مقالات ودراسات

د. محمد حسين حبيب يكتب: الحداثة الرقمية .. ضد ما بعد الحداثة في ضوء الهيمنة الثقافية المعاصرة!


المسرح نيوز ـ العراق/ د. محمد حسين حبيب

ـ

لعل المتتبع لمسارات (الثورة الرقمية) المعاصرة ونتائجها الاولية وبمختلف تفرعاتها الادبية والفنية والثقافية والعلمية يوقن اليوم ان هذه (الرقمية) قد هيمنت على ثقافتنا المعاصرة ، بل ان هذه الهيمنة تتصاعد تدريجيا كلما تصاعد الوعي الثقافي الرقمي في هذا المجتمع او ذاك وبمستويات متباينة على وفق الانساق المجاورة والمتلازمة مع حركة وتطور هذه (الرقمية) الابداعية واستثمارها في كافة الاداب والفنون والعلوم الانسانية ، الامر الذي اصبح من المحال التفكير بتركها او الاستغناء عنها بوصفها العصب الحيوي القابض على (اعادت تشكيل الثقافة) بتجلياتها الحالية والمستقبلية .

غلاف الكتاب

في كتابه الجديد ( الحداثة الرقمية – كيف فككت التكنولوجيات الجديدة ما بعد الحداثة واعادت تشكيل الثقافة ) الصادر عن مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر ، 2017 بترجمة زين العابدين سيد محمد ، يطرح ( آلان كيربي ) توجهاته الفكرية والمعرفية وهو الناقد الثقافي الذي يحاول ان يناقش ” الحداثة الرقمية من مناح عدة دون ان يقف على البعد الثقافي للقضية .. لان ( الرقمية ) ثورة في كتابة النصوص شكلا ومحتوى وقيما نصية جديدة ،ثورة تقدم انواعا جديدة للمعاني والمكونات والاستخدامات الثقافية ” .. ومنتهجا (كيربي) نقده الثقافي هذا رواق الدراسات الثقافية الجديدة لاهميتها اليوم واستفحالها فكريا وثقافيا ، فهو يقول :

” ان الحداثة الرقمية منظور ثقافي للقرن الحادي والعشرين .. وقد ولدت في النصف الثاني من تسعينات القرن المنصرم في ظل زخم التقنيات الجديدة .. وتدين في ظهورها وهيمنتها لما يسمى ب (حوسبة النص) ( Computerization of the text ) التي تحمل في طياتها شكلا جديدا في كتابة النصوص ،يتسم في انقى حالاته بالتدفق والعفوية وسرعة الزوال والابداع الفكري المتعدد والاجتماعي الذي لا يعرف له مؤلف بعينه ، وقد حلت (الحداثة الرقمية) محل (ما بعد الحداثة) منذ هذا التاريخ ” . تضمن الكتاب سبعة فصول ، وقد حوى الفصل الاول عنوانات عدة اولها :

(الموت المزعوم لما بعد الحداثة) والذي يبدأ بتساؤل هو” كيف نعرف ان ما بعد الحداثة لفظت انفاسها الاخيرة ؟” ساعيا كيربي الاجابة على سؤاله وكاشفا عن الحاضنة الفكرية والنقدية للحداثة اولا بسماتها الاساس والتي تشاركت واقتربت مع سمات ما بعد الحداثة التي وهنت واصابها الذبول على حد قوله لاسباب عدة منها : ” اولا : ان الحداثة الرقمية وريثة وامتداد لما بعد الحداثة ، اذ انها قد ظهرت في منتصف واواخر التسعينات وقد حجبتها تدريجيا كتعبير ثقافي وتكنولوجي واجتماعي وسياسي سائد في عصرنا .. ثانيا :

تعايشت الحداثة الرقمية في سنواتها الاولى مع ما بعد الحداثة التي اعتراها الضعف والتراجع وتسمى حقبة النص الهجين او فاقد الملامح . ثالثا : تعد الحداثة الرقمية رد فعل ضد ( بعد الحداثة ) تشبه بعض سماتها الجدية والواقعية السافرة استنساخا ما للسمات النمطية لما بعد الحداثة ” ..

هذا الى جانب مسوغات اخرى ناقش فيها المؤلف عناصر الانجذاب وهيمنة التلقي المنفعلة والفاعلة مع المنتج الحداثي الرقمي مستندا في ذلك الى جوانب نظرية منه وتحليلية عبر نماذجه الفنية السينمائية منها ولعب الاطفال الفيديوية فضلا عن المنتوج الادبي الرقمي في الرواية والشعر والمسرح والرسم والموسيقى . في الصراع الذي اجتهده مؤلف الكتاب ما بين الحداثة الرقمية و ما بعد الحداثة ، يساءل : الكفة الرابحة لمن ؟ لان فترة ما بعد الحداثة تسمى وبحسب كيربي نفسه – حقبة النص الهجين او فاقد الملامح ، وانهيارها الذي ابتدأ منذ منتصف واواخر تسعينات القرن الماضي ، مستندا في ذلك الى اراء كثيرة من النقاد والباحثين ومنهم ( ليبوفتسكي 2005 ) الذي قال :

” منذ عشرين عاما كانت فكرة بعد الحداثي نفثة هواء طازجة ، توحي بشيء جديد من نوعه وبتغيير هائل في الاتجاه ، ولكنها تبدو الان مصطلحا عفا عليه الزمن الى ابعد تقدير ” وفي هذا الصدد يقول كيربي قوله : ” اذا كان من الصعوبة بمكان ان نتاكد من زوال ما بعد الحداثة ، او حتى تحديد معايير هذا الزوال ، فلك ان تتساءل عن السبب الذي يجعلني اضيق ذرعا بهذه القضية ، واراني في كل الاحوال اجادل الى درجة التثبت في القول بان الحداثة الرقمية فعلت – بتشديد العين- تلك الفكرة باعتبارها مهيمنا ثقافيا معاصرا ” .. ليذهب كيربي الى دراسة سمات هذا المهيمن مقارنة بالمهيمن السابق ليصل الى امر مفاده غلبة سمات الحداثة الرقمية وخاصة في ثقافة العقد الاول من هذا القرن ، متخذا من الافلام السينمائية امثلة اولية في هذا المضمار ومنها فيلم الاطفال ( قصة لعبة ) الذي اطلقته بيكسر كاول فيلم يتم تنفيذه بالكامل من خلال الكومبيوتر وكان عملا جديدا وبامتياز . ” لقد تغير العالم وعلى النظرية الثقافية ان تتغير معه ” ..

بهذه الجملة يؤكد مؤلف الكتاب على جرأة المواجهة وطرح ماينبغي طرحه بالمتوفر من الحقائق الماحولية , ذاهبا الى اراء الناقد ( تيري ايجلتون ) صاحب كتاب ( اوهام ما بعد الحداثة ) وتعليقاته الساخرة بهذا الصدد منها ان ايجلتون يرى مثلا : ” ان تؤول ما بعد الحداثة الى سلسلة المهملات الفكرية للتاريخ … وان نعرفها على انها اصبحت اثرا بعد عين لعالم طالته يد النسيان .. الى جانب الانحرافات المزعزعة لما بعد الحداثة وشططها كونها لا تختلف كثيرا عن الراسمالية العالمية القمعية والمستغلة . ” في الفصل الثاني من الكتاب الذي حمل العنوان الموسوم ( النص الحداثي الرقمي ) يفتتحه بمهاد يؤكد على نقطة التحول الذي تفرض نفسها بين جيل واخر وظهور اشكال جديدة بعد ضمور وانهزام ماقبلها محاولا هنا تحديد سمات النص الحداثي الرقمي وهي : ( الاستمرارية / العرضية (المصادفة) / التلاشي (سرعة الزوال) / معاودة الصياغة والتعديل / النص مجهول المؤلف والمتعدد الاجتماعي / النص المرن المحدود / الرقمية الالكترونية .. فضلا عن ظهور (النص التشاركي) و (التشاركية) بوصفه نوعا جديدا من النصوص الرقمية . ويستطرد كيربي شارحا وموضحا لكل سمة منذ السمات لكن ضيق المجال لايسعنا في هذا العرض الموجز للكتاب .

اما في الفصل الثالث فيتطرق المؤلف الى فترة (ما قبل تاريخ الحداثة الرقمية) متثبتا من ان هناك سماتا معينة جوهرية للنص الحداثي الرقمي ” كانت موجودة بالفعل قبل ان يضفي عليها ظهور التكنولوجيا الرقمية هذا الشكل المعاصر المتميز ” مستعرضا امثلته التطبيقية هنا والتي اختارها من معظم الاشكال الثقافية من السينما وفن التصوير والصحافة والتلفزيون والموسيقى والادب والفنون الاستعراضية ، ومن صناعة الافلام الاباحية ايضا وهي نتاج فترة سبعينات القرن الماضي وان اصولها تكمن في صميم ما بعد الحداثة ولذلك يمكن القول وبحسب كيربي :

” بان خصوصية هذه الافلام الاباحية التمثيلية والنصية تجعلها رمزا لما بعد الحداثة ومبشرا بها وتحولت في حقيقة الامر الى حبة جديدة اكثر تدفقا من السينما والتلفزيون ” .. بدليل سرعة انتشارها وتداولها وتاثيرها في مفهوم العلاقة الجنسية واشكالها لدرجة المغالاة ومجافات الواقع واصرار مثل هذه الافلام على انها ليست محاكاة للواقع مثل باقي الفنون بل تصر على واقعيتها برغم مغالاتها وافراطها وتشابه حكاياتها المصنوعة .

اما ( السيفاكس ) و ( برامج Whose lins is anyway ? ) و ( المنزل ) و ( رواية the unfortunates لجونسون ) و ( فن البانتوميم ) .. كانت محطات من الامثلة التطبيقية استكشف منها المؤلف الية ظهور ملامح النص الحداثي الرقمي تاريخيا قبل الاعتراف بهيمنتها اليوم . عنوان الفصل الرابع هو ( الحداثة الرقمية والجيل الثاني من استخدامات الانترنت web.2) وهو من الاهمية بمكان اذ حدد المؤلف محتويات الحداثة الرقمية برغم ايعازه احيانا بهامشية امثلته التطبيقية هنا في محتواها الفكري والجمالي الا انها تطبيقات فرضت نفسها وعدت جزءا لا يتجزأ من الحداثة الرقمية .. مثل :

( غرف الدردشة / لوحات الرسائل (التاليف) / المدونات (التدفق) / الويكيبيديا (القدرات) وعن هذه الاخيرة يقول كيربي : ” ولا يحرم احد من المشاركة اذا توافرت فيه الشروط الموضوعية . وبين عشية وضحاها ضاعت الوكيبيديا من ايدي المتخصصين والاساتذة واتاحت فرصة الكتابة لطلابهم . ” .. ونستمر مع الامثلة : ( اليوتيوب (العشوائية) / الفيس بوك (التعبير الالكتروني) .. ان هذه المحتويات عدها المؤلف بانها ( تورة نصية عنيفة ) ابطالها من الشباب لانهم الراكضون نحو كل ماهو جديد دائما اسرع من الاخرين ويختم كيربي قوله في الفصل : ” سوف يتراكم هذا التطور الذي يحدثه الفيس بوك في ظهور انسان جديد ، وهو الانسان الذي لا يتشكل الى حد بعيد من الاشكال الاخرى لعشقه لقصص الخيال – الانسان الالي … الخ – ولكن من خلال النصية الحداثية الرقمية نفسها . وفي هذا النظام تكون انت النص و ينتفي النص .

” في الفصل الخامس وعبر عديد من الامثلة السينمائية والتلفازية وادب الاطفال والثقافة الشعبية والروايات والمسرحيات مرورا بظهور الواقعية المفرطة وظواهر ثقافية اخرى تحولت من التهكمية الى الجدية ، سعى المؤلف الى الامساك ب ( جماليات الحداثة الرقمية ) وطبقا لعنوان الفصل ذاته . وفي ( الثقافة الحداثية الرقمية ) وهو عنوان الفصل السادس من الكتاب ، تناول كيربي ظواهر الحياة المتدنية والاوغاد والمتشردين الذين استحوذوا على نجومية الظاهرة الثقافية التهكمية الى جانب الذاتية الفائقة التي استحوذت هي الاخرى على هوايات الاطفال والشباب والمتمثلة في العاب الفيديو والسينما والتلفزيون وحتى الراديو والموسيقى وشيوع اغاني الروك والادب الرقمي لينتهي الى تساؤل مفاده : ” هل تعد الحداثة الرقمية في نهاية المطاف مسمى اخر لما يعرف بموت النص ؟ تقدم معظم الاشكال التي تثير ازمة والتي ناقشناها هنا نصا منغلقا منتهيا ؟ ” . وفي فصله الاخير والموسوم ( نحو مجتمع حداثي رقمي ) ينتهي كيربي الى اننا نعيش في (عصر التوحد) بسبب هذه الرقمية وان توحدنا يتضاعف مع كل قادم وجديد ومع استفحال النزعة الاستهلاكية وصولا الى ( موت القدرة ) ليصبح التشويش المعرفي افة خطيرة اذا ما تم اغفاله او التغافل عنه لاسيما لدى الاطفال والشباب ..

وفي خاتمة ( غير المتناهي ) يستنتج كيربي عدد من التساؤلات لكنها بلا اجابات ، منها نذكر : ” بان الحداثة الرقمية المبكرة بكل ما اوحت به من انها لا تزال تنتظر اشكالا راقية تاتي بعد ذلك ، وهل تكون هذه الاشكال المنتظرة مراحل وتطورات غير معروفة وان التغيير سيطول كل تواريخ الحداثة الرقمية لكل الاشكال المعروفة بداية من المرحلة الطفولية التي حاولت وصفها هنا ؟ .. ربما أو يحتمل .. ” و ” ما الذي يتحتم ان نفعله بشان الحداثة الرقمية ؟ .. هل يجب الاحتفاء بها والتغني بها وقبولها او رفضها ؟ .. ومن هم الذين تنسب الحداثة الرقمية اليهم … أنحن ؟ .. وما الذي يجب ان نفعل بها ؟ ” .. هذه الاسئلة هي الخاتمة واجاباتها في المستقبل . عدد صفحات الكتاب 426 …. كتاب جدير بالقراءة .

mh_habeeb@yahoo.com


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock