: هدوء من فضلكم، تريثوا قليلا، تريثوا..

الحكيم مخاطبا الفقير المنتدب: لا، لا يمكن تجاوز الحديث الذي أوردته. وأشكرك كثيرا لطرحك له، لأنه يتعلق بحقيقة لطالما غابت عن الكثيرين؛ إنها حقيقة ذم الدنيا!

الفقير المنتدب: ولكن الدنيا مذمومة! لا يمكن أن يكون الوصف لها بخلاف هذ! لا يمكن!

الحكيم: مع الأسف، يقع الكثيرون في هذا اللبس!

الحكيم مواصلا كلامه: انتبه وتابع معي. الدنيا ليست مذمومة لذاتها، بل الذم متوجه لفعل العبد فيها.

الفقير المنتدب: ماذا؟

بعض الفقراء: فعل العبد؟ كيف؟ ماذا؟ وضح لنا!.. أما بعض الأغنياء: نعم، الدنيا ليست مذمومة، جوزيت سيدي الحكيم..

الحكيم موجها خطابه إلى الفقير المنتدب: أجل أيها الفقير، فعل العبد هو المذموم. هذه هي الحقيقة التي تغيب عن الكثيرين!

يلتفت الحكيم إلى جماعة الفقراء، ويتقدم نحوهم قليلا والفقير المنتدب يتبعه، ثم يقول: إن الدنيا قنطرة ومعبر إلى الجنة أو إلى النار، وهي مبنى الآخرة ومزرعتها. منها زاد الجنة وفيها تكتسب النفوس الإيمان ومعرفة الله ومحبته وذكره وابتغاء مرضاته..

ينظر الفقير المنتدب إلى زملائه وهو يقول: لا، لا أستطيع التصديق! الدنيا مذمومة! الدنيا مذمومة!

في هذه اللحظة، يقف الفقراء، ثم يصيحون بشكل جماعي، بمعية الفقير المنتدب:

الدنيا مثبورة مُخيِّبة خدّاعةٌ

كل غِرٍّ تُسقطه في شِراكها

مقبوحة دوما عندنا مُسوّأةٌ

تهوي إلى دركات بمحبّيها

أما جماعة الأغنياء، فمنهم من يقول: هي قنطرة فقط للآخرة، إنها بريئة، صدقت أيها الحكيم..

بعدما يسكت الجميع، يخاطب الحكيم جماعة الفقراء: قلت لكم؛ الذمّ متوجه لفعل العبد فيها.

يتوقف الحكيم لحظة، وهو يتأمل، ثم يقول للفقير المنتدب: أليس خير عيش ناله أهل الجنة في الجنة كان بما زرعوه في الدنيا؟

الفقير المنتدب: بلى.

الحكيم: أليس بكاف مدحا بها وفضلا لأولياء الله فيها من قرة العيون، وسرور القلوب، وبهجة النفوس، ولذة الأرواح..؟

الفقير المنتدب: بلى.

الحكيم: أليست الدنيا النعيم الذي لا يشبهه نعيم؛ بذكر الله ومعرفته ومحبته وعبادته والتوكل عليه والإنابة إليه والأنس به والفرح بقربه والتذلل له ولذة مناجاته والإقبال عليه والاشتغال به عمن سواه؟

الفقير المنتدب: بلى.

يتحرك الحكيم خطوات، ثم يرجع بنظره إلى الفقير المنتدب، ويزيد: أليس فيها وحيه وهداه وروحه الذي ألقاه من أمره، فأخبر به من شاء من عباده؟

الفقير المنتدب: ولكن، الذم صار لها اسما! وصار لصيقا بها! حتى أصبح الكل يقر بهذا الأمر!

الحكيم: أتفق معك، فما قلته صحيح. حقيقة، لقد أسعدني كثيرا تجاوبك، وإصرارك على الدفاع عن موقفك.

الفقير المنتدب: شكرا.

يتوجه الحكيم بنظره إلى جماعة الفقراء، ويتقدم نحوهم قليلا، ثم يقول مخاطبا إياهم جميعا: إن الذمّ صار للدنيا اسما عند الإطلاق، وصار هو الغالب. وذلك عندما غلبت عليها الشهوات والحظوظ والغفلة والإعراض عن الله وعن الآخرة. ولكن الدنيا ـ على الحقيقة ـ لا تذمّ. الذمّ متوجه لفعل العبد فيها.

الفقير المنتدب: سبحان الله! اللهم نوّر أفهامنا.

يقول البعض من جماعة الأغنياء: جوزيتَ أيها الحكيم، بارك الله في علمك، لا أسكت الله لسانك.. أما جماعة الفقراء، فتُسمع من جهتهم عبارات مثل: صحّ لسانك، لا فض فوك..

الحكيم : بارك الله فيكم جميعا. سعيد بتواجدي معكم.

بعد طلب الإذن من الحكيم، يرجع الفقير المنتدب ليجلس مع زملائه الفقراء.

المشهد الثاني:

يقف الحكيم وسط الساحة، ثم يتوجه بالكلام إلى جماعة الأغنياء: لا شك أنكم قد انتدبتم من سينوب عنكم ويتكلم باسمكم.

ينظر الأغنياء إلى زميل لهم، كانوا قد حددوه سلفا ليكون الطارح لقضيتهم، لما يتمتع به من حسن الخطاب، وقوة الفهم، وامتلاك الأدلة، والقدرة على المحاججة.

يخرج الغني المنتدب من وسط جماعة الأغنياء، ويقف أمام زملائه. يطلب منهم الوقوف، فيشرعون بمعيته في ترديد النشيد التالي:

نحن الأغنياء شعارنا العطاء وهو يقوِّينا

نجود بالمال تزكيَةً فنساعد به المحتاجينا

الفردوس دارنا فهي موئلنا وإليها الحنينا

الله فضلنا في كريم كتابه ورسوله يزكينا

فور الانتهاء من ترديد النشيد، يجلس الأغنياء.

يتوجه الغني المنتدب بعد ذلك إلى وسط الساحة، فيقف قبالة الحكيم، ليدليَ بما لديه من حجج، تفضيلا للغِنَى على الفقر، ودفاعا عن أفضلية الأغنياء على الفقراء.

وفي الوقت الذي ظن فيه الجميع أن الغني المنتدب سيتوجه بادئ الأمر بأدلته إلى الحكيم، إلا أنه لم يفعل! وقام ـ في خطوة غريبة ـ بتوجيه الخطاب مباشرة إلى جماعة الفقراء !

يعتري الفقراء نوع من الاندهاش بسبب تصرف الغني المنتدب غير المتوقع.

الغني المنتدب مشيرا بيديه إلى جماعة الفقراء: أيها الفقراء، لقد أجلبتم علينا ـ من خلال زميلكم ـ بخيل الأدلة ورجلها، وظننتم أنها ستحكم لكم بالفضل! ونحن سنحاكمكم إلى ما حاكمتمونا إليه، وسنضع أدلتنا وأدلتكم على ميزان الشرع والعقل، وحينئذ سيتبين لنا ولكم الفاضل من المفضول.

الغنيُّ المنتدب مستدركا، وقد وجّه نظره إلى الحكيم قائلا له على سبيل الاعتذار: أعتذر، لأنني أخذت الكلمة وبادرت بالكلام دون استئذانك.

الحكيم: لا عليك، تكلّم. فأنا هنا لأسمع منكم جميعا، فقراء وأغنياء. قل ما تريد، تفضل.

الغني المنتدب: شكرا.

يرجع الغني المنتدب، فيتوجه إلى جماعة الفقراء من جديد مخاطبا إياهم: أيها الفقراء، قولوا لي بربكم؛

  • أين يقع صبر الفقير من فرحة الملهوف المضطر المشرف على الهلاك إذا أعانه الغني ونصره على فقره ومخمصته؟
  • أين يقع صبر أبي ذر الغفاري على فقره، إلى شكر الصديق وشرائه المعذبين في الله وإعتاقهم وإنفاقه على نصرة الإسلام، حين قال عليه الصلاة والسلام في حقه: “ما نفعني مال أحد ما نفعني مال أبي بكر”؟
  • أين يقع صبر أهل الصّفَة، من إنفاق عثمان بن عفان تلك النفقات العظيمة التي قال له رسول الله في بعضها: “ما على عثمان ما فعل بعد اليوم”. ثم قال له عليه الصلاة والسلام: “غفر الله لك يا عثمان ما أسررت وما أعلنت وما أخفيت وما أبديت..”، أو كما قال؟

بعد سماع هذه الكلمات، تملَّكت الحيرةُ الفقراءَ من الخطاب الموجه إليهم من طرف الغني المنتدب، وظهرت علامات ذلك على وجوههم. أما الأغنياء، فيقول بعضهم: جميل، واصل، هذا رائع..

يقف الحكيم في مكانه لا يتململ، وقد أطرق رأسه، وهو ينصت بإمعان لما يدلي به الغني المنتدب.

يتحرك الغني المنتدب بضع خطوات، ثم يستأنف كلامه وسط إنصات الجميع: معاشر الفقراء، لو تأملتم القرآن لوجدتم الثناء على الأغنياء المنفقين أضعاف الثناء على الفقراء الصابرين، وقد شهد رسول الله بأن اليد العليا خير من اليد السفلى، وفسر العليا بالمُعطية، والسفلى بالسائلة.

بعض الأغنياء: نعم، هذا مشهور. اليد العليا خير من اليد السفلى، هذا الأمر يعرفه الصغير والكبير..

الحكيم مخاطبا جماعة الأغنياء: هدوء من فضلكم، اتركوا زميلكم يكمل كلمته.

الغني المنتدب متوجها إلى جماعة الفقراء: يا سادة، لقد عدّد الله تبارك وتعالى على رسوله من نعمه أن أغناه بعد فقره، وكان غناه الحالة التي نقله إليها، وفقره الحالة التي نقله منها.

ينظر الفقراء إلى بعضهم البعض في اندهاش. أما الحكيم، فيهز رأسه كدليل على إعجابه بما طرحه الغني المنتدب.

يخطو الغني المنتدب بعض الخطوات، ثم يردف قائلا: إذا كان الله تبارك وتعالى قد غفر لمن سقى كلبا على شدة ظمئه! فكيف بمن سقى العطشى وأشبع الجوعى وكسا العراة؟ وقد قال عليه الصلاة والسلام: “اتقوا النار ولو بشق تمرة، فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة”. فجعل الكلم الطيب عوضا عن الصدقة لمن لا يقدر عليها.

بقي الفقراء مسمَّرين في أماكنهم مذهولين بعد سماع ما أدلى به الغني المنتدب. بينما الأغنياء تظهر عليهم علامات الفرح بما قاله زميلهم، وهم ينظرون إلى بعضهم البعض، ويبدون الرضا والقبول.

الغني المنتدب مستأذنا الحكيم: هل تسمح لي بالاستمرار؟

الحكيم: أجل، إن ما تطرحه مفيد للغاية.

يرفع الغني المنتدب يديه إلى الأعلى ثم يخفضهما، وقد التفت إلى جهة الفقراء: أيها الفقراء، يكفي في فضل النفع بالمال أن الجزاء عليه من جنس العمل، فمن كسا مؤمنا كساه الله من حلل الجنة، ومن أشبع مؤمنا أشبعه الله من ثمار الجنة، ومن سقى ظمآنا سقاه الله من شراب الجنة، ومن أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منه عضوا من النار. ثم، من يسَّر على معسر يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفّس الله عنه كربة من كرب الآخرة، والله في عون العبد مادام العبد في عون أخيه.

جماعة الأغنياء: الله أكبر، هذا هو الحق الأبلج، جزاك الله خيرا، ما أروعك! أما الفقراء، فينظر بعضهم إلى بعض وقد ذُهلوا من شدة ما سمعوه. إلا أن أحدهم سينهض من مكانه، ويقول للغني المنتدب: هل تنكر فضيلة الصبر على الفقر؟

الغني المنتدب يجيب إجابة الواثق بنفسه: لا، أبدا. نحن لا ننكر فضيلة الصبر على الفقر، ولا يمكننا ذلك. ولكن، أين تقع فضيلة الصبر من هذه الفضائل التي ذكرتُها وقد جعل الله لكل شيء قدْرا؟

بعض الأغنياء: أجل، هذا صحيح، شتان بين هذا وذاك!

يقف الأغنياء، ويرددون المقطع الآتي بشكل جماعي، ثلاث مرات، بقيادة زميلهم:

فضائلنا تترى لا ينكرها إلا عميّ القلب

متلألئة مثل الأجرام في الفضاء الرحب

يجلس الأغنياء بعد الانتهاء من ترديد المقطع.

يقف بعض الفقراء، وقد بدا على محياهم شيءٌ من التوتر.

يقول أحدهم للحكيم مستفسرا: ماذا تقول سيدي الحكيم فيما قاله هذا الغني المنتدب؟ قم بإنصافنا! ماذا عن فضيلة الصبر على الفقر؟

يعمّ الضجيج الذي أحدثه بعض الفقراء في الساحة، ربما لأنهم ظنوا بأن الكفة قد مالت لصالح الأغنياء، أو أن الحكيم قد اقتنع بما أدلى به الغني المنتدب، خاصة وأنه ظل صامتا طوال المدة التي تكلم فيها الغني المنتدب، ولم يرد عليه.

بعد لحظات من الضجيج، يطلب الحكيم من الجميع الالتزام بالهدوء، ويقول موضحا ومطمئِنا الجميع: هدوء من فضلكم. لقد قلت لكم منذ البداية بأنني جئت لأسمع منكم وأنصت إليكم، خاصة وأن منتدبَيكم على سعة من الفهم والعلم والضبط. لا تتسرعوا! سأقول كلمتي، وسأكون منصفا بإذن الله.

الحكيم: أيها الغني المنتدب، هل أنهيت كلمتك؟

الغني المنتدب: بقيت نقطة واحدة أود أن أطرحها إذا سمحت.

الحكيم: لك ذلك، فزملاؤك قد اختاروك لتنوب عنهم، وقد أجادوا الاختيار.

الغني المنتدب: شكرا. هذا من جميل تواضعك.

الحكيم: حاول الاختصار من فضلك.

بشكل مفاجئ، يقف أحد الفقراء، ويقول بغضب شديد: سيدي الحكيم، لقد استبدّ هذا الغني بالكلمة، ونريد أن نسمع منك!

الحكيم: لا. لقد اختار المحاججة بهذه الطريقة المختلفة، فواجهكم بالخطاب، وهو حرّ مادام يتكلم باحترام. وأنا ما جئت إلى هنا لأحجّر على أحد، أو أفرض رأيي أو طريقتي عليكم. إن فضيلة الإنصات من أعظم الفضائل.

يجلس الفقير بعدما سمع ردّ الحكيم.

بإشارة من يده، يدعو الحكيمُ الغنيَ المنتدب لاستئناف كلمته.

يستأنف الغني المنتدب كلمته بحماس، وقد توجه بنظره مرة أخرى لجهة الفقراء: لا بأس من تذكيركم بمسألة جد مهمة، والذكرى تنفع المؤمنين؛ إن فقراء المهاجرين شكوا إلى رسول الله، وقالوا: يا رسول الله: ذهب أهل الدثور بالأجور( وهم الأغنياء أصحاب المال الكثير)، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضول أموال يحجون بها ويعتمرون ويجاهدون ويتصدقون. قال عليه الصلاة و السلام: “أفلا أعلمكم شيئا تدركون به من سبقكم وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: تسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين”. فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله، فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله، فقال رسول الله: “ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء”.

يقف الأغنياء جميعا، ليرددوا ثلاث مرات، وبحماس كبير، الجزء الأخير من الحديث الشريف:

ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

أما الفقراء، فلم ينبسوا ببنت شفة، وقد أحنوا رؤوسهم وهم حائرون مما سمعوه.

في هذه اللحظة بالذات، يتوجه الغني المنتدب بنظره إلى الحكيم، ويقول له بكل ثقة وفخر: إذن، الامتياز لم يزل، فلما تساوينا مع الفقراء في الذكر والصوم والصلاة، بقيت مزيّة الإنفاق. أليس كذلك أيها الحكيم؟ (يبتسم الغني المنتدب).

يخيّم الصمت على الساحة. ويبقى الحكيم واقفا في مكانه لا يتزحزح، وكأنه يتأمل في شيء جديد. ينظر إلى أسفل قدميه، وهو يمسح لحيته بكف، والكف الأخرى يرتب بها سلهامه البنيّ.

بعد فترة من الصمت، يرفع الحكيم رأسه، ويتوجه بنظره إلى الفريقين، ناظرا إليهما. ثم يحول النظر إلى الغني المنتدب، مُبديا إعجابه به، وذلك بحركة بيديه وإيماءة برأسه.

تبدو الابتسامة من جديد على وجه الغني المنتدب.

الحكيم قائلا وهو يخاطب الجميع: حسن. دعونا نقلب المسألة من جميع وجوهها، ولا نتسرع في إصدار الأحكام!

الغني المنتدب: ماذا تقول؟ لا نتسرع! أو ليست هذه أدلة مُسكتة للفقراء؟

يقول بعض الأغنياء: بلى، إنها حجج دامغة، الأفضلية لنا نحن الأغنياء، لا أحد يفوتنا في الفضل، يؤتيه من يشاء يا حكيم، فضل الله يؤتيه من يشاء.. !أما الفقراء، فيقول بعضهم: نعم، علينا ألا نتسرع في إصدار الأحكام، المسألة تحتاج لنظر الحكيم، إننا نعوّل على نظرك يا حكيم..

يقول الحكيم للغني المنتدب: لا تقلق، فليس هدفنا من هذه المحاورة أن يُسكت بعضنا الآخر؛ هدفنا الفهم، وليس أن يتغلب أحد على أحد أو فريق على فريق!

يلتفت الحكيم إلى الفريقين، ثم يقول للأغنياء رافعا يديه كلتيهما، ومعهما طرفي سلهامه: يا جماعة، إذا أمعنا النظر قليلا، فسنجد أن هذا الحديث الذي ذكرتموه، هو حجة للفقراء الصابرين أيضا، إذا فُهِمَ على الحقيقة. (يشير الحكيم إلى جماعة الفقراء).

بعض الأغنياء بصوت واحد: إذا فهم على الحقيقة! ما هذا؟ لا يمكن! مستحيل! بعد كل هذه الحجج؟..

بعض الفقراء: جميل، هذا ما كنا نريده؛ أن توضح لنا الحقيقة وتجليها سيدي الحكيم..

الحكيم: حسن، سأبين لكم الأمر جميعا، لا تقلقوا.

بعض الأغنياء: ولكن، لا يمكن لنا أن نتساوى مع الفقراء! لا يمكن! وإذا حدث هذا التساوي، فسيكون إجحافا واضحا في حقنا، وغمطا كبيرا لبذلنا!

يتقدم الغني المنتدب باتجاه زملائه، فيهتفون جميعا من جديد واقفين:

نحن الأغنياء شعارنا العطاء وهو يقوِّينا

نجود بالمال تزكيَةً فنساعد به المحتاجينا

الفردوس دارنا فهي موئلنا وإليها الحنينا

الله فضلنا في كريم كتابه ورسوله يزكينا

هذا الهتاف كان بمثابة طاقة نفسية إيجابية، ورسالة علنية للحكيم ولجماعة الفقراء بأن مكانة الأغنياء لا يمكن إضعافها، وأفضليتهم بائنة لا غبار عليها.

الحكيم وهو يخاطب جماعة الأغنياء: مهلا، أرجو أن تتريثوا قليلا.

الحكيم: أيها الأغنياء، إن المراد أنكم، وإن كنتم قد تساويتم مع الفقراء في الإيمان والإسلام والصلاة والصيام، ثم فضلتموهم بالإنفاق، ففي التكبير والتهليل والتسبيح ما يُلحِق الفقراء بكم وبدرجتكم، وقد ساووكم أيضا بحسن النية؛ إذ لو أمكنهم لأنفقوا مثلكم.

الغني المنتدب مخاطبا الحكيم: سيدي الحكيم، أنا شخصيا لم تتضح لي الرؤية بعد فيما تريد أن تذهب إليه! الحديث صريح في تفضيل الأغنياء لمن أنصف؛ فإن قوله عليه الصلاة والسلام: “ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء”، جاء جوابا على قول الفقراء: “إننا قد ساويناهم في الذكر كما ساويناهم في الصلاة والصوم والإيمان، وبقيت مزية الإنفاق، ولم يحصل لهم ما يلحقونا به، وما عملوا من الذكر قد لحقناهم به، فقال لهم حينئذ: “ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء”، وهذا أيها الحكيم صريح جدا في مقصوده!

يقول بعض الأغنياء عبارات، مثل: نعم، صريح في مقصوده، المعنى صريح في الحديث الشريف الذي جاء به زميلنا، المراد بيّن وجليّ،”ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء” عبارة نبوية واضحة المعنى وضوح الشمس في رابعة النهار، كل كلام جاء في الحديث الشريف صريح المعنى.. أما الفقراء فيقول بعضهم: أجل سيدي الحكيم، نيتنا حسنة، لو كانت لنا المقدرة لأنفقنا، فقرنا هو الذي حال بيننا وبين بذل المال..

يتحرك الحكيم وسط الساحة في صمت، والأنظار متجهة إليه تنتظر ما سيقوله. بعد برهة، يتوقف، فينظر إلى جماعة الأغنياء، ثم يقول: المعنى في ذلك؛ أن فضل الله ليس مقصورا عليكم وحدكم دون الفقراء، فكما آتاهم الله من فضله بالذكر، كذلك يؤتيكم إياه إذا عملتم مثلهم أيضا.

يتعجب الأغنياء من كلام الحكيم. أما الفقراء، فيبدون الموافقة، ويظهر ذلك من حركة رؤوسهم وملامح وجوههم.

الغني المنتدب مقاطعا الحكيم: وماذا بخصوص مزية الإنفاق؟ هل سنقفز عليها؟ كيف لهم أن يلحقوا بها؟

الحكيم: أيها الغني، لقد قلت لكم سابقا بأنهم ساووكم بحسن النية؛ إذ لو أمكنهم ذلك لأنفقوا مثلما تنفقون أو أكثر.

يرجع الحكيم بنظره فيخاطب جماعة الأغنياء: أيها الأغنياء، يظهر أنكم قد فهمتم من الفضل التخصيص، فوضعتموه في غير موضعه! وإنما معنى الفضل في الحديث الشمول، وأن فضله شامل للأغنياء والفقراء. فليس في هذا الحديث معنى التفضيل لفريق على فريق. انتبهوا وتفطنوا يرحمكم الله.

الجميع يحنون رؤوسهم، وينصتون لما يقوله الحكيم.

يردف الحكيم قائلا: ثم هناك مسألة أخرى مهمة سأعيد التأكيد عليها؛ وهي بشارته عليه الصلاة والسلام الفقراء بدخولهم الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم، وهو خمسمائة عام. فبهذه البشارة، الفقراء مخصوصون. لكن كما قلت لكم سابقا، هذا السبق لا يعني علوّ المنزلة والدرجة. يجب أن نعي جيدا هذه المسألة، وأن تكون واضحة للجميع.

ينظر الأغنياء بعضهم إلى بعض في اندهاش. أما الفقراء، فيتبادلون النظرات، والابتسامة بادية على وجوههم.

يجلس الغني المنتدب في مكان وسط الساحة على طرفي قدميه، وقد وجه نظره إلى الأعلى، ووضع كف يده اليمنى على ذقنه، وإحدى ركبتيه ملتصقة بالأرض. لاشك أن الحيرة قد اعترته، فالحكيم لم يترك دليلا إلا قلّبه من جميع وجوهه، وأوله التأويل المنطقي.

الكل ينظر للغني المنتدب. الأغنياء والفقراء والحكيم ينتظرون؛ هل ما يزال في جعبة هذا الرجل النَّحرير الحاذق ما سيقوله وما يحاجج به؟

لم ينتظر الأغنياء طويلا، وقد لاحظوا الصمت المريب الذي خيم على الساحة، والسكون الذي غشي زميلهم، فهو قاعد في مكانه لا يتزحزح وكأن طيرا قد جثم فوق رأسه! لذلك، وقفوا وبدأوا يهتفون بصوت واحد جَهْوَرِيّ بغية تشجيع زميلهم:

أجسادنا دمىً ما لم تسر فيها روحُ الصدقات

أموالنا هبة من منعم فهي كالجسور للقربات

الفضل لنا ببذلنا فنحن أهلٌ لجميع المكرمات

بعد لحظات من الترقب، وبعد سماع هذا الهتاف من زملائه، يتحرك الغني المنتدب باتجاه الحكيم، ويخاطبه قائلا: ثمة أمر لا بد من طرحه في هذا المقام.

تعلو علامات الفرح وجوه الأغنياء، لأن زميلهم المنتدب لم يخبُ وهجه، وقد استرجع الثقة إلى نفسه. أما الفقراء، فالدهشة والحيرة بادية على معظمهم، بسبب ما رأوه من استماتة الغني المنتدب وشدته في الدفاع عن موقفه وموقف زملائه، وقدرته على مواصلة النقاش!

الحكيم مبتسما: تفضل، قل ما لديك.

الغني المنتدب: شكرا.

يتحرك الغني المنتدب وسط الساحة ببطء، ثم يتوقف، وقد وضع كفه اليمنى على ذقنه. وبعد برهة يقول إلى الحكيم محركا سبابته إلى الأعلى: لكن، أليس المال سلاح المؤمن؟

تظهر على الأغنياء علامات الفرح، وقد أعاد إليهم زميلهم الأمل في الظفر بالأفضلية، ربما في هذه اللحظات التي تبدو الأخيرة، بذكره لهذا الدليل.. أما الفقراء، فينظر بعضهم إلى بعض في اندهاش كبير.

الحكيم يتقدم مبتسما باتجاه الغني المنتدب، وقد رفع كلتي يديه كأنه يريد أن يحتضن الغني المنتدب بسلهامه، من شدة إعجابه به: عبارتك مركزة وثاقبة. لكن، إذا أمعنا النظر في المقولة التي أتيت بها، وقلّبناها من جميع الوجوه؛

يقاطع الغنيُّ المنتدبُ الحكيمَ قائلا باستغراب شديد: عفوا سيدي الحكيم، المقولة ليست لي! إنها لرسول الله.

يقول أحد الفقراء غاضبا: لا تقاطع السيد الحكيم! اتركه يكمل! هذا ليس أدبا!..

يلتفت الحكيم إلى جماعة الفقراء قائلا: هدوء من فضلكم..

يرجع الحكيم بنظره إلى الغني المنتدب، ثم يقول: عليه الصلاة والسلام. أعلم أن هذه المقولة الجامعة المانعة هي لرسول الله، ولكنني نسبتها إليك ليس على وجه المصدرية، وإنما على وجه التنويه بك وبحذقك وبفطنتك!

الغني المنتدب: أعتذر عن المقاطعة.

الحكيم: لا بأس. قلت؛ عندما نتأمل في المقولة، سنجد أن كلمة “المؤمن” هي مفتاحٌ في الفهم. فالمال سلاح من؟ قل لي!

الغني المنتدب: هذه واضحة؛ المؤمن طبعا.

الحكيم: إذن، كلمة مؤمن محدِّدة للفهم. بل أكثر من ذلك، يقول عليه الصلاة والسلام: “نعم المال الصالح مع المرء الصالح”.

في هذه الأثناء، يوزع الحكيم نظراته على الجميع. الكل ينتظر ما سيدلي به استزادة في الإفهام والشرح.

يتحرك الحكيم قليلا ليوجه الكلمة للجميع، ثم يقول: أيها السادة، الغِنَى عون على التقى، والسَّعة عون على الدين. المال قوام العبادات والطاعات، وهو سبب لحفظ البدن، وحفظه سبب لحفظ النفس التي هي محل معرفة الله والإيمان به وتصديق رسله ومحبته والإنابة إليه..

يغير الحكيم مكانه ليثير انتباه الحاضرين، ثم يردف قائلا: المال سبب عمارة الدنيا والآخرة متى استخرج من وجهه وصرف في حقه، ولم يَسْتَعْبِدْ صاحبَه، ولم يملكْ قلبَه، ولم يشغلْه عن الله والدار الآخرة. وفي جملة؛ المال من أسباب رضا الله عن العبد، كما هو من أبواب سخطه عليه.

يطأطئ الجميع رؤوسهم، ويعم الصمت الساحة.

يقول الحكيم للغني المنتدب: هل لديك ما تضيفه؟

الغني المنتدب: لا.

يعود الغني المنتدب إلى مكانه بجوار زملائه جماعة الأغنياء، وهم يحيونه، ويثنون عليه بعبارات مختلفة، من قبيل: لقد ابليت البلاء الحسن، شكرا لك، جوزيت زميلنا.. ومنهم من احتضنه تنويها بما قام به، واعترافا ببراعته، رغم أنه لم ينتزع وسام استحقاق الأفضلية لهم من الحكيم.

المشهد الثالث:

يدخل الفقراء والأغنياء الساحة الواحد تلو الآخر، بانتظام، وفي وقت واحد، ومن جهتين متقابلتين. ثم يجلسون، كل واحد في مكانه.

بعد لحظات يدخل الحكيم، فيقف الجميع احتراما له.

الحكيم: جلوس من فضلكم.

يخرج المنتخبان المنتدبان السابقان. كل واحد منهما يقف في جهة مقابلة لفريقه، على مسافة قريبة من الحكيم.

يأخذ الفقير المنتدب المبادرة، ثم يقول للحكيم: أيها الحكيم، لقد قلنا ما لدينا نحن الفقراء من أدلة، وطرحنا أفضليتنا على الأغنياء، لكنك لم تدعْ لنا فهما إلا صححته! فقل لنا بربك من الأفضل في النهاية؛ نحن أم الأغنياء؟

كذلك، يتوجه الغني المنتدب بالكلام إلى الحكيم قائلا: أيها الحكيم، لقد كنا نظن، نحن الأغنياء، أننا الأفضل. لكنك تركتنا حائرين بأفهامك وتقويماتك! فمن الأفضل؟ نريد كلمة واحدة؛ نحن الأغنياء أم هؤلاء الفقراء؟ (يشير الغني المنتدب إلى جماعة الفقراء). احكم بيننا بالعدل.

الحكيم يطرق رأسه، وهو ينصت للمنتدبيْن.

البعض من جماعة الفقراء: ننتظر حكمك، نريدك أن تفصل بيننا، الحق هو ما ستقوله سيدي، الحق سيكون معنا.. أما الأغنياء، فيقول بعضهم: نثق في عدالتك، نحن الأفضل في النهاية..

بعدما يهدأ الجميع، يقول الحكيم: أولا وقبل كل شيء، أنا لا يُهِمُّني الحُكم؛ كل ما يُهمني هو الفهم. ثم إنني معجب غاية الإعجاب بدفوعاتكم وأطاريحكم! وما شدني أكثر وأثار انتباهي؛ هو الاحترام المتبادل بينكم! والأدب الواضح في لغتكم وتعاملكم!

يتحرك الحكيم قليلا وسط الساحة ليجذب الانتباه. يسكت مليا، ثم يقول: عادة ما نجد الفقراء يحقدون على الأغنياء أو يحسدونهم! والأغنياء يبغضون الفقراء أو يحتقرونهم! وهذا ـ ولله الحمد ـ لم يحصل بينكم! ربما لأنكم أُدْرِكْتم بتربية إيمانية، جعلتكم مترفعين عن مثل هذا الذي ذكرت من حقد أو غلّ أو حسد أو غيرة أوبغض أو ازدراء.

الغني المنتدب: لكننا معجبون غاية الإعجاب بفهمك الخاص لما أدلينا به من نصوص من الكتاب والسنة، وقمت بتأويلها جميعها على خلاف فهمنا لها!

الفقير المنتدب: أجل، هذا لمسناه في كل ما طرحناه، وقد لفت انتباهنا، وغيّر نظرتنا لكثير من الأمور!

الحكيم: بخصوص الفهم لنصوص الكتاب والسنة، فهذا المشكل تعاني منه الأمة الإسلامية؛ عندما تُحمَّل النصوص ما لا تحتمله! أو تُقرأ بعيدا عن حقائق اللغة! أو تُفهم فهما سطحيا تبسيطيا! فالتعامل مع نصوص الكتاب والسنة له ضوابط لا بد من مراعاتها. فكم من حقيقة ضاعت عندما لم تراع تلك الضوابط! وكم من واحدٍ حشر نفسه في ادعاء مراد الله أو مراد رسوله بدون علم أوفهم! على كل حال، هذا ليس موضوعنا.

الغني المنتدب: لكننا نريد أن نعرف النتيجة! من الأفضل؟ نحن الأغنياء أم هؤلاء الفقراء؟ (يشير الغني المنتدب مرة أخرى إلى جماعة الفقراء).

يأخذ الفقير المنتدب الكلمة، فيقول: قل لنا ـ بربك ـ من الأفضل؟ نحن أم هؤلاء الأغنياء؟ (يشير الفقير المنتدب إلى جماعة الأغنياء).

يصمت الحكيم قليلا، ومع صمته يسكت الجميع. يتحرك ببطء وسط الساحة، ولا ينظر لأحد، وقد أحنى رأسه.

بعد لحظات من الصمت الذي عمّ الساحة، يرفع الحكيم رأسه، ويعلي يديه فوقا، ثم يقول متحدثا إلى الجميع: يا جماعة، لإدراك الموضوع بالشكل الجيد، والتعامل معه بالفهم السديد، ومن ثم ملامسة مراد الله تعالى ومراد رسوله على الحقيقة، يجدر بنا بداية أن نطرح السؤال على الشكل الآتي: أيهما أفضل؛ من يختار الغنى والتصدق والإنفاق في وجوه البر؟ أم من يختار الفقر والتقلُّل ليبتعد عن الفتنة ويسْلَم من الآفة ويرفه قلبه على الاستعداد للآخرة فلا يشغله بالدنيا؟ أمَّن لا هذا ولا ذاك؟ هذا هو السؤال الأصلي. وهنا يكمن الإشكال. وهنا يتحدد مربط الفرس وموضعه؛ الموضع الذي اختلف فيه حال السلف من صالحي هذه الأمة. وعلينا الوعي بهذا الاختلاف والإقرار به.

الغني المنتدب: لذلك، نحن الأغنياء نتخذ مياسير الصحابة قدوتنا، كعبد الرحمن بن عوف.

بعض الأغنياء: أجل، عبد الرحمن بن عوف قدوتنا، مياسير الصحابة أسوتنا وبهم نقتدي..

يتوجه الغني المنتدب إلى زملائه فيدعوهم للوقوف مشيرا بيديه. يقفون ثم يهتفون جميعا، وبصوت واحد:

عبد الرحمن ابن عوف غنيّ شاكرٌ

زكّاه محمد والصحب فهو لنا قدوه

مياسير الصحابة بالأحمريْن جادوا

نسير على غِرارهم ونتخذهم أسوه

يجلس الأغنياء.

الفقير المنتدب: أما نحن، فنتخذ الزهّاد من الصحابة قدوتنا، كأبي ذر الغفاري.

بعض الفقراء: أجل، أبو ذر الغفاري قدوتنا في زهده، أبو ذر الغفاري أسوتنا..

يشير الفقير المنتدب إلى زملائه ليقفوا، فيرددون معه:

أبو ذرّ الغفاري رمز الفقر والصبر

زكّاه محمد والصحب فهو لنا قدوه

فقراء الصحابة بالأحمريْن استخفوا

نسير على طريقتهم ونتخذهم أسوه

يجلس الفقراء.

يبتسم الحكيم، فيوزع نظراته على الجميع، ثم يقول: بل قولوا جميعا؛ الرسول قدوتنا في فقره وغناه، وهو سيّد الفقراء كما هو سيد الأغنياء على السواء.

يتحرك الحكيم من مكانه قليلا، ثم يردف قائلا: ولكن، لا بأس، لنقلب المسألة من عدة وجوه، ولنعرِّج قليلا على أحوال الصحابة ما دمتم قد ذكرتم بعض الرموز منهم، فهذه النقطة جد مهمة.

ينتبه الجميع لما يقوله الحكيم.

الحكيم: يا جماعة، إن من مياسير الصحابة من اختار المال لإنفاقه وصرفه في وجوه الخيرـ كما ذكرت أنت أيها الغني ـ (يشير الحكيم إلى الغني المنتدب). ومنهم من اختار الفقر والتقلّل كأبي ذر وغيره من الزهاد ـ كما ذكرت أنت أيها الفقيرـ (يشير الحكيم إلى الفقير المنتدب). فهؤلاء نظروا إلى آفات الدنيا وخشوا الافتتان بها، وأولئك نظروا إلى مصالح الإنفاق وثمراته العاجلة والآجلة. ولكن ـ وهذا هو المهم بالنسبة إلينا ـ هناك فرقة ثالثة من الصحابة لم تختر شيئا، بل كان اختيارها ما اختاره الله لها. وهذه الفكرة الأخيرة جديرة بالتأمل والفهم والفقه بالنسبة إليكم جميعا فقراء وأغنياء.

الغني المنتدب: ما اختاره الله لها! كيف ذلك أيها الحكيم؟

الفقير المنتدب: فرقة ثالثة! بماذا تتميز هذه الفرقة؟ وضح لنا الأمر سيدي الحكيم!

الحكيم: حسن. أولا، لقد راقني حرصكم المتواصل على استكناه جوهر الأمور واستجلاء حقيقتها. ثانيا، دعوني يا سادة، أوضح لكم الأمر بمثال؛ لنأخذ طول البقاء في الدنيا من عدمه، فثمة فرقة اختارت طول البقاء في الدنيا وتمنته، لعبادة الله وتحقيق معنى الاستخلاف في الأرض وعمارتها! وطائفة أخرى تمنت الموت والشوق للقاء الله والراحة من تعب الدنيا وضنكها! وطائفة ثالثة لم تختر لا هذا ولا ذاك!

الفقير المنتدب: وماذا اختارت الفرقة الثالثة؟

الغني المنتدب: على ماذا وقع اختيارها؟

الفقراء يتحدث بعضهم إلى بعض، وهم يتساءلون عن الفرقة الثالثة فيما بينهم.. أما الأغنياء، فقد بقوا منتبهين لما يقوله الحكيم، وينتظرون الإفصاح عن كنه الفرقة الثالثة.

يصمت الحكيم قليلا، ثم يقول للجميع: اختارت ما يختاره الله لها، وكان اختيارهم سلفا بما يريده الله دون مراد معين منهم، وهي حال الصديق رضي الله عنه؛ فإنه لما قال له أصحابه عند مرض موته: “ألا ندعو لك الطبيب؟ فقال: لقد رآني، فقالوا: فما قال لك؟ قال لي: إني فعّال لما أريد”.

الغني المنتدب: رضي الله عنك أيها الصديق، لقد كنت قِمَّةً في التسليم!

الفقير المنتدب: وماذا عن رسول الله في مسألة طول البقاء في الدنيا من عدمه؟

الحكيم: نبينا ـ عليه الصلاة والسلام ـ أرسل إليه ربُّه يخيِّره، وكان أعلم الخلق بالله، فعلم أن ربَّه يحب لقاءه ويختاره له، فاختار لقاء الله تبارك وتعالى. ولو علم أنَّ ربَّه يحب له البقاء في الدنيا لما اختار غير ذلك، فكان اختياره تابعا لاختيار ربِّه.

الفقير المنتدب: إذن، ها نحن قد وصلنا إلى النتيجة. قلت لنا بأن الله هو الذي يختار لأوليائه؛ فبيِّنْ لنا ماذا فضل الله تعالى لرسوله؛ الفقر أم الغنى؟

الغني المنتدب: أجل، حدثنا عن رسول الله بخصوص نتحاجج به عندك!

الحكيم: حسن. دعونا ننظر من الأعلى -لا من الجوانب- لتتضح لنا الرؤية كاملة، ويتعمّق لنا الفهم. لهذا، سأتكلم لكم عن بعض خصال الفضل عامة، تحاججت فيها فرق وطوائف في الإسلام، وادعت الفضل لها دون غيرها، ومن ذلك ما نحن بصدده من خصلتي الفقر الغنى.

الغني المنتدب: تفضل.

الفقير المنتدب: يسعدنا ذلك.

الحكيم يتحرك من مكانه قيلا، ثم يخاطب الجميع: اعلموا يا جماعة أن كل خصلة من خصال الفضل قد جعل الله رسوله في أعلاها، وخصّه بذروة سنامها، فإذا احتجّت بحاله فرقة من فرق الأمة التي تعرفت تلك الخصال، أمكن الفرقة الأخرى أن تحتجّ به على فضلها أيضا.

ـ الفقير المنتدب: كيف؟

ـ الغني المنتدب: يعني أن الفرق مهما تقابلت وتباينت تحتج بحال رسول الله، وتجد به الحجة!

ـ الحكيم مؤكدا: نعم، فمسألة الاحتجاج بحال رسول الله مهمة جدا. فإذا احتج المجاهدون على أنهم أفضل الطوائف، احتج العلماء على مثل ما احتج به أولئك. وإذا احتج به الزهاد والمتخلفون عن الدنيا على فضلهم، احتج به الداخلون في الدنيا والسياسة والولاية والحكم. وإذا احتج به أهل العبادة على فضل نوافل العبادة، احتج به العارفون على فضل المعرفة والحقيقة. وإذا احتج به أرباب التواضع والحلم، احتج به أرباب العز والقهر. وإذا احتج به أرباب الوقار والهيبة والرزانة، احتج به أرباب الخلق الحسن والمزاح المباح الذي لا يخرج عن الحق وحسن العشرة للأهل والأصحاب. وإذا احتج به أصحاب الصدع بالحق والقول به في المشهد والمغيب، احتج به أصحاب المداراة والحياء والكرم أن يبادروا الرجل بما يكرهه في وجهه. وإذا احتج به المُتوَرِّعون والآخذون بالأحوط، احتج به المُيَسِّرون والمُسَهِّلون الذين لا يخرجون عن سعة شريعته ويسرها وسهولتها ووسطيتها. و إذا احتج به من صرف عنايته لإصلاح دينه وقلبه، احتج به من راعى إصلاح بدنه ومعيشته ودنياه. وإذا حتج به من لم يتعلق بالأسباب وركن إليها، احتج به من قام بالأسباب ووضعها موضعها وأعطاها حقها. وإذا احتج به من أخذ بالعفو والصفح والاحتمال، احتج به من انتقم في مواضع الانتقام. وإذا احتج به من جاع وصبر على الجوع، احتج به من شبع وشكر ربه على الشبع.. وهكذا، فإذا احتج به الفقير الصابر، احتج به الغني الشاكر. كما هو شأنكم.

الغني المنتدب: بخصوص حال رسول الله، ألم ينتقل من حال الفقر إلى حال الغنى؟

الحكيم: أنت صنديد. فإنك تُصِرُّ على إعادة طرح المسألة الأولى. لكن، أنصت جيدا لما سأصرح لكم به جميعا.

يتوجه الحكيم إلى الجميع قائلا، وبصوت عالٍ: يجب ألا ننكر أن رسول الله كان فقيرا فأغناه الله، هذه حقيقة لا مراء فيها ولا غبش، وقد فتح عليه وخوله ووسّع عليه، وكان يدخر لأهله قوت سنة، ويعطي العطايا التي لم يعطها أحد غيره، وكان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، ومات عن فدك والنضير وأموال الفيء.. لكن، وهذا ما يجب الانتباه إليه جيدا؛ الله تبارك وتعالى نزّه نبيه عن الفقر الذي يسوغ الصدقة، وواهم كل الوهم من ظنّ أن غنى رسول الله وملكه من جنس غنى بني الدنيا وملكهم؛ فهمْ غِناهم بالشيء، وغناه عليه الصلاة والسلام عن الشيء. ملكهم يتصرفون فيه بحسب إرادتهم، وهو إنما يتصرف في ملكه تصرف العبد الذي لا يتصرف إلا بأمر سيده ومولاه.

يغير الحكيم موضعه، ثم يردف قائلا: يا سادة، رسول الله عبد محض من كل وجه.. عبد لربه عز وجل. والعبد لا مالَ له. فجمع له الله سبحانه بين أعلى أنواع الغنى وأعلى أنواع الفقر.

الغني المنتدب: عليك الصلاة والسلام يا رسول الله.

الفقير المنتدب: حقا الرسول هو القدوة الكاملة.

البعض من جماعة الفقراء: جوزيت أيها الحكيم، لقد أثلجت صدورنا..

البعض من جماعة الأغنياء: لقد صححت لنا مجموعة من الأفهام، وبينت لنا حال رسول الله فيما يخص الفقر والغنى..

الحكيم قائلا على سبيل الختم وهو يوزع نظراته على الجميع، والابتسامة تعلو محياه: بوركتم جميعا فقراء صابرين وأغنياء شاكرين، وجعلكم الله ذخرا لهذه الأمة وحصنا لها، بكم يتحقق التوازن الاجتماعي، وتتجسد فيكم روابط الأخوة والتعاون من غير حقد ولا ضغينة ولا حسد، بتسابقكم على الخيرات وتنافسكم على الطاعات وتقاسمكم للأدوار المقدورة.. رزقنا الله وإياكم حسن الفهم والفقه والتأويل.

في هذه اللحظة، وبعدما أنهى الحكيم كلمته الأخيرة، ينهض الفقراء والأغنياء، فيعانق بعضهم بعضا، مظهرين روح الأخوة بينهم. بعد ذلك، يأخذ بعضهم بيد بيد بعض، ثم ينشدون:

سنعيش عيش السعداءْ

لا حقد بيننا ولا عداءْ

أخلاق الإسلام تُجمِّلنا

تمنحنا سلامةً وصفاءْ

نتقاسم أدوارا مقدورةً

في كنفِ مودةٍ وإخاءْ

الصبر فضيلةٌ للواجدِ

به يسمو شأن الفقراءْ

والجود دليل شكر به

يسمو ويعلو الأغنياءْ

ما بين فقير وغني لا

تفاوت فالجميع سواءْ.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

المرجع المعتمد في اقتباس بعض الأدلة: كتاب عدّة الصابرين لابن قيم الجوزية رحمه الله، تحقيق د. حامد أحمد الطاهر، الطبعة الأولى 2003م / 1424ه، الناشر: دار الفجر للتراث، القاهرة.

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock