د. علي خليفة يكتب عن مسرحية مجنون ليلى.. للشاعر المصري أحمد شوقي “1868 – 1932”
المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات
ـ
قصة “مجنون ليلى” هي أشهر قصص الحب العذري التي تناقل الرواة أخبارها في العصر الأموي، وتتشابه قصص الحب العذري التي رويت في العصر الأموي وجرت أحداثها – أو تُصُوِّرَ أنها جرت – في بيئة نجد حيث البادية.
وفي هذه القصص نرى في بدايتها ينشأ المحبان في مكان واحد، وغالبًا ما يكون بينهما قرابة، ويأنسان بأنه لا رقيب عليهما في صغرهما حيث بدايات تولد الحب بينهما، وحين يصبحان شابين يقول العاشق في معشوقته شعرًا يتغزل به فيها، وغالبًا ما يذكر خلال غزله بها ما لا يتوافق مع الأعراف في أهل البادية، ويعد ذلك سقطته، فعند ذلك يصبح مبغوضًا من قومها؛ لأنه شَبَّبَ بها، وحين يتقدم لخطبتها يُرفض، وقد ترفضه محبوبته أيضًا مراعاة لتقاليد أهل البادية في عدم تزويج فتياتهم بمن شببوا بهن في شعرهم، وتتزوج المحبوبة شخصًا آخر، وتعاني في بعدها عن محبوبها، ويعاني هو أيضًا، وقد تصل معاناته للجنون، وتنتهي أحداث هذه القصص العاطفية بموت الحبيبين بسبب لوعة الحب وقسوة الفراق بينهما، وغالبًا ما يدفنان معًا، وكأن رواة هذه الحكايات يقولون: إذا كان قد عز اللقاء بين الحبيبين في الدنيا فقد جمع الموت بينهما.
ونرى كثيرًا من هذه الخطوط في قصة قيس وليلى، وقصة حب قيس ولبنى، وغيرهما من قصص الحب العذري التي انتشرت – كما قلنا – في البيئات البدوية في نجد في العصر الأموي.
والتشابه في كثير من الخيوط الدرامية لهذه القصص يؤكد أن عنصري الصنعة والإبداع واضحان فيها، وليس هناك ما يمنع من وجود أصول لهذه القصص العاطفية العذرية أو لبعضها، ولكن الرواة تدخلوا فيها وأضافوا لها كثيرًا.
وقد عرض الأصفهاني أخبار قيس بن الملوح المشهور بمجنون ليلى في صفحات عديدة من كتاب “الأغاني”، وذكر أن هذه الأخبار يعارض بعضها بعضًا، وقال: إنه لا يمكنه توثيقها، وتبرأ من العهدة فيها أمام قارئه.
واستعان شوقي في صياغته مسرحية “مجنون ليلى” بأخبار المجنون في كتاب “الأغاني”، واختار منها ما يصلح لبناء مسرحيته، واستعان أحيانًا ببعض الشعر المنسوب للمجنون، فضمن بعضه ضمن حوار المجنون في مسرحيته.
وقد بنى شوقي مسرحيته “مجنون ليلى” بناء كلاسيكيًّا، فجعل فصلها الأول في التعريف بالشخصيات الرئيسة فيها، كقيس وليلى ووالدها المهدي وابن ذريح صديق قيس، وفيه أيضًا مهد للأحداث فيها بإظهار عشق قيس لليلى وقوله الشعر فيها، وإعجابها بشعره، وغضبها من بعضه الذي شبب فيها به ، كحديثه عن ليلة الغيل التي تجرأ في ذكر جوانب من علاقته بها.
ثم نرى الفصل الثاني فيه تصعيد للأحداث، فقد بدا قيس مشرفًا على الجنون لرفض والد ليلى زواجه منها لتشبيبه بها، ويضاف لهذا إهدار الخليفة الأموي دمه لهذا التشبيب، ويقوم ابن عوف أمين الصدقات بالوساطةٍ لقيس عند والدها، ويقول والدها له: إنه سيخير ليلى في أمر قيس، وترفضه حرصًا على مراعاة عادات القبيلة وأعرافها، وتتزوج من فتى آخر من ثقيف تقدم في الوقت نفسه للزواج منها اسمه ورد.
ونرى قيسًا في الفصل الثالث هائمًا على وجهه في الصحارى يأنس بحيواناتها بعد أن تسبب البشر في شقائه، ويدخل واديًًا للجن، ويتعرف فيه على الجني الذي يلهمه الشعر، ويعد هذا المشهد بالمسرحية تصويرًا من شوقي لبعض الحكايات الشعبية التي كانت تتناقل في الجاهلية عن أن وادي عبقر يتجمع فيه شياطين الشعراء الذين يلهمون الشعراء شعرهم.
وفي الفصل الرابع نرى قيسًا في بلاد ثقيف، ويلتقي بورد زوج ليلى فيرحب به، ويخبره أنه ما تزوج ليلى إلا لإعجابه بشعره فيها، وأنه ما اقترب منها منذ تزوجها، فهو يعاملها كأنها تمثال للجمال زاده قيس جمالاً بشعره فيه.
ويسمح ورد لقيس بأن يختلي بليلى، وتصارح ليلى قيسًا بحبها له
الذي يكاد يتلفها، فيطلب إليها أن تهرب معه، ولكنها ترفض طلبه كي
لا تتسبب في أذى ورد الذي لم يسئ لها قط.
ويعلم بعد ذلك قيس أن ليلى ماتت، فيبكيها حتى يموت هو الآخر، ويدفن بجوار قبرها.
ولا شك أن بناء المسرحية فيه بعض العيوب، ومنها أننا نرى المشهد الأول منها يدور أمام خيام أهل ليلى، ويجمتع فيه فتيان الحي وفتياته وهم يتسامرون – ولا شك أن في هذا المشهد ما يخالف عادات العرب في البادية قديمًا وحديثًا – في جو من المرح والفكاهة، ثم نرى باقي مشاهد المسرحية وفصولها تدور في جو مأساوي حزين؛ ولهذا كان هذا المشهد مخالفًا لأجواء المسرحية المأساوية الحزينة، كما أنه مخالف لعادات العرب في البادية – كما قلنا –.
وكذلك من عيوب بناء هذه المسرحية وجود المشهد الذي فيه يدخل قيس وادي الجن، ويتحدث مع بعض الجن الذين يلهمون الشعراء شعرهم خاصة الجني الذي يلهمه شعره، فهذا المشهد لا يضيف جديدًا للحدث الرئيس في المسرحية، بل هو يعطل حركة تصاعدها والإثارة بها، وغالبًا ما يتم حذفه عند عرض هذه المسرحية، خاصة أن ظهور الجن والسحرة في المسرح الحديث صار أمرًا نادرًا جدًّا، ويخالف الواقعية التي يسعى كثير من كتاب المسرح الحديث لتحقيقها حتى في المسرحيات ذات الأصول التاريخية والأسطورية.
ومما عيب على هذه المسرحية أيضًا مخالفة شوقي تقاليد العرب وعاداتهم فيها خاصة في البادية، ويضاف لما قلناه من قبل في هذا الصدد أن تصوير شوقي وردًا كعاشق لليلى من خلال إعجابه بشعر قيس فيها وسماحه لها بالاختلاء مع قيس – مما لا يمكن أن يصدر عن رجل عربي قط، وكذلك أُخِذَ على هذه المسرحية عدم براعة شوقي في رسمه لأبطالها، فبدا قيس فيها شابًّا ضعيفًا يصيبه الجنون والإغماء كثيرًا؛ وبهذا يفقد تعاطف المشاهد للمسرحية الذي يحب الأبطال العاطفيين المغامرين لا الذين يضعفون ويستسلمون للجنون نتيجة عشقهم.
ولم يتضح الصراع بشكل واضح في شخصية ليلى، فاستسلمت لواجبها نحو القبيلة سريعًا، وإن كانت قد أنبت نفسها بعد ذلك في هذا التسرع الذي جنى عليها وعلى قيس، وكان السبب في المأساة التي حدثت لهما بعد ذلك.
ولا شك أن الشعر يرتفع على الدراما في هذه المسرحية؛ ولذلك يصدق عليها قول بعض النقاد فيها في أن شوقيًا بها غنى كثيرًا ومَثَّل قليلاً.
وأرى أن الشعر العاطفي الذي يجري على لسان قيس بها من أروع ما كتب شوقي من شعر عاطفي، بل إنه لا مثيل له في شعره الغنائي؛ ولهذا فالأنسب لهذه المسرحية أن تعرض كمسرحية غنائية تجمع بين التمثيل والغناء؛ وبهذا لا تصبح القصائد المونولوجات فيها نتوءات بها، بل تصبح وقفات غنائية يستمتع المشاهد بسماعها مع استمتاعه بالتمثيل بها.