مقالات ودراسات

الناقد العراقي حيدر عبدالله الشطري يكتب: جائحة التطرف ولقاح المعالجة الفنية في عرض “مارتير”للفاضل الجعايبي


المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات

ـ

حيدر عبدالله الشطري

 

 

يؤكد المشروع الفني والفكري الذي يتبناه المخرج العربي الفاضل الجعايبي والذي عمل عليه منذ سنين في تقديم عروض مسرحية تكرس رؤيته الناقدة التي تسعى لرسم ملامح حلم يتمناه في بناء مجتمع تسوده العدالة والتنمية بعد بناء الانسان بما يجعل منه حراً وسعيدا وينعم بالعيش بديمقراطية حقيقية وهذا ما كان يراه حلماً قابلاً للإدراك في لحظات يبدو انها كانت اكثر تفاؤلاً من حقيقة جديدة تفرض نفسها جاءت لتؤكد رؤيته بابتعاد مواسم الاحلام امام مآلات طارئة وصلت اليها الانسانية بعد ظهور معطيات جديدة ابتعدت بآمال الخلاص بعيداً نحو الغموض واليأس والالم .

فجاءت مسرحية ( مارتير ) لتؤكد ثباته واستمراريته في مشروعه الفني الذي ينظر الى الواقع بعين الباصر العليم والذي يرى انه ربما قد شٌدّ بثقل ورُمي في البحر بقصد اغراقه في لجة من الخيبات والانكسارات والامل المفقود.

وبهذا اكتسب المشروع مصداقيته من رؤيته النافذة الى حال الانسانية في كل مكان وما تعاني فيه من ويلات ومآسي وقهر وانهزام ومحاولة توجيه بقعة ضوء كاشف نحو ذلك من اجل تجاوز تلك الازمات وتخطيها بقراءات وظيفية ابداعية خلّاقة اتخذت من المسرح قاعدة ثابتة في متابعة الطروحات المعرفية والفكرية المبتكرة في مواجهة جوائح الجهل والتخلف والعبودية.

وهكذا جاءت رسائل هذا العرض لتنذر بمأساوية كبيرة ربما سيؤول اليها مستقبل الشباب الغارق في الوهم والانزلاق نحو الهاوية وتُلقي بالمسؤولية على عاتق الاسرة والمجتمع والمنظومة التربوية في مواجهة هذه التحديات الصعبة .

النص

يتناول نص ( مارتير ) للكاتب الالماني ماريوس فون ماينبرغ قضية التطرف الديني  ووضعها على طاولة التشريح بقصد تحليلها والبحث في دوافعها ودراستها من عدة زوايا من اجل الكشف عن  اهدافها وغاياتها ومحذراً من تلك الاهداف التي تسعى الى ان تجرّ الانسانية نحو اودية الجهل وايقاد نيران التعصب التي تعصف بالمجتمعات.

انه رسالة انسانية توجه الى قراءة النصوص الالهية بعقلانية وفهم واضح وترسم صور للحياة مقابل الموت الذي لا مفر منه فيما لو استفحلت ظاهرة تلك القراءات المتعصبة .

كما ان النص يتعالى في طروحاته الفكرية ليتجاوز ذلك الى ان يدين كل الممارسات العبثية والفوضوية التي يتبناها الشباب وان كانوا بعيدين عن التطرف الديني فالتطرف فيروس يستشري في المجتمعات بكل اشكاله وتمظهراته ثم يعمل للقضاء عليها عند تغييب دور العقل والرشاد .

وان كان ( بنيامين ) حاملا لفايروس التطرف الديني والذي يشكل طرف الصراع الاول مع مجموعة اصدقائه واساتذته فان اولئك ايضا شخصيات ضائعة في متاهات فكرية تتأرجح ما بين ثنائيات (العقل واللاعقل ,الوهم والحقيقة , التعصب والعلم ) ويعمل النص على تعزيز هذه الصراعات وتغذيتها بما يزيد من حدة التوتر والشد في بناءه الدرامي المحتدم فليس هناك من يستطيع ان يفهم تلك الشخصية المتطرفة وينجو بها الى بر الامان وليس هناك من يخفف حدة الهوس الذي ينتاب الشباب في الكثير من سلوكياتهم وتصرفاتهم اليومية لا سيما وان بيئة الحدث هي مدرسة  ومن المفروض ان تعمل على كل ذلك وتشتغل على تعزيز الروابط التربوية في بناء الشخصية فكيف ذلك وان شخصيات مثل المديرة التي تصارع في الخوض بين تيارين مختلفين في محاولات منها لرأب الصدع في كل مرة وبطرق مختلفة او شخصية الام التي لم تكن امينة في اداء دورها كأم بعد غياب دور الابوة والذي كان بقصدية واضحة من المؤلف لتبيان غياب المنظومة التربوية المعول عليها في اداء واجبها الاخلاقي والانساني.

يسير النص نحو نهايته المحتومة بعد ان تتوضح معالم شخصياته الضائعة والتائهة في دوامة الافكار التي تتبناها او السلوكيات التي تعبر بها عن ذواتها الغارقة مستندا بذلك على تصاعد حدة التوتر في علاقاتها والذي أُبتني على تسلسلية تراتبية تسير بمسارات افقية نحو الوصول الى النهاية.

ولقد كان كاتب النص اميناً في تصوير التركيبات السايكولوجية لشخصياته التي اقترحها بكل ما تحمله من ضياع وكان دقيقا في التقاطها والتركيز عليها باعتبارها نماذج حية لكثير من المجتمعات التي تعاني من هذه الامراض المزمنة التي تحملها تلك الشخصيات والتي من الممكن ان ترتقي الى مستوى الجائحة التي تفتك بكل شيء بالتالي , منطلقا بذلك من سبر اغوار مجتمعه في عرض تلك الحالات التي يعاني منها معززا بذلك الية التواصل في الزمان والمكان مع معطيات لحظوية تعكس صورا ثرية لقضايا عامة تشغل بال الكثيرين.

العرض :

استندت الرؤية الاخراجية للمخرج الفاضل الجعايبي على الحفاظ على بيئة النص الاصلية باعتباره نصاً المانيا وان احداثه تحدث في مدرسة هناك وان عقدته الاصلية هي التطرف والغلو عند شاب مسيحي الديانة وهو بذلك لم يؤكد محليته بقدر ما يعزز كونية الفكرة واحتمالية حدوث هذه المشكلة في اي من المجتمعات الانسانية الاخرى وكان صادقا في التركيز على تعميمها باعتبارها قضية تواجه العالم ويجب عليه مواجهتها بشتى الطرق .

واعتمدت ايضاً رؤية المخرج على تعرية كل الشخصيات التي يتناولها النص وتقديمها بوجوه مكشوفة وتواريخ واضحة وابعاد معلنة وكان يشعل في كل حين اضواء كاشفة لفضح افعال تلك الشخصيات ونزواتها في محاولة للولوج الى اعماقها بوتيرة محتدمة تعدو تصاعديا نحو مصائرها.

يُنذر العرض ومنذ لحظاته الاولى بانفتاق قلقٍ دائم على الخشبة

واحداث متسارعة تشي بالكثير من الحقائق وتحمل الكثير من المفاجآت مركزا على تصوير التناقضات التي تعاني منها الشخصيات وخلق مناخ مناسب لصراع ازلي بين افكار وايديولوجيات لا يمكن ان يتم التزاوج بينها.

اعتنى العرض كثيرا في تأسيس وتأثيث مكانه ( المدرسة ) بعلامات اشارية دالة معتمدا على الاقتصاد في ذلك والتركيز ما تنتجه تلك العلامات من وظائف متعددة وتشكيلات معبرة تعكس صورا اخرى لذلك المكان كما يراها المخرج .

واستعان العرض بتقانات فنية وادائية توحي بالتهكم والسخرية وتقديم كوميديا سوداء غلفت الكثير من مواضع العرض وكانت بمثابة الية فنية تم من خلالها تمرير الكثير من الاحالات القصدية لمعاني مستترة خلف الخطابات السمعبصرية .

وقد ركز العرض على المزاوجة في بث رسائله الفنية والفكرية ومحاولة خلق حالة من التوازن في تحقيق ذلك بحرفية عالية اعتمدت على انضباطٍ عالٍ لإيقاع العرض بكل عناصره التي اشتغلت ضمن منظومة فنية تسير بنسق عالي الدقة والإحكام وقد تجلى ذلك بالاشتغال على تقديم الكثير من المشاهد التي نفذت بعناية فائقة وخاصة مشهد الصليب الذي يتوهم فيه ( بنيامين ) انه امتزج مع روح السيد المسيح وان الرب سيرفع روحه اليه .

وقد حرص مخرج العرض على تحمل جميع المسؤوليات التي تعنى بوظيفته كمخرج للعرض عندما عمل على تولي مهام الدراماتورج والسينوغراف ليؤكد بذلك رؤيته الجمالية والفكرية ومعالجاته الفنية الخاصة في تقديم العرض وفق خطته الاخراجية التي اجتهد كثيرا في رسمها وبالتالي تنفيذها على الخشبة .

التمثيل :

لقد كان خيار المخرج الفاضل الجعايبي في تقديم هذا العرض بهذه المجموعة من الممثلين الشباب خيارا يمتلك الكثير من الجرأة والتحدي ومحاولة اثبات امكانية تقديم عرض مسرحي متقدم بممثلين شباب استطاعوا ان يجعلوا من الخشبة ملعباً لهم قدموا فوقها كل ما من شأنه ان يحسبهم من الممثلين الكبار الاكثر اندفاعا وحماسة في لعب هذه الادوار المركبة التي اجادوا في تجسيدها وكشف ازماتها ومعاناتها بقدرات ادائية عالية استندت لرؤية اخراجية باصرة لتقترح الكثير من المستويات التأويلية التي تغلف فضاء العرض.

العناصر المسرحية :

ساهمت العناصر المسرحية برمتها في تحقيق فعل التعرية والكشف لكل افعال الشخصيات وتصوير ازماتها الداخلية بتوظيف واعٍ لإمكانياتها التعبيرية لتعمل بإتساقٍ جمالي ساهم في تكوين خصوصية العرض ومميزاته .

فغلبت على الاضاءة كونها خافتة في اغلب احيان العرض لتساهم في رسم ملامح الجو العام للعرض الذي يشي بالقتامة والظلام. وكذلك يتبين لكل من شاهد العرض ان هناك اختيار مدروس للديكور الذي اشتغل علاماتياً في بث اشاراته وكذلك تعدد استخدامه وظيفياً ودلالياً وانتاج معانٍ كثيرة تخدم ( ثيمة ) العرض .

ولم تكن المؤثرات السمعية بأقل من ضابطٍ جماليٍ لإيقاع العرض وكذلك اشتغلت لتساهم في تسريع حدة توتر فعل المسرحي ورفع درجة اتقاده وغليانه .

وكذلك كانت الازياء التي جاءت لتعمل بإتساق مع طروحات العرض كون تلك الشخصيات غير متزنة وقلقة وتعيش في عالم من التيه والضياع فكانت الازياء هنا رافداً مهما من الروافد التي اغنت العرض في مسيرته نحو تحقيق اهدافه الفكرية والجمالية .

وبالتالي يمكننا ان نقرأ عرض مسرحية ( مارتير ) باعتباره عرضا رؤيوياً يتنبأ بمستقبل الانسانية التي غابت عنه القيم التربوية التي تعمل على استقامته وقوامه وجاء ليدق ناقوس الخطر محذرا من ذلك وليلقي المسؤولية امام كل المؤسسات التربوية والتعليمية في تذكر مهامها في بناء جيل واعٍ يعمل على بناء مجتمعات متطورة.

 


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock