مقالات ودراسات
د. أيمن حماد يكتب: المسرح المصري.. ضحية الصراع والإهمال!
المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات
ـ
شهد المسرح المصري، على مدار أربعة عقود خلت، تغيرًا كبيرًا على صعيد الكتابة والعرض، وكذلك النقد المتعلق بالنص المسرحي، وقد سار هذا التغير على غير المألوف والمتوقع من القارئ والمشاهد على حد السواء، مقارنة بحالة هذا المسرح إبان ازدهاره خلال فترة الستينيات وبداية فترة السبعينيات من القرن المنصرم، ولعل الأمر الأكثر غرابة وإثارة للدهشة والأسى في آن، أننا ندرك أسباب وطبيعة وصيرورة ومآل هذا التحول ولا نحرك ساكنًا، وكأننا استسلمنا لضعفنا وانكساراتنا المتوالية، على امتداد هذه الحقبة الزمنية الطويلة.
وما يدعو للتعجب أيضًا، أنه إذا ذكرت وضعية هذا المسرح وحاله المزرية الآن، تجد ألسنتنا تلوك الحديث مرارًا وتكرارًا عن فترة ازدهاره، سواء على صعيد الموضوعات والقضايا المطروحة للمعالجة – على اختلافها – اجتماعية وقومية وسياسية، أو على صعيد العروض وبرامجها المستمرة والتلقي الجماهيري والتفاعل المجتمعي الخلاق، آنئذ. لقد كانت الأحداث الجسام التي مرت بها مصر خاصة، والأمة العربية عامة، خلال تلك الفترة التي ناهزت نصف القرن من عمرها، كفيلة بمواصلة واستعادة مجد وازدهار هذا الفن الجماهيري، ذي التأثير المباشر القوي، ذلك الذي دعوناه فيما سبق بـ«أبو الفنون». ولست مع من يطرح مقولة سيادة فن أو جنس أدبي ليكون بديلًا عن جنس أو فن آخر من الفنون، كما طرح البعض –ولا يزال- مقولة أن الرواية أصبحت بديلًا عن المسرح والشعر، وأرى أن ذلك يتنافى مع طبيعة الإبداع والفن، ومن قبل ذلك الطبيعة البشرية التي هي في حاجة لكافة فنون القول والأداء، اللذين هما من نتاج الإنسان والطبيعة والعالم من حوله.
فما دام هناك كتّاب يبدعون ونقاد ومخرجون، وما دام هناك قراء متلقون (جماهير) يتابعون ويشاهدون، ولديهم شغف واهتمام بنوع معين من الفنون، فإن ذلك يكفي لدحض مثل هذه المقولات التي تحركها – في رأينا- أيديولوجيات متصارعة تعمل جاهدة على توجيه بوصلة اهتمام القراء والجماهير الغفيرة صوب هذه الأيديولوجيا بعينها، أو قريناتها من الأيديولوجيات الخاصة بمن يتبنى هذا النوع من المقولات التي تتنافى مع الطبيعة الإنسانية المجبولة على التنوع والتعدد في سائر اهتماماتها. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا:
إذا كان المسرح المصري قد شهد ازدهارًا كميًا ونوعيًا (كتابًة، وعرضًا، وتلقيًا) إبان فترة الستينيات وبدايات السبعينيات، فما الذي أعاقه عن استكمال تلك المسيرة من الازدهار؟ إن جزءًا من الإجابة عن هذا السؤال متعلق – كما أشرنا سلفًا- إلى تحكم أيديولوجيات بعينها، هدفها التأكيد على علو كعب فن أدبي بعينه والحط مما سواه، غير أن هناك عوامل أخرى بادية للعيان، أسهمت في تكريس مسيرة الظلم الفادحة وإلصاقها بالمسرح، وخاصة بعد فترة ازدهاره.
وإذا كان الناقد الراحل فاروق عبد القادر قد أشار إلى بعض عوامل سقوط المسرح المصري، مقارنة بفترات ازدهاره، وذلك في كتابه «ازدهار وسقوط المسرح المصري» في فترة مبكرة نوعًا ما، فإن الحاصل الآن هو الإصرار الغريب على مواصلة مسيرة السقوط هذه، من جانب بعض النخب المثقفة، وكذلك من جانب بعض المؤسسات الرسمية المنوط بها إقالة «أبو الفنون» من عثرته التي طال أمدها. وغني عن البيان، في هذا المقام، أن هذا المسرح كان من ضمن مصادر الدخل القومي للدولة في فترات ازدهاره، وكان ذلك نتيجة اهتمامها في تلك الفترات، وخاصة بعد ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢ بفنون المسرح والأداء بعامة، وتمثل هذا الاهتمام في سخاء الدولة وقتذاك على العاملين في هذا الحقل، من مؤلفين ومخرجين وممثلين ورسامين وموسيقيين،
إضافة إلى حرصها على ارتفاع مستوى الأجور للطبقات العامة الواسعة، وخفض أثمان دخول المسارح بعد تحويلها إلى مرافق عامة ورعايتها، وذلك كله كان له أكبر الأثر في ازدياد إقبال المواطنين على المسرح وبالتالي في ازدهاره، مما أحدث يقظة قومية ظهر أثرها فيما بعد إثر انتصارنا على العدوان الثلاثي سنه 1956؛ فقد ساهم المسرح حينذاك في التعبئة الروحية ضد هذا العدوان، بعد أن فتحت المسارح أبوابها مجاناً للمواطنين ليشاهدوا مسرحيات الكفاح الوطني المستميت، كمسرحية “كفاح شعب” لمحمد محمود شعبان وأنور فتح الله، ومسرحية “عفاريت الجبانة” لنعمان عاشور وغيرهما من الأعمال، وازدادت الفرق المسرحية التي تعمل في القاهرة والمحافظات، إضافة إلى فرق ومسارح الطوائف والهيئات، كفرق الجامعات والمدارس الثانوية ومسرح العمال فرق ومسارح الطوائف والهيئات، كفرق الجامعات والمدارس الثانوية ومسرح العمال- كما يجمع الكثير من الدارسين في هذا الشأن، ويكمن الاسترشاد بتوسع في هذا الصدد بكتابات محمد مندور ولويس عوض وسعد أردش وعلي الراعي ورشاد رشدي، وغيرهم كثيرون ممن تعاصروا في تلك الحقبة من تاريخ مصر. فما الذي حدث بعد ذلك؟
إن ما حدث، وخاصة بعد حقبة الانفتاح الاقتصادي (التي يحددها بعض الدارسين بالعام ١٩٧٤)، هو إهمال لفن المسرح على مختلف الصُّعُد؛ فلم يعد اهتمام كافٍ بالعاملين في هذا المجال، من مؤلفين ومخرجين وممثلين، وكذلك دور العرض المسرحي، بعدما رفعت الدولة يدها عن إيلاء الاهتمام بكل مقومات النهوض بالحركة المسرحية، فساد ما يعرف بـ«المسرح التجاري» الذي لا يهدف إلا إلى الربح المادي على حساب النص الجيد والمتلقي والقضايا التي تهم شرائح المواطنين، فعزف هؤلاء المواطنون عن متابعة هذا الفن، الذي أسهم من قبل في إحداث اليقظة القومية، إبان فترات الحروب والاستعمار والاضمحلال الفكري، وذلك في الوقت الذي نحن أحوج من نكون فيه الآن إلى إيقاظ ذلك الشعور في مواجهة الأفكار الظلامية والإرهاب بشتى صوره، ولن يتأتى ذلك إلا بتشجيع ودعم الفنون كافة، وعلى رأسها المسرح.
وأجدني هنا أتصادى مع ما طرحه ناقدنا العظم الراحل د. حسن عطية في كتابه «دليل المتفرج الذكي إلى المسرح والمجتمع» بقوله: لن يتحقق مستقبل للمسرح العربي، إلا بفعل مجتمعي أيضًا يفهم وظيفته التنويرية، ويؤسس وجوده في المدرسة والكلية والمؤسسات المختلفة، فالجمهور الجيد يتكون منذ الصغر، ويمارس – أو ينبغي أن يمارس- ديمقراطية الحوار وسط أسرته وبين أقرانه وزملائه، فيتعامل مع المسرح كغذاء للعقل، وترقية للوجدان، وليس فقط مجرد فسحة للترويح عن النفس المتعبة».
وإذا كان السعي لإرساء مقومات الدولة القوية وبعث الشعور الوطني والقومي هدفًا رئيسيًا للحكومات الرشيدة، فإن من أهم هذه المقومات – بل على رأسها – تدعيم أسس القوة الناعمة لهذا الدولة أو المجتمع، متمثلة في الاهتمام بالثقافة والفنون الرفيعة، من مسرح وموسيقى وسينما وفن تشكيلي، ذات أهداف تعود بالنفع والمردود الكبير على أبناء المجتمع، عبر تحقيق الوجود الذاتي والقومي، والذي يشكل حائط الصد القوي في مواجهة الإرهاب والأخطار الخارجية المحيطة بالأمة، مثلما كان الأمر في حقب ازدهار المسرح وغيره من الفنون، دون الوقوع في أسر التجارب والأساليب الغربية التي لا تلائم طبيعة ثقافتنا وتقاليدنا وعاداتنا، والذي يلاحظ فيما يعرف بالعروض التجريبية الغربية، ،التي لا يترتب عليها سوى الانفصال عن واقعنا ووقوعنا أسرى الاغتراب والاستلاب.