حصريا.. المسرحي الكبير سليم كتشنر يكتب: المسرح المخلي!
المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات
ـ
المسرح المخـلى
سليم كتشنر
” الشعر ضرورة . . وآه لو اعرف لماذا ” بهذه العبارة الرقيقة عبر جان كوكتو عن ضرورة الفن، وعبر فى الوقت نفسه عن الحيرة أزاء دور الفن فى العالم البرجوازى المعاصر . اما برتولد بريخت فيقول ” ان مسرحنا يجب ان ينمى لدى الناس متعة الفهم والأدراك، ويجب ان يدربهم على الاغتباط بتغيير الواقع، لا يكفى ان يسمع متفرجونا كيف تحرر بروميثيوس، بل يجب أيضا ان نعلمهم فى مسرحنا كيف يشعرون بكل الفرحة والرضا اللتين يشعر بهما المكتشف والمخترع وبكل النصر الذى يستشعره الفائز على الطغيان” .
الطغيان ! . . ياله من فعل يهدد حياتنا اليومية فى عالمنا العربى بشكل مباشر ولا نستطيع ان نعبر عنه فى ابداعنا خوفا من العواقب .
تمتد ظاهرة المسرح المخّلى ـ والمصطلح من نحت كاتب هذه السطور ـ تمتد إلى عقدين او ثلاثة عقود منصرمة ، وهو المسرح منزوع الدسم؟، مخليا من قضايا تهم الناس ، فقد يعتبر الغوص إلى اعماق مجتمعاتنا من خلاله جريمة لا تغتفر ، مجتمعاتنا التى تحولت إلى كتلة من الأعصاب العارية من جلدها وقد اصبحت مهيئة للانفجار ، هل طرقنا ابواب عذابات الناس من قريب أو بعيد ؟ ، جماهير غفيرة ترزح تحت خط الفقر، أحتقان طائفى، احتقار للآخر عبر كراهية لا حدود لها، قمع وتهميش وخوف وقلق على المستقبل، فقدان للاحساس بالامان والاطمئنان، مجتمع ذكورى ضاغط على المرأة بشكل مهين . . . والقائمة تطول. تغاضينا عن كل هذا وقدمنا لجماهيرنا قضايا وهمية نغيّب بها الناس عن حقيقة وضعهم المذلّ ونخدرهم فى اشكال فنية تبدو براقة كالذهب تحوى بداخلها الخواء، وامام هذا الخداع يمكننا ان نردد قول السيد المسيح عليه السلام “انكم كالقبور مبيضة من الخارج وداخلها عفن” .
ولأن مرد هذه الظاهرة يمتد الى عقدين او ثلاث سابقة فى ظل حكم المخلوع مبارك ، الذى كان مؤمنا بنظرية “التنفيس عن الغضب” ، الغضب الشعبى بالطبع فالممارسات الأوضح إسناد مهمة المعارضة إلى بعض المثقفين والفنانين القريبين من اجنحة السلطة ، وفى ظل هذا المناخ برضاء هذه السلطة أو بعدم رضائها ، وفى بعض الاحيان ، ارتفع سقف حرية الصحافة فى عهده إلى مستويات قياسية ، وأيضا فى مجال الرواية والسينما ايضا إلى حد كبير ، والسؤال المطروح هنا لماذا لم يحذو المسرح حذوهم وظل قابعا تحت مظلة التدجين والخنوع ؟ . . والتفاصيل مؤلمة .
ولنقف هنا قليلا ونتريث لنلقى نظرة موجزة عن سياسات مسرح الدولة ، فقد سبق وصدر العديد من الكتب ومئات المقالات حول هذا الموضوع ، لكنى املك وجهة نظر مغايرة ، للوهلة الأولى يظن البعض ان العشوائية هى المعيار فى اختيار النصوص والعروض ، والسلطة راضية تماما عن هذا التوصيف ، لكنى اعتقد ان العشوائية ماهى إلا ستارا لاخفاء نوايا السلطة تجاه المسرح ، واعجب لماذا المسرح على وجه التحديد يسبب لهم القلق والاستنفار ؟ ويبدو ان هذا القلق والاستنفار ليس وليد اللحظة ( انظر كتاب ” مسرحيون فى الحركة الوطني” لكاتب هذه السطور . اصدار الهيئة المصرية العامة للكتاب وقد حوى الكتاب تجارب معتقلى الرأى من المسرحيين فى الفترة من 1952 حتى 2011 ) . السلطة لا ترتاح لوجود المسرح وتحاول التخلص منه ببيعه للقطاع الخاص ، وتكررت محاولتها وفشلت بسبب العمالة الكثيفة التى تعد عقبة امام رجال الاعمال الذين فكروا فى شراء هذه المسارح ، وتحت ستار العشوائية اسندت الدولة شئون ادارة هذه المسارح لأشخاص لا يملكون وجهة نظر ولا يملكون مشروعا واضحا للنهوض به من جهة ، ومن جهة أخرى سيسهل هذا الامر عملية السيطرة ويرون فى هؤلاء صمام أمان، وبالتالى يأتى مدير المسرح وهو عليم تماما بطبيعة دورة ، ولان الرأى العام يكون فاعلا فى حالة رفض الرقابة على المصنفات الفنية نصا مسرحيا ، فاوكلت السلطة لهؤلاء للسيطرة ومصادرة الابداع من المنبع ، فينّصب هؤلاء المدراء أنفسهم رقباء أشد فاشية من رقباء جهاز الرقابة ، ويقمعون المشروعات الطموحةالمقدمة إليهم من المنبع فى صمت بعيدا عن الضجيج ، بحجج واهية من مثال عدم المواءمة أو الخوف من ردة فعل الجماهير المحافظة . . الخ ، وأعنى هنا بالمشروعات الطموحة ، المشروعات التى تتصف بالابداع الحقيقى، ويعرف اصحابها الكثير عن ضرورة الفن والغوص فى هموم الناس ، وتلبى معايير الجمال فى آن ،
ويلجأ هؤلاء المدراء لاساليب متنوعة من التسويف والمماطلة حتى يحبط الكاتب أو المخرج مقدم هذا المشروع الطموح ، مكتفين بتبنى انصاف المواهب ـ وهم فى الغالب جهلاء ـ وتهميش الكتاب والمخرجين الذين يمتلكون الثقافة ووجهة نظر ، ثقافة تمكنهم من التأثير فى مسيرة الوطن ، وبالتراكم ومتابعة القيام بهذا الفعل الفاشى يبتعد الجادون شيئا فشيئا حتى يصلوا إلى العزلة الاختيارية بديلا عن إراقة كرامتهم على عتاب مكاتب هؤلاء الذين صعدوا بطرق غير شرعية إلى مناصب لا يستحقونها ، والحل الاخر امام هؤلاء الكتاب كى يلتفوا على هذا الواقع المؤلم تحويل نشاطهم إلى الدراما التليفزيونية ، أو السينما , او الوسائط الأدبية ، تبعا لميول كل منهم ، أما عن مخرجين المسرح فموقفهم محرج للغاية ، وامام هذا التحدى نجد انفسنا امام صنفين من المخرجين ، فمنهم المتواطىء الذى ضبط إيقاعه على ايقاع هؤلاء المدراء فيقدمون التنازلات المناسبة ، بتقديم نصوص بعيدة عن محاذير هؤلاء ، أو نصوص عالمية يعتقد المدراء انها تحقق لهم الأمان فمضامينها تخص مجتمعاتها ولا تسبب حساسية للسلطة القمعية ، والصنف الآخر كوادر غير مؤهلة ـ من الاساس ـ بسلاح الثقافة الذى يحصنهم ضد التفاهة من جهة ، وضد السقوط فى براثن ثقافات من شأنها طمس الهوية المصرية من جهة أخرى، هوية ضاربة فى القدم على اتساعها وقد استوعبت حضارات متنوعة تمثل الأعمدة السبعة للشخصية المصرية كما عرّفها الدكتور ميلاد حنا ” فرعونية ، رومانية ، قبطية ، اسلامية ، افريقية ، عربية ، بالاضافة إلى ثقافة حوض البحر المتوسط ” .
بالقطع تراثنا المصرى خاص جدا، وثرى جدا . فماذا ننتظر من مخرجين لا يعرفون شيئا عنه ؟ وأى النصوص سيختارون ؟ الازمة متعددة الأوجه ولا يمكن تغطية عناصرها هنا فى مقال قصير .
عكس هذا الواقع الذى امتد لعقدين أو ثلاث عقود تحت حكم مبارك، او ربما يمتد إلى بداية حقبة الانفتاح الاقتصادى فى 77 تحت حكم السادات، الذى قام بالافراج عن المتطرفين لمجابهة التيارات اليسارية فى الجامعة على وجه الخصوص وفى المجتمع بشكل عام ، وظهور موجة البترودولار وسيادة ظاهرة الترف والاستهلاك والفهلوة وطرق الكسب السريع ، وانقلب النسق القيمى فى المجتمع المصرى رأسا على عقب ، على عكس هذا الواقع المؤلم كان مسرح الستينيات من القرن الماضى بما له وما عليه ، فشهد عهد عبدالناصر أزدواجية رصدها الدكتور محمود نسيم ( فى تقديمه لنص ألفريد فرج “حلاق بغداد” اصدار الهيئة العامة للكتاب 2016 ) وتعنى هذه الأزدواجية التى رصدها الدكتور نسيم انه فى الوقت الذى يتم فيه اعتقال الشيوعيين والتنكيل بهم فى السجون ، فى نفس الوقت تسمح هذه السلطة نفسها بتقديم نصوص هؤلاء على مسارح الدولة ، فعرفت نصوص ألفريد فرج ومحمود دياب ونعمان عاشور ونجيب سرور وميخائيل رومان ويوسف ادريس . . وغيرهم ، عرفت طريقها إلى خشبات المسارح ، ولا دليل على نجاح هذه التجربة اصدق من مؤازرة الجمهور واقباله بكثافة على هذه العروض ، وهو ما نشهد عكسه فى ظل المسرح المخّلى فى العقدين السابقين فقد شهدت المسارح مقاعد خاوية على عروشها كرد فعل طبيعى لهذه العروض المخلية أو المخصية منزوعة الدسم ، والاستثناء هنا لا يجرح وجه الحقيقة ولا يجرؤ حتى على خدشه ،
آخر ظواهر هذا المسرح المخلى الذى نتحدث عنه وأخطرها على الاطلاق ، ظاهرة “مسرح مصر” وما يقدمه مجموعة من الهواة لا يعلمون شيئا عن الدراما وضرورة الفن ، مؤمنين بقانون الفهلوة وبأن الهلس أقصر طريق للنجاح . وعندما نتحدث هنا عن ملامح ظاهرة المسرح المخلى انما أخص المسرح المصرى الذى اتابعه واعتبر نفسى جزءا منه ، ولا اعلم ظروف الحريات الممنوحة للمسرح فى باقى الاقطار العربية ـ وان كنت اظن اننا جميعا فى الهم وفى البلوى سواء ـ وهنا علينا ان نطرح سؤالا شديد الاهمية ، هل الأزمة تخص المسرح وحده ؟ أم أنها أزمة وطن ؟ والاجابة واضحة ، لكى ينجح الابداع لابد من مظلة واسعة من الحريات ، قال يوسف ادريس “ان كل الحريات المتاحة فى العالم العربى لا تكفى كاتبا واحدا” وكان محقا فالحريات فى أمتنا إما محدودة للغاية وإما معدومة بالكلية ، واذا اتخذنا مثالا ناجحا لدور المثقف فى مجتمعه وإن كان فى سياق مختلف ، وأخذنا “فولتير” مثالا وهو المبشر بالثورة الفرنسية وصاحب شعارها الشهير ” حرية ، مساواة ، إخاء” نتعجب من وضع مثقفينا وموقفهم الملتبس فى علاقتهم مع السلطة ، هل تركنا فرصة وهيأنا مناخا يسمح بظهور شخصيات فى قامة فولتير ؟ واقعنا ضاغط ومهين وقد استسلمنا جميعا للقمع والاضطهاد والتهميش والتدجين وتقليم الاظافر ، الجميع راضخون ، نكاد نختنق وفى حاجة إلى مصنع لانتاج اسطوانات الأوكسجين ، لان اسطوانة او اثنتين لا تكفى ، الجميع راضخون ينفعلون بالمقاييس المتاحة ، يفرحون بالمقاييس المتاحة ، يضحكون بالمقاييس المتاحة ويبكون بالمقاييس المتاحة ، ولذلك ينهزمون بالمقاييس كلها ولا ينتصرون أبدا ، نعم المثقفين المصريين يعانون من هزيمة نكراء .
وأقول للمسئولين عن المسرح، بل للمسئولين عن الثقافة ومن يفوقونهم سلطة إن الامم لا تنهض بمثل هذه الممارسات، وهذه السياسات ، وأقول لهم أيضا أطمئنوا ستظلون فى ذيل قائمة الدول المتحضرة .
وأخيرا . . اعذرنى صديقى القارىء ، اذا كنت قد اقتربت من أسوار التشاؤم ، فانا حين اكتب أغلق أبواب منزلى ، اغلق النوافذ والشرفات وأواجه نفسى بكل العنف ، وكأنى أتعرى أمام المرآة قبل أن أعرى الآخرين ، بلا خجل ، بلا خوف ، بلا حساب لأحد ، متمتعا بالصدق الذى يحقق لى التوازن ، والتمرد الذى يدفع الدماء فى عروقى لأحيا .
سليم كتشنر
الهرم فى 8 يناير 2021
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأفكار والقناغات الواردة في المقال خاصة بالكاتب.. والموقع غير مسئول عنها