كُتّاب المسرح الحديث .. والتمرد على التقاليد.. بقلم: الأكاديمي والمسرحي العراقي عوني كرومي

هذا البحث تم إلقاؤه في ندوة التجريب وتقاليد الكتابة المسرحية في التجريبي بالقاهرة 22 سبتمبر 2004.

المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات

ـ

كُتّاب المسرح الحديث .. والتمرد على التقاليد(*)
بقلم: الأكاديمي والمسرحي العراقي عوني كرومي (22 جويلية 1945 – 27 ماي 2006)
المدخل :
بدايةً، أود أن أوضح إنني لا أستخدم كلمة التمرد هنا بالمعنى القدحي لها، فأنا أتعامل مع التمرد باعتباره حالة جدلية وكذلك الأمر مع التقاليد، التي أعتبرها أساسا لا غنى عنها للانطلاق إلى ذرى التقدم والتطور، والكفّ بالتالي عن التعامل معها كموروث مقدس لا يجوز المساس بثوابتها من جهة، أو عدم الاكتراث بها وتجاهلها بغطرسة لا مبرر لها . و إنما يجب أن نعمل على استغلالها. فالتمرد في المسرح حالة من حالات إبداع الذات تنزع الى البحث والتقصي وعدم الرضوخ و الاستكانة الى المألوف والجاهز والمستهلك …فالتمرد على سكون التقاليد وعدم إعادتها لذاتها، هو ما ندعوه بالتجريب الذي يقود الى الثورة على الذات والواقع مع أنه حاله فرديه ولكنه مرتبط بشروط العمل والبيئة الثقافية للعصر مثل ما حدث في ستينات القرن الماضي وشمل مجتمعات ودولا ونظما مختلفة ومتنوعة كانت تعيش في مرحلة التكيف والاندماج على نطاق واسع، لذا جاءت الستينات تمرّد على كل ما هو تجميلي وتخديري وإبهامي ….
إنّ التمرد على التقاليد المسرحية كان وما يزال ديدن العديد من المبدعين والطليعيين في المسرح. تنحو نحو النماء والتطور، رفض الإنسان بأدوات التغيير عبر مراكمة الخبر والبحث الدءوب لإدراك كنه الظواهر وطابعها المتناقض والإجابة بالتالي على أسئلة وتحديات الطبيعة والواقع من خلال السعي المتواصل لبناء مجتمع أكثر عدالة وإنسانية والتكييف الخلاّق مع قوانين الطبيعة الموضوعية . وبدون هذا الطموح يتحول المسرح الى بركة راكدة.
وتتمثل التقاليد المسرحية بالمناهج والطرق والأساليب المسرحية التي تسيطر في فترة ما على الحركة المسرحية هنا أو هناك، وتمثّل خلاصة التجربة المسرحية لتراكم الخبر عند الفنانين أو داخل اتجاه مسرحي معين، ويمكن دراسة هذه التقاليد إما على أساس الحقب الزمنية أو المجتمعات والحضارات البشرية، أو حسب الأشكال والنماذج المقدمة في المسرح من خلال النص وهو الشكل الأكثر تواصلا وثباتا من عناصر المسرح حيث وصلنا.
ورغم كل الظروف بداية من نشأة المسرح وحتى اللحظه الراهنه على العكس تمام من العرض المسرحي الذي لم يتنفس الحياة الا مع مرحلة التسجيل المعاصرة بواسطة الافلام والصور واجهزة الفيديو او من خلال التطور المعماري لأبنية المسارح.
لقد كان دائما التمرد على التقاليد يولد تقاليد جديدة تشق لها طرق مختلفة نحو الانتشار الواسع في الدراما. وكثيرا ما كان التمرد بالذات في الجوانب الاجتماعية والأخلاقية يواجه بشجب عنيف .لأن التمرد أيضا يحمل في جوانبه قوة تدميرية إذا لم يكن مترافقًا بوعي وحكمة وتجربه وصبر وتأنٍ وشفافية.
وهنا تكمن المخاطر اذا لم يكن التمرد مرتبط بادراك لمعنى الحياة. لأن الإحباط واليأس والعجز قد يقود هو الآخر إلى التمرد , ومن اجل إثبات الذات والقدرة على البقاء والتطور بالذات في المراحل التي يعيش فيها الإنسان والفنان والمتناقضات الأساسية للتفكك الاجتماعي. ان التمرد في المسرح يعني التحدي لاتجاهات ثابته معينه تكون مع مرور الزمن حركة طليعيه تأخذ على عاتقها تعميق المواقف الحداثية او التجديدية او الطليعية وترتبط هذه المصطلحات مع الأسماء او الفترات الزمنية وكثيرا ما تفرز هذه الحركات حركات فنية مركبة نطلق عليها تسميات عديدة الطليعة والطليعيين والحداثة و الحداثيين , التجديد والمجددين أو الدادائية أو السريالية أو التعبيرية، هذا يرتبط بالزمان والمكان وماهية التقاليد التي يتم التمرد عليها والتي هي نتيجة لما جاءت به طبيعة المجتمع والثقافة وتاريخ المسرح في هذا البلد او ذاك.
اصطدم سعي المسرح الى التغير الاجتماعي بالكثير من الأشكال والتقاليد المسرحية التي أصبحت تشكل عائقا جديا أمام هذا المسعى ويعتبر الفنان بيتر بروك واحدا من ابرز من اخذوا على عاتقهم القيام بهذه المهمة بالمزيد من الجرأة والإصرار . فلقد ادرك بروك ان المسرح الكلاسيكي بأشكاله التقليدية ومضامينه المترهلة والشائع , لم يعد قادرا على التعبير عما يعتمل في المجتمع من نوازع ورؤى جديدة تبحث لها عن أشكال مناسبة تستجيب لتمردها على ثوابت المجتمع القديم واعتباراته ومعاييره لأن التخمة قد حلت وأصبح المسرح عاجز عن تنفيذ مهماته لذا يعتقد ان الوقت حان وأصبح من الجوهري ضرورة اعادة اكتشاف جذور المسرح والتجربة الإنسانية معا .لان التمرد لا يعني إسهام التحدي فقط للمؤسسات الفنية، إنما للفن المسرحي ذاته، وإنّ التمرد المسرحي يجلب معه دائما مسرحًا طليعيًا يرتبط بالسياسة ونوعا مسرحيا يحاول ان يوجد ويقدم نفسه على انه لون جديد من الحياة. ان حركة التمرد لها بداية , ولكن ليس لها نهاية تظهر عندما تبرز أسماء المبدعين والمدافعين عن حالة التمرد والثورة.
حالة إبسن
إنّ ( هنريك ابسن ) الذي اتسم بالتحدي للأزمات والتناقضات والمناطق المعتمة اجتماعيا والتي لم تسلط عليها الأضواء في ذلك الزمن . رفض الطابع التمثيلي او التصويري للغة عندما قرر التخلي عن الشعر الدرامي وان يكرّس نفسه للكتابة باللغة المحكية والسهلة التي يتكلمها الناس في حياتهم الواقعية لأنه كان يرغب في تصوير كائنات انسانيه لا تتكلم لغة الآلهة.
وبهذا حرر الكلمة من اغلال الاتجاهات النفسية والدينية ومزج بين الخبرة الراهنة القائمة على التزامن كما ان هناك الكثير من الظواهر التي ثار عليها في حينها اصبحت تقليد درامي له وجوده الخاص .مثل اقمة بنية حقيقية على الخشبة مشابهة للحياة وهذا أهم ما ميّزه وأصبحت من بعده شيئًا مسلّمًا بوجوده.
إنّ التمرد يطمح الى التغيير وإعادة التكوين ويأخذ شكله من الزمن الذي يظهر فيه المكان والمجتمع لأنّ التمرد على الأشكال والمضامين نسبي، ففي بلد ما يعتبر ما هو تمرد على الأشكال في بلد آخر يعتبر هذا الفعل أو الشكل مستهلكًا وتمّ تجاوزه، لأنّ المسرحيات الأكثر تمردًا هي التي تطرح مفاهيم سائدة للتساؤل.
وبهذا تثير السخط من المحافظين والتقليدين وتتهم بالانحطاط والابتذال وعدم الفهم، كما أنها تهدد قيم المجتمع السائد لأنها تتصدى للأزمات العميقة وتقترب من المحرمات وهذا ما حدث مع ( ابسن ) ذاته، التمرد يسعى لكي يكون الفن المسرحي مواكب من حيث ( الموضوع والشكل ) المجتمع الذي يتخطى التقليدية. ولكن التمرد على المسرح القديم يعود في الحقيقة الى نهايات القرن التاسع عشر حيث انفلتت المحاولات الاولى للتمرد على الإبسينية بالرفض المتعدد الجوانب (للطبيعية) والعمل على إنهاء الوهم في المسرح وهم تحقيق الواقع والطبيعة وهم خلق الخلفية التاريخية من خلال الملابس والديكور وهم تحقيق الشخصية عبر الاندماج وإعادة بناء الحياة على المسرح ببناء مشهد على الخشبة (مشابه للحياة ).
ارتبط التمرد المسرحي عبر العصور بظهور السياسات الراديكالية او الثورية او من خلال الابتكارات والتجارب الفنية والاكتشافات العلمية والاجتماعية . التي غيرت الأهداف الرئيسية للفن ووظائفه واستثماره في حياة الإنسان الى جانب تغير العلاقات القائمة بين منتجي المسرح والجمهور المسرحي، بين الفن الذي لا يهدف وبين الفن غير المفهوم ……
إنّ التمرد على الأشكال الفنية يحمل بذاته بذرات التمرد اللاحقة ويقدم الدليل على امكانية التطور …فإبسن هو من مهّد للتعبيرية كشكل مهم في تأريخ المسرح العالمي، وإذا كان الوهم يتحقق من في خلق التجاعيد والمساحيق فإنّ التمرد استثمر الماكياج المبالغ فيه لإبراز الطابع المسرحي، أي النزوع إلى التعبيرية والرمزية من خلال تمثيل شخوص عبر الدمى …والعرائس مثلا. ان التمرد يعلم ويعرف الفنان ماذا يعمل لأنه يقود الى الانفتاح والحرية والتعرف على الآخر، فهو يعني الرفض في اوسع ابوابه كما هو متعارف عليه بهدف خلق تقاليد جديده في (المشاهد المسرحية، الكتابة المسرحية، بناء العرض المسرحي، التمثيل والتلقي، والعلاقة مع الجمهور).
أشكال التمرد المسرحي
إنّ الشجاعة التي يتميز بها الفنان المسرحي المتمرد مؤلفًا. مخرجا. ممثلاً، كانت تدفعه الى التجريب والتجديد وعدم الوقوف والرضا وعدم الركون إلى ما هو قديم ومألوف والعمل مهما تغيرت الظروف بروح البحث والاكتشاف، حيث سعى الدراميون المعاصرون إلى اختبار قدراتهم على التجديد والتطور ليس فقط لأنّ المسرح هو المكان الوحيد الذي يتلقى فيه الكتاب تأثير عمله مباشرة وبلا حدود، وإنما لأنه كذلك مكان للحوار والنقاش والتجريب وتبادل الآراء والخبرات.
إنّ الخزين الفني الذي منحه إيانا المتمردون على التقاليد كان وسيلة مهمة في تطوير الرؤية المسرحية والمنهج والوسيلة لإغناء العمل الفني والابداعي، وكان مصدرًا ملهمًا للطفرة التي حدثت في المسرح والتي انطلقت منذ بداية الستينيات من القرن الماضي. فلم تكن الستينيات من القرن الماضي نقطة تحول بالنسبة الى المسرح والثقافة في أوروبا فحسب انما شمل ذلك شتى انحاء العالم بكل معسكراته ونظمه السياسية والاقتصادية في الدول الاشتراكية والرأسمالية ودول عدم الانحياز أو ما يطلق عليه دول العالم الثالث.
فلما انتهت الخمسينات مع نهاية الحرب العالمية الثانية حتى كان كل ما هو منطقي وعقلاني قد وصل إلى حالة من العجز والعقم، ودخلت الثقافة والمسرح في صراع بين ما هو تقليدي وحديث بين ما هو أكاديمي وما هو تجريبي وبين من يطوّر عروضًا كبيرة في الهواء الطلق هادفا الى تحطيم الانفصال التقليدي بين الممثلين والجمهور، وبين من يعمل في داخل المختبرات المسرحية المغلقة وبين ما هو غربي وشرقي يخضع لتأثيرات المعسكر الاشتراكي من خلال الواقعية الاشتراكية التي لم تكن في الظاهر سوى اعادة فهم الثقافة على أنها جزء من بنية التعليم والتهذيب البرجوازي وبين ما هو شكلي غامض.
لقد وصل التجريب ذروته في اعادة تقديم العمل المسرحي بأشكال مختلفة وصياغات متعددة مثلما فعل ( بيتر بروك ) مع منطق الطير (مؤتمر الطيور) حيث عمل على اعداده في أكثر من بلد ومكان ومثلته سبعة مجاميع مختلفة كانت مسئولة عن سبع صياغات للعمل وقدم العمل في الليلة الأخيرة بثلاثة أجزاء، يبدأ الاول في الثامنة من المساء، والثاني في منتصف الليل والثالث في الفجر، أول العروض كان ارتجاليًا وثانيهم وكان هادئًا وملتزمًا بالنص، أما الثالث ذا طابع احتفالي. ففي هذه الفترة ظهرت اتجاهات متعددة ومختلفة وفي بعض الأحيان متناقضة، فهذا يرفض أن يقدم صورة وثائقية والآخر يرفض أن يكون مسرحه تعليميًا، والآخر يبحث عن المتعة من خلال التعليم والتعلم وبعضهم يسعى لمشاركة الحدث او انتظار لحظة التطهير.
وحوّل البعض الكتابة المسرحية وبناء العرض إلى شكل يُراد منه أن يكون تجربة فريدة تقوم على جمع المختلط معًا وضع المختلف جنبًا إلى جنب حتى تحدث اللحظة المتمثلة بالمواجهة، كما تجسدها مختلف صور الاختلاف والتناظر كما يعتقد ( بيتر بروك ).
ولو أخذنا الصراع الدائر في مسرح الدول الاشتراكية بين متحفية ستانيسلافسكي وتجريبية برتولد بريشت، لأدركنا كم كانت الشقة واسعة بين اتجاهات المسرح، ولكن كيف سقط الجميع أيضًا في وهم التشابه، فالحداثة والتقليدية أخذت أشكالاً أخرى، وأسّست منطلقات مغايرة عما كان يحدث في الغرب الذي شهد محاولات بيتر بروك في الستينيات بالبحث عن المسرح الاحتفالي والشامل، كما شهد اعادة الاشكال الشعبية المسرحية ذات الصبغة الجماهيرية مثل مسرح الكوميديا ديلارتي من خلال عروض بلوش في فرنسا التي تجمع بين فكرة المتعة والتسلية والمسرح الموجه الملتزم بقضايا الانسان.
كانت الستينيات تقع حدًا فاصلاً بين دراما ما بعد الحرب والمجتمعات التي تسعى من جهة لبناء مجتمع التكافل الاجتماعي وبين المجتمع ذي العلاقات الاشتراكية بين الصراع من أجل مجتمع الرفاه الاجتماعي كل حسب طريقته ومرحلة البناء الجديد والانقلابات التي لم ير فيها المواطن العادي في بلدان العالم الثالث أي تأثير على مستوى حياته وتطور وتفتح شخصيته.
3 اتجاهات
وضعت فترة الستينيات المسرح الحديث في غرب أوروبا وأساليب جديدة تستفز المشاهد وتثير لديه رغبة النزوع الى مساءلة الواقع والخروج من دائرة التلقي السلبي والخامل لما يدور على خشبة المسرح من خلال ما كتبه بيكيت ويونسكو وما تركه جان بول سارتر. لهذا تأثر المسرح في هذه الفترة بثلاثة اتجاهات:
1ـ مسرح الدراما ـ ( العبث ) لدي ( صموئيل بيكيت ) الذي يعتمد على السخرية والتهريج المبكي والمضحك حيث قدم العالم على المسرح في صورته الذاتية المغلقة.
2ـ ( يونسكو ) الذي أكد علة عبث الحياة واللغة التي تتحول الكلمات فيها إلى جثث معيقة .
3ـ باتجاه ( برتولد بريشت ) في مسرحه ( السياسي النقدي ) الذي يسعى الى التغيير الاجتماعي ذي الابعاد السياسية والذي تألق فيه مع ( فرقة مسرح البرلينر انزامبل ) في باريس، ولندن.
إنّ كتاب المسرح الحديث بالمسرح الطليعي حاولوا ان يجدوا من خلاله أجوبة على الأسئلة السياسية والاقتصادية التي ترتبت على التغيرات الحاصلة في بنية الحكم والاقتصاد والإيديولوجيا. لقد فهم جميع الطليعية في المسرح بمعنى التغيير والثورة بدون التمييز بين التمرد في الشكل او التمرد على المضمون والمعنى. كانت اهتمامات المسرحيين في هذه الفترة موزّعة بين خيارات عدة بين أن يمثل المسرح لديهم حالة من حالات التمرد والرفض والتغيير، أو يكون جزءً من أدوات إشاعة القيم والمصالح التي يعبّر عنها الفكر السائد بين أن يسهم في حفر الوعي على إدراك مشاكل الفرد الاجتماعية السياسية أو يكتفي بالتفسير الحرفي للنصوص مع استفادته القصوى من الانجازات التقنية الحديثة.
بين أن يكون المسرح فعّالاً ويمتلك جذوره وخصائصه وبين مسرح يعتمد على الترجمة للنص والفكرة ويتأثر بالمسرح الوهمي، وبين مسرح يعتمد على الاحتفالية التي شاعت في المسرح الأوروبي وبين المسرح الواقعي الذي يعني بالفرد ومعاناته الداخلية وبين مسرح متقدم فنيا وجماليا وبين مسرح هابط يعمل على خلق التسلية والترفيه.
وتميز المسرح الطليعي بابتعاده عن التناول المباشر للقضايا السياسية والاجتماعية واختار أن يكون تمرده على مجتمعه من خلال شخصياته السلبية الأسيرة للملل والضجر والمنتظرة بكل معنى العبث ولكن المسكونة من ناحية ثانية بأحلامها الحارقة في تغيير العالم بأسلوبها وطريقتها الخاصة من خلال لغة مشحونة بالشاعرية والتأويل والترميز. وعموما فقد توجه كتاب المسرح لما بعد ( الإبسينية ) ـ نسبة الى أبسن ـ في المقام الأول للاهتمام بالإنسان المسجون داخل شرنقة ذاته وداخل عالم موحش محاط بالفوضى، وأتت أعمالهم لتدين الإيديولوجيات والأفكار الشمولية وحاولت تحطيم صرح كل المثاليات التي يعيش الإنسان علة وهم تحقيقها.
وكانت المواضيع المتنوعة والأساليب الفنية المختلفة هي سمة كتاب ومسرحيي هذه المرحلة الذين حاولوا ان يجربوا جميع الأشكال، ويحطموا الحواجز بين الأساليب، مستفيدين من الوقائع الحية المعاصرة، ومن الأساطير والأعمال الكلاسيكية التي تحاول تسليط الضوء على التغير المعاصر.
من خلال عملية إعادة قراءة التاريخ القديم وكذلك من الأجناس الأدبية المختلفة مثل القصة والشعر والملحمة من أجل أن يتجاوزا الصيغ الكلاسيكية التقليدية للعمل الدرامي، حيث استثمر المونتاج والتزامنية في الحدث والبناء الملحمي واستغلت وسائل وطرق الاتصال الحديثة من فيلم وثيقة وسلايد، والبحث في الجزء عن الكل لتشتيت الحدث والابتعاد عن السببيه محاولين تقديم نوع من المسرح الذي يعتمد على الواقعية ومن اجل ان نعطي صورة واضحة عن المسرح المعاصر اخترنا واحدا من أهم المسرحيين المعاصرين والذي يشكل علامة مهمة من علامات مرحلة ( ما بعد الابسنية ) وهو ( هاينر ميللر ) الذي اعتمدنا في عملنا الأخير على أفكار وشخصيات ومواقف من اعماله والذي اطلقنا عليه اسم ( ليلة السكاكين الطويلة ـ بغداد / 2003 ) والذي تعملنا معه من منطلق الأخذ والإسقاط والتجريب كاتب استطاع ان يقرأ الواقع كأنه تاريخ.
هاينر ميلر Heiner Müller
هو واحد من أهم كتاب جيله ممن نطلق عليهم كتاب ما بعد ( بريشت ) ولد في 9 جانفي 1929 في مقاطعة سكسونيا
استفاد كثيرا من الادب الكلاسيكي مع أنه يعد من أكثر الكتاب تجاوزا لشكل المسرحية الكلاسيكية حيث امتاز بلغة فصيحة وبلاغة عالية وأسلوبية منحوتة فاللغة عند (هاينر ميلر ) تعني الكثير، وقد تكون هي صورة الفعل أو ما يمكن ان نسميه الايماء اللغوي هو من جيل طحنته الحرب وجسد مآسيها من خلال التناقضات الاجتماعية، وإن كان شغله الشاغل إعادة بناء ألمانيا.
وكان الصراع في أشده بين مختلف المعسكرات والأطراف، فالبعض كان يراهن على قدرته لإعادة الثقة بالإنسان لتحقيق المعجزة الاقتصادية حيث دخل المجتمع الألماني عهدا لم يتمكن فيه الالمان بعد من استيعاب ماضيهم وهضمه عاش هذا الجيل الجوع والتشرد والعمل المضني في إعادة البناء المادي والروحي حاول بطريقة نقدية ان يعالج عقدة الذنب التي مازالت حتى يومنا هذا تشكل هاجسا وكابوسا اثقل كاهل مبدعيه ومازالت هذه الصراعات قائمة وتفاقمت بعد سقوط جدار برلين، حيث تساءل الألمان:
ـ كيف يمكن لنا أن نعيش في …. ومن فقدت فيه كل الأيدولوجيات مصداقيتها والأفكار الكبيرة بريقها وشاخت الأحلام التي كانت تعدنا بمملكة الحرية لذا جاءت أعمال هاينر تعبيرا عن ضياع هذه الأحلام من خلال خيبة الامل من النموذج الاجتماعي الذي لا يعتمد على الإنسان بقدر ما كان فيه الإنسان مستلب الإرادة والقدرة فلقد ظهر أمام الأحداث التاريخية والالتزامات الاجتماعية .
لقد سعي ( هاينر ميلر ) ان تكون مسرحياته دعوة إلى الكفاح من اجل تحرير البشر بطريقة إنسانيه متحديا وكاشفا طبيعة المجتمع الجديد وأزماته التي هي صورة من أزمات المجتمع الاستهلاكي .فشخصياته عبارة عن أناس محبوسين في متاهات العلاقات وتشعباتها يعيشون حياة يوميه مبتذلة ويتجرون فيها أحلامهم الخاوية شخصيات تعيش مهزلة أبديه عاجزة عن الكلام تعيش مواقف اليأس والضياع الذي خرج منه. لقد حاول ان يسلط الضوء على حقائق المجتمع من خلال إعادة دراسة التاريخ واكتشاف قيمه وتأكيد خصائصه على مستوى الأحداث والنصوص التي أعاد كتابتها وكان يؤكد دائما على رفضه لفكرة نهاية التاريخ ويرى انه يسير ولا يتوقف عند خاتمة ما يتحرك وتتحرك معه الأوضاع وتتغير ولكن هذه الديناميكية تتحرك على محور واحد وثابت وهو يطلق عليها بنية التاريخ الأساسية وهي التكرار المستمر لعالم الظالم والمظلوم فمسرحية (الموقّعة) التي استغرق العمل فيها أكثر من عشرين عاما وبأشكال متعددة إلى أن وصل إلى رؤيته الأخيرة في عرض المسرح الشعبي، هي عبارة عن مشاهد مسرحيه حول الحرب العالمية الثانية وبالذات عن دور النازية في ألمانيا وما أحدثته من دمار وخراب فهي ليست حكاية واحده بل صور وحالات ومواقف تعبر عن القسوة اللا إنسانية التي مارسها النازيون في الحرب مع أنفسهم وضد الآخرين وعن الازدواجية التي عانت منها النازية كأفراد وكنظام ولم تتخذ المسرحية الوثائق مادة أساسية لها رغم أنها توثق لفترة زمنية محددة كان هما الأساسي هو شحذ الوعي بالتاريخ وذلك ليس لأن المسرحية تاريخية إنما التاريخ يعيد نفسه بأشكال مختلفة وفي أماكن متعددة وبأساليب متنوعة .
ومازالت الفاشية تمثل إلى يومنا هذا تهديدًا حقيقيًا للإنسان وهنا اختلف (ميلر) مع ( بريشت ) في معالجة ذات الموضوع، حيث اعتمد ( بريشت ) على الوثائق في تحليله للنازية والتعريف بها. لم يتقيد (ميلر ) بنوع واحد في أسلوب تقديم العمل المسرحي إنما جرب العديد من الأشكال المسرحية واستفاد في بداية مسيرته بخصائص المسرح الألماني وفكرة بريشت حول المسرح ودوره ووظيفته الاجتماعية والسياسية وبالرغم من تعدد الأشكال المسرحية التي كتب فيها إلا انه ظل متميزا في استعارته واستدلاله او النص المسرحي الذي عمل على إعادة كتابته وصياغته كقراءة جديدة قائمة بذاتها. بالرغم من ان الإنسان كان يمثل المحور الأساسي في جميع مسرحياته إلا أن أعماله مرت بأكثر من مرحلة :
• المرحلة الأولى: مرحلة البناء الاجتماعي والتي حاول فيها أن يقدم نموذجا لتفكير الإنسان المبادر المضحي بنفسه من اجل الآخرين والذي بمقدوره ان يتحاور ويتفاعل نقديا مع مشروع السلطة بحيث يقدم الإشكاليات التي يجب ان تعمل السلطة على حلها لصالح الشرائح الاجتماعية صاحبة المصلحة في الحراك الاجتماعي كما انه أكد على إن القوانين الاجتماعية تحتاج إلى وعيا متقدم يسهم بفعالية في عملية البناء الجديد , لقد فهم ان الثورة الاجتماعية هي حوار دائم وصيرورة ترفض الثبات والجمود.
• المرحلة الثانية : عبارة عن دراسة التاريخ واكتشاف قيمة وتأكيد خصائصه على مستوى الأحداث او النصوص التي أعاد كتابتها وان كان موقفه من التاريخ لا يخلو من غرابة فبالرغم من انه يستخلص منه قوانينه إلا انه يتخذ في نفس الوقت موقفا متناقضا معها.
لقد ظهرت الأحداث في نصوصه مكثفة تكثيفا عاليا إلى درجة يصل التجريد فيها في بعض الأحيان إلى مجرد رموز وإشارات، لهذا امتازت مسرحياته بقوة تعبيرها وبلغتها التي تقربها من الأعمال الأدبية الخالصة إضافة إلى بعدها الدرامي، وأهم ما يميز مسرحياته هو دورها الملموس في التحريض والنقد الاجتماعي ونستطيع القول بأنه ساهم في تطوير المسرح السياسي والتحريضي اذ تناول بمسرحياته مواضيع معاصرة مثل بناء الاشتراكية والحياة الجديدة في المجتمع الاشتراكي . كما كتب واعد مسرحيات استلهمت موضوعاتها من إحداث الثورة الاشتراكية وتاريخ النضال الثوري والسياسي في العالم مثل مسرحية ( سمنت ) و(مبادرات) و(كوميديا النساء)، وجميع هذه المسرحيات تتحدث عن أزمات بناء الاشتراكية أثارت هذه المسرحيات العديد من النقاشات والتساؤلات والنقد سلبا وايجابيا بسبب آرائه الجريئة والواضحة حيث يعتقد إن من ابرز مهمات المسرح في المجتمع الاشتراكي هو ديمومة الجدل بين السلطة والقاعدة هذا الجدل الذي يجب ان لا ينقطع وإلا فأن تجاهل التناقضات واختلاف الرؤى بين الطرفين راهنا سيجعلها تظهر في المستقبل بصورة اشد خطرا وأكثر استعصاء على الحل.
إنه يعرض السلبيات بهدف الوصول إلى الإيجاب والموازنة بين الحقوق والواجبات وتجسد مسرحية مبادرات (ضاغط الأجور) ابرز مثال على تناوله هذا حيث جسد فيها أزمة عامل في مجرى دفاعه وصراعه في تثبيت العلاقات الجديدة في المجتمع حيث كان الفعل الرئيسي والحاسم يكمن بين أفكار الإنسان وسلوكه العملي والتناقض بين ما يراه وما يقال عنه. وهو في كل هذا يقدم الثورة الاشتراكية في بنائها النظري والتطبيقي الهادي البطء لكن خلف هذا الهدوء يكمن عنف تكوينها ومسارها الذي يحتدم تحت سطحها (عنف الصراعات وتناقض المصالح) وكما كان يقول هاينر ميلر عن بحثه هذا انه يمنح شخصياته أسلوبًا تستطيع ان تعبر من خلالها عن علاقتها بالآخرين فالمسرحية لم تكن قصة شخص واحد مبادر انما تشكل قصة لمجموعة أشخاص، إنها شخصيات تفكر بشكل أصعب مما تستطيع ان تعبر لهذا نجد ان النجاح لا يتحقق بالجهد الذاتي وبالانفصال عن الآخرين، وإما بالارتباط بهم.
لقد تمسك ( هاينر ميلر ) بالواقعية الى جانب استلهامه للتراث فالواقعية بالنسبة له تجاوزت الضفاف التي يحددها النظام لذا نراه طوع الأحداث التاريخية الكبيرة لتصبح أحداثا معاصرة تاريخية. فمن خلال التاريخية يسلط الضوء على الحياة اليومية المعاصرة، واستغل (الميثولوجيا الإغريقية) كمادة أساسية في العديد من مسرحياته ليعبر من خلالها عن تدهور وسقوط الطبقات المسيطرة أو النظم الشمولية. كما انه سلط الضوء على أزمات عصره مجسّدًا ما يكلفه الكفاح من ضحايا وشهداء في صراع البشرية مع مستغليها.
أما أهم سمة لمسرحياته الأخيرة وخاصة (الموقعة) و(ماكنة هاملت) فهي العنف والقسوة كيما يشاكس اعتياد الناس على رؤية العالم في المسرح أجمل مما هو عليه بالواقع ولم يجازف أحدا قبله وبمثل هذا الوضوح في عرض مشاهد التعذيب والقسوة على المسرح فهو يريد ان يحدث صدمة لدى المتفرج بحيث تعرض الجروح قبل التئامها ومعالجتها هذا يعني بالنسبة له عرض الأزمة على حقيقتها بدون رتوش فهو ينظر إلى وظيفة الدراما ليست كما عند أرسطو في إثارة الخوف والشفقة وإنما في إثارة الخوف والغضب لأنه يعتقد إن أكثر مما يخيف في عصرنا هذا هو التغيير وهو يؤمن ان مهمة المسرح هي تغيير عقلية المشاهدين وعرض الحقيقة بشكل غير مألوف وغير معروف ومحسوس في الحياة.
إنّ التمرد على الكتابة التقليدية المسرحية تكمن في التعامل مع النص باعتباره يعبر عن حالات يقف الفرد في داخلها عاجزا عن الإشارة إليها انه أي الفرد مندهش ومتحسس في حالة مرغم عليها. إنّ مسرحيات ( هاينر ميلر) تعرض حالات وشخوص في اعتراضي على استمراريتها، تقدّم لنا الرعب كأنه مسيرة للتحول من الميلاد إلى الموت كنموذج يدفع الى التفكير والتساؤل.
كتب ( هاينر ميلر ) عن التداخل بين ازمات وفضاءات مختلفة تنتهي في خروج الشخصية من جلدها فقد حاول ان يقدم نفسه من خلال علاقات متناقضة تتراوح بين الرفض والقبول كان يسعى في محاولاته هذه إلى الإفلات من هذا العصر والزمن الصعب الذي يتربص بالبشرية لأنه يعتقد ان الزمن الذي يعيشه والنظام الذي يتعامل معه هو عبارة عن ماكنة قمعية تشل قدرة الإنسان على مواجهة مصيره بدرجة عالية من الوعي بالذات ومواجهة التحديات التاريخية. لذا يحاول ميلر ان يظهر تمرده من خلال قدرته على التواري في ثنايا النص بحيث يصبح من الصعوبة بمكان وضع اليد عليه من قبل الرقيب. كانت أعماله التي تعتمد المادة الأدبية التاريخية تغوص في أعماق الظلمة السياسية وظلمة الواقع الاجتماعي لقد كانت أعمالا ترفض الإيديولوجيا وتمجد الإنسان وهو القائل:
(لقد أردت أن أكون نفسي، نفسي لا غير إن سيرة حياتي ليست الا جسورا تمتد ما بين العصور الجليدية والمستقبل).
لقد استوعب (هاينر ميلر ) الكثيرة من التجارب الطليعية بدايةً بـ ( بريشت ) وانتهاءً بـ (جان جينيه) .. إنّ أهم ما أحدثه ( هاينر ميلر ) من تغيير على البنية المسرحية هو خروجه عن تقاليد الحكاية وجعل النص عبارة عن تشكيلة غير متكاملة، يحتمل الصور والاقتباسات والارتجال وكل ما يساعد على تجسيد موضوعاته.
يستخدم (هاينر ميلر) تكتيك المقاطع الدرامية وينتقل من التقريرية إلى الدرامية ويعتمد فيها على رسم الصور والرؤى المفزعة مستوحاة من الواقع أو من عالم الخيال كالأشباح مثلا. لقد حاول (ميلر) تقديم صورة المثقف العاجز عن مواجهة هذا القمع وكتب أعمالاً بدت وكأنّها تمثل قطيعة مع الفكر التنويري للمسرح الوهمي فجاءت أعماله المسرحية أشكالا أدبيه تتميز بصعوبة كبيرة خلال عملية التجسيد يتداخل في نصوصه وبالذات ( ماكنة هاملت ) السرد والوصف والحوار الذاتي وتوجيهات الإخراج.
إنه يحاول ان يمزج بين قصيدة النثر والقصة القصيرة وحتى الموسيقى والمسرح الصوري الذي يعتمد على التعبير الجسدي وفي إطار هذا التداخل ينقلنا ميلر الى عالمه التمردي بين فضاءات مختلفة تتداخل فيها الحوارات والشخصيات فيما بينها في محاوله جذريه لنسف كافة أطر المسرح التقليدي واكراهات القيود الإيديولوجية.
لا يمكن حصر (ميلر) إذن داخل اتجاه فني او قالب دراسي تقليدي فهو يبتعد ولا يلتقي مع أي شيء ثابت يتخفى تحت الاقنعة واللعب بالألفاظ وتغيير الدوافع. رغم أنّ الموضوعاتية واضحة محددة مما يكسب أعماله ثراء وسحرا الا انه استطاع ان ينشئ عالمه الفني وأن يرسي له قواعد فريدة بعد ان خرج من طوق التقليد والثوابت والقوالب الجامدة.
إنّ المتابع لأعمال (ميلر) سواء بالقراءة او المشاهدة يجد نفسه في حالة شعورية مزدوجة فهو ينجذب إلى أعماله وبنفس الوقت يجد بينه وبينها حاجزا فأعماله تقرب وتبعد وتنفر وترعب مما يوقع الإنسان في حيرة من أمره لكنه يجد نفسه في نهاية المطاف مجبرا على المتابعة. وفي مسرحيات السبعينيات والثمانينيات سيطرت عليه فكره انتقام الضحية من جلاديها فحاول
رسم أبطال مذنبين او مصابين بعقدة الإحساس بالذنب او الندم وهو ما يعتبره بذرة أعماله الدرامية.
لقد حاول دائما ان يضع مسافة تفصل بينه وبين شخصيته ولا يضع حلا او أجابه لازماته انما يتركها مع صراعاتها دونما قرار او نهاية معلقة. لا توجد في مسرحياته توقعات لنهايات سعيدة إنما يطل منها بصيص خافت من الأمل وهو يعكس طموحاته نحو عالم جديد خال من ظلم الإنسان لأخيه الإنسان.
يبرر ميلر سبب تخليه عن العناصر والأشكال الدرامية التقليدية واستخدامه أشكالا وصورا غير مألوفة في الدراما بقوله ان العالم لامعقول وغير منطقي فلماذا نلتزم نحن بمعايير العقل والمنطق لذلك اعتمد على الوصف في إبراز الصورة والتوتر الدرامي، ولم يلجأ إلى البناء التقليدي ولم يكتب دراما بالطرق المتعارف عليها فمسرحه عبارة عن شخصيات محدده وحدث ينمو إلى ان يصل الذروة. هو يكتب قطعا مسرحية صغيرة ثم يضفرها معا بمهارة عالية وبطريقة تتيح بها للمشاهد فرصة الاشتراك في إنتاج العمل. يعمل على الحفر الدائم داخل ذاته محاولة منه للوصول إلى هويته، لا ليؤكدها ويعتز بها وإنما كي لا يعود إليها مرة ثانية.
إنّ حلم (ميلر) إلى تغيير العالم لا يتوقف عند الإنسان كفرد وإنما يتخطى ذلك الى تغيير الكون كله فهو يريد السيطرة على العوالم الثابتة في بنية التاريخ الحافل بالظلم والقهر انه يريد من القهر والاستبداد وإذلال النفس البشرية. وينتقد (ميلر) ازدواجية الثورة التي قامت من اجل مقاومة الظلم فتحولت هي نفسها الى مصدر للظلم.
إنّ جميع مسرحيات ميلر مركّبة، ولقد كُتبت عبر مراحل مختلفة وبعض أجزاء نصوصه كتبت على مراحل استغرقت ثلاثين عاما فهو لا يهمه ان يستعير مادة كتبها في أوقات لا تنتمي إلى زمن الأحداث.
إنه يحاول ان يترجم الفكرة الى صوره لأنه يعتقد ان الشيء الوحيد الذي يولده الفن هو إيقاظ الشوق الى وضع مختلف للعالم وهذا الشوق هو مصدر الثورية التي تعتمد عليها الروح المتمردة لأنه يعتقد:
* إنه مادامت الحرية توازي المساواة والعكس صحيح فهناك ثمة ظروف تجعل من النجاة خيانة للموتى ومن ناحية أخرى يكون استحسان الموت الذاتي ضرورة سياسية فالواقع اشد سوأ ولكن ربما أكثر قدسية بالنسبة للسياسي الواقعي.
* إنه يسعى في عروضه لأن يتيح للمشاهد فرصة مراقبة اكبر كمية من الكوارث دون الإحساس بالثقل او الانزعاج
* إنه يعتقد ان باستطاعة المرء استشراف الحياة المقبلة من خزائن الماضي لأنه يعتقد ان كل نص جديد يرتبط بعلاقة ما مع كمية من النصوص القديمة وبمؤلفين آخرين تتغير النظرة إليهم من خلاله (أي النص الجديد).
ان الصراع التراجيدي يتكون من خلال اختراق الزمن للعبة لأنّ (هاينر ميلر) يعتبر المسرح ( لعبة ذات وقائع ) وان اختراق الزمن لهذه اللعبة ربما تنشأ حاله تراجيدية ولكن خلقها ليس ممكنا لأنه يعتقد ان الجمهور او مشاهدي المسرح يرفضون استساغة المسرح كونه واقعًا مستقلاً.
ـــــــــــــــــــــــــ
(*) هذا البحث تم إلقاؤه من قبل الدكتور عوني كرومي في ندوة التجريب وتقاليد الكتابة المسرحية) بالقاهرة بتاريخ 22 سبتمبر 2004.
ربما تحتوي الصورة على: ‏‏شخص واحد‏، ‏‏‏جلوس‏ و‏لقطة قريبة‏‏‏‏

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock