نصوص

ننشر مونودراما  “نسرين”..للكاتب السوري: أحمد اسماعيل اسماعيل                    


المسرح نيوز ـ القاهرة| نصوص

ـ

     أحمد اسماعيل اسماعيل

      نسرين

مونودراما

 

 

 ملحزظة هامة:

لا يحق لأي شخص استغلال النص أو جزءا منه دون الرجوع للموقع،

والحصول على موافقة كتابية من المؤلف

ـ

  (مسرح. على الخشبة، وفي زاوية منها، ثمة  طاولة وكراس، تدخل إلى الصالة فتاة لها هيئة عجوز، تتنكب حقيبة صغيرة، تسير نحو الخشبة وهي تلتفت حولها باستغراب، تصعد إليها بعد تردد قصير، تجلس على كرسي، تحدق في الجمهور بنظرات الدهشة والخجل، تتفحص المكان، تجلس بصمت، ثم تسترق النظر إليهم بين الفينة والأخرى، تدمدم)

لماذا ينظرون إليَّ هكذا؟! إن نظراتهم غريبة!

(تخفي وجهها بيديها، يَرنُّ جرس الهاتف النقال، تخرجه من حقيبتها)

ألو، نعم، نعم يا أمي، لا، لم يحضر بعد (بهمس) ولكن هناك عدد كبير من الناس في القاعة، وهم ينظرون إليّ بتفحص مثل..

(بهمس وحذر) مثل المخابرات (بحنق) ماذا؟! الديمقراطية؟! الديمقراطية مرة أخرى!

أمي أرجوك، لا تلفظي هذه الكلمة. إني أكرهها، أنا لا أبكي، ولكن.. حسنٌ، لن أبكي، ولكن هل فهمت ماذا قلت لك؟ إنهم كثر، هل هؤلاء كلهم قضاة؟ ماذا؟ عادي؟! طيب، أمرك، سأتكلم وأقول لهم كلَّ شيء عني وعنك، حاضر، عن كلّ ما حدث لنا، مع السلامة.

(تدقق النظر في الجمهور. للجمهور بعد تردد) 

أولاً؛ أرجو ألا تحكموا عليّ من خلال شكل وجهي كما فعل الأطفال أمس في ساحة اللعب، أطفال لاجئون مثلي، الأشقياء، ما إن وصلت إلى الساحة التي فيها أراجيح، حيث كانوا يلعبون، وهممت بمشاركتهم في اللعب..حتّى تحلقوا حولي وراحوا يرددون:

“تشوز تشوز” يا عجوز. “تشوز تشوز” يا عجوز.

أطفال وقحون، أبي كان يقول: لقد أفسدت الحرب كلَّ شيء، حتّى الأطفال الصغار، لقد صاروا وقحين، بل وحتّى مجرمين.

عفواً، لقد نسيت أن أخبركم عن اسمي. أنا اسمي نسرين: نسرين رستم حاجي. من سوريا. من مدينة قامشلو، قامشلي، القامشلي، لا فرق. تلميذة.. أقصد كنت قبل ثلاث سنوات تلميذة في الصف الخامس.

(تخرج من حقيبتها صورة شخصية.. تعرضها على الجمهور)

انظروا. إنها صورتي حين كنت في الصف الخامس، في مدرسة حطين.. وأنا أرتدي زيّ الطلائع: طلائع البعث.

(تقف باستعداد. بصوت عسكري) استعد، استرح.

(تنفذ الحركات ثم تمدُّ يدها بتحية طلائعية، بصوت آمر):

– رفيقي الطليعي، كن مستعداً لبناء المجتمع العربي الاشتراكي الموحد والدفاع عنه.

– مستعدٌ دائماً.

(تصمت للحظات، تتنهد) كنا نفعل ذلك كل يوم، وكان المشرف يقول لنا أنتم جنود الأب القائد يا رفاق. كان ينادينا بالرفاق، وخاصة في حصة الطلائع، ومن يُخطئ وينادي زميله في هذه الحصة باسمه، فلا بدّ أن ينال عقوبة قاسية، فلقة: عشرة عصي على رجليه، أو عشرة عصي على يديه: طاخ طاخ طاخ.

(يتقلص وجهها وهي تفرك يديها بألم، بحرج) آسفة، لقد أردت أن أخبركم أنني لست عجوزاً، كي لاتحكموا عليّ أنتم أيضاً، من خلال شكل وجهي. (تتحسس وجهها، تتنهد بأسى) هذا ليس وجهي الحقيقي، أقصد: وجهي لم يكن كذلك، ولو رويت لكم قصته فقد لا تصدقوها أنتم أيضاً، بعض النسوة الحمقاوات في باتمان قالوا لأمي: (تقلدهن):

– هذا غضب من الله يا جارتنا. الناس في بلادكم تركوا الدين، فغضب الله على الجميع. ومسخهم إلى وحوش تتناهش لحوم بعضها بعضاً.

– إنها إحدى علامات قيام الساعة. استرنا يا رب!

– إنها سموم الحرب. اسألي عن ابنتك بسرعة يا مسكينة.

– يا ستار. يا رب.. اللهم احفظنا واحفظ بلدنا تركيا.

(تصمت بحنق)

الحكاية يا سيادة القاضي.. عفوا يا سادتي. ليست كذلك، أنا لم أفعل شيئاً حتّى يغضب الله مني، أنا لم أكذب، ولم أسرق في حياتي.

ولكن الرفيق موسى هو السبب، نعم الرفيق موسى، عندما كنت في الصف، وفي درس الطلائع، وكنا نلصق صور القائد: الأب القائد على دفاترنا، بحثت عن الصمغ في حقيبتي، فلم أجده، فناديت زميلتي هيلين. وطلبت منها أن تعيرني قليلاً من الصمغ، وعلى الفور توجه الرفيق المشرف موسى نحوي مثل الصاروخ، قيل لي بعدها، إن أحد جواسيسه من التلاميذ أخبره بذلك، وبدأ بتوجيه الصفعات لي: طاخ طاخ طاخ..

(تفرك وجهها بألم..وتصيح باكية): دخيلك أستاذ، أبوس يديك أستاذ، توبة، توبة، والله لم أفعل شيئاً، والله لم أشاغب..

(تهدأ) ولم يكفْ الرفيق عن ضربي حتّى سمعت هيلين صديقتي تناديني محذرة: قولي رفيق، رفيق، رفيق يا نسرين. وعندما قلت له يا رفيق.

(تهدأ، تفرك وجهها، تقلد المعلم) هدأ وقال: في هذه الحصة كلّنا رفاق، حتّى الأب القائد، لو صادف ودخل الصف لوجب أن نناديه: رفيق.

هل فهمت يا رفيقة حمارة؟

ظل وجهي بعدها مُحمراً لعدة أيام، ملتهباً ومتورماً، كما لو أنه تمزق، أو احترق. وحين ذهب أبي، الذي جنَّ جنونه عندما شاهد ما حدث لي، إلى المدرسة وشكا قسوة هذا المعلم، أقصد: الرفيق، للمدير، وكان مديرنا زميلاً لأبي في المرحلة الثانوية، قال له المدير بأسى (تهمس بحذر مقلدة المدير): معك حق يا صديقي، أقسم بشرفي لو كان الفاعل غير الرفيق موسى لأحلته إلى محاكمة مسلكية، أما هذا الرفيق فلا، حتّى لو كسر عظام التلاميذ كلهم وهدم المدرسة فوق رؤوسنا، الرجل محسوب على أكثر من فرع أمني، وفهمك كفاية.

(تصمت للحظات) ومن وقتها أصبحت أنادي الجميع: يا رفيق: رفيقة ماما، إذا سمحت أنا جائعة.. تصبح على خير يا رفيق بابا.. رفيق جدو، رفيق دكتور.. في البداية سخروا مني، ثم غضبوا حين استمريت في نداء الجميع بهذه الصفة، وفي النهاية اعتاد الجميع على ذلك.

(تصمت. تنظر إلى الجمهور بترقب) أعرف أنكم ستقولون: ومن منا لم ينلْ الضرب على يديه ورجليه من معلمه أو مدير مدرسته؛ ولأتفه سبب؛ كما كان يقول أبي؟ ورغم ذلك لم يحدث لوجوهنا أي تمزق! وستتهمونني بالكذب والافتراء، وقد تكرهونني لأنكم لا تحبون الكذب، أمي قالت: نسرين، ابنتي، قولي كل شيء بصراحة، هؤلاء القوم لا يحبون من يكذب عليهم.

(تصمت، تتحسس وجهها. تبتسم) أمي قالت إن بعض الجارات في حينا، في قامشلو، نصحْنها عندما كنتُ صغيرة، وقبل أن أذهب إلى المدرسة، أن تصنع لي تميمة، قماشة مقدسة تحميني من شرِّ العين الحاسدة. وأبي قال لقد أسميتك نسرين لأنك ولدت في الربيع، وكنت بيضاء وذات رائحة عطرة مثل وردة النسرين، هذه الوردة التي غنى لها الفنان محـمد شيخو أغنية جميلة.

(تغني، ثم تصمت خجلة، لنفسها) كان أبي يغني هذه الأغنية لي دائماً.

(تنظر إليهم بخجل وترقب) لقد تأخرت أمي، وأنا لا أعرف ماذا أقول لهم، إنهم ينظرون إليّ ولا يردون بكلمة! هل هم غاضبون مني.. ولكنني لم أكذب!

(تجلس بصمت، تخرج لعبات من الحقيبة، دباً وديكاً وفتاة)

لقد أعطوني في الكامب لعبات كثيرة وجميلة، ولكنها، وبصراحة،  ليست أجمل من لعباتي، تلك التي تركتها في بيتنا، هناك، في قامشلو، فقد كانت تستحم معي، وتنام معي في فراش واحد، وعندما ودعتها  بكت، بكينا سوية.  

(تحتضن اللعبات وتبكي):

لا تبكيَنَّ يا صديقاتي، لن أغيب طويلاً، سأذهب مع أهلي إلى تركيا حتّى تنتهي الحرب وسأعود، لن أطيل الغياب، أبي يقول: شهر أو شهران وستعود الأمور كما كانت، حينها سأعود إليكنّ ونلعب معاً.

(تغني لها وهي تضمها إلى صدرها، تصمت فجأة ثم تلقي بها جانباً، تعيدها إلى الحقيبة، تجلس. تطلب رقماً في الهاتف. بهمس)

أمي، متى ستأتين، إنني في حيرة شديدة، أحكي وأحكي ولا أحد منهم يرد عليّ بكلمة، حتّى بكلمة اخرسي. الجميع ينظر لي وكأنني شبح.

لماذا تضحكين، على كلمة اخرسي؟

(بهمس)أخشى أنهم لم يصدقوا كلامي، ماذا، إنهم لا يُكذبون الأطفال! هل تقصدين أنهم صدقوا كلامي؟ ومتى ستأتين؟ استعجلي رجاءً. حاضر..سأكمل الحديث حتّى تأتي، ماذا أقول، وما علاقتهم بكل هذا الكلام..حاضر. حاضر. سأقول. ولكن أسرعي بالمجيء. بسرعة. مع السلامة.

(تعيد الهاتف إلى الحقيبة. للجمهور)

لقد جئنا إلى بلدكم، لأن بلدنا لم يعدْ مكاناً صالحاً للعيش، هكذا كان يقول أبي، وكان يكرر قول ذلك دائماً مع الضيوف والجيران: لم يعد هذا البلد صالحاً للعيش بكرامة.

غلاء الأسعار، وانقطاع التيار الكهربائي المتواصل، وانعدام الأمان.. وكان جارنا العم سكفان يقول دائماً كلما جرى الحديث عن الوضع في البلد: إذا كان المواطن يقول كلاماً كهذا، فماذا يقول من هو مثلي: مكتوم القيد!

مكتوم القيد؟ ماذا يعني مكتوم القيد يا بابا؟! إنه الكائن الموجود مثل شيء، وغير الموجود مثل إنسان يا ابنتي، لم أفهم يا أبي، هل هذه حزورة؟ ستفهمين يا ابنتي، ستفهمين حين تكبرين، وكبرت، ولم أفهم، ولم أفهم أيضاً لماذا صرخ هذا الكائن في وجه أحدهم ذات مرة وهو في الشارع: (تقلده): لن أغادر هذا البلد حتّى لو متُّ من الجوع، لي ولأطفالي رب يحمينا، هذا وطني حتّى لو لم أكن فيه مواطناً.

(تصمت فجأة. لنفسها، وهي تنظر إلى الجمهور باستغراب، بحيرة) أحس أنني أحكي مع نفسي مثل هوارو، آه منك يا أمي. احكي يا نسرين، احكي احكي. ماذا سأحكي ياربي؟

نظراتهم إليّ غريبة، ما السبب يا ترى؟ هل السبب هو.. وجهي؟

(تتحسس وجهها. فتتغير قسماتها)

اللعنة على الحدود، لقد جعلت وجهي يزداد تمزّقاً، سامحك الله يا أبي وغفر لك.

عندما قلت له، هل صحيح أن حرس الحدود يضرب الصغار والكبار بقسوة يا أبي؟

ضمني إلى صدره وقال (تقلده): لا يا ابنتي، العسكر التُركي مثل البوليس في أوربا، لا يضربون أحداً مثلما يحدث عندنا، وخاصة الأطفال والنساء، إنهم يحبون الأطفال كثيراً. مثل الأوربيين تماماً.

وعندما قبض علينا حرس الحدود ونحن نحاول التسلل ليلاً عبر الأسلاك الشائكة إلى تركيا، اقتادونا بأعقاب البنادق إلى المخفر، وهناك بدأوا بتوجيه الركلات والصفعات للجميع، للنساء والأطفال والرجال، لقد ضربوا الرجال بقسوة شديدة. وكان أبي بين هؤلاء الرجال.

(تمثل ضرب والدها وهو يتألم)

طاخ طاخ طاخ.. أي. أي.. أي.. أأأأأي يا أبي. بابا بابا..

(تبكي. ثم تصمت) وبكى أبي. أبي بكى.

لقد كانت هذه هي المرة الأولى التي أشاهد فيها أبي وهو يبكي، صحيح أنه كان رجلاً جاداً، قليل الضحك، غير أنه لم يكن يبكي.

كان ينظر إليّ نظرات غريبة وهو يتألم من شدة ضرب الحرس له، لم يسبق أن نظر إليَّ بمثلها من قبل، كانت تلك النظرات تبرق من خلال الدموع التي امتلأت بها عيناه، وفجأة علا صوته وهو يناديني كالمخنوق:

(تقلده ببكاء وحرقة) نِسْرين، لا تبكي يا نسرينتي، لا تبكي يا روح بابا..اغمضي عينيك يا حبيبتي، أديري ظهرك لي يا بابا. وقال كلمات أخرى لم أفهمها.. كان الجميع يصيح، واختلط صوت بكاء النساء بصياح الحرس وهم يضربون الرجال.

ارتمت أمي على أحذية العسكر وراحت ترجوهم أن يكفوا عن ضرب أبي، ثم نادتني بعصبية: (تقلدها) تعالي وافعلي مثلي، فقد تتحرك مشاعر هذه الوحوش، سيقتلونه، سيموت تحت أقدامهم. هيا، هيا. وفعلت ما طلبته أمي مني.

(ترتمي على الأرض وهي تبكي)

كفى، أرجوكم كفى، إنه أبي، أبي الغالي.. وأنا أحبه. أُقبّل أياديكم، أبوس أقدامكم. لو مات سأقتل نفسي، سأموت، وسأخبر الله عنكم،  أقسم إنني سأقول له كلَّ شيء. سأقول له لقد ضرب هؤلاء الحرس أبي، لقد ضرب العسكر التركي أبي.

وبكت أمي وهي ترجوهم (تقلدها) إنه مريض، إنه مصاب بالربو.. سيموت، ليس لنا معيل سواه، أرجوكم ارحموه.. كفى. كفى. كفى. (تبكي، تهدأ) وكفّوا عن الضرب، ولكني ليس من أجلنا، بل عندما دخل ضابط إلى المخفر، وتحدث معهم بالتركية، لم أفهم ماذا قال، حينها فقط؛ كفّوا عن الضرب، وسجلوا أسماءنا، ودفعونا خارج المخفر كالكلاب الشاردة.

في الطريق إلى داخل الأراضي التركية، تحسست وجهي فوجدته قد أصبح أكثر يباساً، أكثر يباساً وتشققاً مما حدث له حين وجه لي الرفيق موسى الصفعات القوية، أحسست أن شقوقاً عميقة قد حدثت فيه، عميقة جداً.

لا أعرف كيف وصلنا في تلك الليلة إلى مدينة باتمان: مازلت أذكر الحالة التي كنا فيها: خوف وبرد وجوع.. وعندما وصلنا إلى بيت عمتي التي كانت قد استقرت في هذا البلد قبل سنة، وشاهدت أبي وهو على تلك الحال، حتّى بدأت تصيح وهي تبكي.

(تقلد عمتها المفجوعة وهي تحتضن أخاها، وتبكي وتشتم):

(يا أولاد الكلب، يا مجرمين، اللعنة عليكم وعلى حدودكم، من تظنون هذا المسكين، إرهابي يا إرهابيين؟ الإرهابي هو من يخرج من عندكم لا من يدخل إلى أراضيكم، ولكن الحق ليس عليكم، الحق على من دمر بلدنا وشردنا)

ولم تكفّ عن الصياح والشتم، رغم توسلات أمي، وطلب زوجها المتكرر أن تخفض صوتها. ظلت تبكي وتصيح وتشتم: الحرس، والمهربين، وتركيا، وحتّى البلد، بل شتمت الأب القائد نفسه، ولم تهدأ إلا حين طلب أبي منها ذلك.

(بهمس) كم حمدت الله على أن الرفيق موسى لم يكن قريباً منا، وإنه لم يستطع سماع ما قالته!

مكثنا حوالي الشهرين في بيت عمتي، لم يكن خلالهما نهارنا نهاراً عادياً، ولا ليلنا ليلاً طبيعياً، لا يمر يوم واحد بلا شجار: شجار عمتي مع زوجها، وشجار أمي وأبي. أمي تقول: (تقلدها): ألا تسمع يا رجل؟ بدأ زوج أختك يضيق بوجودنا، عيب، عيب وحرام.

ويرد أبي (تقلده): لا أستطيع يا امرأة، أولاد الحرام على الحدود أساءوا إليَّ كثيراً.

وعندما استأجرنا بيتاً في المدينة نفسها: بيتاً صغيراً وقديماً، لم ينقطع الشجار بين أمي وأبي، (تقلده): أنا مدرس يا امرأة، مدرس لغة عربية، لم أمارس في حياتي أيَّة مهنة سوى التدريس، ولا أتقن أية صنعة أعمل بها. فترد أمي: (تقلدها) حاول يا رجل، حاول، وإذا كنت عاجزاً فدعني أعمل.

(تقلده) لا، لن أسمح لكِ بالعمل وفي داخلي روح.

لن أنسى صوته في مساء أحد الأيام وهو يقول: (تقلده بألم) يارب، ماذا أفعل، ما الحل؟ هل أسرق، هل أتسول؟ هل أقتل؟ إما أن تنتشلني من هذه الحال وتفرجها، أو توفني وخلصني من هذه الحياة.

(تنحني لأبيها بألم وقهر) لا يا أبي، لا تمت يا أبي، أنا أحبك، إذا متَّ فسأقتل نفسي، نعم سأقتل نفسي، كيف سأحيا دون أن أراك كل يوم وأنت تدخل إلى البيت، تناديني: (تقلده) نسرين، يا وردة أبيها، يا حلوتي.

(تغني مقلدة إباها بحزن وشوق، ثم تبكي، وتتلمس وجهها بحزن وقهر)

ومرضَ أبي فجأة، أصبح طريح الفراش، فاضطررنا أن نعمل أنا وأمي، كنا نعمل ليل نهار في أحد المطاعم، نمسح ونغسل ونكنس.

(تكرر الجملة بعصبية وحرقة وهي تكنس المكان وتغسل، تهدأ وتحني ظهرها. تقلد صوت معلمها في العمل)

– أنت أيتها السوريلية. امسحي هنا.

–  حاضر. (تركض وتمسح)

–  هيه أنت. اغسلي الصحون جيداً.

–  أمرك أفندم. (تغسل)

–  بسرعة.

– حاضر.

– بسرعة يا عجوز.

– حاضر. حاضر. حاضر.

(تهدأ بعد انفعال. تصمت للحظات. تنهض وقد انحنى ظهرها. تنظر إلى كفيها بحزن)

ورغم كل ذلك طردنا صاحب المطعم، رمانا خارجاً بعد أن تشققت كفاي وانحنى ظهري، فعملنا في مطعم آخر، فسطا صاحبه على أجرتينا وطردنا، فعملنا في مغسلة للسجاجيد، نعمل منذ الصباح الباكر حتّى آخر الليل، وفي كلّ مرة كنا نعود فيها إلى البيت؛ كان أبي ينظر إلينا بعيون ممتلئة بالدموع، وكانت نظراته غريبة، غريبة جداً.

وكان يناديني في بعض المرات، ويضمني إلى صدره ويقول (تقلده): (آسف يا ابنتي، آسف جداً، لا تغضبي من والدك، والدك ليس قليل الشرف..) ثم يغص بالكلام. فالتصق به أكثر، وأتمنى عليه أن يغني لي، ولكنه لم يكن يفعل، بل كان يكتم بكاءه وهو يدفن وجهي في صدره.

غير أن هذا الحال أيضاً لم يستمر، سرعان ما عاد الشجار بين أمي وأبي مرة أخرى.

(بانفعال يتصاعد) أبي يقول وأمي ترد.. أبي يقول وأمي ترد، أمي ترد وأبي يقول.

(تقلد الاثنين بانفعال)

– سنذهب إلى مخيم مديات يا امرأة.

– لن أذهب. سأعمل أنا وابنتي ولن أعيش ذل المخيمات.

– سنعود إلى البلد إذن. الموت ولا هذه المذلة.

– لن أعود.

– بل سنعود.

– لن نعود.. لن نعود.

كفى كفى.. كفى يا أمي، كفى يا أبي.. كفى، كفى.

(تبكي. تهدأ) ومرت أيام وأشهر ونحن على هذه الحال، وفي مرة دخل أبي الدار فرحاً على غير عادته، وراح يصيح (تقلده): روجين، أين أنت يا روجين؟ وفجأة بدأ يغني، أمسك بيدي وراح يغني، وأخيراً. أبي يغني. غنّ يا أبي، غنّ.

(تقلده وهو يغني أغنية ما. تصمت) يا الله كم كنت أتمنى أن يستمر في الغناء، يغني ويغني.. لتأتلق النظرات الحلوة في عينيه ثانية، وتضيء الابتسامة الجميلة وجهه، وما إن شاهد أمي واقفة أمام الباب تنظر إليه بذهول، حتّى انطلق نحوها مثل طفل نجح في صفه وهو يقول:

لقد جاء الفرج، خلص، فُرِجت يا امرأة.. فُرجت، فرجت.

(وقبل أن تفتح أمي فمها بالسؤال، أكمل)

إلى أوربا، إلى أوربا ، ألمانيا يا سيدتي، بلد الحرية والأمان والكرامة.

– كيف، من أين؟ ماذا تقول يا رجل؟

فرد:

– بيتنا، بيتنا الذي تركناه يا روجين، وكل ما فيه من أغراض ثمن تهريبنا إلى اليونان. ومن هناك إلى بلاد ماما ميركل.

– بيتنا؟!

– نعم، بيتنا.

– لكنه كل ما نملك يا أبا نسرين، إنه عشنا الذي تزوجنا فيه، المكان الذي أبصرت فيه نسرين النور. كل غرض فيه عزيز عليّ، كل غرض له ذكرى.

– لا يهم يا امرأة. لا يهم، المهم كرامتنا. حياة ابنتنا.

– وماذا لو..

– لا تقولي لو.. أعرف ماذا ستقولين: لو انتهت الحرب وعدنا فماذا سيكون مصيرنا ونحن بلا سقف يأوينا؟

لو طردونا من ألمانيا يوماً فماذا سيكون مصيرنا؟

ولو غرقنا في البحر، مثل مئات بل آلاف من السوريين؟

ولو..ولو ولو.. أعرف كل ذلك. ولكن، لو لم نفعل ذلك فسأموت هنا قهراً، وستموت ابنتي جوعاً، وتموتين أنت أيضاً: مرضاً وجوعاً. لقد بعت البيت وانتهى الأمر.

(بشرود. لنفسها) وماذا عن ألعابي وكتبي!! هل باعها أبي مع البيت؟ آه كم اشتقت إليها! وإلى صديقتي هيلين أيضاً، وإلى شارعنا، وباحة مدرستنا التي كنا نلعب فيها!

(تلعب لعبة ما وهي تصفق. تلاحق هيلين وهي تناديها وتنادي رفيقات أخريات لها، وفجأة تقف صامتة بذهول)

تفجير إرهابي في حينا، في شارع عامودا؟؟

ماذا تقول يا أبي؟ لا، لا أصدق. كان أبي يمسح دموعه، وأمي تبكي بحرقة وهي تلطم وجهها. يا إلهي! إنه الشارع العام القريب من شارعنا، ذلك الشارع الذي كان يتحول في كل يوم جمعة إلى عرس، وكنا نحن الصغار نشارك فيه الكبار وهم ينادون: حرية، حرية.. نركض بين الصفوف المتجمهرة أمام جامع قاسمو، ننتظر خروج المصلين من صلاة يوم الجمعة لتبدأ المظاهرة، وكنا نردد معهم بصوت عال: الشعب يريد إسقاط النظام، واحد واحد الشعب السوري واحد.

(تصمت. بحرقة وانفعال) ولكن البيوت، لا النظام، هي التي سقطت، سقطت على رأس الشعب. على رأس الصيدلاني الطيب جوهر، وعلى رأس كاسترو: الطبيب الشاب الذي تخرج حديثاً من كلية الطب، وعلى رأس ابن جارنا الولد الشقي ولات بن الخال عبدي.. وكذلك العم الطيب سليمان، والخالة أميرة، وهوزان والخالة منيفة، وجوان، ولقمان. وغيرهم وغيرهم، كلّهم ماتوا، تمزقت أجسادهم، تحولت إلى مزق تحت أنقاض بيوتهم التي تهدمت. (تنفعل)

لماذا أيها الإرهابي؟ لماذا؟ هل تعرفهم؟ هل تعرف صيدلاني حينا الطيب، كان قصير القامة كثيراً، ولكنه كان طيباً جداً، لو صادف أن ذهبت إليه يوماً وطلبت منه أي شيء، كان سيقدمه لك حتّى لو لم تكن تملك نقوداً.. حتّى لو عَلِم أنك داعشي، يكفي أن تشكو له ما تعانيه من وجع. ولقمان، هل تعرفه؟ كان عريساً، كانت قصة حبه تُروى في كل بيت. والخالة أميرة.. كانت أماً لطالبتي طب بشري، هل كنت تعرف ذلك؟ هل تعرف كل هؤلاء؟ كانوا طيبين؛ فلماذا قتلتهم؟ ألا تخشى نار جهنم؟  كانت أمي تقول عن الخالة بيروزة إنها من أهل الله، فقتلتها، وكان الخال سليمان يقصد بيت الله في كل يوم ليصلي فيه فقتلته، وقتلت الطفل كريم، كريم الذي كانت أمه تمسك يده في صباح كل يوم وهي تردد بصوت حنون كم أحببته.

(تقلدها وهي تلاعب دمية): “تاتي يا ما شاء الله.. تاتي يا ما شاء الله”.. وكان الصغير يهرع صوب أمه وهو يكركر كالملاك، كم كان منظره جميلاً وهو يخطو بتعثر! (بعنف) وحش. أنت وحش.

(تهدأ للحظات) لا. لست وحدك الوحش أيها الداعشي، ولا حتّى أمراء الحرب، كما كان يصفهم والدي، بل مصطو، مصطفى ابن جارنا شكري العتال؛ هو الآخر وحش.

عندما صاحت أمي باستغراب (تقلدها): مصطو؟! مصطو هذا يملك مراكب بحرية وملايين الدولارات؟! مصطفى ابن خالة نعيمة! ابن العم شكري العتال أصبح مهرباً كبيراً؟!!

ظننت أنها تتحدث عن وحش حقيقي وليس عن إنسان، الوحش الذي جعل أبي حزيناً جداً وهو يقول:

(تقلد أباها) نعم يا هانم، مصطو، المعلم أبو الشكر كما كانوا ينادونه اليوم في مقهى بساحة “أك ساراي”، هو نفسه مصطو الأزعر، والذي اضطررت اليوم إلى أن أرجوه ليوافق على تهريبنا إلى اليونان. أنا الأستاذ رستم رجوت اليوم مصطو الحشاش مثل متسول.. تفو يا زمن.

(بحزن) وليته لم يوافق. ليته تذكر تعنيف أبي له عندما كان طالباً كسولاً، ورفض رجاء أبي. ولكنه وحش، نعم، وحش حقيقي وليس إنساناً، والوحش لا يتخلى عن فريسته بسهولة. ولقد كنا نحن فريسة له.

صعدنا بعدها بأيام قليلة مع فرائس أخرى مثلنا على ظهر مركبه.

(تصمت للحظات وهي ذاهلة)

كان الوقت فجراً، والبحر يهدر بغضب، جاء رجالٌ: أربعة رجال، قيل إنهم من رجال مصطو، كانوا مسلحين، أمرونا بالتوجه نحو المركب بصمت، فَعَلَتْ الأصوات بالاحتجاج مطالبة بالتريث حتّى طلوع الصباح، أو هدوء الأمواج التي كانت عالية، ولكنها الجميع صمت عندما أشهر رجال مصطو أسلحتهم وأمرونا بالتوجه نحو المركب، الذي انطلق بنا في عرض البحر، ليتأرجح فوق الأمواج الهائجة مثل ورقة في مهب الريح، حينها بدأت النسوة بإطلاق صرخات الفزع، وعلا بكاء الأطفال، وأخذ الرجال يكبرون:

(تقلدهم) الله أكبر، الله أكبر، وَحدوه، صلوا على النبي، اللهم صلي وسلم عليه..

(تهدأ) كانت الأصوات تهدر وكأن السفينة التي تلعب بها الأمواج جِنازة، ونحن فيها الموتى والمشيعين. (تردد):

“يا الله ما لنا غيرك يا الله، يا الله مالنا غيرك يا الله..”

صدحت أصوات بهذه الهتافات التي كنا نسمعها أيام زمان في المظاهرات. (تنفعل) وتحول الدعاء إلى صيحات فزع، صيحات الكبار والصغار، النساء والرجال، وكانت أمواج البحر تتقاذف المركب وهو يعلو ويهبط بنا، والناس تطلق أصواتاً مرعبة. وفجأة..بدأت المياه تتسرب إليه، وراح يغوص شيئاً فشيئاً، وأخذت الناس التي ملأت السماء بصيحات الرعب تقفز إلى البحر، كان المشهد أشبه بكابوس، شاهدت أطفالاً يصفعون الماء بأيديهم وأكفهم الصغيرة ثم يختفون في جوفه، ونساء يصرخْنَ وهن يتمسكن بعوارض القارب، ورجال يتدافعون، ويدفعون بعضهم بعضاً إلى البحر وهم يمسكون بالمركب.. وأمي التي كانت تمسك بي بيد، وبعارضة خشبية وسط القارب باليد الأخرى، لا تكفُّ مثل بقية النسوة عن الصياح وطلب الاستغاثة. وكانت تنادي أبي بصوت غريب لم أسمعه منها قبل ذلك (تقلدها):

رستم، أين أنت يا رستم..رستمووو. ووجدت نفسي أردد معها:

بابا، انقذنا يا بابا.. بابااا.. سأموت يا بابا.

وفجأة، تناهى إلينا صوت صفير قوي، فهتف بعض الرجال بفرح: النجدة، لقد جاؤوا لنجدتنا.

بعدها لا أعرف ماذا حدث، وجدت نفسي مستلقية على سرير في مشفى، وإلى جانبي كانت أمي تبكي وهي تعانقني، وازداد بكاؤها عندما سألتها عن أبي. أجابتني وهي تحبس دموعها: إنه مصاب برضوض في قدمه، وهو الآن يتلقى العلاج.

ومضت أيام ولم أرَ أبي، وبعد أيام، قررت القافلة، كما كان يسمون مجموعتنا، إكمال الرحلة بالسفينة من جزيرة ساموس اليونانية إلى العاصمة أثينا، وهناك، وقبل أن أصعدَ إلى السفينة الكبيرة، سألت عن أبي، فصمتت أمي قليلاً، ثم، وفجأة بكتْ وهي تقول: أبوك مات يا نسرين، غرق في مياه البحر ولم نعثر عليه، لقد فقدناه يا ابنتي. (تصمت للحظات) أبي، أبي مات؟!! لا، إن أبي في المشفى.. ألم تقولي إنه أُصيب برضوض، وسيتعافى يخرج من المشفى، وسيرافقنا إلى ألمانيا، وهناك سنجد بيتاً: بيتاً جميلاً جداً، لقد قال أبي لي ذلك، وقال: سآخذك إلى المدرسة: مدرسة ليس فيها دروس طلائع، والضرب فيها ممنوع، والمعلمون طيبون وليسوا أشراراً مثل الرفيق موسى، وستلتحقين بمعهد للموسيقى. هو قال لي ذلك، وقال: ستتعلمين العزف، ستعزفين وتغنين لي، ستغنين لبابا.

(تدندن بأغنية ما، تبكي، ثم، وبهدوء وحنق) 

المهرّب مصطفى هو السبب، جشع هذا الأزعر هو السبب، إنه وحش، وحش كاسر، المهرّبون وحوش: كلهم وحوش، وحرس الحدود الذين ضربوا أبي بقسوة: وحوش، وصاحب المطعم الذي كنا نعمل لديه أنا وأمي من أول النهار حتّى آخره، ليسلبنا الأجرة بعدها: وحش. ومعلمي في المدرسة؛ الرفيق موسى: وحش، كلهم وحوش، كلهم دواعش، كلكم دواعش.

(تبكي. ثم تهدأ، يَرن الهاتف، تهدأ. تجيب) ألو، نعم أنا هناك، أين أنت، لقد تأخرت، ماذا، في المحكمة؟

(تلتفت حولها) أين أنت؟ ماذا؟ وهذه التي أنا فيها الآن، أليست محكمة؟ (بهمس) لقد رويت لهؤلاء الناس المتواجدين هنا حكايتي كلّها؛ مُذ خرجنا من البلد وحتّى.. ليست محكمة؟ ما هي إذن؟ مسرح؟!

غريب! لم يعترض أحد منهم على دخولي وحديثي طوال هذا الوقت؟! (بحنق) ديمقراطية؟ أمي، ألم أقل لك لا تذكري هذه الكلمة التي مات أبي بسببها، نعم بسببها..لا. نعم، حاضر. (تهدأ) لابأس، لابأس، لن أفقد أعصابي، ولكن كان عليك التأكد من العنوان، لا أحاسبك، أنا لا أحاسبك يا أمي، حاضر حاضر.. كفّي عن الصراخ واكتبي لي العنوان بشكل صحيح هذه المرة، واحذري أن تكتبي لي عنوان مشفى مجانين أو مقبرة.. حاضر. لا تصرخي.

(تلملم أشياءها وهي تدمدم وتضعها في الحقيبة، يرن الهاتف مرة)

أين انت الآن، أمام الباب؟ أي باب، باب هذا المسرح، حاضر، سأخرج، سأخرج حالاً.

 (تخرج وهي تخفي ارتباكها بإطالة الحديث مع أمها واصطناع الانفعال)

 


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock