الكاتب والناقد صلاح الأنباري يكتب: ملحمية الصور الدرامية في مسرحية “كفر سلام أو دستة ملوك يصبون القهوة” للكاتب السوري عبد الفتاح رواس قلعه جي
المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات
ـ
ملحمية الصور الدرامية
في مسرحية “كفر سلام أو دستة ملوك يصبون القهوة”
صباح الأنباري[1]
– عمان/ الأردن –
[مسرحية كفر سلام منشورة في مجلة الموقف الأدبي العدد367 أب 2002
ومنشورة ضمن مجموعة مسرحية بعنوان ” جثة في المقهى” الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب
وفي موقع “مسرحيون” على الإنترنيت
وقد عرضها مسرح حلب القومي على مسرح دار الكتب الوطنية في موسم عام 1999 إخراج إيليا قجميني]
في عنونة الكاتب عبد الفتاح رواس قلعه جي لنصه المسرحي “كفر سلام أو دستة ملوك يصبون القهوة” اعتمد على معنيين :
“كفر سلام ” وقد أراد به أن يكون دالا على بلدة افترض وجودها وطالها الدمار جراء قصفها الوحشي بطائرات حولت كل ما فيها الى خراب في خراب .
” دستة ملوك يصبون القهوة” العربية للغزاة كي يتقربوا إليهم زلفى ، ويحققوا جاها تمنوه لأنفسهم وسلطة زائفة يرومون التربع على دستها .
وعلى هذين المعنيين قسم الكاتب خشبة المسرح، في نصه المسرحي، إلى قسمين :
الأول خلفي اشتمل على منظر كفر سلام قبل الأحداث . وهو صورة مجسدة لها وخلفية تاريخية لما كانت عليه . الثاني أمامي اشتمل على القسم المتقدم الأكبر من الخشبة الذي طاله الدمار وجرت عليه احداث المسرحية بعد عودة شخصيتها الرئيسة والوحيدة “ابو العز”. وهي صورة جسدت كينونة البلدة ما بعد الأحداث او هي على حد زعم الكاتب الجرح النازف والدمار والأحزان .
تفصل القسم الأول عن الثاني شاشة من قماش شفاف (غربول) كجدار أو حد فاصل بين زمنين مختلفين هما ماضي البلدة وحاضرها . وفي الوقت الذي لم يحفظ الملوك العرب عزة كَفرهم ظل ابو العز متمسكا بها وشاهدا عليها وراويا ما جرى لها لأجيال ما بعد الخراب والدمار . إنه الوحيد الذي نأى عن الموت أو نأى الموت عنه . والوحيد الذي أبقته الصدفة ، حيا ، خارج حدود الفناء . وخلافا لما اعتادت عليه المونودراما يقدم لنا عبد الفتاح قلعه جي بلدة متأزمة بدل أن يقدم لنا بطلا مونودراميا متأزما ، مشتغلا في نقل تلك الازمة ، على ملحمية الصور الدرامية وما توفره من الاتصال والانفصال بينها وبين المادة التي تقدمها ضمن الإطار الدراماتيكي لأحداث المسرحية . وربما جعلتها هذه الميزة أقرب الى مسرح الصورة منها الى المسرح التقليدي ، ومنحتها سمة تجديدية مغايرة لمألوفية الخطاب المسرحي وجاهزية بنائه دراميا ، وحافظت ، في الوقت نفسه على نصية الحوار لا على تقطيعه أو حذف الكثير منه كما يفعل المشتغلون في مسرح الصورة.
إذن نحن أمام نص اعتمد الصورة كبنية أساسية في نقل الوقائع . وعليه سنتناوله على أساس هذه البنية مقسمين إياه إلى صور كبيرة وصغيرة ننقل من خلالها التفاصيل اللازمة وتحليلنا لتلك التفاصيل .
الصورة الأولى / ابو العز يعود ثانية:
من عنوان الصورة يتضح أن العزة غادرت الكفر بعد أن غادرها السلام وغيبته قوى ظلامية اشار الى وجودها الكاتب اعتمادا على ما حفظته ذاكرتنا الجمعية من هزائم وانكسارات . وهي بمعناها العام ترتبط بالتقسيم الجغرافي الخاص لنص المسرحية الذي اشتغل فيه عبد الفتاح قلعه جي على ماضي الكَفر وحاضره ، والانتقال بينهما حسب فاعلية الفكرة وثنائية التناقض فيها بين حالتين مختلفتين أو زمانين مختلفين . تبدأ حالتها الأولى وهي تحمل ملامح كفر سلام الماضي بأغنية الصباح. وهي أغنية شعبية جماعية تنطوي على أمل وتفاؤل كبيرين كدالين على جماليات الألفة والارتباط المصيري . وتنتهي بصوت المؤذن الذي يسبغ عليها طابعا شرقيا إسلاميا. واذ تستكمل مؤثرات الصورة دورها تختفي الكفر/ الماضي وتبدأ الكفر / الحاضر حالتها الثانية بإعلان أبي العز ( رجل صندوق الدنيا) والشاهد الوحيد على عزة الكفر وذلها ، على زهوها وانكسارها ، على تألقها وانطفائها، عن عودته ثانية فيضع صندوقه بين أنقاض الكفر وخرابه ليردد دعوته المألوفة بمشاهدة ما يعرضه صندوقه من ابطال وامراء وعاشقين .
الصورة بتفاصيلها العامة قائمة على التناقض بين ما هو كائن وبين مألوفية ما كان . بين عظمة الكَفر وشموخها ومجدها الذي لا يضاهيه مجد وبين ذلها وخرابها ودمارها الذي ما بعده دمار . ولعل الرموز التي انتقاها الكاتب بدقة وعناية كبقع الدم على الجدران ، والقفاز الأبيض المدمَّى ، وثوب الفتاة الملطخ صدره بالدم والشظية والحجر المشربين بالدماء …… الخ كشفت عن عمق المأساة وما لحق بالكفر من موت كاد أن يكون مطلقا لو لا بقاء البئر كدال فاعل على استمرارية الحياة .
“ستستمر الحياة في كفر سلام ما دام في البئر ماء”
إن عودة ابي العز ثانية حركت في كفر سلام ما كان ساكنا فيها عبر استرجاعه بعض الشخصيات الحيوية كشخصية أبي عمر ونعيمة وغيرهما . وحسناً فعل الكاتب حين جعل أبا العز يسترجع ما كان من أمره وأمر نعيمة بتمثيله ما كان بينهما بوساطة كفيه فقط . لقد اختفى جسده وراء الصندوق وظهرت إحدى يديه وقد ارتدى فيها قفاز نعيمة الممزق المدمى وظهرت الثانية عارية لتمثله شخصيا . إن هذا الاداء الايمائي وإن لم يكن جديدا على الخشبة الا أنه جعل إسهام الأدوات الفنية الاخرى ممكنا وطيعا في نص يحتاج الى التنويع في الأدوات والأداء والأسلوب تجاوزاً لوحدانية الشخصية وما تسقط فيه من رتابة في اغلب الاحيان.
صورة من الماضي
تعطي انطباعا أوليا عن تأريخ الكفر وإيغالها في القدم وامتداد جذورها الى ميثولوجيا الشرق ومسمارية بلاد ما بين النهرين وطقوس الانتظار الطويل للخصب والنماء والتجدد تعكسها لنا بقعة ضوء تسقط على القماش فتظهر رقيما طينيا كرمز لقدم الكفر وأصالتها التأريخية ، وشجرة الحياة وعلى جانبها أسد وحمل كرمز لسلطة الكفر التي لا تقهر ووداعة الشعب التي لا تجارى . وحالما يسقط على الشاشة وجه عشتار الجميلة يبدأ أبو العز استذكاراته معها عن أيام العز وزوالها وتفكك قوة الأهل والتهائهم بالتكاثر والتناحر حتى جاءت الطائرات وكسرت شجرة حياة الكفر مدمرة صروحها وتاركة اياها في انتظار طويل لخصب يأتي مع قادم الزمن فتتماهى عند هذه النقطة عشتار والكفر لتبكي كل منهما او كليهما معا غياب الاله الحبيب باعث الخصب ومجدد النماء ديموزي الجليل . من هنا يمكننا القول إن كفر سلام التي ابتكرها عبد الفتاح قلعه جي هي اي كفر عربي واجهت او تواجه محنة الخراب والدمار والاحتلال والذل والاستعباد والفساد والمهانة والموت .
صورة من الحاضر
يدعو فيها ابو العز الى التفرج على عرس سلام ونعيمة . يقدمه لنا بأسلوب مسرح الدمى وتكون أغاني الفرح الشعبية خلفية لهذه الصورة التي تحيلنا الى صورة أخرى هي صورة بلقيس والهدهد ويؤدي قصتها بالأسلوب نفسه فتتداخل الصورتان بعضهما ببعض ويدور الهدهد بين الدمى (دمية سلام ونعيمة وابو العز) متوسلا بهم وطالبا صدقاتهم وصداقتهم بعد أن ادعى انه قد رأى ما رأى من ذل سليمان وسجنه للإنس والجن في القماقم ثم انقلابه عليهم وعودته إليهم بهيأة جديدة
” اليوم يعود الينا ومنقاره أطول من سد مأرب”
فيظهر على الشاشة رجل برأس هدهد . أنفه طويل جدا ، وبيده رسالة تهديد ووعيد لأهل سبأ أو أهل كفر سلام لا فرق كي يذهبوا إليه صاغرين أو ينشر الموت في ديارهم ويفعل بهم ما فعله النمرود بأصحاب الأخدود ثم يخرجنا عبد الفتاح قلعه جي من إطار هذه الصورة بقناعة مطلقة أن الهدهد ما زال حتى يومنا هذا ينقل الرسائل ويهدد المدن بالمفخخات والناسفات والقاصفات .
من هنا يمكننا القول إن كفر سلام التي بناها عبد الفتاح قلعه جي هي أي كَفر عربي واجهت او تواجه محنة الخراب والدمار والاحتلال والذل والاستعباد والفساد والمهانة والموت . ترتبط هذه الصورة بماضي الشخصيات أيضا وهو ماض لا يخلو من الكوارث والمآسي فهذا هو ابو العز يروي لنا ما حدث لنعيمة بعد نزوحها من ديارها الى كفر سلام ، وهي ما تزال ابنة السنوات الست ، وقد فقدت والديها بعد أن علقا في رقبتها مفتاح البيت بأمل رجوعها إليه .
” سنرجع يوما الى حينا ”
وبالأسلوب نفسه اشتغل عبد الفتاح قلعه جي على حكاية سلام ونعيمة وربطها بحكاية سليمان وبلقيس كما ربط بين حكاية نزوح نعيمة وحكاية أصحاب الأخدود وما فعلوه وخلفوه من حرق مقصود للرضع والشيوخ والشيب والشباب وانتهوا بقصف الطائرات الموجع على ماضي الكفر وحاضره حتى ساد الصمت
صورة من الماضي / ام سعيد قارئة الفنجان
يعود ابو العز الى استذكاراته وأداة استذكاره هذه المرة فنجان القهوة الذي تنساب عبره ذكرى أم سعيد.. الشخصية التي تشكل طرفا مهما من طرفي المعادلة . فان كان ابو العز يحكي للناس عن ماضي الدنيا وهمومها كطرف أول فإن أم سعيد تحكي لهم عن مستقبل الدنيا وأحلامها كطرف ثان ، ويستخدم الكاتب أيضا صورة أم سعيد الفوتوغرافية ليزج بأبي العز في مناجاة معها وتمثيل لحركاتها وهي تقرأ فنجانه بلهجة شعبية محببة أسبغت على الشخصية وجوها العام مسحة تراثية عمقت الجانب الاجتماعي / الشعبي ناهضة بمسؤولية تأصيله عربيا. ولا بد من الإشارة هنا الى أن الكاتب بذل جهدا استثنائيا في جعل النص برمته ينهض بهذا الجانب من خلال استخدامه لأساليب التمثيل المعروفة عربيا كأسلوب الأراجوز والمقامة العربية وحكايات الليالي الألف فضلا عن استخدام الدمى ورواية القصص بأسلوب صندوق الدنيا . وباستخدام هذه الأساليب مجتمعة في نص مونودرامي واحد يكون عبد الفتاح قلعه جي أفضل من قدم لنا هذا الجنس الفني بأصالة ما كانت لتصل ذروتها لولا دربته ومكنته وقدرته على استيعاب الأساليب الفنية المختلفة، عربية وغربية ، وتسخيرها لخدمة نصه المسرحي .
استكمالا للصورة السابقة تظهر صورة أم سعيد على الشاشة مضرجة بالدم وقد كسر فنجانها وتناثرت شظاياه كنتيجة حتمية لتدهور الحال وانهيار سلطة الكفر وما لحق به جراء الغارات الوحشية والنوايا القائمة على أساس إلغاء ماضيه وتغييب حاضره . وفي الصورة اللاحقة يعزز الكاتب فكرته هذه من خلال عرضه لأولاد المدرسة وقد مزقت أجسادهم الغضة الى أشلاء متناثرة هنا وهناك . ونظرا لقساوة الصورة ووحشيتها ودمويتها وأثرها السلبي على جمهور النظارة أو قراء النص يقوم ابو العز بتغطية الشاشة بجسمه وهو يصرخ بمنفذ الاضاءة :
” لا .. لا.. أوقف العرض ، من يحتمل هذا المنظر ؟”
ثم يندفع نحو الجمهور متمتما :
” انهار السد واندفعت ياجوج وماجوج وبحر البقر
صار بحرا من الدم وكفر سلام عاد إليها التتار من جديد ”
ويعود ثانية الى مأساة الاولاد ليروي لنا انهم :
” كانوا صغارا، رائحتهم كرائحة الأرض بعد المطر يندفعون
من الملجأ صائحين : عمي أبو العز بدنا نتفرج”
لقد قطع ابو العز في اللحظة الدموية الساخنة سيل الاندماج في المأساة والتوحد فيها بعاطفة تامة ليعيدنا ، قراءا وجمهورا ، من حالة الايهام التي تلبستنا الى حالة العقل التي غيبها الإيهام عنا. وبذا يثبت عبد الفتاح قلعه جي قدرته على خلق اكبر قدر من الدرامية والإيهامية في صوره ، وإمكانيته على قطع تلك الايهامية والدرامية ومعاونة قرائه وجمهوره على اطلاق أحكامهم العقلية السليمة على ما يحدث في تلك الصور من الكوارث والمآسي . وإن نظرة عامة على مجمل الصور الصغيرة التي احتوتها الصورة الاولى (كفر سلام) نجد أن كل صورة صغيرة من تلك الصور احتفظت الى حد كبير باستقلاليتها عن الصورة التي سبقتها والصورة التي تلتها وبتجميع تلك الصور في صورة كبيرة واحدة ينتج المعنى العام المطلوب الذي أراد المؤلف وصولنا اليه . وهذا أعطى تلك الصور سمة ملحمية تنسجم مع استقلاليتها وأدائيتها الذاتية .
الصورة الثانية / دستة ملوك يصبون القهوة
في مفتتح هذه الصورة يكتب ابو العز ، على لوح معلق ، بخط واضح:
“ويل للعرب من شر قد اقترب ”
وهي جملة فيها من الوعيد بقدر ما فيها من التحذير ، وسنكتشف أنها موروثة قولا ومتحققة فعلا على مدى الانهيارات والنكسات العربية ، وهي تذكر قارئها بـ( شيخ الكتاب ) الذي كان يتبسط فيها داخل النص ، كحديث شريف ينطلق منه الى ياجوج وماجوج وما حدث من أمرهما وأمر الصغار الذين كانوا يمتلئون خوفا ورعبا لمجرد ذكر اسمهما واقتران فعلهما بأفعال “أقوام عيونهم في الطول، يخرجون من وراء سد الصين العظيم الذي بناه ذو القرنين ، يقتلون العباد ويفسدون في البلاد” وهي بديل موضوعي أو تماثلي لحكاية اغتصاب اليهود لأراضي العرب والنزول عليهم قتلا وفتكا وإبادة ، أو حكاية المغول والتتار الذين صنعوا من رؤوس الضحايا تلالا ومآذن .
تتميز هذه الصورة باعتمادها شبه الكلي على الحوار المسرود وتشكلها من مقاطع ذهنية تهدف الى إيصال الفكرة ( فكرة اغتصاب الأرض والقتل والذبح والفتك بالشعوب وتهافت الملوك على الغزاة بدعوى هديهم الى السلام ظاهرا والحفاظ على عروشهم باطنا) وحتى دعوة ابو العز للتفرج ، هذه المرة، على نصير الدين الطوسي كعالم عربي صوفي ، والذي صار مستشارا إعلاميا وثقافيا لهولاكو الوثني لم تبتعد ، على الرغم من استخدام الكاتب لأداتي عرض الصور والتسجيل الصوتي ، عن سردية الحوار وإخباريته . لقد تخلى الكاتب عن الصور التي اشتغل عليها في الصورة الأولى لصالح الفكرة التي أراد إيصالها بطريقة مختلفة قربته ، من حيث التأصيل ، من شهرزاد . وأبعدته من حيث الفنية من الدراما بمعنى أن أداتيه ، المشار اليهما هنا ، لم تسطيعا كسر رتابة الحكي الذي خلقته قراءة ماضي الملوك وتحالفاتهم قراءة سردية لم تعن بدرامية الصور ولم تستنبط من التأريخ فاعليته وقدرته على التشيوء الصوري دراميا .
لقد خصص عبد الفتاح قلعه جي هذا الجزء المهم من الصورة الثانية لفضح مساومات ملوك الطوائف والتي من حصيلتها الدمار الشامل الذي لحق بكفر سلام وبقية المدن العربية وليحذر فيها أيضا من مغبة استمرار أولئك الملوك القدماء / الجدد في حمل دلة السلام وصب القهوة العربية للغزاة وللطغاة والقتلة أو تقزيمهم المذل لأنفسهم أمام عملقة هولاكو أو أي احد غيره من العلو ج . لقد كانت هذه الفكرة واضحة جدا وكانت الرسومات أو الصور او حتى خيال الظل مجرد أدوات ساهمت ، بشكل او بآخر ، في زيادة الايضاحات غير المهمة .
صورة الشتاء يمطر الغضب
تتشكل مكونات هذه الصورة من :
اولا- زخات المطر على كفر سلام بقسميها الخلفي والامامي .
ثانيا- ابو العز يعتلي مكانا مرتفعا وبيده مظلة مطرية.
ثالثا- شاشة العرض البيضاء وعليها نرى السماء وقد أخذت تمطر حجرا .
( يخف المطر ، تتلاشى العاصفة ، يغلق ابو العز المظلة وينحدر نحو اللوح يقرأ العبارة المكتوبة: الجمعة ، الخامس والعشرون من رمضان سنة ثمان وخمسين وستمائة يتابع الكتابة تحتها “المكان عين جالوت- فلسطين ” يتابع السير نحو صندوق الدنيا ويبدأ العرض) .
والعرض هنا يتناول فيه الكاتب بعض حروب العرب ومعاركهم التي انتصروا فيها ، خلافا لما عرضه في الصورة الاولى من انكسارات وهزائم باسلوب حواري مدعوم بالصورة والصوت ، ومعتمد على درامية الصور المعروضة وملحميتها . وعلى الرغم من قصر هذا المشهد وكثافته استطاع أن يقدم لنا صورة جلية عن النصر العربي على فلول التتار التي رفع فيها رأس قائد جيوش هولاكو على رمح عربي . وفي نهاية هذه الصورة يتوجه ابو العز بالسؤال الى دمية نعيمة قائلا :
“هل قلت شيئا مفرحا يا نعيمة ؟ ”
في إشارة الى الموازنة التي حققها بين الصورة الأولى والثانية ، بين الهزائم والانتصارات، بين التراجع والإقدام، بين الملوك الذين يصبون القهوة للغزاة وبين الذين يصبون الجحيم على رؤوس أعدائهم . ثم يستنهض ابو العز كفر سلام مذكرا إياها بمعارك حطين والزلاقة وقبضة حيدرة أمام حصون خيبر ونصرة العرب من قبل السلطان بركة وانتصاره على ابن عمه هولاكو متجاوزا بهذا الانتصار حالة القربى التي بينهما والقومية وتعصبها وناصرا الحق على الباطل .
ان الكاتب هنا سلك سلوكا فنيا تسجيليا ( نسبة للمسرح التسجيلي) اذ عرض حقائق الطرفين فضلا عن عرضه لحقائق الطرف الواحد في حالتي الانتصار والهزيمة ليترك للقارئ ان يقرر بنفسه او أن يستنبط أحكامه الخاصة التي تقترب ، دون شك، من أحكام الكاتب المسكوت عنها داخل نصه المسرحي . وهذا يعني ان عبد الفتاح قلعه جي قد سخر الكثير من أساليبه الفنية ، العربية والغربية ، لصالح نصه المسرحي الذي ظهر بمظهر الجد والتجديد والمغايرة للأساليب المونودرامية المألوفة .
صورة الختام / آخر الكلام عن هدهد السلام
وفيها يسحب ابو العز الدلو من البئر ويرش الماء على كفر سلام وحول الشجرة المكسورة بطريقة توحي باستمرار الحياة بعد الجدب والموات . ومع تجدد الكفر يجدد الهدهد تواجده في صندوق جديد مختلف عن صندوق ابي العز ( صندوق الدنيا ) فتظهر هيئته على شاشة التلفاز ( الشكل الجديد لصندوق الدنيا ) كقرصان انيق “منقاره طويل، يعتمر قبعة (طاقية) ، وينشر في يده محرمة ( منديلا ) مرسوما عليها جمجمة وعظمتان متقاطعتان ” ويعلق ابو العز قائلا :
“الهدهد اليوم رسول السلام يحمل الى كفر سلام محرمة الأمان، والقوم
في اطمئنان يغنون ويرقصون ويخمرون في أعياد السلطان ”
ويدعم الكاتب هذا الحوار بصورة على الشاشة البيضاء تمثل تلفازا كبيرا يعرض راقصة شرقية تتهادى على ايقاع نغمة أغنية مبتذلة تتوقف فجأة فتنتهي الصورة ويكسر ابو العز حالة الايهام بتوجيه حواره الى الجمهور مباشرة .
إن عبد الفتاح قلعه جي بتجربته ككاتب ووعيه كمثقف واطلاعه على مجريات الاحداث كشاهد استطاع أن يرصد كل شاردة وواردة في الشأن العربي ، وأن يعزز نصه بإشارات خاطفة ، في أغلب الأحيان ، الا أنها نقلت دلالات كبيرة وكثيرة وعميقة .
ويكمل ابو العز صورة الختام بصورة حمله لجثة ملفوفة بالقماش يسير بها نحو مقدمة المسرح
” اشعلي الاضواء يا كفر سلام ايتها الام الطيبة واستقبلي الحسين
بعطر الليمون والزعتر ، استقبلي قمر البهاء ، ها هو سيد الوقت
عائدا من كربلاء الجديدة ، مضرجا بالشفق الدامي ، مزنراً بأنوار الصباح ”
لتنتهي الحكاية او لتبدأ من جديد ( كان يا ما كان ) بصوت موحد عميق الصدى يناغم بين صوت ابي العز وصوت الكفر ويموسقها بسؤاله الاخير :
” من منكم يحدث كفر سلام عن السلام؟ ”
استنتاجات عامة
- اعتمد الكاتب في بناء مسرحيته على الشكل المونودرامي الذي تروي الحكايات فيه شخصية واحدة يفترض أن تكون شخصية مأزومة ولكن الكاتب نقل الازمة منها الى ” كفر سلام ” مغايرا بهذا ما درجت عليه المسرحيات المونودرامية فمنح المكان (كفر سلام) تشاخصا دراميا محسوبا لصالح فكرة النص.
- استخدم صندوق الدنيا كأداة لنقل مجريات الماضي والتلفاز كصندوق بديل ومتطور عن صندوق الدنيا لنقل مجريات الحاضر فأعطى انطباعا واضحا عن استمرارية وجود هدهد سليمان الماضي مثلا في الصندوق التلفازي المعاصر بهيئته الجديدة ولكن بنواياه التجسسية المذلة نفسها .
- اشتغل على بنية ملحمية الصور الدرامية ومزاوجتها فنيا بين مسرح الصورة من جهة والمسرح الملحمي من جهة اخرى ، آخذا من الأول شكله ومن الثاني فلسفته ، الا أنه لم يعمد الى تقطيع اوصال الحوار أو الغائه أو التقليل من أثره كما فعل المشتغلون على مسرح الصورة ، ولم يغال في استخدام طرق كسر الايهام المسرحي الا في المواضع التي اقتضت ذلك مستفيدا من حالة استقلالية صور النص او مشاهده او حكاياته كطريقة معتمدة في المسرح الملحمي .
- سخر أساليب التمثيل المختلفة لخدمة نصه كمسرح الأراجوز ومسرح الدمى والمسرح الايمائي والمسرح التسجيلي ومسرح الحكواتي ومسرح الصورة والمسرح الملحمي فضلا عن استخدامه لأسلوب خيال الظل والمقامة العربية وشهرزادية حكايا التراث .
- دعم افكار النص بالرسومات والصور الفوتوغرافية والصور المتحركة عن طريق عرضها على الشاشة البيضاء .
- الصورتان الكبيرتان الاولى والثانية قائمتان على التناقض بين ما هو كائن وبين مألوفية ما كان فهما تعكسان حالة الكَفْر قبل الأحداث (الماضي) وبعدها (الحاضر) في الصورة الاولى . وحال الملوك المنتصرين من جهة والذين يصبون القهوة للغزاة من جهة اخرى في الصورة الثانية.
- استخدم بنجاح كبير الاغاني الشعبية التي انتقاها بدقة وبراعة عاليين وفهم لموروث بلاده من الاغاني التي لها دلالات كبيرة على ما يريده أو يسخره لخدمة فكرته الاساس . وبالدرجة نفسها من الدقة استخدم بعض الجمل الشعبية الدارجة التي أسبغت على بعض الشخوص والأجواء مسحة تراثية شعبية محببة غير مقحمة على الفصحى بأي شكل من الاشكال.
****************
[1] كاتب وناقد مسرحي عراقي. من مسرحياته: زهور وعقارب، وفضاءات الصمت