الناقدة رنا عبد القوي تكتب: “حدث في بلاد السعادة” ومأزق الاختيار الحر بين الذات الواعية بقضايا الوطن وإرضاء الأنظمة!
المسرح نيوز ـ القاهرة ـ نصوص| رنا عبد القوي
ـ
لا يمكن لأحد الانكار أن المسرح والمسرحيين في مصر الآن في مأزق كبير، بين الاختيار الحُر الذي يُرضي الذات المبدعة المتسقة مع نفسها والواعية بقضايا الوطن المُلحة، وبين إرضاء الأنظمة التي تُروِج للاستقرار الزائف المزعوم والمتكئ علي كبح جماح أفراد المجتمع واجبارهم علي قبول الوضع كما هو عليه .
ولكن في الواقع إن ما تم تقديمه في العرض المسرحي (حدث في بلاد السعادة) من مواجهة واضحة مع الواقع ومعطياته الإجبارية كان مفاجأة لجمهور العرض، خاصة من يعون تماماً كم الصعوبات والمحاذير التي تُفرض علي عروض هذه المرحلة .
وبحيلة درامية واخراجية استطاع صانعو العرض، المؤلف والمخرج أن يبتعدوا بالعرض عن هنا والآن الي أماكن وأزمان أخري ، فاستهل العرض رسالته علي لسان الراوي، وأثناء فتح الستار، قائلاً ” في اللا زمان واللا مكان … إلخ ” هكذا بدأ العرض في السرد، وهكذا بدأ في التبرؤ مما قد يتشابه مع الواقع في شئ علي لسان الراوي والراوية قبل بدأ العرض. وقد كانت هذه هي القاعدة التي قامت عليها اللعبة المسرحية، وكأن صناع العرض أرادو بين السطور أن يقولو تعال معنا أيها المتلقي وإسمح لنا أن نأخذك لعالم أخر، خيالي، من صنع خيال المؤلف والمخرج، إذ ربما تتشابه حياتك مع حياة أحد شخوص العرض ، وبينما لا تجد نفسك أبداً الحاكم الساذج المتمتع بنعيم السلطة من مال ونفوذ دون بذل أية عناء ومشقة أو حتي محاولة العمل بجد وخطة تسعي للنماء والاصلاح، فربما تري نفسك السياسي اللعوب صاحب الحيل والأكاذيب، او المرأة الفقيرة التي تتصارع مع جارتها، أو ذلك الرجل مدقع الفقر بعد أن كان تاجراً يتكسب الكثير من الاموال، والأكثر احتمالية و وطأة أنك قد تجد نفسك ضمن مجموعة الشحاذين المتسولين الذين يشكون سوء الحال طيلة اليوم ويتذمرون بين بعضهم البعض، وبمجرد مواجهتهم مع الحاكم أو أحد المسؤلين يتنصلون من كلامهم ويرتدون خطواط للخلف ويدعون السعادة والرضاء بما يعيشون .
فمن خلال مملكة اللازمان واللا مكان يتعرض الكاتب وليد يوسف والذي كتب نصه منذ حوالي ثلاثون عاماً لبلد يجتاحه الفوضي العارمة ، والفقر، والظلم، و سجن الابرياء، وبمجرد صعود أحد أفراد الشعب الي كرسي الحكم محاولاً النهوض بالبلاد ، يتآمر عليه الحاشية المستفادة من الفوضي حتي يتخلي عن الحكم ويعود الي صفوف الشعب المقهور .
وإذا طرحنا التساؤل الأهم الذي يوجه الي أي نص وعرض مسرحي يقدمان في توقيت ما، وهو لما يقدم هذا النص / العرض هنا والآن ؟ فالبحث عن إجابة لهذا التساؤل سيقودنا حتماً الي قراءة النص من منظور سسيولوجي، فالاحتياج المجتمعي المُلِح للتحدث عن المسكوت عنه، وما يتركه الصمت من حالة غليان تحت السطح قد تتسبب في انفجار آت لا محالة، هي ما تدفع الفنان – خاصة انه جزء من هذا المجتمع – الي تلبية احتياج المجتمع و طرح تساؤلاته في اطار فني، جاء هذا الاطار في عرض(حدث في بلاد السعادة) محايداً، يقف علي مسافة متساوية بين موقفين، هما في الواقع موقفين معاديين لبعضهما البعض . موقف يري أن الشعب هو السبب فيما يحدث له من ظلم وفقر، وموقف يري ان الحاكم وحاشيته هم من باعوا البلد والشعب وضحوا بمستقبلهم.
فعلي مستوي النص فنحن أمام حبكة استطاع فيها المؤلف وصف حال المجتمع المصري الآن من تخبط ولبس في المفاهيم، وتفاوت في مستويات المعيشة، وانتشار لحالة الفوضي العارمة والظلم، مع الفلات من المباشرة الي تعدد التأويلات، ويحسب للنص والحوار المكتوب والمنطوق علي لسان الشخصيات أن المؤلف وليد يوسف حرص علي الاتيان بوجهة النظر و وجهة النظر المضادة دون التحيز لواحدة ضد الاخري . وعلي مستوي العرض بدأ المخرج مازن الغرباوي بالتوجه للمشاهد بأغنية تحوي كلماتها تفسيراً بأن ما سيراه هو من صنع يداه وأن مستقبله هو مُحَدده . ليبدأ العرض وتتفجر قضاياه، فبما أن مثلث سقوط أية دولة وضياع شعبها هو (حاكم فاسد، حاشية مُضللة ، شعب جبان يعاني الظلم والفقر) فكانت هذه القاعدة الفكرية التي انطلق منها النص / العرض، ففي قمة الهرم الاجتماعي يقع الحاكم (زامجور) والذي يقوم بدوره الفنان (سيد الرومي)، منذ اللحظة الأولي من العرض نراه شخصاً سفيهاً، لا مبالياً بالشعب و ضغوطاته، لا يهتم سوى بمتعته اللحظية، وفي منتصف الهرم الاجتماعي يقع كبير الوزراء (عجبور) والذي أداه الفنان (علاء قوقة) فهو ذلك الوزير الفاسد المستفاد من حالة الفوضي التي تعيش بها البلاد، بل هو مشعل الحرائق بها، يسعي للكم الأكبر من المكاسب، ثم تأتي قاعدة الهرم الاجتماعي الممثلة في الطبقة التي كانت تُعتبر طبقة وُسطي ، تجد قوت يومها وأصبحت بلا عمل ولا رزق ، وطبقة المعدمين التي تحوي الشحاذون والسقا، ويمثل هذه الطبقة العريضة من الشعب التاجر الذي فقد تجارته في ظل حالة الفقر الذي ألم بالمجتمع (بهلول) الذي يقوم به الفنان (مدحت تيخة) و زوجته (زليخة) والتي تؤديها الفنانة (فاطمة محمد علي)، والجارة التي تتشاجر معها (منة المصري)، و (السقا) الذي يؤديه الفنان (أسامة فوزي) و شريحة الشحاذون التي يؤدي شخصية زعيمهم (عبد العزيز التوني)، وبائع الغلا (محمد حسني) والشاعر(حسن خالد)، وبائع الحيل (ميدو بلبل)، و المنادي (عمر طارق)، و أدمور الذي يجسده الفنان (راسم منصور) من العراق، و بائعة الحانة التي تجسدها الفنانة (خدوجة صبري ) من ليبيا، وبائعة القدور التي تجسدها الفنانة (نسرين أبي سعد) من لبنان .
ولأن العمل المسرحي عملاً جماعياً، لا يمكن فصل الاطروحة عن الصياغة البصرية عن مجموعة الممثلين، فعلي مستوي الآداء التمثيلي، فقد نجح المخرج مازن الغرباوي في انتقاء باقة من الممثلين القادرين علي تجسيد كل حالة لكل شخصية مختلفة عن غير من الحالات والشخصيات في نسيج يرتبط في النهاية ببعضه البعض، حيث أن سيد الرومي استطاع القذف بنا منذ اللحظة الالولي من العرض في أجواء اللهو والعبث التي يعيشها الحاكم الللامبالي، وكانت أدواته المولدة للكوميديا مدروسة ومحسوبة المقدار، للتنافر مع حالة الجدية والخبث والمكر والدهاء التي غذي بها علاء قوقة آدائه لشخصية الوزير الفاسد مشعل الحرائق، والتي فيها قام علاء قوقة باستخدام أدواته بحرفية عالية ودقة، فكل شئ بمقدار، الالتفاتة والحركة وإلقاء العبارة، لتكون شخصية عجبور حاملة لصفات فريدة، غير مكررة، وغير متماسة مع شخصيات متشابهة، وإذا اتينا لفاطمة محمد علي، تلك الممثلة الجوكر، التي تقوم بدور الراوية والمطربة منذ بداية العرض لنهايته بالتقاطع مع مشاهد أدائها لدور زليخة زوجة التاجر بهلول، ومع ذلك لا تشعر بتداخل الشخصيتين، وكأنها ممثلتين وليست ممثلة واحدة تقوم بالأدائين في نفس العرض، فقد حافظت علي الحدود الفاصلة بين المُهمتين ، وقامت بكل منهما بدقة وبراعة . واذا اتينا لمفاجأة العرض مدحت تيخا، ذلك الممثل ابن المسرح ودارسه في الأصل، و الذي سطع نجمه علي شاشة التليفزيون في أدوار البطولة بجانب كبار النجوم ، و رغم ابتعاده عن خشبة المسرح سنين إلا انه وبمجرد ان اعتلاها واقترب من الجمهور إلا واثبت انه لم يفقد شيئاً من حضوره و ألمعيته المسرحية، فمنذ دخوله قاعة العرض المسرحي من وسط الجمهور صاعداً الي المسرح وهو مسيطراً علي انتباه المتفرج لم يفقده لحظة . أما المعلم الأكاديمي ممتلك الأدوات والتقنيات التمثيلية أسامة فوزي، والذي كلما ظهر علي خشبة المسرح مجسداً دور ذلك السقا الذي فقد زبائنه لضيق الحال علي الشعب بأكلمه حتي أصبح هو أيضاً بائعاً لسلعة ليس لها مشتري، وهو هنا ممثل لديه وعي طيلة الوقت ما تُحيل اليه الماء في السياق الدرامي، وما يفضي اليه معني عباراته التي ينطق بها، ففي حين انه يروج للماء تلك السلعة التي تطفي ظمأ العطشي وتطفي لهيب النيران، هو يحملها طيلة العرض شاعراً بمدي مأساوية هذه الشخصية التي أصبحت هي الوحيدة التي تروج للسلام في زمن الحرب ، فمن خلال تعبيرات وجهه وانحنائة جسده استطاع اسامة فوزي التعبير عن انسان ذلك العصر المهزوم رغم مطالبته بأبسط الحقوق الآدمية . والفنان حسن العدل الذي يجسد دو الحكيم ، ذل الصوت الغير مسموع وسط ضجيج الطمع واللهاث وراء النفوذ والسلطة ، أدائه الرصين و تجسيده للحكمة صاحبة الصوت المنخفض، جاء دقيقاً مُحيلاً الي أذهاننا العديد من الاصوات العاقلة حولنا والتي لا تحظي بالاهتمام بل واعتبارها من المجاذيب . وبينما نحن بصدد عرض من انتاج مصري إلا أن اشتراك ممثلين من مُختلف دول العالم العربي به، وهم راسم منصور وخدوجة صبري ونسرين أبي سعد، تأكيداً علي فكرة عمومية القضية المطروحة وخروجها من نطاق المحلية للنطاق العربي .
أما علي مستوي الصورة والتشكيل في الفضاء المسرحي، فإن ما صممه المهندس حازم شبل ونفذه المهندس يحي صبيح، بجانب الـ(مابينج) كتقنية حديثة من تقنيات الصورة في العالم، صاغوا معاً فضاءاً قادراً علي ترجمة المعاني المنطوقة في الحوار، والمعاني التي سكت عنها الحوار ايضاً، مثل اللحظات الدرامية التي تُحول الأحداث وتُطورها بين الشخصيات، ففي الديالوجات الدرامية التي قامت بين بهلول المواطن المطحون و عجبور السياسي الماكر، وفي تصدُر عجبور منتصف خشبة المسرح أثناء شبوب الحرائق في البلدة وهدم المنازل، لعبت الاضاءة مع المابينج والديكور دوراً هاماً في تحقيق حالة استحضار ما هو حادث بعيداً عن خشبة المسرح ، وتماذج بين لحظات درامية عدة في آن واحد . ولم تكتمل الصورة المسرحية دون الملابس التي صممتها المهندسة مروة عودة والتي ساعدت علي ابتعاد المكان والزمان محل العرض عن اية مكان وزمان آخرين وكأنها صنعت عالماً خيالياً ، فقط يتطلب من المتفرج فك شفراته وحل ألغازه، أما تصميم الاستعراضات والذي قامت به الكيروجراف كريمة بدير، بجانب ما أعطاه للعرض من حيوية ودفق بعروقه الدموية، فهو علي مستوي درامي، ساعد علي التوحيد والتشبيك بين شخوص العرض باعتبارهم نسيج مجتمعي واحد في دراما وأحداث مجتمع العرض . ولا يمكنك كمتلقي متخصص أو غير متخصص أن ترحل عن العرض دون أن تعلق بأذنك بعض ألحان وعبارات أغاني العرض والتي بالتوزاي مع الحوار أو تعويضاً عنه في بعض الاحيان، تصف حال المجتمع الدرامي وما لحق به، وتساهم في الحفاظ علي توازن ايقاع العرض، فالموسيقي التي لحنها محمد مصطفي والاشعار لحمدي عيد صنعوا معاً نصاً موازٍ لنص الحوار ، عضدها صوت قوي هو صوت وليد الفاشني . كل هذه الأدوات، البصرية والسمعية ، كل منها بمقدار محسوب ومعلوم ، قام بصياغتها المخرج المتميز مازن الغرباوي الذي وصل الي درجة من النضوج بعد عدة تجارب كُللت بالنجاح في مسارح الدولة، وتوجت بهذا العرض النابض بقراءة مجتمعية ذات حساسية عالية، و مُنفذ بتقنيات وفكر اخراجي متقدم، واعي ، مواكب للتطور التقني والفني في العالم .
وبتأمل ما شاهدناه في (حدث في بلاد السعادة) نكتشف أنه بقدر ما يكون هذا النوع من العروض واطروحته موضعاً للخوف عليه من المنع والحظر بسبب تماسه مع الشؤن السياسية والاقتصادية، إلا أنه دائماً ما يكون مثاراً للاعجاب بجرأة ومقدامية مبدعوه . فبقدر حملهم لهموم مجتمعهم وسماعهم لأنينه، بقدر ما يمتلكون من الحنكة والخبرة الفنية لصياغة أطروحتهم في قالب فني متكامل .
وإذا طرحنا تساؤلاً علي انفسنا .. هل العرض عمل علي استعطاف واستدراج المشاهد الي التسليم بالمُقدر وعدم التعامل معه بالنقاش والتساؤل والاختلاف ؟ تكون الاجابة (لا) فالعرض دفع بالمتفرج للتفكر والتساؤل وتجاذب أطراف النقاش بينه وبين غيره من المتفرجين ، وبينه وبين افراد المجتمع خارج قاعة العرض ، وبينه وبين نفسه أولاً حول دوره و أدوار الآخرين في نسج مجتمع وغد أفضل . وهذا هو بالطبع الدور المنوط بالفن المسرحي ، فتسكين الألم أكثر ضرراً من فتح الجرح و التعامل معه بالعلاج .