مقالات ودراسات

الناقد الكبير د. أحمد الخميسي يكتب: المسرح الروسي في عالم نجيب سرور


المسرح نيوز ـ القاهرة| د. أحمد الخميسي*

كاتب وناقد مصري*

ـ

 

تأثرت الثقافة المصرية بوضوح بالرواية وبالقصة القصيرة الروسية. حكى يحيي حقي أنه مع نشأة القصة القصيرة في العشرينات بمصر تبلورت مجموعتان من الأدباء تلازمان إحدى المقاهي إحداهما تناصر ” موباسان” والأخرى”تشيخوف” ولا تكفان عن الشجار والنقار فيما بينهما. الرواية الروسية تركت تأثيرها أيضا حتى أن نجيب محفوظ عندما سئل وهو يناهز التسعين عن الرواية التي مازال يذكرها قال” الحرب والسلام” لليف تولستوي.

 

الشعر الروسي لم يترك أُثرا تقريبا لصعوبة ترجمة الشعر عامة وعدم انتشار اللغة الروسية. واكتفى المسرح المصري خلال نشأته بالكتاب الفرنسيين والانجليز لأسباب كثيرة. عام 1955 قدم اسماعيل يس مسرحية ” المفتش العام” لنيقولاي جوجول معربة وضحك معها الجمهور المصري طويلا، ثم أعاد عبد المنعم مدبولي تقديمها بعد ذلك في الستينات مع بداية البث التلفزيوني.

 

هناك أيضا مسرحية ” الناس اللي تحت” لنعمان عاشور التي كان واضحا فيها البناء الفني لمسرحية جوركي ” الحضيض”. ماعدا ذلك لا نكاد نلمس أثرا للمسرح الروسي في الحركة المسرحية باستثناء عروض أعمال أنطون تشيخوف من وقت لآخر.والعجيب أن تلك الأعمال عرضت لكن من دون أن تترك أثرا في إبداع مصري محدد. لكن لدينا نموذجا آخر فريدا هو الشاعر والكاتب المسرحي نجيب سرور الذي سافر عام 1957 إلي الاتحاد السوفيتي لدراسة الإخراج المسرحي مع أول بعثة طلابية لدراسة العلوم الانسانية أرسلها جمال عبد الناصر إلي روسيا.

 

وبعد سنوات من بقاء نجيب سرور في روسيا طالب نجيب في مؤتمر حاشد في موسكو بإطلاق سراح اليساريين المصريين المعتقلين حينذاك، ففصلته الحكومة من البعثة وسحبت جواز سفره. وتفاديا لتعريض العلاقات المصرية السوفيتية للحرج دعاه الجانب الروسي للسفر إلي المجر وبالفعل توجه إلي هناك عام 1963 وعاد بعدها بعام إلي مصر. وبعودته إلي القاهرة فتحت أمامه كل أبواب العمل، فعاش نجما لامعا نحو أربعة عشر عاما يمثل ويخرج ويكتب وينشر ويملأ مقاهي القاهرة وباراتها ضحكا وصخبا. عام 1964 قدم نجيب أولى أعماله وأفضلها ” ياسين وبهية ” إخراج كرم مطاوع.

 

وعندما عرض العمل على مسرح الجيب في نوفمبر 1964 وقع النقاد في – على حد شهادة د. أمين العيوطي- ” في حيرة”. فقدر البعض أن العمل قصيدة شعرية طويلة وقدر آخرون أنها ملحمة شعرية واعتبرها د. العيوطي محاولة للمزج بين المسرح والرواية. ولم يكن المسرح الشعري العربي قد عرف تجربة كتلك من قبل. ولم ينتبه أحد إلي أن نجيب سرور كان يقوم بنقل شكل”الرواية الشعرية” من الروسية إلي المصرية لأول مرة،وأنه كان في ذلك يحذو حذو أمير الشعراء الروس ألكسندر بوشكين في روايته الشعرية” يفجيني أونيجين” (1831) التي تأثر بها نجيب تأثرا شديدا خلال دراسته في روسيا .

 

كان بوشكين نفسه قد نقل هذا الشكل عن بايرون في عمله ” دون جوان ” الذي ظهر في 1818. والرواية الشعرية نوع من الشعر السردي يجمع بين الوصف الموضوعي للأحداث والشخصيات مع تدخل مباشر من المؤلف وطرحه لنظرته الخاصة . الأكثر من ذلك أن نجيب كتب عمله” ياسين وبهية” في لوحات متتالية كما فعل بوشكين بالضبط وقدم لها بمفتتح كما عند بوشكين، لكنه جعل عمله يتألف من إحدى عشرة لوحة وهي عند بوشكين عشر لوحات فقط . واعتبر نجيب سرور أن رائعته ياسين وبهية جزء أول من ثلاثية تضم” آه ياليل ياقمر” 1966، و”قولوا لعين الشمس” 1967. بعد ذلك توالت أعمال نجيب المسرحية لكنها كانت كضوء النجوم التي تخبو بالتدريج.

 

 

لا أظن أن نجيب كتب عملا أفضل من ياسين وبهية. وعاش نجيب بعد ذلك لحظة مزدوجة عجيبة جمع فيها بين الصعود إلي القمة والانحدار إلي السفح. ففي الوقت الذي كانت فيه أخبار نجاحاته الفنية تملأ الصحف كانت أخبار تدهور حياته الشخصية تنتشر بالقدر نفسه بعد مأساة زواجه من ممثلة مغمورة هجاه فيما بعد بقصيدته الطويلة الشهيرة ” أميات”.

 

تصادف أنني تعرفت إلي نجيب سرور في سنوات نجاحه الأولى في القاهرة ، ورأيت حينذاك الشاعر الذي وصفه صديقه أبوبكر يوسف بقوله ” ابتسامة عريضة وعينان ضيقتان شديدتا الذكاء والمكر ، تشعان بالمرح والثقة بالنفس”. ثم التقيت به في سنواته الأخيرة فرأيت إنسانا يتمنى لو أنه طعن نفسه بخنجر أمامك. وكنت أرى أمامي وهو يخاطبني واحدة من أعجب المآسي، فقد عصفت المخاوف والهواجس بنفس الفنان الحساسة وتكالبت عليه، وبرز في روحه يأس يلطم موهبته ويخلخلها ويسوقه لعدم الإيمان بأية قيمة. في سنواته الأخيرة رأيت كيف تكون الموهبة أحيانا أكبر من احتمال النفس القلقة. كيف يكون  الشعر أحيانا أقوى من احتمال الشاعر. كانت خيول الشعر تقوده إلي المستقبل، لكن مخاوفه ترتد به إلي الخلف. وقد التهم هذا التناقض المأساوي حياته القصيرة المتوهجة التي أغنى خلالها المسرح والشعر بإبداعه وفنه.

 

 


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock