ننشر نص “كوميديا الكهف” للكاتب السوري الكبير “عبد الفتاح رواس قلعه جي”

المسرح نيوز ـ القاهرة| نصوص

ـ

 

 

عبد الفتاح رواس قلعه جي

 

كوميديا الكهف

 

مسرحية

 

الشخصيات

 

إيليا    :       موسيقي

ياسر   :       مسؤول اتصالات

حسين  :       دكتور فلسفة

أمينة    :       خريجة أدب عربي

لقمان  :       لاعب كرة

الأب   :       فلاح

حياة    :       ابنته الصغيرة

 

 

    (المكان كهف في جبل لجأ إليه خمسة مقاتلين بأسلحتهم، أربعة رجال وفتاة، ثم انضم إليهم كلب شارد، ينتظرون وعبر جهاز لاسلكي معهم أوامر القائد، جمعوا أسلحتهم في الكهف على شكل جملون (حدبة الجمل) يُلقى فوقه شرشف فيصير كخيمة هي بيت للكلب. أسلحتهم صدئت من الانتظار، هناك صندوق أدوات طبية، وبعض الأشياء والملابس المبعثرة، وفي الخارج حرب غامضة هم غير مؤمنين بها، وقناص مختبئ خارج الكهف لا يُرى.

المجموعة تتوزع في أنحاء الكهف. ياسر شاب في الثلاثينات أمامه جهاز الاتصال ينتظر إشارة، حسين دكتور في الفلسفة في الأربعين من عمره يقرأ في كتاب وعلى عينيه نظارات، أمينة مدرسة أدب في حوالي الثانية والثلاثين تصلح زينتها وتضع أحمر شفاه ، إيليا شاب في الثانية والعشرين  ينهض ويسير قلقاً، جميعهم يرتدون الثياب المدنية وقد خلعوا الثياب العسكرية المموهة، بعضها معلق على الجدار ، وبعضها مرمي بإهمال في الركن أو يجلسون عليها كبساط).

إيليا : (يتحرك قلقاً، يمد رأسه من الكهف) سطع الضوء، لا زلنا في الكهف.
ياسر : (يدخن ويبقى صامتاً)
إيليا : أنت تدخن، لا تتكلم

انطق كلمة.

ياسر : هذا الكهف يخفينا يا إيليا

يبدو أنك خائف.

إيليا : كلا. لست بخائف، لكن..

نفد الصبر، فمتى نخرج؟

يا سر : وإلى أين؟ أو تبغي أن نُقتل؟ ثم انتبه يوجد قناص في الخارج.
إيليا : قناص.. قناص..ولماذا نَقتُل أو نُقتل؟
حسين : سؤال فلسفي.. لماذا نَقتل أو نُقتل؟
أمينة : أنت تفلسف كل عبارة!
ياسر : اتركيه أمينة، هذه صنعته، دكتور فلسفة.
أمينة : أنا أكره الفلسفة.
حسين : يا حيف*..طالبة ما جستير! يا آنسة الأدب والفلسفة متلازمان.
أمينة : أنا أحب الأدب وأكره الفلسفة.
    (صوت رصاص متقطع)
إيليا : مسخرة.. كفى.. ألا تسمعون ؟ ونحن هنا مثل الفئران محصورون في هذا الكهف اللعين.
حسين : الكهف بالنسبة لي تجربة فلسفية رائعة، هنا عالم الظلال، وهناك في الخارج العالم الحقبقي، نحن ظلال.. تحيا الحرب.
أمينة : (ساخرة) أفلاطون مفلس. (مشيرة إلى دماغه)
حسين : بالعكس ، الأفكار هنا (مشيرا إلى رأسه) ما دمنا ظلالاً فيجب ألا نخاف من الحرب.
ياسر : أعجبتني هذه العبارة،أفلاطون مفلس، وعلى فكرة كلنا مفلسون.
حسين : وما يحدث اليوم هو إفلاس البشرية جمعاء، عندما يفلس الحكام وشعوبهم يلجؤون إلى الحرب.. إنه الإفلاس الكبير.
أمينة : فلسفة عصابية، نحتاج إلى مهدئات.
ياسر : تعال إيليا، اترك مدخل الكهف واجلس، أنت جديد هنا، شاركنا الحديث تهدأ أعصابك.
    (صمت، إيليا يجلس، يخرج من جيبه آلة هارمونيكا ويعزف مقطوعة هادئة، يسود جو من الشفافية والجلال)
أمينة : عزفك جميل، أين تعلمت العزف؟
إيليا : كنت أعزف مع جوقة الكنيسة على الفيولونسيل.
أمينة : وكيف وصلت إلى هنا؟
إيليا : اصطادني الحاجز على باب الكنيسة.

لماذا يَقتل الناس بعضهم بعضاً؟

حسين : ولماذا لا يفعلون ذلك والله أهبطهم إلى الأرض من أجل ذلك.
ياسر : أنت تجدِّف يا دكتور حسين.
حسين : كلا.. أنا..
    (جهاز اللاسلكي يعطي إشارة اتصال)
ياسر : هس س س ، دعوني أسمع.(يفتح الجهاز ويصل الصوت)
صوت الجهاز : إلى ف 2 ابقوا في أماكنكم إلى أن يصل القائد.
ياسر : (يغلق الجهاز) بودي أن أعرف من أين يتكلم.
أمينة : وهكذا اصطادوك إذن (تغني)

“صياد جيت أصطاد صادوني”

حسين : أنت تحولين كل شيء إلى مشهد هزلي.
أمينة :  وأنت تحول كل شيء إلى مأساة فلسفية. (تغني)

“الحياه حلوه بس نفهمها”

اعزف يا إيليا (تعيد غناء العبارة وإيليا يرافقها على الهارمونيكا)

الحياة حلوه بس نفهما

ارقصوا وغنّوا، وعيشوا لياليها*

الحياة حلوه

إيليا : صوتك جميل.
أمينة : يجب أن أغني قبل أن يختفي صوتي.
إيليا : يختفي! كيف؟
أمينة: : (تضحك) معي عقد ورمية غير حميدة هنا ( مشيرة إلى العنق والحنجرة)، وصوتي يختفي بين الحين والآخر.
حسين : (متأثراً) وتضحكين يا آنسة!؟
أمينة : وهل تريدني أن أبكي؟
حسين : هذه فلسفة، وتقولين لا أحب الفلسفة!
ياسر : كم أنت شجاعة يا أمينة.
أمينة : لست شجاعة، ولكني أريد أن أعيش.
إيليا : وهم يريدوننا أن نعيش في الكهوف ونموت مع هذه الأسلحة السخيفة الصدئة.
حسين : فلتصدأ كل الأسلحة.
إيليا : (يفحص البنادق) فعلاً بدأت تصدأ، والسوس ينخر في خشبها.
حسين : لو أنهم حولوها إلى محاريث لكان أفضل، فلتسقط كل الحروب النظيفة والقذرة.
أمينة : أنت تقول ذلك يا أفلاطون.. ومنذ قليل كنت تقول تحيا الحرب!
حسين : أنا دكتور فلسفة، أعلم طلابي الحوار على طريقة سقراط، مالي ولهذه الخردة من الحديد (مشيراً إلى البنادق)
أمينة : الآن بدأت فلسفتك تعجبني.
حسين : عظيم، ومتى نستطيع أن نعلن خطوبتنا؟
أمينة : خطوبة! هه.. أمل ابليس في الجنة*[1]، عندي حبيب غيرك.
حسين . ومن هذا الحبيب المنافس؟
أمينة : أديب كبير.
حسين : وكم عمره؟
أمينة : خمس وسبعون سنة.
حسين : ها..هووو.. أنت تمزحين.
أمينة : كلا أنا لا أمزح.
ياسر : إنه هرم يا أمينة، اختاري واحداً منا أفضل، ما عدا هذا الفيلسوف.
أمينة : الروح لا تهرم ولا تموت، الروح جزء إلهي.
إيليا : وهل ستتزوجينه؟
أمينة : كلا.
إيليا : ولماذا؟
أمينة : هو لا يريد أن يتزوج، شاف حظه مع اثنتين، شوّفوه نجوم الضهر.. يعيش منفرداً.
ياسر : وما الذي أعجبك فيه؟
أمينة : أدبه مذهل، سابق عصره، متواضع جداً، يحب المزاح، أزوره أحيانا في البيت، ونلتقي دائماً في المقهى فيحضر لي معه أكلات لذيذات. معه أنسى مرضي، ومشاكل البيت، ويعود إليَّ صوتي. نضحك نمرح في مقهى شعبي كله رجال، ولا يتجرأ أحد وينظر إلينا؛ فهو بالنسبة لهم مهيب جداً وعَلَمٌ في المدينة.
ياسر : تجلسان في مقهى كله رجال.. عجيب!
أمينة : ويقبِّلني في الشارع غير عابئ بالناس.
ياسر : حرية!
إيليا : مريم المجدلية*.
حسين : هيبولتيا**.
أمينة : لا هذا ولا ذاك، أنا مواطنة كغيري، مصنفة ما تحت خط المواطنة، أعيش مع أخواتي وحدنا، أعيلهم بقدر استطاعتي لإكمال دراستهم في الجامعة، جئت من الضيعة إلى المدينة لأكمل دراستي، وأعمل حالياً مدرسة للأدب.
إيليا : ولكن تملكين صوتاً جميلاً، ولديك حس فنانة، أليست لك مواهب فنية؟
أمينة : كتبت بعض المسرحيات ونشرت اثنتين منها، وعملت في التمثيل ومساعدة مخرج.
إيليا : وهل مسرحياتك جيدة؟
أمينة : كنت أعتقد أنها جيدة، لكنها لم تعجب حبيبي، فكففت عن الكتابة.
ياسر : (مستغلاً اعترافها، وفي دعابة) هذا حبيب يستحق الشنق، اتركيه يا أمينة واختاري واحداً منا.. عدا هذا الفيلسوف،
أمينة : شاطر.. يعني أختارك أنت ..أنت مرفوض جملة وتفصيلاً.
إيليا : تعجبينني حقاً، ولأني لا أستطيع الزواج بك* فإنني سأعزف لك لحنا جديداً، آمل أن يعجبك، هو هدية مني، وسأسميه إيمي .. مشتق من أمينة، مثل مايا ومارينا اشتقاق من مريم.
أمينة : سيدتنا مريم.. لروحها السلام. هات أسمعني.
    (إيليا يعزف على الهارمونيكا)

(إظلام)

    *   *   *
    (إضاءة

صوت نباح من خارج الكهف، يقترب الصوت، يصغون، إيليا يطل من الكهف)

إيليا : كلب متجه نحو الكهف.
ياسر : (ساخراً) هه.. فيلسوف آخر كلبي يريد أن يشترك في الحوار معنا.
    (يدخل الكلب، ينبح)
حسين : ها قد اكتمل العدد.. أربعة وخامسهم كلبهم.. صرنا مثل أهل الكهف.
ياسر : كلا .. هناك لقمان الذي ذهب ليحضر لنا طعاماً ومؤونة.
أمينة : وماذا سنفعل بالكلب؟
ياسر : سيعيش معنا

(ينهض ويحضر شرشفاً يرميه على كتلة البنادق فيبدو كخيمة للكلب)

سينام هنا.. هذا بيته.

(ياسر يقود الكلب إلى داخل الخيمة، الكلب ينبح)

لعله جائع أو عطش

(يضع أمامه كسرة خبز، وطاسة ماء)

حسين : هذا الكلب هو قائدنا منذ اليوم.
ياسر : ماذا تعني؟
حسين : نحن سكان الكهف كلنا كلبيون، فمن الطبيعي أن يكون الكلب قائدنا.
أمينة : لا تتكلم بالألغاز.. ماذا تعني؟
حسين : الفلسفة الكلبية  تشاؤمية، لا تثق بوجود الخير في الطبيعة البشرية،ترفض الفساد، ترفض الحروب، تدعو إلى الفضيلة وحياة لا مادية. ونحن الآن مثلها  من أتباع أنتيستنيس مؤسس الفلسفة الكلبية وتلميذ سقراط.
ياسر : وفسر الماء بعد الجهد بالماء.. لم أفهم شيئاً.
حسين : ياسر أنت خلِّيك مع هذا الجني الذي في يدك (مشيراً إلى الجهاز) مالك وهذه الفلسفة التي كان من أتباعها ديوجين، وزينون، وشوبنهاور.
ياسر : (ساخراً) إى هه.. الآن بدأت أفهم.. هؤلاء بالتأكيد كانوا حدادين مثلي عندما كانت صنعتي الحدادة. ولماذا سميت بالكلبية يا أفلاطون؟
حسين : إشارة إلى الكلب لسلوكه الفظ ونباحه، ونحن ننبح في وجه هذا المجتمع الذي أفسدته وأنهكته الحروب. نحن كلنا كلبيون، وأنت كلبيٌّ، شئتَ أم أبيت.
أمينة : جملة وتفصيلاً، أنا أرفض كل الحروب.
ياسر : أنت فيلسوف ولا تصلح للحرب، فما الذي جاء بك إلى هنا؟
حسين : أغلَقوا كلية الفلسفة في الجامعة وساقوا الجميع إلى جبهات القتال أساتذة وطلاباً، وقالوا: لا نريد فلاسفة، نريد مقاتلين، أنتم تعلِّمون طلابنا الهراء.
أمينة : على الرغم من أنني لا أحب الفلسفة لكنه عمل مشين.
إيليا : حصة الموسيقا ألغوها من المدارس أيضاً. ولولا حرمة الكنيسة لساقوا القسيس والقندلفت والمصلين إلى الحرب.
ياسر : بعد أن تنتهي هذه الحرب اللعينة التي لا أعرف فيها من يقاتل من، تعال معي يا أفلاطون أعلمك صنعة الحدادة، قررت أن أعود حدّاداً.

إذا لم تستطع أن تكون كما تريد فأرد ما يكون.

حسين : من أين لك هذه الحكمة الرواقية؟
ياسر : صحيح أنني ربع أمي لكنني أفكر على رواق.
إيليا : أتسمحين لي يا آنسة بسؤال؟
أمينة : تفضل، أنت تعجبني يا إيليا.
إيليا : أنت، ما الذي جاء بك إلى هنا؟
أمينة : لكن.. يمكن ألا تصدق قصتي.
إيليا : ولم لا.. احكي، كلي آذان صاغية.
أمينة : كنت في الجامعة أتابع موضوع رسالتي الماجستير، وهو دراسة عن شخصية مسرحية، عدت فوجدت البيت قد أصابته قذيفة دمرت اللابتوب وفيه كل ما عملته خلال سنة كاملة ورأيت جميع أوراقي وكتبي محترقة، بكيت، نمت، ولما استيقظت وجدت نفسي هنا مع هذا الشيء الذي لا أعرف كيف أستعمله.
إيليا : تقصدين البندقية (تهز رأسها موافقة) مأساة فعلاً.
ياسر : (يغني ساخراً من روايتها)

حلوة وكذابة         يا أغلى حبابي

والأكذب منك      حضرة جنابي

حسين : ولماذا تتهمها بالكذب يا رفيق ياسر؟
ياسر : أولاً دعني من كلمة رفيق، هذه الكلمة تكهربني بقوة 1000فولط، ثانيا هات فسر لنا هذه الكذبة الجميلة يا بروفسور.
حسين : يبدو لي أنها بعد أن صُدمت بما رأت، وبكت، ونامت، ثم استيقظت، صارت تعاني من فقدان ذاكرة جزئي.
أمينة : وتحدث معي أشياء غريبة أخرى.
حسين : مثل ماذا؟
أمينة : منذ صغري وأنا لم أتعلم القراءة بعد، كنت أقرأ الكلمات بالألوان، وعندما كنت في الجامعة كنت كلما ذهبت لأدفع ما عليَّ من رسوم أجدها مدفوعة، وكلما صار موعد دفع آجار البيت وأنا ليس معي مالاً أجد المبلغ في جيبي، وكان لدي موبايل لا أدري كيف جاءني، رأيت نفسي فجأة وأنا أتكلم فيه وأرسل رسائل، ومرة تأخرت عن الامتحان وفجأة وجدت نفسي في سيارة بلا سائق أوصلتني إلى الامتحان قبل دقائق.
ياسر : لا…تخنت.. هذا طوفان من الأكاذيب، أو أنك مخاوية الجان.
إيليا : ما رأيك دكتور حسن، أنا لا يمكن أن أكذِّب هذه الفتاة الجميلة، الكذب والجمال لا يجتمعان.
حسين : بل يجتمعان، وتصبح الفتاة أحلى بالكذيبات البيضاء الصغيرة، أما هذه!
إيليا : حسن هذه.. ولنحسن الظن، ما تفسيرك؟
حسين : في اعتقادي، إن كانت صادقة، فإنها تعاني من ذاكرة متقطعة بالفقدان، أما حكاية القراءة بالألوان فلا يمكن أن تفسر إلا بالتناسخ وحياة سابقة.
    (الجهاز يعطي إشارة اتصال، يتجمعون حول الجهاز، يفتح ياسر الجهاز فيصدر عنه أغنية حديثة راقصة ووقع أقدام الراقصين عليها، وأصوات استحسان. يظهر على وجوه مجموعة الكهف الاستغراب)
ياسر : يبدو أن القائد الغائب لديه حفلة راقصة في البيت.
حسين : ليس الغائب وإنما المهدي المنتظر الجديد.

(يصمت الجهاز فجأة وينطلق صوت المتكلم فيه)

صوت الجهاز : إلى ف 2 ابقوا في أماكنكم إلى أن يصل القائد. إلى ف 2 ابقوا في أماكنكم إلى أن يصل القائد.
ياسر : (يطفئ الجهاز) هذه الحرب كذبة كبيرة.
    *   *   *
    (إيليا قلق، يمد رأسه خارج الكهف مستطلعاً، صوت طلق ناري)
ياسر : إيليا لا تخرج، قلت لك يوجد قناص.
أمينة : (إلى إيليا) تعال إلى جانبي واعزف شيئاً، كلنا بحاجة إلى أن نهدأ.
    (يجلس بجانبها ويعزف على الهارمونيكا، يدخل لقمان وهو شاب في العشرين من عمره لاعب كرة قدم حاملاً كيساً فيه بعض المشتريات)
لقمان : حلاوتكم.. موسيقا وجلسة رومانسية، ومكان (مشيراً للكهف) كأنه من قصور الجنة.
ياسر : أهلا لقمان، شرفت ونورت، ما هذا الطلق الناري.
لقمان : القناص الأحمق أطلق علي الرصاص.
ياسر : وكيف عرفت أنه أحمق؟
لقمان : لأنه أجنبي مرتزق، ليس من أهل البلد، لا يعرف لماذا يحارب ومن يحارب.
    (يخرج الكلب من مخبئه وينبح)
    هه.. لدينا مقاتل جديد. كمل النقل بالزعرور*.
ياسر : لا تسخر منه، أصبح رفيقنا، وعيَّنه البروفسور قائداً لنا.
لقمان : شلة مجانين ومسخرجية.. وماذا سميتوه؟
ياسر : لم نختر له اسما بعد.
لقمان : سنسميه حرب.. مارأيكم؟
الجميع : موافقون.
أمينة : (ساخرة) تعجبني مبادراتك الحكيمة والمسؤولة.
لقمان : وإذا قتل سيغدو معنا شهيداً ويفوز بأجمل حورية من جنسه.
ياسر : كفاك هذراً وتعال أرنا ماذا اشتريت؟
لقمان : (يفتح الكيس) بعض المعلبات، سردين، طون، مرتديلا ، بازيليا، بقسماط[2].

(يتناول من الكيس لعبة دبدوب أحمر محفوظة في كيس بلاستيكي)

أمينة : ولمن هذا الدبدوب الأحمر.
لقمان : لعبة لطفلتي الصغيرة، كنت وعدتها بها.
أمينة : ولماذا لم تشترها لها قبل أن تأتي إلى هنا؟
لقمان : يا آنسة، كنت ألعب مع الفريق مباراة دولية بكرة القدم، حارس مرمى، فجأة اقتحم رجال الحبلة** الملعب وساقوني من وسط اللاعبين ولم ينتظروا صفارة الحكم وقالوا: أنت يا سيد مطلوب للخدمة الاحتياطية. لم يدعوني حتى ألبس ملابسي المدنية.
أمينة : وماذا حدث بعد ذلك؟
لقمان : كل خير.. خسر فريقنا 8/0

(يضحك الجميع والكلب ينبح، يخاطب الكلب ويربت على رأسه)

حتى أنت يا بروتس تضحك عليّ!

حسين : المهم أنت رسولنا إلى الخارج، كيف وجدت الناس والجو هناك، نحن هنا لا خبر، ولا نرى السماء.
لقمان : الناس هناك عدا فئات منتحبة كآلهة أو أنصافها تحولوا إلى روبوتوات تأكل وتشرب وتنام حتى النوم خلا من الأحلام، فقد استورد القائمون بالعناية الإلهية آلات ترصد الأحلام والأفكار ووسائل التواصل، ولهذا ترى الناس صامتين خائفين كأن على رؤوسهم الطير.
حسين : إنه عصر التكنولوجيا، وكيف رأيت الجو؟
لقمان : السماء ملبدة بالغيوم، هناك سحب تتجمع وتتكاثف، برق ورعد وصواعق فوق رؤوس الجبال.

(إيليا يتحرك فلقاً بين مدخل الكهف وبين الداخل)

الجو ينذر بكارثة، وباقتراب أمطار وسيول وربما طوفان، والشمس منذ شهر لم تطلع كأنما بلعها حوت السماء. الحيوانات والطيور ودواب الأرض تخرج من أوكارها ومخابئها وتهاجر.

حسين : الحيوانات تتحسس الكوارث كالزلازل وثورات البراكين وغيرها قبل الإنسان وقبل حدوثها.
إيليا : (يصرخ) كفى..كفى.. هذا يكفي.

(يندفع خارج الكهف، وجوم على الوجوه، صوت طلقة رصاص)

ياسر : لقد حذَّرته، أرجو ألا يكون قد أصابه القناص.
لقمان : هل أذهب وأراه.
ياسر : كلا.. فلننتظر قليلا.
أمينة : لقد أرعبته يا لقمان، وتعرف أنه فنان وحساس. اسمك لقمان ولكن ليس لك حكمة لقمان.
لقمان : آسف ولكنها الحقيقة رويتها في كثير من اللطف.
أمينة : يا لطيف على هذا اللطف، مشكلتك أنك لاعب كرة وتتعامل مع الناس بقدمك.

(يدخل إيليا وهو يمسك يده والدم يقطر منها)

ياسر : تعال.. قلت لك يوجد قناص، الحمد لله على سلامتك.
أمينة : تعال إيليا أضمدها لك. اطمئن كنت ممرضة في المستشفى.

(تخرج من الصندوق ضماداً ومطهرا، وتضمد له الجرح)

اشكر ربك، الجرح خارجي

(تلاحظ خاتماً في إصبعه)

ما هذا الخاتم؟

إيليا : خاتم الخطبة.
أمينة : مبروك.
إيليا : الله يبارك في عمرك.
أمينة : ومتى العرس؟
إيليا : في بطن الغيب، هناك من طالت خدمته واحتياطه ثماني سنوات ولم يعد بعد.
أمينة : تفاءلوا بالخير تجدوه.
إيليا : وأي خير؟ ربما أعود كهلا وأجد خطيبتي قد تزوجت وصار عندها أولاد.
أمينة : اسمع يا صديقي، أنت جريح، يجب أن تستريح وتنام وتنسى قليلاً، كلنا سننام..كلنا متعبون.
    (إظلام)
    *   *   *
    ( إضاءة خفيفة

الكهف شبه معتم، الجميع نائمون، الكلب يخرج من مخبئه ويلوذ بالفرار، تتعالى أصوات الرعود والبرق والأمطار الغزيرة، تدوي في الوديان أصوات سيول قادمة تنحدر من الجبال، يستيقظ مَنْ في الكهف، يمدون رؤوسهم من فم الكهف بالتتالي مستطلعين فزعين)

حسين : (وهو يمد رأسه) المياه تغرق الأراضي.
أمينة : (وهي تمد رأسه) السيول تنحدر من الجبال.
ايليا : انتهى كل شيء.. انتهى.. كل شيء.
لقمان : إنه الطوفان.. جاء مسرعاً أسرع مما كنت أتصور.
    (يعطي الجهاز إشارة اتصال، ياسر يفتحه)
صوت الجهاز : إلى ف 2 ابقوا في أماكنكم إلى أن يصل القائد.(يكرر العبارة) إلى ف 2 ابقوا في أماكنكم إلى أن يصل القائد… إلى ف 2 ابقوا في أماكنكم إلى أن يصل القائد.

(يختلط صوت الجهاز مع صوت الطبيعة الهادرة).

ياسر : (يرمي الجهاز الذي مازال يكرر العبارة) اللعنة عليكم جميعا..لقد جاء الطوفان.
حسين : الطوفان.. كان الطوفان في عهد نوح يغرق الطغاة والفاسدين والمشركين.
لقمان : الطوفان اليوم يأتي على الضعفاء والفقراء والمساكين.
إيليا : وعلى المؤمنين.
أمينة : الطوفان يجمعنا.. الطوفان يفرقنا.. يا للهول.
    ( تتجمع المجموعة في منتصف الكهف كجوقة مرتلين في معبد، يرددون في غناء جليل حزين)
الجميع : يا نوح

يا صاحب السفينة

يا نوح

يا مغرق المدينة

يا نوح

يا قصة حزينة

علينا وعليك السلام

علينا وعليك السلام

علينا وعليك السلام

    ( يتعالى صوت زئير السيول الهادرة، يهاجم الطوفان الكهف فيغرق بالمياه)
    (إظلام)
    *   *   *
    (إضاءة

قرص الشمس في أول الشروق بلون أحمر ناري، أصوات سقسقات العصافير، صوت عزف على الهارمونيكا من بعيد، حقل أخضر ممتد تتوزع فيه شجيرات وبعض الغنمات هنا وهناك.

فلاح في الأربعين من عمره منهمك يحفر في الأرض ويغرس شتلات أشجار جديدة. تدخل ابنته الصغيرة حياة في السادسة من عمرها وقد جمعت بعض الزهور وصنعت منها طاقة جميلة متعددة الألوان.

حياة : بابا قطفت لك بعض الزهور.
الأب : شكراً يا ابنتي.
حياة : ماذا تفعل؟
الأب : أغرس شتلات أشجار.
حياة : ولكنها صغيرة جداً.
الأب : ستنمو وتكبر مثلما أنت ستكبرين وتصيرين صبية جميلة.
حياة : بابا اغرس واحدة باسمي لنكبر معاً أنا الشجرة.
الأب : هذه التي بين يدي سأغرسها باسمك يا حياة.
حياة : وماذا سنسميها؟
الأب   نسميها إيفا.
الفتاة : وما معنى إيفا؟
الأب : معناها حواء.
الفتاة : حواء ستكون شقيقتي.
الأب : أتعلمين ما هي شقيقتك؟ أي نوع من الأشجار هي؟
الفتاة : كلا.. لا أعلم.
الأب : شقيقتك هذه (مشيراً إلى الشتلة) يا حياة زيتونة، شجرة الزيتون يا ابنتي معمِّرة، ولهذا ستكون شقيقة لك ولأولادك وأحفادك من بعدك.
الفتاة :  ولماذا تكون شقيقتي زيتونة ولا تكون شجرة تفاح أو كرزة، أنا أحب التفاح والكرز جداً؟
الأب : يا ابنتي، غصن الزيتون رمز للسلام، والزيتون طعام وافر الغذاء، وشجر الزيتون يا حياة من أقدم ما زرع الإنسان، زيته مضيء، وهو نور ونار وحياة.
الفتاة : بابا عمِّق حفرتها وأنا سأسقيها وأرعاها حتى تعيش ونكبر معاً وأجلس في ظلها نتسامر، تحدثني وأحدثها.
الأب : وتفهمين لغة الأشجار؟
الفتاة : سأتعلمها منها، أليست شقيقتي؟
الأب : ها إني أعمق حفرتها.

(يتابع العمل في الحفرة، يلحظ شيئاً فيها)

أوه..لحظة .. ما هذا؟

(ينبش التراب بحذر فيستخرج منها لعبة أطفال هي دبدوب أحمر اللون)

انظري ماذا يوجد في الحفرة.

الفتاة : دبدوب أحمر.. ياه .. ما أجمله، كنت قد طلبت منك شراء واحد لي.
الأب : خذيه، هاهو لك. إنها هدية الأرض لابنة الأرض.

(يعطيها إياه)

الفتاة : ولمن كانت هذه اللعبة.
الأب : لا أدري، ولكن بالتأكيد كانت لأب اشتراها ليهديها إلى ابنته الصغيرة. انظري ما تزال مغلفة كما اشتراها.
    (ينهي غرس الشتلة في الأرض، ويأخذ بيد ابنته)
الفتاة : هيا يا ابنتي، لنعد إلى البيت، أمك تنتظرنا، أصبح الفطور جاهزاً.
    (يسيران خطوات، حياة تلتفت نحو الشجرة)
الفتاة : بابا،  هل سنكبر حقاً أنا وأختي الشجرة؟
الأب : بالتأكيد يا ابنتي، وستعيشان حياة جديدة وسعيدة.
    ( يبتعدان ويخرجان، وتتركز بقعة ضوء على الشجرة حتى النهاية)

– ستار

 

كوميديا الكهف

سورية- حلب

6 رجب 1440

12 آذار 2019

* تعبير عن كلمة أسفي عليك

* أغنية فريد الأطرش.

[1] مثل شعبي، بمعنى لا تأمل.

* البغي التي أنقذها المسيح (ع) من الرجم.

** فيلسوفة الإسكندرية، قتلها الغوغاء بحجة الهرطقة.

* يقصد أنهما من دينين مختلفين

* قول شعبي بمعنى اكتملت المجموعة.

[2] خبز خاص مجفف للجنود في المهمات.

** دورية التجنيد العثمانية في الحرب العالمية الأولى، وكانت تلتقط الشباب من الشوارع وتربطهم بالحبل لترسلهم إلى الجبهة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock