نصوص

” سفر الخروج” نص مسرحي جديد للكاتب العربي الكبير.. عبد الفتاح رواس قلعه جي


المسرح نيوز ـ القاهرة| نصوص

ـ

عبد الفتاح رواس قلعه جي

 

سفر الخروج

 

مسرحية

 

الشخصيات

 

سام : نحات

سارة : زوجته

نور عمران

رجل  : عالم في الأنثروبولوجيا

امرأة  :  مساعدته، باحثة في الأنثروبولوجبا

  مَنحت تتوزع فيه أنواع الرسوم المعلقة على الجدران، والمنحوتات الخشبية والحجرية، والأعمال الطينية، بعضها سليم والآخر محطم.  المنحت عبارة عن كهف قديم مغلق سوى كوّة في القف ينفذ منها النور، وفتحة في عمق الجدار الأيمن تؤدي إلى المطبخ.

في صدر المسرح صندوق كبير مطعم بالمنقوشات وقطع العاج، إنه صندوق عرس السيدة سارة زوجة سام وفيه تعيش الآن تأكل وتشرب وتنام وتلد.

مقعد جانبي للجلوس وفي طرفه ذئب باسط ذراعيه كبير الحجم محشو بالقش.

النحات سام, شعر أجعد كثيف ولحية كثة، عاري الذراعين، يجلس في وضع شبه واقف على مقعد مفرد عال وقد رمى على ركبته صدارته البيضاء، ووضع تحت رجليه مرتكز خشبي. المقعد ثابت من الأسفل لكن قرص الجلوس يدور حول نفسه يدوياً، أمامه طاولة للعمل مستطيلة مرتفعة حسب ارتفاع المقعد. إنه محدود الحركة جداً فإحدى ساقيه يعتقد أنه فقدها في حرب ما واستبدلها بساق صناعية، والثانية مصابة بمرض غريب بالتخشب وفقدان الحس والحركة، إنه في هذا الوضع يبدو كتمثال نحته فنان كبير.

سام في يده قطعة خشب لينة ينحتها بالسكين وأمامه مطرقة صغيرة وإزميل صغير حاد.

   
  -1-
   
سام : (يتوقف عن العمل وينادي) سارة.. يا سارة (لا ترد) هل أنت نائمة أم متِّ (لا ترد)

(يعود إلى العمل)

سارة : (ترفع غطاء الصندوق قليلاً وتطل برأسها)

هاي.

سام : كيف تطلبين مني أن أنقش لك وجهك وأنت لا تثبتين ساعة لتكوني موديلاً.
سارة : ألم تحفظ وجهي؟
سام : حفظته، لكن التعابير تتغير من لحظة إلى أخرى.
سارة : نعم أنا متغيرة، بل ومتحوّلة، يمكن أن أتحول إلى قطة أو نعامة أو فراشة.
سام : دعينا من المزاح واثبتي قليلاً، أريد نقش العينين، نقشهما صعب إذ لا بد لي من التمعن فيهما، إنهما جميلتان ومعبرتان.
سارة : نعم، عيناي جميلتان.
سام : إن فيهما أسفاراً تقرأ وتعاويذ.
سارة : ومن يدل على المرأة سوى عينيها، إنهما نافذتان على عالمها الداخلي.
سام : ما لونهما؟
سارة : هل نسيت لونهما؟ تعال وانظر.
سام : تعلمين أنني لا أستطيع، المسافة بيننا طويلة جداً على ساقيّ المصابتين.
سارة : كنت تقول لي: عيناك بنيتان، وتارة تقول عيناك عسليتان، وثالثة تقول إني أراهما خضراوين.
سام : أنت فعلاً متحولة.
سارة : هل سيظهر لون عيني؟
سام : كلا.. إلا إذا لوَّنتهما.
سارة : إذن لوِّنهما.
سام : كيف وهما لا تستقران على لون؟
سارة : اجعل واحدة عسلية والأخرى خضراء.
سام : طيب. سألوِّنهما، ستكونان كعيون القطط. رأيت مرة قطة عيونها هكذا واحدة عسلية والثانية خضراء. أنت قطة.
سارة : أنا قطة.. أوه.. هذه أحلى كلمة غزل أسمعها منك.
سام : وأسمعك أحياناً تموئين.
سارة : هذا عندما أشتاق إليك فأدعوك إليّ.
سام : تدعينني بالمواء.
سارة : أجل. هذا أسمى تعبير عن الجنس والعواطف. (صمت)

سام لماذا لا تأتي وتنام معي؟ صندوق عرسي هذا يتسع لكلينا. أنت لم تنم معي أبداً.

سام : تعلمين لا أستطيع الوصول إليك.. (وهو ينقش) ارفعي وجهك قليلاً.
سارة : (ترفع وجهها) إذن من أين جاء الولد؟
سام : أي ولد؟
سارة : أنا حامل منذ شهر، من شباط الماضي، والآن نحن في آذار وأحس بالمخاض.
سام : غير معقول. شهر واحد خبل ثم تلدين!؟
سارة : لماذا غير معقول، وهل حياتنا هذه معقولة، نحن نعيش عصر اللامعقول، كأننا في حلم.
سام: : يخيل إليّ.. أوه لا شيء.
سارة : ماذا يخيل إليك؟
سام : يُخيَّل إلي أنني رأيت حلماً وأنك كنت ملِكة أو أميرة تضعين تاجاً على رأسك، محلّى بجوهرة كبيرة، وأنك كنت تجلسين على عرش فخم كعرش ملكة سبأ بلقيس.
سارة : أنا لا أحلم إطلاقاً، حتى الواقع المعاش لا أعتقد أنه واقع، عالم من ضباب كثيف وثمة فراغ لا معقول، وأنا أسبح فيه.
سام : (يتناول الإزميل والمطرقة) ارفعي خصلات شعرك عن وجهك. (ترفعها) سأنقش الآن أنفك، سأجعله أنفاً إغريقياً. (صمت) يقولون كان سر جمال كليوباترا في أنفها، لو كان غير هذا، أصغر أو أكبر قليلاً لتغير وجه العالم وتاريخ روما.
سارة : تقصد الصراع بين أنطونيو عاشق كليوباترا وأوكتافيوس.
سام : أجل.
سارة : ولكن كليوباترا لم تستطع أن تغري أوكتافيوس بأنفها فانتحرت.
سام : وهل كان أوكتافيوس يفهم في الجمال؟ كان مقاتلاً جلفاً لا يعي الجمال.
سارة : بل كان يثأر لأخته أوكتافيا التي أهملها زوجها أنطونيو وارتمى في أحضان كليوباترا، وهذه لم تكن سوى عاهرة.
سام : احغظي لسانك يا سارة. هذه ملكة مصر.
سارة : آرائي لا تعجبك..باي.
سام : انتظري يا امرأة حتى أنهي أنفك وعينيك.
سارة : باي باي سام.

(تغلق الصندوق وتختفي)

سام : (يرفع صوته كي تسمعه وهي في الصندوق)

أنت عصبية وتخرمشين، كان يجب أن تكوني قطة.

 
  -2-
   
  (تخبو الأضواء، وتنتشر عتمة خفيفة بحيث لا ترى ملامح سام والأشياء جيداً.
سام : سارة.. ياسارة، أنا لا أرى في الظلام أطلي علي وأعينيني (لا ترد) سارة..سارة يا ذات العينين الخضراوين والعسليتين أنا في حاجة إليك (لا ترد)

سارة زَعِلت، لم أقل ما يزعجها، كنا نتناقش، لكنها لا تقبل الرأي الآخر. عندما خطبتها لم تكن هكذا، أفسدتها قراءة الكتب المكدسة في صندوق عرسها. لَكَأني تزوجت كتاباً مفتوحاً، أو سفراً من أسفار العهد القديم (صمت)

سأحاول النهوض والبحث عن شمعة (يحاول فيفشل) سيحل الظلام وأصبح ضائعاً في العتمة (صمت، يسمع صوت مواء) آاا ها سمعت صوتك، أين أجد شمعة يا سارة (لا ترد).

(يدخل فجأة مندفعاً نور عمران وكأنه يهرب من ملاحقين. إنه شاب أسمر طويل يرتدي قفطاناً أسود طويلاً، في يده عصا طويلة، يعتمر قبعة صغيرة بيضاء تغطي الجزء العلوي من رأسه) 

نور عمران : أوووه .. وأخيراً هربت منهم.
سام: : من أنت وممن أنت هارب؟
نور عمران : من الجنود المرتزقة، إنهم يلاحقونني، يريدون رأسي والمكافأة، لقد وضعوا مبلغاً كبيرا من المال لمن يأتي برأسي أو يقبض علي.
سام : اهدأ واجلس كي تستريحَ وأفهمَ منك القصة.
نور عمران : (يجلس) هل أستطيع البقاء هنا حتى يخف الطلب؟
سام : طبعاً تستطيع.
نور عمران : ألا يزعجك ذلك؟
سام : أبداً.
نور عمران : أوه..كم أنت تعب وخائف.
سام : اطمئن، أنت آمن هنا.
نور عمران : منذ يومين وأنا لم أنم، أهرب منهم ويلاحقونني ((يتلفت فاحصاً) ألا يوجد أسَرَّة للنوم عنا؟
سام : نحن ننام بلا أسرة ولا فرش، جالسين أو واقفين، وأنت تستطيع أن تنام في المطبخ، إنه مريح.
نور عمران : لا بأس سأتعود على ذلك، ولكن تقول: نحن فمن غيرك هنا؟
سام : زوجتي سارة تنام وتعيش في صندوق عرسها.
نور عمران : (ساخراً) أسرة مثالية وإضافة سبع نجوم.
سام : هل تسخر؟
نور عمران : كلا، ولكن الأمر في غاية الغرابة بالنسبة لي.
سام : الغريب هو أنت، اقتحمت مَنْحتي لاجئاً ثم تنتقد معيشتي.
نور عمران : أوه أنا آسف. إذن هذا مَنْحت وأنت فنان. كل هذه الصور والتماثيل والأشكال أنت صنعتها؟
سام : أغلبها، وبعضها من مقتنياتي. هل تستطيع أن تراها في هذا النور الشاحب.
نور عمران : أنا كالقط يرى في العتمة، حضرت مرة معرضاً تشكيليا والكهرباء مقطوعة إلا من ضوء بعض اللدات أمام اللوحات. الكهرباء في هذا البلد  تأتي ساعة واحدة في اليوم. هل تسمح بجولة في المعرض؟
سام : تفضل، أمامك الأعمال.
نور عمران : (ينهض ويفحص ويلامس بعض الأعمال السليمة والمحطمة)

هناك منحوتات محطمة ونقوش مشوهة وصور ممزقة، هل أنت فعلت ذلك؟ الفنانون مزاجيون يحطمون أحيانا ما يصنعون.

سام : لست مزاجياً، ولكن اقتحم مسلحون منحتي وحطموا كل شيء وقالوا: هذا كفر.
نور عمران : وأنا أيضاً يلاحقنو المسلحون، أشعر بالتعاطف معك، أنت فنان مدهش.
سام : شكراً.
نور عمران : (يبحث بعينيه في الغرفة) أليس لديك مكتبة, أحب أن أقرأ قبل أن أنام.
سام : إنها في الصندوق، الكتب من اختصاص سارة. (صمت يعود للجلوس)
نور عمران : بيت بلا مكتبة، هذا أسلم, هل تعلم، اختبأت في المقبرة وكانوا يلاحقونني، جاؤوا ينبشون القبور بحثاً عن الكتب والأسلحة.

(صمت، يظهر النعاس والتعب على وجهه وحركته)

سام : يبدو أنك نعست.
نور عمران : نعم.. أنا متعب.
سام : اذهب إلى المطبخ تستطيع أن تنام، وقد تجد شيئاً تأكله.
نور عمران : (ينهض) تصبح على خير. (يخرج)
سام : وأنت من أهله.
 
  -3-
   
  (ظلام تام، تبرز سارة من الصندوق، تشعل شمعة وتضعها أمام الصندوق)
سارة : سام..سام.. هل نمت؟ هذه شمعة.
سام : (يستيقظ) لقد أيقظتني0من أين جئت بهذه الشمعة.
سارة : من الصندوق، إنها من شموع عرسنا.
سام : شكراً, لكنها جاءت في غير وقتها. أطفئيها. (لا تطفئها)
سارة : من كان معك هنا؟
سام : رجل يلاحقه رجال الأمن التجأ إلينا.
سارة : وأين هو الآن؟
سام : أرسلته إلى المطبخ لينام.
سارة : سام، هل نحن نيام الآن.
سام : ما هذا السؤال؟ هل أيقظتني من نومي لتسأليني هذا السؤال.
سارة : لا أذكر من قال: الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا.
سام : الأمر مختلط.
سارة : صحيح، ثلاثة أمور مخنلطة وملتبسة: الحلم واليقظة والموت.
سام : نحن نوجد قي ثالوث مقدس، في فراغ محيط وهائل بثلاثة أبعاد: الأحلام واليقظة والموت.
سارة : الحلم واليقظة والموت (تفكر) وفي أيهم تكون السعادة؟
سام : السعادة يوتوبيا، كسراب بِقيعَةٍ يحسبه الظمآن ماء (صمت، يفكر بتردد) إذا كانت الأبعاد الثلاثة لهذا الثالوث مجرد تهيؤات قكيف تكون السعادة موجودة؟
سارة : حتى الموت؟
سام : حتى الموت. من يؤكد لنا أن الموت هو موت وليس نقلة نوعية عبثية للبحث في فضاء آخر؟ (صمت قصير)

من عاد من الموت ليحدثنا؟

سارة : هذه المرة أنت تأخذ دور الفيلسوف على الرغم من أنني أقرأ أكثر منك. هل تتضمن أعمالك الفنية هذه الأفكار؟
سام : تعطفي واقرئيها كما تقرئين كتبك المحفوظة في صندوق عرسك.
سارة : طيب، وهل تحن الآن وفي هذا الليل البهيم الذي يخيم على الوجود في حلم أم في يقظة؟
سام : نحن في ما نحن فيه الآن، لا تفكري أبعد من ذلك. (صمت قصير)

بعد قليل سننام فنموت، ثم نستيقظ في الصباح فنعود إلى الوجود.

سارة : إلى أن يواري التراب الجسد.
سام : تماماً، وهذا مجرد فرضية.
سارة : أنت تجدّف، يبدو لي أن المسلحين كانوا محقين حين قالوا عن أعمالك: هذا كفر.
سام : وهل هذا رأيك أيضاً؟
سارة : كلا (صمت) لأول مرة أشعر بأن الحوار مع فنان أفضل من قراءة كتاب.
سام : شكراً (يتثاءب) لقد نعست، أطفئي الشمعة والصباح رباح.
  (تطفئ الشمعة وتختفي في الصندوق وتغلق غطاءه)
 
  -4-
   
  في الصباح وقد استيقظ سام وهو منكب على عمله، أمامه رقيم طيني مجفف ينقش عليه رسالة ما.

يدخل نور عمران من المطبخ وهو يحرك ذراعيه ويتحسس جسمه متألما ومن الواضح أنه نام نوماً غير مريح.

نور عمران : أوه.. تكسرت عظامي، لم أجد غير بلاطة المطبخ أنام عليها.

(يجلس على المقعد وهو يحرك رأسه ورقبته المتيبسة)

سام : (يتابع العمل وهو يوليه ظهره)

هذا أفضل من النوم واقفاً أو جالساً.

(يلاحظ الذئب بجانبه فيرتعب، يمد  يده إلى رأسه ليتأكد)

نور عمران : وهذا الذئب؟ لقد خفت منه في البدء، ظننته حياً.
سام : إنه محشو بالقش، ولكن احذر هذا لا يعني أنه ليس بحي.
نور عمران : تقول قد يكون حقيقياً وحياً!؟ حياتك غريبة، وكلامك أعجب.
سام : وما الغرابة فيها؟
نور عمران : بيت أو متحف نشاز عن كل البيوت، وأنت في وضعك هذا،  وتقول عن  الذئب: احذر قد يكون حياً (صمت)

ًكل شيء هنا بعيد عن المنطق، كأنني في حلم.

سام : (وهو يتابع عمله من غير أن يلتفت فيرى نور عمران)

هل جئت إلى هنا ولجأت إليّ هارباً لتعطيني درسا في الحلم والواقع والمنطق وتنتقد حياتي؟

نور عمران : أنا آسف. (صمت)

ماذا تعمل؟

سام : رقيم من الطين الجاف، أنا ألجأ إلى هذه الرقم لأنقش عليها رسالة أو سفراً أو صورة.
نور عمران : ثم تشويها في النار لتصلب.
سام : بالضبط.
نور عمران : هل أستطيع أن أنظرها.
سام : تعال وانظرها.
  (ينهض ويقف أمام سام فيرى وجهه)
نور عمران : أنت..!؟
سام : ماذا.. وما تقصد؟
نور عمران : أنت من جئت أبحث عنه..مولاي الأمير (يركع)
سام : ماذا تفعل يا رجل؟
نور عمران : اغفر لي، ليلة أمس لم أتبين وجهك في الظلام.
سام : أنا لستُ كما تظن وتنعتني، صحيح أنني لا أعرف من أنا ومن أين جئت، ولكن هذا لا يعني أنني كما وصفتني. أذكر أنني حلمت حلماً ثقيلاً ولما أفقت وجدت نفسي هنا.
نور عمران : ألا تصدقني؟ ولكن كيف صرت إلى هنا؟ ألا تذكر؟
سام : إنها بقايا ذاكرة. أذكر أنني حلمت حلماً ثقيلاً ولما أفقت وجدت نفسي هنا.
نور عمران : يا مولاي،يبدو أنك فقدت ذاكرتك؟ أنت أميري، أمير قومنا في كِيروان وأنا حاجبك نور عمران.
سام : نور عمران كأنني سمعت بهذا الاسم من قبل. اقترب مني

(يقترب ويتفحص وجهه)

كأني رأيت هذا الوجه من قبل.. ربما في الحلم.

نور عمران : اوه.. الحمد لله، بدأت تتذكر.
سلم : كلا.. أنا أعيش بلا ذاكرة، كانت فكرة طارئة، كانت طيفاً وعبرت.

اسمع يا هذا : أنا لست أميراً، ولم أكن يوماً أميراً، وهذا الشعب الذي تتحدث عنه لا أعرفه. أنا هنا كما تراني نحات، وزوجتي سارة في الصندوق تلد، وهذا هو الواقع بالنسبة لي.

نور عمران : مولاي..أنت تحلم، لعلك ما زلت نائماً.
سام : ولماذا لا تكون  أنت الواهم الذي تحلم؟
نور عمران : أنا جئت من الواقع الصلب المحسوس، ومعي رسالة لك من قومنا المضطهدين في كيروان الذين يطلبون نصرتك، وأن تقودهم للخروج. أنت بالنسبة لهم الأمير والنبي والمخلِّص.

(يخرج الرسالة من جيبه)

سام : هات الرسالة.
نور عمران : ها هي الرسالة.

(يتناولها منه في مغلف ولا يفتحها ويضعها جانباً/ ويتابع الكتابة على الرقيم)

مولاي أنت لم تفتح الرسالة، كأنك مشغول عنا، ماذا تكتب في هذا اللوح؟

سام : أكتب سفر الخروج.
نور عمران : وهذا ما يريده قومنا منك، وهو مضمون الرسالة.
سام : ما لي وخروج الناس، أنا أكتب سفر خروجي أنا.
نور عمران : مولاي افتح الرسالة أرجوك، حين تقرؤها ستغير رأيك.
سام : (لا يفتح المغلف) قبل أن أقرأها حدثني إن كان لديك ما تفضي به إليّ.
نور عمران : بعد أن فشلت ثورتنا في كيروان تعرض قومنا وشعبنا المختار للاضطهاد  وشهدنا حكماً فرديا ظالماً يلاحقنا بالقتل والسجن والسخرة والعذاب واستحياء نسائنا. ذهب شيوخ قومنا إلى العراف فقال لهم: لن يخلصهم من هذا العذاب ويخرجهم من كيروان إلا أنت.
سام : هه.. كأنك تتحدث عن عرّاف معبد دلفي.
نور عمران : مولاي أرجوك لا تسخر، إنه عراف مشهور بنبوءاته وآرائه الحكيمة. وقد قال لهم، إنه لن يخلصهم من عذاب كيروان ويخرجهم منها إلى أرض السمن والعسل والتين والزيتون غيرك وذكر لهم اسمك، فبايعوك أميراً عليهم، وأرسلوني أنا حاجبك الخاص لتعود إليهم وتقودهم في رحلة الخروج، وهكذا بدأتُ رحلة البحث عنك.
سام : أي عرّاف هذا؟ ألم بعلم بأني كسيح، رِجْل صناعية مقطوعة وأخرى متخشبة، والتخشب يسري بسرعة نحو عظم الورِك؟
نور عمران : (يفحص رجليه)

مولاي.. أنت مريض بالوهم، ورجلاك سليمتان.

سام : يا سيد نور، عد إلى قومك وحلمك،   وهذه هي الرسالة.
  (يعيد إليه الرسالة، صمت كثيف، وسام يتحسس ساقيه ليتأكد، فجأة يبدأ انتشار دخان في غرفة المنحت يدخل من الكوة والأطراف)

ماذا يحدث؟

نور عمران : لا أدري، كان عليك ألا تسخر وتشكك في كلام العراف، إن له أسراراً قاطعة.
سام : اذهب إلى الخارج وانظر لنا ماذا يحدث.

(يخرج نور عمران)

 
  -5-
   
  (دخان يملأ المكان، سارة في الصندوق، سام يحاول أن يشعل شمعة، يشعلها وينادي)
سام : سارة.. سارة.. هل تسمعينني؟
سارة : (من الصندوق) أسمعك، أنا ألد.
سام : طيب أريني وجهك.
سارة : (ترفع الغطاء) ما هذا الدخان؟
سام : لا أدري، ظهر فجأة، ظاهرة غير طبيعية، وأرسلت نور ليستطلع الأمر.
سارة : الولد سيختنق، ظهر رأسه وذراعاه.
سام : أهو صبي أم  بنت؟
سارة : لا أدري مازال قسمه الأسفل عالقاً. ماذا سنسميه؟
سام : (يفكر) قيامة، اسم يصلح للذكر وللأنثى.
سارة : سيختنق الولد إن استمر الدخان ويصبح عالقاً في بطني وأموت.
سام : لا تخافي، إنه دخان رقيق ولا يسبب اختناقاً. إنه يحجب الرؤية فقط
سارة : طمأنتني.. أرجو ذلك.
سام : عندما تنزل المشيمة نادي علي لأخذها وأدفنها في الأرض.
سارة : ونحن إذا متنا من سيدفننا؟
سام : دعك من هذا التفكير، الموت أمر ملتبس وأحد ثلاثة أقانيم الموت واليقظة والحلم.(صمت)
سارة : ماذا كان يريد هذا الرجل منك؟
سام : دعى هذا الأمر، يخيل إليه أني أمير وهو حاجبي ويدعوني للذهاب وكتابة سفر الخروج لقوم لم أسمع بهم ولا أعرفهم يقول إنهم قومي ويجب أن أخلصهم من الذل وأقودهم إلى بلاد السمن والعسل والتين والزيتون.
سارة : وهل ستذهب وتتركني وحدي؟
سام : بالطبع لن أتركك، قلت لك إنها مجرد أحلام وتهيؤات لديه.
سارة : أوه.. كنت أعلم أنك تحبني. الآن أستطيع أن ألد وأنا مطمئنة.
سام : (يفكر) سارة هل يمكن أن يكون ما يقوله نور حقاً وأنني نائم أحلم؟
سارة : تقصد أيضاً أنني مجرد حلم بالنسبة لك.
سام : أنا لم أقصد شيئاً، أنا أتساءل, وقد نظر نور إلى ساقي وقال رجلاك سليمتان وأنت مريض بالوهم.
سارة : ولم لا يكون هو الحالم والواهم؟
سام : نعم..هذا أكيد، ولكنه مجرد تساؤل، ونحن لا نصل إلى اليقين إلا بالشك.
سارة : الشك الديكارتي.
سام : دعينا من الفلسفة أرجوك، وليكن تناولنا للأمور بسيطاً. (صمت) لقد حمل إلي رسالة ادعى أنها من قومي في كيروان ورفضت أن أفتحها لئلا يختلط يقيني بالشك.
سارة : حسن ما فعلت، لو فتحتها لاهتز يقينك (صمت) أنا لا أريد أن أفارقك سواء أكنت حالماً أو متيقظاً واعياً. (صمت)
سام : هل تتألمين أثناء الطلق؟
سارة : أبداً، ألد وكأنني لا ألد.
سام : هذا جيد، وعندما يظهر الولد كاملاً أريد أن أسمع صوت صرخته الأولى.
سارة : سأرفع غطاء الصندوق حتى تسمعها جيداً. (صمت) كنت أشعر أحيانا وهو في رحمي أنه يبكي ويرفض الخروج للحياة.
سام : يا حبيتي سارة، صرخة الوليد الأولى بعد الولادة مباشرة هي صرخة احتجاج، والأهل يهزجون فرحاً بالوليد، وتلك هي الحقيقة.
سارة : نعم، تلك هي الحياة، شقاء وعذاب..
سام : ودخان.. الحياة مثل هذا الدخان وكل شيء هباء.
سارة : ونحن نحلم بأننا نعيش.
سام : نعم.. الحياة حلم.(صمت) وسنبقى في هذا الحلم الطويل إلى أن نغادر عالم الصمت والظلام إلى عالم النور المطلق.
سارة : وطفلنا، هل سيكون معنا؟
سام : يلا شك.
سارة : وهل سنجد السعادة هناك؟
سام : هناك تنتهي عذاباتنا وشقاؤنا. هناك عالم الحقيقة السعيدة.
سارة : إذن أستطيع أن أكمل ولادتي وأنا مطمئنة، عندما يخرج طفلنا ويكبر سأحدثه عن عالم الأنوار والحقيقة السعيدة.
سام : سارة عندما يخرج وليدنا أرني إياه لأباركه وأقرأ له آية من أسفاري التي أنقشها على هذه الرقم.
سارة : سأفعل ذلك بالتأكيد.
  (تغلق الصندوق وتختفي)
 
  -6-
 
  (سام يتابع النقش على الرقيم الطيني، يدخل نور عمران مندفعاً وهو يلهث)
سام : ها فد عدت، ماذا يحدث في الخارج؟
نور عمران : إنها نهاية العالم.
سام : لم أنت مرعوب هكذا؟ ما الذي حدث؟
نور عمران : الدخان يملأ الحقول والسهول والجبال.
سام : لعلها حرائق الغابات.
نور عمران : كلا.. الدخان يأتي من السماء.
سام : لعله الضباب.
نور عمران : يا مولاي رأيت بعيني الدخان وهو يهبط من السماء قناديل ثم ينتشر في الأرض، إنها القيامة.
سام : اهدأ وهوّن عليك، لعلك تحلم.
نور عمران : كلا.. أنا لا أحلم.. ورأيت خلال الدخان رجالاً خضرا مضيئين.حلمأحلم
سام : أهم قادمون من كوكب آخر؟
نور عمران : لا أدري.
سام : أهم غزاة أشرار؟
نور عمران : كلا.. كانوا يثرثرون ويتضاحكون.
سام : (ساخراً) يبدو أنها قيامة سعيدة.
نور عمران : مولاي، لا تسخر، الأمر جد.
سام : أنا لا أسخر، بدأ الأمر بدخان وانتهي برجال من الفضاء..خيالك واسع.
نور عمران : مولاي، ألا تعتقد أن الدخان الذي يملأ الغرفة هنا والأرض في الخارج موجوداً؟
سام : هو موجود إذا اعتقدنا أنه موجود، وهو غير موجود إذا اعتقدنا غير ذلك.
نور عمران : ما معنى ذلك، لكم تغيرتَ يا سيدي منذ أن تركتنا.
سام : إذا رفضتَ وجود الشيء فهو غير موجود، وأنا منذ هذه اللحظة أرفض وجود الدخان.
نور عمران : أنا لم أعد أفهمك.
سام : ليس مهماً أن تفهمني.
نور عمران : سيدي، أنا مضطر إلى أن أتركك، سأعود إلى كيروان بسرعة قبل أن يتكاثف الدخان وينقطع بي الطريق.
سام : لا بأس، تستطيع أن تعود.
  (يخرج نور عمران ويتابع سام النقش على الرقيم)
 
  -7-
   
  (الإضاءة خفيفة شاحبة رمادية، المنحت كما هو عليه، وصندوق سارة مغلق، وسام في وضعية النقش على الرقيم لكنه جامد بلا ية حركةأية حركة؛ فقد تحول إلى إنسان من حجر بحيث يبدو وكأنه تمثال نحته فنان كبير.

يدخل رجل وامرأة باحثان في علم الإنسان (الأنثروبولوجيا).

الرجل يعلق في كتفه محفظته، وفي يده كشاف ضوئي يكتشف به المكان، وعلى رأسه قبعة (برنيطة)  والمرأة مساعدته ترتدي سترة وبنطالا من الجينز وتعلق في عنقها آلة تصوير وعلى جبينها مصباح لإنارة القطع الموجودة وتصويرها.

يتجولان في المكان وهما  يفحصان القطع المعروضة. المرأة تبدأ بالتقاط الصور)

المرأة : كنت آمل أن نجد في هذا الكهف بعض الرسوم الجدارية للإنسان الأول من ساكني الكهوف.
الرجل : لا بأس كل شيء خاضع للدراسة.
المرأة : هناك قطع محطمة كأنها بفعل فاعل، محطمة بالبلطة هل أصورها.
الرجل : صوريها، تهمني جداً، الأنثروبولوجيا الاجتماعية لا تنفصل عن الثقافية.
المرأة : ترى من فعل ذلك؟
الرجل : بالتأكيد ليس الفنان، لقد فحصت المكان ولا يوجد فيه بلطة.
المرأة : الأعمال هنا متنوعة، نحت على الخشب والحجر، أعمال من الطين، نقوش وصور، ورُقُم نقشت عليها صور وكتابات.
الرجل : نعم، لا بد أنه فنان متعدد المواهب، فقط، أريد أن أعرف إلى أي عصر ينتمي؟
المرأة : يخيل إلي أنه عصر غير موغل في القدم وليس بعصر حديث.
الرجلذ : تماماً، يبدو أنه كان يحاكي الرقم المسمارية القديمة ويصنع مثلها وهذا ما نتبينه من عمله الفني المتنوِّع.
المرأة : أعتقد ذلك.
  (يسقط الرجل ضوء الكاشف على الفنان فيتبين وجوده)
الرجل : هذا هو الفنان، يبدو وكأنه ما زال حيّاً.

(يقتربان من سام، ويلمس الرجل جسمه)

إنه متحجر.

المرأة : أو لعله تمثال صنعه الفنان لنفسه أمام المرآة.
الرجل : شيء محيِّر، إنه في كامل ثيابه وهو منحن على النقش يحفره على الرقيم الطيني.
المرأة : انظر إلى ساقيه، يبدو أنهما معطوبتان، وإحداهما ساق صناعية.
الرجل : (بفحص الساقين) كلا.. إنهما سليمتان.
المرأة : (تتناول قطعة منحوتة) وهذه القطعة إنها تمثال امرأة، عيناها ملونتان، واحدة عسلية والأخرى خضراء. لعلها زوجته.
الرجل : ربما.

(يسلط الضوء بعيداً فيكتشف الصندوق)

انظري، هناك صندوق، انظري ما فيه لعلنا نجد وثيقة أو دليلاً.

  (تذهب إلى الصندوق وتفتحه وتخرج منه قطة متحجرة)
المرأة : قطة متحجرة وولدها بجانبها متحجر أيضاً. ولا شيء في الصندوق غير الكتب وبعض الملابس النسائية.
الرجل : الأمر يزداد غموضاً. تعالي ولنحاول قراءة النقش الذي بين يديه.
  (تأتي ويحاول الرجل قراءة النقش)
المرأة : إنه مكتوب بخط واضح وجميل، حاول أن تقرأه. لعله يفيدنا في البحث.
الرجل : ركزي الضوء عليه، سأحاول قراءته.
المرأة : (تركز الضوء على النقش)

الطين لم يجف بعد، كأنه كان مستعجلا لإنجازه.

الرجل/ صوت الرسام : (يقرأ بصمت، ونسمع صوت سام تسجيلياً مع صدى خفيف)

هذا آخر الأسفار التي أكتبها، سفر الخروج من الحياة والموت إلى عالم الخلود، ومن الشك إلى اليقين.

من عالم الحركة والضجيج إلى عالم السكون والصمت الأبدي.

من الجسد الكتيم إلى الأثير الكوني.

ها إنني مغادر كثافات الحلم والواقع والظلام

إلى عالم النور المطلق.

  (يطفح المسرح بالأنوار ثم يسود الظلام).

 

  • ستارة النهاية –

 

السبت 20/8/2022

22/محرم/1444

حلب- سورية

 


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock