مقالات ودراسات

د. محمد سيف يكتب: قداس للفنانين، في المختبر المسرحي لإليزابيت شرشوك


المسرح نيوز ـ باريس| د. محمد سيف

ـ

هذا المساء، شاهدة عرض مسرحية “قداس للفنانين” للمخرجة البولونية الفرنسية المقيمة في باريس، إليزابيت شرشوك. في هذا العرض البصري، الشعري، الكوريغرافي، أعطت المخرجة ظهرها للتقاليد المسرحية، وفضلت عليها التجريب. فمن خلال التقاليد العظيمة للمسرح البولندي، لصاحب مسرح الموت ” تاديوز كانتور”، وجيرزي غروتوفسكي، صاحب المسرح الفقير، على وجه الخصوص، انصرفت إليزابيت شرشوك بعيدًا عن الاتفاقيات المسرحية بتأييدها للتجريب.

 

ربما تحتوي الصورة على: ‏شخص واحد‏

في هذا العرض، نفقد إمكانية السيطرة على أقدامنا ونسمح لأنفسنا بالتحليق مع الموسيقى (ثلاثة موسيقيين – كمان، تشيلوا، كورديون – في زاوية

المسرح) كما كان يفعل الممثلون العشرون الذين كانوا يتعثرون على خشبة منحدرة. نعم، فعندما يدعونا للرقص معهم على انغام الفالس، نسلم انفسنا لهم دون اعتراض أو احتجاج، أو خجل، وعندما دخلنا صالة العرض اصبحنا جزءا من اللعبة المسرحية بشكل تلقائي، وهذا ما فرضته الصالة وهندستها. خشبة منحدرة، تؤدي إلى باحة رقص، يحيط بها الجمهور وفصل دراسي ميت. إنهم ميتون-أحياء، يصلون بخطى بطيئة، يتلون من الألم، يبدأون بحركات راقصة غير مريحة، كل حركة من الحركات أو الإيماءات قد تم تنظيمها بالمليمتر، مثل الضوء. في أيديهم حقائب، بمجرد ما تفتح تنزلق منها الذكريات. هذه هي نقطة بداية الرحلة التي تعيد إحياء الماضي.

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏شخص واحد‏، و‏‏‏على المسرح‏ و‏ليل‏‏‏‏

 

في هذا العرض تميل إليزابيت شرشوك، نحو مفهوم “تاديوز كانتور” للمسرح الميتافيزيقي ومسرح تناسخ الأرواح. حيث نشاهد موكبا للموتى-الأحياء، الذين ينعشون، ويأخذون الحياة أمام أعيننا، خاصة عندما تهرب ذكرياتهم من الحقائب الثقيلة التي يحملونها. نشاهدهم وهم يعبرون نوعا من المطهر لأجل استعادة ماضيهم، ومواجهته، لعلهم ينجحون في تغييره. في هذه التجربة المسرحية، لا تميل إليزابيت شرشوك فقط نحو مسرح كانتور، وإنما تأخذ منه مفرداته المتكررة، مثل: الحقائب، تجسيد الذكريات، أفعال الحياة الماضية، النوافذ، ومقاعد تلاميذ المدارس، لتوقيع عرض، كما هو الحال دائمًا، غير نمطي وفريد في راديكاليته الفنية. تصحبنا من خلال كوريغرافيا الرقص، إلى أعماق الجحيم حيث الصوت الفاتن، والواهي، الذي يوقظ الموتى. بحيث نجد أنفسنا في عالم تحت الأرض، يقبض على أحشائنا، يرسلنا إلى رغبتنا الخالدة، وهوس الرغبة في إعادة رسم الحياة من جديد؛ لتحقيق الأحلام التي لم تتحقق، وإعادة كتابة هذه الحياة القصيرة جدا.

 

 

كان اليأس في هذا العرض، يغذي هذه الكائنات التي تحمل ذكرياتها في حقائبها، ويغذي الأعباء التي تلتصق ببشرتهم، هؤلاء المحبوسون في وجود مصنوع من التمزق، مثلما يغذي العزلة، والبؤس الذي لا يستطيعون التخلص منه؛ إنه ينعش ويغذي في آن واحد، القدرية التي تعيدهم بلا هوادة إلى مصيرهم. فالقفزات الفجائية للجثث تذهب سدى، والصراخ اليأس، والدموع لا تفعل شيئا. لا سيما أن الخطوات الصغيرة للآلة الجهنمية تقيد كل ذبذباتهم.

 

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏شخص واحد‏، و‏‏‏‏رقص‏، و‏‏جلوس‏، و‏أحذية‏‏‏ و‏منظر داخلي‏‏‏‏

إن إلي

زابيت شرشوك، مخرجة وممثلة ترفض أولوية النص، شأنها شأن “كانتور”، وتستخدم في مسرحها الكثير من الغناء والرقص والموسيقى والمؤثرات البصرية، وخاصة التعبير الجسدي. إن عرضها هذا، لا يشبه أي عرض أخر، ولكن من أجل التعرف عليه، لا بد لنا من العودة إلى عروض مسرح كانتور (كراكوفي 2)، للعثور على هذا الإحساس بالزوبعة الجنائزية، والانتقام الغروتسكي الذي هو عنف ميتافيزيقي بقدر ما هو اجتماعي. فمسرح “كانتور” بمثابة مهرجان جنائزي وهو الذي يتحكم فيه أو ينظمه، ودون أي حمولة سياسية كانت أو رمزية. ويدعو الجمهور الذي ينتمي إلى عالم الموتى للاحتفال معه بالانهيار. هناك معنا واحد لمسرحه، هو الموت. وهذا ليس موضوعا، وإنما جمالية مسرحية. لقد اختراع كانتور مسرحا طقوسيا يحتفل بكوارث القرن العشرين. أليس هذا ما تقوم به إليزابيت شرشوك؟

 

ربما تحتوي الصورة على: ‏شخص واحد‏

عند خروجي من العرض، لم اعرف فيما إذا كنت قد حضرت عرضا مسرحيا، أو باليه راقصة، أو نوعا من أوبرا غريبة، ربما كان كل هذا في وقت واحد. على كل حال، كل ما قدمته هذه المخرجة البولندية الفرنسية، كان مثيرا للدهشة ومربكا في آن واحد.

هذه مجرد أسئلة وانطباعات اخترقت الرأس وانا في طريقي إلى المنزل، وددت تدوينها، قبل ان تفلت وتحل محلها أشياء أخرى. وسوف أطورها ربما عندما أشاهد في الشهر التاسع، الأجزاء الأخرى له، فهو ثلاثية مسرحية، وهذا جزئها الثالث.
28/06/2018/باريس

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏‏٤‏ أشخاص‏، و‏‏أشخاص يجلسون‏‏‏


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock