مقالات ودراسات

مسرحة الفقد واستدعاء الأسطورة: الجنوب العراقي في مرآة “رأسي من الجنوب”


المسرح نيوز ـ القاهرة: مقالات ودراسات

ـ

 كرار فياض ـ العراق

 

أجواءٌ جنائزية، وفضاءٌ طينيٌّ ساحر يتوهّج في منتدى المسرح التجريبي؛ ليسقط الضوء على حيرة الجنوب العراقي أمام هويّتهِ المائيّة المُغيّبة، ليُتمّم الفكرة وهي تُسافر في الأذهان حاملةً على أجنحتها أبعادًا رمزيّة وإشارات شتّى تُلهم المعنى وتَعصف بذاكرة المتلقّي، وكأنّنا أمام سؤالٍ بحجم تاريخ العراق مُوجَّه إلى الجميع: من فنّانين، وأدباء، وساسة، وغيرهم:

 

ها هو الجنوب أمام أنظاركم يحتضر، فماذا فعلتم له؟

هكذا كانت صرخة العرض المسرحي للمخرج محمد كويش، والذي حمل عنوان “رأسي من الجنوب”، بمشاركة تمثيل كلٍّ من: محمد كويش، مؤمل حيدر، فكرت حسين، وغفران فارس، وتصميم الديكور: ضياء حمزة، وتصميم الإضاءة: د. علي السوداني. وقد قُدِّم هذا العرض على خشبة منتدى المسرح التجريبي – دائرة السينما والمسرح، بالتعاون مع نقابة الفنانين العراقيين، في أيام 8-9-10 أيار 2025.

يبدأ العرض بدخول شخصيتين من بين الجمهور إلى فضاء العرض: رجل وامرأة يرتديان زيًّا أنيقًا، ويتحدّثان عن دخول الأهوار العراقية في لائحة التراث العالمي. يتحدّث الرجل باللغة العربيّة، بينما تترجم المرأة كلامه إلى الإنجليزيّة. لم يكن في هذا المشهد كشف مباشر لموضوع العمل المسرحي، بل كان تشخيصًا واضحًا لموقف يُجسّد فكرة العرض وأهميّته الإنسانيّة؛ ليرى المتلقّي بيئةً سومريّة مختلفة، تُحاكي صورة الأهوار العراقيّة لكن بطريقة تصحّريّة، كإشارة رمزيّة إلى الإهمال الذي تعرّض له جنوب العراق، أرض الحضارة الأولى، من قِبَل العالم والحكومات المتعاقبة.

 

كان المكان مملوءًا بالقصب والتراب، ويظهر رجل جالس على أرض قاحلة، وعلى يساره مشحوف مدفون نصفه في الأرض، يحيطه القصب، وعلى يمينه يظهر فقط رأس جاموس مدفون جسده في الأرض نفسها. وعلى رأس هذا الرجل خوذة طينيّة مُرصّعة بالأحرف السومريّة، وهو مغطّى بالكامل بشبكة صيد. يبدأ بالنهوض، خالعًا شبكة الصيد، وكاسرًا خوذته الطينيّة، ويتجه نحو الجاموس المدفون، لتبدأ الأرض بالتشقّق، فينهض الجاموس، ويتّضح أنه “رجل جاموس”، وتبدأ حكاية الأسطورة الجديدة التي تستعرض حالات الصراع بين “رجل الجنوب” و”رجل الجاموس”، في استعادة رمزيّة للصراع الميثولوجي بين كَلكَامش والثور السماوي، عندما طلبت الإلهة عشتار من الإله أنو إرساله لمعاقبة كَلكَامش بعد رفضه لها.

 

إلّا أنّ المخرج أعاد هيكلة هذه الملحمة الأسطوريّة برؤى مختلفة تعكس الواقع المأساوي الذي يعانيه سكّان جنوب العراق اليوم، وعلاقتهم بتربية هذا الحيوان (الجاموس) الذي كان يرمز إلى قوّة السماء، والغضب الإلهي من جهة، وإلى القوّة الجسديّة، والذكورة، والخصوبة من جهة أخرى، ليجعله في نهاية العرض منقذًا من المأساة.

يُلوّح “رجل الجنوب” في بداية العرض بالتراب أمام الجاموس يشكو له، في مشهد تعبيريّ عميق دلالة على حالة من الحزن الكثيف ، وكأنّه يثير جملة من التساؤلات، من بينها:

هل ندع تراث حضارتنا يندثر؟ هل نترك سكّان هذه المنطقة وهم يعانون الجفاف والإهمال؟

تُجيب على هذه الأسئلة وحدة الصراع المتنامية أثناء تصاعد الأحداث في العرض، حيث ارتكز المخرج في رؤيته الإخراجيّة على عالم الكيروغراف، وطوّعه بما يتناسب مع سلوك الفرد الجنوبي، فابتعد عن القوالب الجاهزة لما هو معروف في المسرح الراقص عالميًّا، ليخضعه إلى منطق الرمزيّة، مستندًا إلى بيئة واقعيّة تنبض بجمال بصريّ.

 

وأثناء العرض، نرى أنّ حالة ولادة المشحوف الصغير – وهو يُولد ميتًا – بدت كحالة إجهاض رمزيّة. فيقوم الجاموس بإسعاف “جنين المشحوف” تارة، و”رجل الجنوب” تارة أخرى، كما يتكرر المشهد بطريقة أخرى حيث يقوم رجل الجنوب بإسعاف “رجل الجاموس”، وكأنّهما كائنان لا يستطيع أحدهما العيش دون الآخر، في علاقة تفاعليّة طرديّة تُجسّد طبيعة الارتباط بين الإنسان والحيوان، أو الإنسان والطبيعة.

 

بأسلوب ذكيّ، وظّف المخرج حالة النعي السومري، وعبّر عنها برقصة تعبيريّة تشبه في طبيعتها أجواء “الهوسة على الميّت” التي يُؤدّيها أهل الجنوب عند موت أحدهم أو مقتل عزيزٍ عليهم. وعندما تموت شخصيّة “رجل الجنوب” (قدّمها محمد كويش)، يُقدّم “رجل الجاموس” (أدّاه مؤمل حيدر) رقصة جنائزيّة سومريّة على رأسه، بحركة اتسمت بالتعبير الرمزي والدلالة الجسديّة.

 

لكن، من الملاحظ أنّ سرعة الحركة أثناء تصاعد الصراع بين الشخصيّات أثّرت على الإيقاع الحسيّ للعرض، خصوصًا في مشهد الصراع بين “رجل الجنوب” و”الرجل الغربي” الذي سرق القصب والآثار (قدّم شخصيّته فكرت حسين)، مع الممثلة غفران التي أدّت دور “المرأة  الغربية منقّبة الاثار” بإتقانٍ مميّز.

 

يركّز العرض على استغلال هذه الأرض وموروثها السومري، ويُعرّي الحقيقة المُزيّفة، كاشفًا دور الهيمنة العالميّة في استنزاف حضارة الجنوب وتغييب هويّته. فقد تعرّض الإرث السومري للتشويه أو الإهمال المتعمّد، سواء عبر طمس اللغة السومرية، أو استبدال الرموز الثقافية والدينية، أو نسب منجزاتها لحضارات لاحقة. وقد ساهمت الهيمنة الاستعمارية الحديثة، وما رافقها من قراءات استشراقية انتقائية، في استمرار هذا التهميش، مما أدّى إلى فقدان الوعي العام بثراء وأصالة الحضارة السومرية، وإضعاف ارتباط الشعوب المعاصرة بجذورها الحضارية العميقة.

إنّ فهم هذا المسار من الهيمنة لا يعني الانغلاق على الماضي أو الانجرار إلى خطاب قوموي، بل هو محاولة لاستعادة التوازن المعرفي والتاريخي، ولفتح أفق جديد نحو إعادة قراءة الحضارة السومرية بوصفها جزءًا أصيلًا من الهوية الحضارية لبلاد الرافدين، وشاهدًا على قدرة الإنسان على الإبداع والابتكار منذ آلاف السنين. وهذا ما حاول أن يؤكّده كويش، ليُطلق الصوت الرافض والمقاوم في هذا العرض لكل أشكال الهيمنة التي تحاول مصادرة هذه الهوية العريقة.

ومن جهة أخرى، رفدت الإضاءة العرض بحسٍّ جماليّ عالٍ، ساهم في تشكيل مشهد بصري ناضج، منسجم مع فكرة العمل، وذو تأثير درامي واضح (إضاءة: د. علي السوداني). كما لعب الديكور الذي صمّمه ضياء حمزة دورًا مهمًّا في تشكيل البيئة البصريّة للعرض، بنَفَس جمالي يوازي مضمون العرض وأجواء الأهوار.

 

وفي ختام العرض، نُفاجأ بثورة رمزيّة يقودها “رجل الجاموس” من أجل الحياة، وكأنّ الإلهة إنانا استجابت لإرادته، فهطل الماء من السماء بإرادة ربّانيّة، خارج منطق القوّة المهيمنة، ليثبت أنّ لهذه الأرض أثرًا خالدًا في تاريخ البشريّة، فهي أرض كَلكَامش، وأرض الكتابة الأولى، والملاحم التي علّمت الإنسان كيف يخلّد الفقد ويبحث عن الحياة.

 

 

 

 


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock