الأمين العام لاتحاد الصحفيين العرب سابقا سجاد الغازي يكتب: حسين السلمان ابن الناصرية العصامي

المسرح نيوز ـ القاهرة| وجوه مسرحية

ـ

بقلم سجاد الغازي

الأمين العام لاتحاد الصحفيين العرب سابقا

ـ

الإنسان ابن البيئة ، يتأثر بها ويؤثر فيها .. وهكذا كان حسين السلمان العصامي الأصيل ابن الناصرية ..فأية بيئة تأثر بها هذا المبدع ؟!

الناصرية في التاريخ

إنها الناصرية ..موطن أقدم الحضارات سومر (4500ق.م) التي شعت على البشرية بأنوار المعرفة بفنونه و وآدابها، بحروفها وآثارها ..أنها الناصرية ..منطلق أول ثورة أصلاحية عرفتها البشرية انطلقت من الناصرية عام(2351ق.م)عندما ثار شعب مملكة(لكش) على حكومته ونصب الثوار(أوركا جينا) من عامة الناس أميرا عليهم وقام بالإصلاحات التي تحتاجها المملكة .أنها الناصرية .. مهد أبو الأنبياء خليل الله إبراهيم (18500ــ 2314 ق.م) ومنها حمل رسالة السلام والإسلام إلى ربوع الأرض .أنها الناصرية .. التي حباها الله طبيعة قل نظيرها ، فهي تحتضن بحنو نهر الفرات بمياهه العذبة وقد جعله الله في كتابه الكريم وصفا  تقرت به كل المياه العذبة كماء فراتا ..وتستند في جنبها إلى بحيرات واهوار هادئة بجمال مناظرها في الشروق والغروب لتشكل لوحات جميلة بقصبها ومشاحيفها عبر البردي الذي ينسجون منه بيوتا ومضايف منحنية السقوف والمداخل وكأنها  أقواس النصر ..يسكنها ويؤمها أناس طيبون  أباة قانعين بما أتاهم الله من رزقه بالسمك الوفير الذي يملأ الأعماق .وكانت الناصرية في العهد العثماني تابعة لولاية البصرة ولكنها قبيل الحرب العالمية الأولى استقلت كقضاء تتبعه نجد وقطر.

قلعة النضال

وعند اندلاع ثورة العشرين في 30 حزيران1920 ضد المحتل الانكليزي شاركت عشائر الناصرية وثوارها مع ثوار الفرات الأوسط طلبا للاستقلال والتحرر. وبتأسيس الدولة العراقية عام 1921 أصبحت مدينة الناصرية مركزا للواء ( محافظة) المنتفك لتنجب العديد من ساسة العراق ومناضليه يتقدمهم الراحل عبد المحسن السعدون وكانت عائلته قد أسست أمارة لها في الناصرية وقد ساهم  في بناء الدولة العراقية إلى جانب الملك المؤسس المغفور له فيصل الأول من خلال أربع وزارات كلفه الملك  بتشكيلها حتى أنهى حياته بالانتحار مودعا ولده علي بوصيته المشهورة التي قال فيها ( الشعب يريد والانكليز لا يوافقون ). وشعبيا كانت الناصرية مسكنا لإقامة المناضل يوسف سلمان يوسف الملقب ( فهد) الذي جمع الحلقات الماركسية في ألوية (محافظات) شتى ليؤسس منها الحزب الشيوعي العراقي عام 1935 ليكون طليعة النضال الوطني.

مصنع الإبداع

وإلى جانب العديد من السياسيين والمناضلين كان هنالك العديد من المبدعين من الأدباء والشعراء والفنانين منهم الشاعر عبد القادر رشيد الناصري الذي عرفته صحف بغداد في هجرته إليها من الناصرية في الأربعينات والخمسينات , ورغم ذلك استمر البؤس يلاحقه بعد فشله في باريس. كما عرفت بغداد الشاعر والكاتب قيس لفته مراد الذي بدا بنشر أشعاره في جريدة والده ( المنتفك ) قبل أن يهاجر إلى بغداد في الستينات . كما أنجبت الناصرية الروائي عبد الرحمن الربيعي الذي قصد هو الأخر العاصمة الصاعدة بغداد ليدخل معهد الفنون الجميلة  ويمارس كتابة ونشر الروايات في الستينات التي اخذ بعضها طريقه إلى السينما ، وبعد أن هاجر إلى تونس كانت شهرته قد سبقته عربيا ليمسي في عداد الروائيين العرب المشهورين ، ومثله القاص والروائي فهد الأسدي الذي أخذت  العديد من رواياته طريقها إلى السينما في الألفية الثالثة وترجمت  بعضها للغات أوروبية . ويذكر لنا تاريخ الناصرية في الإبداع  اسم حضيري أبو عزيز الذي هاجر إلى بغداد , واخذ يغزو بأغانيه الريفية إذاعة بغداد التي كانت تحرص على أن تشنف أسماع المواطنين صباح كل جمعة من الأربعينات بصوته العذب وأغانيه الريفية التي حببها إلى الجمهور ، والتي أخذت طريقها إلى السينما في فيلم أنتج في مصر وتولى المطرب داخل حسن رفع لواء الأغنية الريفية في النصف الثاني من القرن العشرين وحتى الألفية الثالثة .

وفي الستينات توجه المعلم طالبي القره غولي إلى الغناء الحديث والتلحين وظل يثابر على القدوم إلى بغداد لعرض أغنيه وألحانه ، حتى تمكن في النصف الثاني من الستينات من أن تسود أغانيه وألحانه الساحة. وفي السبعينات وما بعدها أخذت هذه الأغاني والألحان طريقها إلى الوطن العربي وكانت مرحلة  تحديث للفن الغنائي العراقي وهو يمزج اللحن العراقي بأسلوب المدرسة الوهابية ( محمود عبد الوهاب ) التي تأثر بها .واشتهر بهذا الأسلوب واللون  العديد من المغنين ومن المبدعين الذي أنجبتهم الناصرية مصنع الإبداع المطرب حسين نعمة الذي برز في السبعينات في برنامج تلفزيوني للهواة ـ وبدا يأخذ مكانه الفني في الطليعة لعدة عقود قبل أن يدفعه الحنين مع دخوله الألفية الثالثة للعودة إلى مرابع الصبا التي احتضنته في الناصرية الرؤوم .

ابن الناصرية العصامي

ومع بدا النصف الثاني للقرن العشرين أنجبت الناصرية في عام 1950 حسين السلمان في احد أحيائها الفقيرة التي تميزت بكونها مأوى للماركسيين من أبناء الناصرية المناضلين . وهكذا نشأ حسين السلمان وترعرع في بيئة ضمت المناضلين والمبدعين . وتوجه الشاب العصامي في طموحه وتطلعه إلى الفن الذي ملكت هوايته كل كيانه ، وانطلق في رحابه بخطوات جريئة يسبق بها عمره ليدخل معهد الفنون الجميلة وهو في عمر سبعة عشر عاما معتمدا على موهبته وهواياته وتجربة متواضعة في المشاركة بفعاليات الفرق الفنية في بلدته إضافة إلى كتاباته للقصص القصيرة . وفي عام 1968 عندما كنت سكرتيرا لتحرير جريدة الجمهورية كنت أمارس ، إلى جانب عملي ، هوايتي وحبي للفن الذي سبق انخراطي في العمل الصحفي ، وذلك عن طريق تحرير صفحة فنية أسبوعية في كل جريدة أعمل فيها ، إضافة إلى تنظيم صفحة المنوعات الأخيرة بما تيسر من أخبار وملاحظات فنية بشكل يومي ، هذا إلى جانب البرنامج الفني الإذاعي ( صوت الفن ) كمجلة هوائية أسبوعية الذي كنت أعده وأقدمه والذي استمر على مدى ست عشر عاما متصلة .

أعماله الفنية

ومن خلال رصدي للأعمال الفنية المقدمة لفت نظري وأثار إعجابي تمثيلية بعنوان الكرافة . فكتبت باسمي كلمة إشادة بالتمثيلية وكانت من تأليف وتمثل حسين السلمان . وفي احد أيام هذا العام دخل علي في مكتبي بالجريدة شاب صغير في السن لم يتجاوز عمره في تقديري السابعة عشرة من العمر وسلمني رسالة توصية به من الصديق الراحل الأديب مهدي السماوي وعلمت من خلالها  أن حاملها هو نفسه حسين السلمان مؤلف وممثل تمثيلية الكرافة الذي امتدحته في كتاباتي وقلت له : بالنسبة لعمرك لا اصدق انك مؤلف وممثل تمثيلية الكرافة . فأجاب قائلا وأزيدك علما أني طالب في معهد الفنون الجميلة ، فرحبت به وقلت له انك لا تحتاج إلى توصية  فان موهبتك كافية وكفيلة للتعرف عليك ودعمك وستكون الصفحة الفنية الأسبوعية في جريدة الجمهورية مفتوحة لأخبارك وكتاباتك أن شئت . وهكذا كانت البداية وأصبح حسين السلمان قلما في جميع الصفحات الفنية التي أصدرتها وحلقات البرنامج الإذاعي الذي كنت أعدة وأقدمه . وفي أمسية احد أيام عام 1975 جاءني حسين السلمان قائلا انك الأخ الذي رعاني فنيا ولا يمكن أن أكتمك سرا فقد جئتك مودعا للسفر غدا لظروف سياسية إلى الجزائر . مع الحزن دعوت الله أن يحفظه ويوفقه في رحلة المجهول وواصلت المحاولات لمتابعة أخباره كلما تيسر لي ذلك وعلمت فيما بعد أنه توجه إلى الدول الاشتراكية في أوروبا واستقر في بلغاريا مشاركا في الأنشطة الفنية في الإذاعة والمسرح والسينما مع مواصلة دراسته العليا حيث نال شهادة الماجستير في الإخراج السينمائي والتلفزيوني عام 1985 وعند عودنه إلى العراق التحق بمعهد الفنون الجميلة ــ قسم السينما . وعندما كنت أوصي الأخ العزيز الراحل جعفر علي رئيس القسم  خير به ، كان يطمئنني بأنه لا يحتاج التوصية به لان كفاءته وحبه لاختصاصه كفيلان بالتوفيق في عمله .

الخلق أولا

إن ما يميز حسين السلمان الفنان المبدع المتفوق هو خلقه العالي وأصالته والتزامه الأخلاقي والمهني والوطني ، ويتقدم هذه الخصال الوفاء الذي يطبع سلوك حسين في حياته العامة  والخاصة . وفي شهر نيسان  من عام 2009 دعاني لحضور الملتقى السينمائي الثامن للشباب المتخرجين من قسم السينما في معهد الفنون الجميلة ,وفرحت فعلا بهذه المناسبة ، ولكن فوجئت بتعامله معي كضيف شرف وأكثر من ذلك تحولت المناسبة إلى احتفالية بتكريمي ، وقدمني أخي حسين بكلمة كريمة وتفضل المشرف العام على الملتقي ومدير الملتقى بمنحي شهادة متضمنة ( التقدير بجهدي المتميز في المجال السينمائي ، وعبرت بكلمتي التي ألقيتها عن شكري لهذا التقدير واعتزازي بهذه الشهادة التي تصدر عن جهة رسمية وأكثر ما أفرحني فيها مخاطبتي بكلمة الفنان . وحمدت الله على هذا الفضل والاعتراف بكوني فنانا بعد ستين عاما من خدمتي للحركة الفنية منذ الأربعينات وتشجيع ودعم العاملين فيها .وتحظى هذه الشهادة باعتزاز خاص ضمن أربع شهادات تستأثر بهذه المكانة من بين 25 شهادة عراقية وعربية وعالمية صادرة من مؤسسات ومعاهد ونقابات متنوعة ، أما الشهادات الأربع التي إعتز فهي شهادة منظمة الصحفيين العالمية بمنحي وسام الشرف الصحفي العالمي وشهادة اتحاد الصحفيين العرب في الذكرى الخمسين لدعوتي لتأسيس الاتحاد منذ عام 1961 وشهادة المجلس الأعلى للجمعيات العلمية وتضمنت (لجهوده المعرفية واعتزازا باختياره ضمن موسوعة علماء العراق ومبدعيه ) وشهادة مؤسسة الزمان الدولية بمناسبة اليوم العالمي لحرية الأعلام وتضمنت ( الإشادة بجهوده في الدفاع عن حرية الأعلام وحقوق الإنسان ) .

الطريق إلى النجاح

بعد كل هذا الذي ذكرناه يتبادر إلى الأذهان كيف تحقق هذا النجاح لحسين السلمان ، وما هي حصيلته ؟ والجواب بسيط .وقد تضمنه ما ذكرناه من سيرة الأخ المبدع حسين السلمان وهي أن يكون للإنسان هدف خير ينطلق إليه بإيمان ومثابرة مع التسلح بالعلم والالتزام الأخلاقي . هذا هو ثالوث النجاح في كل عمل .أما حصيلة هذا النجاح ، بل العطاء الذي سبق به حسين السلمان من سبقه من المبدعين الذين سبق ذكرهم فتنطق به الأرقام االتالية :

ــ قدم علم 1968 اول عمل تلفزيوني له ( الكرافة ) تأليفا وتمثيلا وحاز النجاح والاعجاب وهو العمل الذي كتبت عنه في جريدة الجمهورية .

ــ 25 كتابا مؤلف  في شتى فنون السينما والمسرح وطبع بعضها في مصر مؤخرا

ــ إخراج وتأليف أفلام سينمائية روائية ووثائقية . أنتجت في بلغاريا والعراق ونالت بعضها جوائز في مهرجانات محلية وعربية ودولية  .

ــ العديد من المسرحيات قدمتها لعض الفرق على خشبة المسرح وفي التلفزيون

ــ تمثيله في عشرات المسرحيات والأفلام  السينمائية  والتمثيليات الإذاعية و التلفزيونية في الناصرية وبغداد وبلغاريا

ــ حصوله على العديد من الجوائز في مهرجانات سينمائية ومسرحية  دولية وعربية وعراقية حازت فيها نتاجاته على تقدير لجان الإشراف والتحكيم في هذه المهرجانات

ــ يتمتع بعضوية عشرات المنظمات والمؤسسات والجان الفنية والثقافية

المبدع القدوة

وأخيرا كل الحب والتقدير لحسين السلمان هذا الفنان المبدع القدوة الذي شق طريقه الوعر اعتمادا على موهبته وإيمانه وسعيه ومثابرته ..فكان نموذج الفنان القدوة الذي تفخر به الحركة الفنية وتفخر به مدينته مصنع الإبداع وقلعة النضال، كما تعتز به بلاده وأمته والإنسانية .