مقالات ودراسات

د. عصام محمود يكتب: يوم أن قتلوا الغناء.. حين تولد المتعة من رحم الألم!


 د. عصام محمود*
أستاذ أستاذ النقد الأدبي المساعد ـ كلية الآداب ـ جامعة حلوان
ـ
لم يكن تعريف أرسطو في كتابه فن الشعر للتراجيديا إلا تحديدا لرؤية فنية مكتملة في عناصر الإبداع؛ فهو يعرفها بقوله “التراجيديا هي محاكاة فعل جليل، كامل له عظم ما، في كلام ممتع تتوزع أجزاء القطعة عناصر التحسين فيه، محاكاة تمثل الفاعلين ولا تعتمد على القصص، وتتضمن الرحمة والخوف لتحدث تطهيراً لمثل هذه الانفعالات”فعناصر التراجيديا هنا هي المحاكاة التامة للفعل الجليل الكامل بكلام ممتع موزع بطريقة التمثيل لا الحكي محدثة الخوف لتطهير النفس إن الناظر لهذا التعريف يلمس الدور الرئيس الذي تنهض به التراجيديا في تربية النفس البشرية وتطهيرها، وتثقيف المجتمع، وهو دور ليس بالسهل أو الميسور .
في ظل الأزمة التي يمر بها المسرح في الوقت الحالي، وصعوبة الجو الراهن، ولعل أهمها اختيار نص جيد وإعداداه، واختيار العناصر التي يمكنها تنفيذ هذا العمل وتدريبها والإنفاق على هذا العمل حتى خروجه بصورة كاملة . معادلة صعبة تحتاج لأكثر من مجرد مخرج مسرحي بل ربما عالم في الرياضيات والحقيقة لقد تكاملت المعادلة في عدة متغيرات في مسرح الطليعة على يد المخرج العبقري تامر كرم الذي اختار نصا عبقريا للكاتب محمود جمال مزج فيه بين الفكر الأسطوري والتراجيديا في ثوب جديد مختلف ؛البحث عن حقيقة الوجود هذه هي فكرة العمل تلقى رجل حكمة من قاطع طريق، مجرد حكمة نقلها قاطع طريق من حكيم تقول: (الدفء يأتي من شدة البرد، والبرد موجود في قلب النار)
كانت هذه الحكمة سببا في دمار العالم فقد أصبح الرجل حاكمًا ومنع الشعب من الغناء وعاقب مخالفي القانون بالموت وكانت البداية بقتل امرأة صغيرة كانت تغني مع طفلها وتبنى الملك ابن المرأة وصار الابن(إريوس) يد الملك التي تنفذ الاحكام ، نبتت فكرة المقاومة وكبرت ببناء سفينة في الصحراء تحمل المعارضين الرافضين للقرار الظالم ، يدفع المعارضون الثمن غاليا من دماء آلاف الضحايا وتكبر الفكرة حتى تأتي لحظة الطوفان وتبحر السفينة. تقف المسرحية على تخوم أزمة الإنسان وقضايا الخلاص البشري، الحرية، الشجاعة، البناء الواهي على غير أسس حقيقة تتسبب في دمار الشعب، وعندما تنكشف الكذبة يتم تفسيرها بشكل يتوافق مع المصلحة الفردية لا الحقيقة الجلية من ثم تكون فكرة المسرحية فلسفية أكثر من كونها قضية سياسية تظهر بجلاء في تلك الحكمة التي جاءت على لسان طرف الخير مدى بقوله: (قد يغرق الإنسان نفسه من غير أن يكون هناك بحر).
ومن ثم تتشكل الفكرة بعمق وتنوع فيستدعي مشهد الصراع العقلي في داخل إريوس بين الخير والشر ، العدل والظلم صورا متنوعة لأزمة الصراع النفسي المتعارض داخل العقل البشري (دكتور جيكل ومستر هايد لستفنسون) هو النموذج المثال في تلك اللوحة العقلية لحالة الانفصام العقلي والصراع النفسي .
مالي أراك حزينا يا إريوس جملة اتفق عليها طرفا الصراع الخير والشر فتلخيص أزمة إريوس يكمن في حالة الحزن التي تلازمه وتكبت الصراع النفسي في أعماقه ، وتنطقان في لحظة واحدة وصوت واحد لا تكاد تميز معه من منهما قاله فالبيئة عنصرًا رئيسًا في تشكيل النفس البشرية وتفاعلاتها مع العقل ، وتتصارع مع النفس محاولة قتل براءتها ولا تنجح إلا بقدر هزيمة النفس من داخلها، بيد أن النفوس النقية الطاهرة لابد يوما أن تتعود لبراءتها، وفي داخل كل منا تلك المتلازمة العقلية، هذه الرؤية تم عرضها بصورة صراع عقلي/ داخلي الأبيض والأسود يتقاتلان في داخل عقل إريوس حتى ينتصر الخير ويحطم إريوس الإله المزعوم. يواصل تامر كرم كعادته تغيير المفاهيم التقليدية للمفهوم التراجيدي من خلال تغيير عدة قواعد استقر عليها الفكر التراجيدي الكلاسيكي فأدخل فصلا كوميديا هزليا فاصلا لتخفيف حدة التوتر في الحدث ،
وكانت كمية الدماء الغزيرة التي سالت وملأت جنبات المسرح محفزة على إحداث التأثير الأساسي المطلوب من التراجيديا وهو التطهير الناتج عن الخوف والشفقة التي تحققت بفعل القتلى من الأحرار الثائرين ومع هذا فإن الكلاسيكية ترفض إسالة الدماء على المسرح مباشرة فتجاوزها العرض تجاوزا واضحًا لينقل لنا الوقائع الدموية نقلا مباشرا لأعين الجمهور. مثل عدد الممثلين سلاحا ذا حدين في العمل إذا أن إصرار المخرج على تنفيذ الفكرة بكل دقة جعله يعتمد على عدد ضخم من الممثلين وقدره 59 ممثلا يجعل السيطرة عليهم وتنظيم أدائهم على المسرح من الأمور العسيرة التي يلزمها درجة عالية من التركيز والتنظيم ،خاصة مع حمل عدد كبير منهم للسيوف في أغلب فترات العرض مما يستلزم معه تدريبهم حتى يتمتعوا بالمهارة العالية التي تمكنهم من تنفيذ الحركات الإيقاعية والدراما الحركية ببراعة وأمان، وضبط النفس أثناء الأداء الحركي.
وقد بذل عمرو باتريك جهدًا واضحا يلمحه المتابع للحركات الدرامية الصعبة التي أداها الجميع خاصة طارق صبري ووضح جهد المخرج المنفذ محمود يحيي. حمل العرض تنوعا كبيرا في المستوى النجمي من حيث القيمة الفنية والأعمار السنية والنجومية د. علاء قوقة وياسر صادق وكلاهما نجم مسرحي لا خلاف عليه يثقلان العمل الفني ، يمثلان في العمل حدي السيف القوة والحنان ، طارق صبري في مشاركته المسرحية الأولى التي تنبئ عن موهبة مسرحية متدفقة متعطشة للمسرح متماوجة بين الشدة والحيرة والانقلاب والوصول. هند عبد الحليم ومحمد ناصر من النجوم التي كشف عنها تامر كرم في عرضه السابق هنا انتيجون واعتمد عليهما بصورة كبيرة مرة أخرى هنا، وهما يجمعان عدة صفات الصوت الجميل والموهبة التمثيلية التي كانت تنتظر الفرصة خاصة ناصر يتحرك بانسيابية على المسرح دون تكلف أو افتعال،
وظهرت خبرة هند بصورة واضحة في التنقل بين عدة شخصيات وكذلك النجمة الواعدة ميرنا الأمين أو دوسيلا والثلاثي عمر شريف ، محمد مصطفى، محمد شعبان الذين قدموا نموذجا للشهداء أصحاب المواقف الثابتة، في مواجهة القائد أبيدار الفنان أحمد الجوهري والكاهن الرائع حمادة شوشة . كذلك كشف العرض عن مواهب كبيرة وظفها ببراعة في شكل كوميدي للتخفيف من حدة الدراما وفاصلا بين المقدمة والعقدة لتبرز لنا نجوما في مجال الكوميديا مثل أحمد مصطفى واحمد حمدي وباسم الجندي تناغم الأداء الصوتي للفنان الكبير نبيل الحلفاوي مع الموسيقى الهادئة المتناغمة للفنان أحمد نبيل التي حرص المخرج كعادته أن تأتي مباشرة من خلال فريق موسيقي وليست موسيقى مسجلة لتضفي جوا من التفاعل النفسي مع حرص المخرج على ظهور الفرقة وهي تعزف أمام الجمهور بطريقة جلية /خفية،
وكلمات الأغاني التي جاءت رغم بساطتها معبرة ونزلت على الأسماع بمثابة الأيقونات التي تحفظ وتؤدى بيسر في محافل عدة منها في الصبح الشمس تشرق ومعها دفء ونور إن قتلونا فما أجمل أن يموت الإنسان من اجل فكرة آمن بها ي
عد الديكور الأكاديمي للدكتور محمد سعد مدرسة خاصة في العرض الذي جاء فيه متنوعا بسيطا في الصحراء حيث مكان بناء سفينة العامة، بينما جاء بارزا واضحا في المعبد والساحة متناغما مع العنف والدماء الكثيرة التي سالت على المسرح ،
وكان تقسيم المسرح مستويين من اللمحات الفنية العالية للعرض بدلا من الاعتماد على الإضاءة في التغيير والتنقل بين المشاهد، فقدم العرض نموذجًا في تقسيم المسرح بين فريقين ؛ فريق في المقدمة هو فريق الثوار الذين يبنون السفينة ويغنون وفريق الظلم والقتل ممثلا في الحاكم ورجال المعبد في الخلفية، ويتم التنقل بين المشهدين باستخدام الإضاءة في تناغم هادئ ،
وكانت الإضاءة تكنيكا موظفًا في العديد من الصور منها التركيز على شخصية أو مشهد والإضاءة الشديدة للتعبير عن الفرحة. جاءت النهاية طموحًا واملا أكثر من كونها نهاية طبيعية للمسرحية فقد مات الثوار وزعيمهم مدى على يد سيلبا شقيقه وجيشه، ومع ذلك ظهروا جميعا مع تحقق النبوءة ومجيء الطوفان ليركب الجميع سفينة النجاة، ويقر الملك سيلبا بهزيمته أمام جموع الشعب الثائرة قاتلا نفسه .
 


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock