المغربي عبد اللطيف فردوس يكتب عن تجربة غنام غنام “سأموت في المنفى في حديقة عين “أسردون”بالمغرب..مغامرة مقصودة.. لوّعت مشاهديها بين الضحك والبكاء!

المسرح نيوز ـ المغرب | عبد اللطيف فردوس

ـ

عبد اللطيف فردوس ـ المغرب

في سابقة لايمكن وصفها إلا بالتميز والامتياز،سابقة تظافرت فيها جهودفرقة (دوز تمسرح) و ثلاثة مركبات ثقافية (المركز الثقافي الحاجب، دار الثقافة بني ملال، المركب الثقافي الفقيه بنصالح) لتمكين فئة من الجمهور المغربي، من مشاهدة عرض فلسطيني، لأن المؤلف والمخرج والممثل ليس سوى غنام غنام، الذي يعيش متنقلا حياة المنفى، حاملا في قلبه بل في ذاته كلها فلسطين الأرض، الشعب، التراث،القضية، الجرح والألم، بل فلسطين الأمل الصلد المتوهج الذي لا يمكن كسره أو إخماد لهيبه.

اختارت إدارة دار الثقافة بني ملال، بتنسيق مع جمعية “دوز تمسرح” التي تشرف على تنظيم جولة العرض بالمغرب، أن تستقبل مسرحية ” سأموت في المنفى” خارج البناية، ضمن برنامجها “دار الثقافة بني ملال خارج جدرانها”، فكان العرض بالمنتزه السياحي الجبلي عين أسردون، بين المياه المتدفقة والظلال الوارفة، مساء يوم الأحد 2 يوليوز 2017.

كان الاختيار مغامرة مقصودة، لن يظهر صوابها من تهورها إلا بعد نهاية العرض.
رافق هذا الاختيار بمجرد الإعلان عنه أكثر من سؤال:هل سيتنازل الملاليون وزوار المدينة الذين احتموا بعين أسردون طلبا لجو ألطف في يوم حار عن نزهتهم، ويتوجهون إلى المكان المحدد بالمنتزه لتقديم الفرجة؟ وإن توجهوا، من يضمن بقاءهم ومعاينتهم للعرض دون انسحاب أو تشويش؟ خاصة وأن ما كان سيقدم مسرحا يحمل قضية بعيدة عن البهرجة والتهريج والرقص والغناء.
المهم أنيتم استدراج الزوار للتوجه نحو الساحة التي ستحتضن الفنان غنام غنام وفرجته أو محنته. والباقي على العرض وشكله، ولنا كامل الثقة في العارض والمعروض. هكذا كان قرار المشرفين على هذه الأمسية، فبرمجوا فقرة من الفلكلور المحلي “فرقة شباب مودجلأحيدوس من منطقة مودج بضواحي بني ملال”، جذبت حشدا ليس بالهين إلى الساحة/ الركح. نط الأطفال فرحا وحبورا، صفق الكبار، وتمايل عشاق الرقص سرا وعلانية. توالت الوصلات وارتفع معها التخوف من رد فعل الحاضرين الكثر عند بداية العرض المسرحي. هل سيحترمون ضيف الأمسية القادم من مكان بعيد من خارج الوطن؟. هل سيعطونه فرصة لإسماع صوته ونشر ما بداخله؟.

هل سيجاملونه وبعد ذلك ينسحبون واحدا تلو الأخر؟.
قبل حلول وقت البداية المحددة للانطلاق، ومن الحاجب بعد تقديم العرض الأول المبرمج في الجولة، وصل غنام غنام مرفوقا بعبد الجبار خمران، صديقه ومنظم الجولة.وصلا إلى الساحة دون أن يلحظ ذلك المتحلقون في شكل دائري حول الفرقة الفلكلورية. تسللا بين الواقفين واتخذا لهما مكانا قصيا. إلاأن تواجد بعض الذين يعرفون غنام غنام والذين سارعوا إلى تحيته بمجرد رؤيته، كسر رغبة الفنان في أن يكون وصوله بعيدا عن البهرجة ومراسيم البساط الأحمر ،لان الرجل بهامته ورصيده مجبول على التواضع.

اتخذ غنام غنام مكانه بين الجمهور، وما إن حلت لحظة الانطلاق حتى خرج من بينهم ليتوسط الساحة ، بنفس اللباس الذي كان يرتديه، وهي عملية مقصودة واعية، لأنه ليس غنام غنام الممثل من سيقدم الفرجة، ولكن هو بذاته وصفاته،أو على الأقل “بذل فاقد غنام غنام” كما جاء في العرض.رجل بسروال وقميص أسودين وحول عنقه كوفية فلسطينية، وفي ذلك دلالات عدة. أرسلت طريقة دخوله إلى الركح ولباسه إشارات ودلالات غير عصية عن التفكيك أو التفسير.

انطلق العرض بالتحية:” الله يمسيكم بالخير ويمسي الخير فيكم، لأن الإنسان بيحلى بالأيام والأيام بتحلى بالإنسان. واحلي الناس هم البني ادم، واحلي البني آدميين هم الناس، ومساء الخير ع البني آدميين.” بعد التحية جاء الاتفاق مع الحضور الملتف حول الساحة، سواء منهم الواقف أو الجالس،على شروط اللعبة :” لن استعمل أيا من الأدوات والمهمات في العرض، وهل يجب أن يكون معي مسدس…لكي أقوم بتمثيل أنني سأطلق النار” ثم أضاف ” لن استعمل إضاءة مسرحية خاصة، فلا شيء مثل الوضوح بيننا، العرض باختصار ببعدين 2D. الأول، أنا وانتم،والثاني الحكاية حكايتنا.

هكذا وبكل بساطة ومنذ البداية نكتشف بأن غنام غنام من فصيلة الأشخاص الذين لا يستطيعون بلوغ مرحلة الفردية إلا داخل مسار التشارك الاجتماعي. كان هذا الاتفاق في نفس الوقت دعوة للانخراط في اللعب. ” إن شعر أحدكم انه يريد أن يغني فليفعل”وانفلتت أحداث الحكاية/ الحكايات من بين يدي صاحبها لتوقظ الألم فينا أو على الأقل لتنقل إلينا الإحساس بفظاعة وضعية اللاجئين.

ما قدم أمامنا لم يكن أحداثا لمشاهد مسرحية، بل وقائع صادمة دعتنا إلىأن نسال ونتساءل،أكثر من أن نتمتع ونتفرج. سرد استرجاعي وشم ذاكرة السارد والتي هي بالأساس ذاكرة مشتركة لكل من مسته أحداث هذا الماضي والحاضر، حتى لا أقول ذاكرة جمعية، وكنت حينما أضحك أو أصفق ألوم نفسي وأتساءل هل كان علي أن افعل؟ أتبث غنام غنام بحرفيته العالية وتمكنه من أدواته المسرحية ،أننا أمام ممثل ليس بالعادي.لم يتقمص أدوارا ما بل قدم شخصيات تناصية، جمعت بين هويته وجسده وفضاءات العمل المسرحي.

كانت نقط ارتكازه كممثل واضحة ومتعددة شكلت في حد ذاتها إشاراتركحيةلعبية (ملعوبة) وغير مكتوبة. ممثل بمثابة دراماتورج متحرك. تخال وكان من ورائه مصمم رقصات اعتمد في رسم حركاته وفضاءات تنقلاته على منهجية دراماتورجية بصرية بحس وتمكن احترافيين عاليين.

خاطب الجمهور بالكلمات،بالإشارات وبنظرات وزعها بسخاء. خاطب الحاضرين بلسان وشفتين نقلت الحكايات إلى الإذن ومنها وباختياره الواعي إلى العقل. تواصل معهم بنظرة العين للعين أو للأعين فتسرب إلى أحاسيسنا فوضع الأصبع على مصدر النزيف. ردود فعله يستقيها من رد الفعل الجماعي للحاضرين. تفوق في ترجمة النص الدرامي بشقيه التخيلي والمرجعي اللعبي.

التواصل الذي اقترحه علينا غنام غنام هو نفس التواصل الذي يراه جان كازنوف”. وهو جعل الشيء مشتركا، أي الانتقال من حالة فردية إلى حالة جماعية أو اجتماعية عبر الفعل، حيث اعتمد الإخبار والإبلاغ والتخاطب في نقل الرسائل والرموز المحملة بالدلالات والإيحاءات على الصوت والإشارات، وحافظ للتواصل اللغوي على رقيه.
تمتع من حضر بعرض نوعي في بساطته، شد إليه كل من ساقته مصيدة التفرج على لوحات فلكلورية محلية الى الساحة. تسمر المتنزهون، الذين فضلوا الفرجة على النزهة، في أماكنهم، ولم يغادر منهم إلا القليل. متحلقون من مختلف الأعمار والفئات الاجتماعية .

خاطب غنام غنام الأطفال في سلاسة، بل ساعد البعض منهم على العبور من زاوية إلى أخرى داخل الحلقة دون أن يخدش كبرياءهم ولا أن يقطع متعتهم. أحست النسوة بالغبن الذي يعيشه اللاجئون دون أن يثير عواطفهم أو يستدر عطفهم، حتى الحارس المكلف بالتنقل بين إرجاء المنتزه لإرسال صفارة الإنذار لإجبار رواد عين اسردون على المغادرة، لان الغلاف الزمني للنزهة قد استنفد، تسمر في مكان عال يسمح له بمتابعة الحكاية، وكانت صفيراته على عكس المألوف جد متباعدة فأعطى لنفسه فسحة أطول للمشاهدة. عرض فيه الكثير من التهكم والسخرية فلم تستطع إحدى النساء مقاومة دموعها التي لم نعرف نوعيتها أهي دموع فرح، الم،أمضحك.

العرض ليس عملا مسرحيا، إنه واقع معاش شئنا أم أبينا. كنا أمام حصيلة لنسيج من العلامات والرموز المنضوية داخل سيرورة قابلة للتأويل حسب تعبير “بول ريكور.Paul Ricoeur.”. الشخصيات ليست أبطالا بالمعنى، بل هي نماذج من الشعب الفلسطيني. العرض لا يتموقف ولا يبرر، بقدر ما يصف وينقل معاناة. وجهتنا الحكاية منذ البداية، بسخرية، إلى أنه حينما نفرض على الإنسان أن يكون في غير مكانه الطبيعي، وكأننا كمن يوجه رجلا يبحث عن مرحاض، وهو في أمس الحاجة إليه، نحو مرحاض النساء.

قدمت لنا الحكاية، بانتقال سلس بين الأمكنة والأشخاص والأحداث،وصفا ساخرا شافيا لزمن كان فيه ولا يزال تملك كتاب يقابل جريمة عقوبتها خمس سنوات سجنا.ونقلتنا من عمان إلى رام الله وذكريات البيت الذي عاش فيه غنام، كما أبهرتنا بقصة حقيبة الحجر، وأدخلتنا في دهاليز التحقيق، وطرحت أمامنا سؤالا حول ما إذا كان بعض الفلسطينيين لاجئين أم نازحين. وعلى لسان غنام غنام صرخت الحكاية في وجهنا: أنا الفلسطيني أولد أردنيا، إنا من أعيش أزمة هويتي بمطار الطيران، منفاى بذل فاقد عن الوطن.

حدثتنا الحكاية عن صابر الذي خسر أرضه بخديعة الأهل قبل أن يخسرها بالاحتلال. وأخبرتنا بان من قتل صابر ليس نار الحاكور بل نذالة المحقق. وكانت أكثر المرويات سخرية عندما نعي غنام غنام نفسه، وسار في جنازته، وحضر مراسيم دفنه، وقرا شاهد قبره. فجعلنا نتساءل هل هو دفن لغنام وهمومه ؟ أم دفن للقضية؟ لكن الشاهد يؤكد لنا أن القضية أبدا لن تدفن، كما أكدت لنا الشواهد الأخرى في كل المقابر، أنها عودة وليست دفنا. وتحول مدن فلسطين إلى أسمائها على شواهد في مقبرة، لدلالة مزدوجة على موتها و خلودها، لذلك أوصى إميل حبيبي أن يكتب عل ىشاهده “مات في حيفا وسأبقى في حيفا”.

حركية النص رغم أنها تبدو بأنها دائرية حيث تبتدئ “بالأيام بتحلى” وتنتهي “بالأيام بتحلى” فهي حركية لولبية تصاعدية، لان بين البداية والنهاية تغير الكثير في وعي ووجدان المتفرج. ومما يؤكد ذلك أسئلة ومداخلات المتدخلين بعد العرض، وخاصة ما فاجأت به سيدة مغربية الحاضرين، أصلها من ازيلال متزوجة بفلسطيني كان يعمل في ديوان أبي عمار، عاشت قي النهر البارد كانت هذه السيدة مرفوقة بابنتها المغربية الفلسطينية لميس. قالت المرأة مما قالت: سيد غنام أحس بمعاناتك وافهمها، يكفي أن زوجي كان له في كل دولة جواز سفر.

لا أجد تفسيرا ولا وجه التقابل لماذا رددت وانأ أغادر المكان والعرض يسكنني، أبياتا شعرية من قصيدة محمود درويش ” رسائل المنفى”

هل يذكر المساء
مهاجرا أتى هنا… و لم يعد إلى الوطن ؟
هل يذكر المساء
مهاجرا مات بلا كفن ؟
يا غابة الصفصاف ! هل ستذكرين
أن الذي رموه تحت ظلك الحزين
– كأي شيء ميت – إنسان ؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock