الباحث المسرحي المغربي الحسين الرحاوي يكتب: مراجعة كتاب المسرح التونسي.. مسارات حداثة للتونسي د. عبد الحليم مسعودي.. بين التأسيس والتَّسْييس
المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات
ـ
إعداد: الحسين الرحاوي
أستاذ باحث مغربي
يُعيد الباحث التونسي عبد الحليم مسعودي من خلال كتابه المسرح التونسي.. مسارات حداثة الصادر عن الهيئة العربية للمسرح سنة 2018م، الاشتغال والنبش في منطقة الجذب التي أسالت وتسيل مداد الكثير من الباحثين من المحيط إلى الخليج؛ جاء كتابه في طبعة جميلة أنيقة متضمنا مقدمة وثمانية أبواب ثم خاتمة، يقع الكتاب في 194صفحة من الحجم المتوسط.
يتأكد للقارئ منذ الوهلة الأولى منسوب النفس الاحتجاجي/السياسي الذي يطفح به الكتاب؛ هذا النفس/الاختيار جاء متساوقا وطبيعة النظرة التي يتبناها الكاتب، فعنده أي تنقيب أو تأريخ للمسرح يبقى منقوصا مادام لا يضع المعطى السياسي نصب عينيه، للكشف عن أرخبيلات التناقض؛ ومن ثم فالباحث ينتصر للقراءة التي تكافئ بين الموضوعية المعرفية والتاريخية. معتبرا أن المدخل السياسي مدخل مهم لدراسة التاريخ المسرحي التونسي؛ فما دام هذا المسرح خاضع طوعا/قسرا للتقاليد الفرجوية الأوروبية الغير حيادية إطلاق كما يراها الدكتور خالد أمين؛ كونها مسنودة بسلطة تدعم خطابا واسعا ومحبوكا للنزعة الاستعمارية… وأنها مارست الاحتواء المادي لأراضي وممتلكات وثقافات وتاريخ شعوب أخرى، فضلا عن هوياتها. مثلا، شكلت تبعية السياسي للفني استراتيجية أساسية لهذا الخطاب.[i]” واعتبارا لكون تونس كانت فيما مضى مستعمرة فرنسية شأنها في ذلك شأن مجموعة من الدول العربية؛ فإن الفرجة التونسية قد وقعت في شرنقة الانصياع لسيرورة الاحتواء؛ سواء من جانب تلك التقاليد أو من قبل (الدولة الوصية/المؤسسة البيروقراطية) التي تحكمت في الاختيارات الكبرى، وفرضت الإبقاء على المسرح كنشاط “موسمي” يفتقد إلى أهم سمة تميزه وهي حرارة التفاعل؛ وقد وقف الباحث كثيرا عن ارتباطات المسرح بالمجتمع، مؤكدا في خاتمة الكتاب أن تحجج الدولة بالجمهور ما هو إلا خدعة باطلة.
فمشروع الباحث كما حدده في مقدمة الكتاب المركزة؛ يقضي أولا باعتبار أن تاريخ المسرح التونسي هو تاريخ مسارات. مؤكدا على أن جوهر حداثته تتلخص في ذلك التعدد في المسارب والرؤى وعدم الانصياع للنموذج الواحد المهيمن/الرسمي.
إضافة إلى أن الباحث قد نأى بنفسه عن اعتماد مفهوم الحداثة بحمولته الثورية المعروفة القائمة على التمرد على شيء من أجل إقرار البديل عنه؛ بعيدا عن الهزات التي أحدثتها -كما أشار إلى ذلك كل من مالكم برادبوري وجيمس ماكفرلن: في كتابهما الحداثة-في التاريخ الأوربي قاطبة، في السياسة والقيم الاجتماعية، وكذلك الآداب والفن. لم يخض الباحث في الجدل المثار حولها، وإنما أبقى على الحداثة في سياقها التونسي فقط. مترصدا تجلياتها بدءاً من خطاب بورقيبة الشهير حول المسرح حتى بيان عز الدين المدني.
1-بداية ثورية
أمام تحول المسرح إلى صناعة تخضع لرقابة الدولة، بعدما تنبهت إلى الدور المهم الذي ينهض به داخل المجتمع، بما في ذلك تثقيف الجماهير، وطرح خفايا الإنسان المقهور وبؤس عالمه في قوالب درامية… في سياق مرحلة الستينيات، هذا السياق المحموم، يقلب الباحث أوجه بيان خطاب 30 أكتوبر1966م مترصدا خلفياته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، والذي جاء كرد على الخطاب البورقيبي سنة1962م الذي لخص دور المسرح في الجانب التربوي، والهادف في مجمله إلى تنميط الفكر؛ كإجراء لرأب الصدع الذي أخذ في التمدد.
انشغل الباحث في الباب الأول بتفكيك البيان الاحتجاجي -بمنطق بانورامي شمولي-الذي خرج من رحم الجامعة من توقيع شباب حالم منذورين لترسيخ ممارسة مسرحية جادة/جديدة بعيدة عن التونسة، وعن الطروحات السطحية ذات النزوع الترفيهي، ملحين على إعادة ما هو اجتماعي إلى قلب ما هو مسرحي(احتضان انشغالات وآمال وتطلعات الجماهير)؛ مؤكدين بذلك الحقيقة التي تشترك فيها جميع المسارح العربية وهي أن المسرح العربي كان منذ بدايته [مسرحا سياسيا].
ولعل تشكل هذا الوعي السياسي راجع إلى تمكن مجموعة من الشباب من الاطلاع على آخر الأطروحات الرائجة في الساحة المسرحية الغربية، خصوصا في فترة القرن التاسع عشر التي أعلنت الثورة على التقاليد والمسلمات منذ مسرحية أبو ملكا لألفريد جاري، وما استتبع ذلك من تأثر الشباب بهذه الأفكار البراقة حينذاك، لم يقف هذا التأثر عند ما هو مسرحي فقط، بل تجاوز الأمر ذلك إلى ما هو مرتبط بآخر المستجدات السياسية العالمية، من خلال اعتناقهم لأطاريح الماركسية التروتسكية التي عرفت شيوعا في تلك الفترة آخذين بذلك نصيحة الروسي ليون تروتسكي [أن تحيا يعني أن تناضل]. فهذا المسرح الذي انطلق فعليا سنة 1961م على تعدد تسمياته المسرح الجامعي/الهاوي لا يسير دوما وفق هوى السلطة وإنما هو مسرح مربك/منفلت باستمرار، الشيء الذي عرضهم لمضايقات جمة لعل أبرزها كما أشار الباحث راجع إلى طبيعة السياسة الليبرالية التي انتهجتها الدولة، والتي خلفت سخطا واحتقانا في أوساط الفلاحيين، وما تلا ذلك من اعتماد الدولة لنظام الحزب الواحد سنة 1963م الذي عمل على وأد كل معارضة ممكنة؛ هكذا سيخفت نجم الطلبة ذوي النزوعات الإيديولوجة اليسارية الثورية بعد هيمنة الطلبة الدستوريين على اتحاد الطلبة، علاوة على محاكمات صورية بتهمة التآمر ضد الدولة.
برع الباحث في مقاربة بيان الحادي عشر، من مداخل وخلفيات عدة، سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، وثقافيا، خلفيات محكومة في مجملها بالمد الطليعي المعتمد على شعريات فرجوية بعيدة عما كان سائدا، وهذا بادٍ من خلال بنوده العشرة التي شددت على الحاجة الاجتماعية تحقيقا للانتظارات والتطلعات، ومن ذلك على سبيل المثال: الدعوة للقطع مع الأعمال المبتذلة التي تروج للمسموم وتخدم جهات محددة، القطع مع ثقافة النجومية في المسرح…
فمرحلة الستينيات إذن، شهدت ميلاد تجربة المسرح الجامعي، ثم الفرق المسرحية القارة، توقف الباحث عند تجربة المنصف السويسي مع فرقة مدينة الكاف للمسرح، وفرقة مدينة قفصة بالجنوب التونسي، وذلك في إطار سياسية اللامركزية التي نهجتها المؤسسة الرسمية. على اعتبار أن السويسي كان من بين أولئك الموقعين على البيان، مما جعل الباحث يتعرض لهذه التجربة لتبين معالمها الفكرية والجمالية التي وسمت منجزها، وقد اعتبر الباحث أن المنصف السويسي أنه لم يتمكن من النفاذ لجوهر البريشتية في اختياراته الإخراجية، الشيء الذي جعله منتسبا في أحيان كثيرة للمنتسبين إلى البريشتية كأستاذه جان فيلار مثلا. أما عن فرقة الجنوب بقفصة ذات الاختيارات الدراماتورجية، فقد جسدت التصادم الجلي بين المسرح الشعبي والمسرح الرسمي.
2-مفارقات ومسارات
وضع الباحث بداية تشكل الفرق المسرحية في سياقات مختلفة/متباينة، أهمها السياق السياسي الذي شكل مصدر إلهام للمسرحيين على الدوام. حيث استمرار خطاب الوصاية الذي أثث المشهد الثقافي برمته وتلونت به نبرة المؤسسة الرسمية، منذ الستينيات حتى الثمانينيات، بغرض –كما يشير منصف وناس-“احتواء كل التعبيرات الثقافية في هياكل وأطر رسمية، في إطار مقولات ثلاث رئيسية: الرقي والتونسة والوحدة الوطنية”(ص). فمسألة الاحتواء هاته ليست البتة نهجا تكتيكيا خاصا بالمؤسسة الرسمية فقط، فكما أورد الباحث في الفصل الرابع، إذ يقول: “… فإن المسرح التونسي منذ أواخر الستينيات لك يكن بمعزل عن هذه التأثيرات الفكرية والجمالية بحكم أن الثقافة الفرنسية في توجهها الحداثي سواء من منظور السلطة السياسية الحاكمة أو من منظار نخبها الفكرية أو الثقافية ما انفكت تنظر للثقافة الغربية –وهي ثقافة المستعمِر المتفوق-نظرة النموذج الذي يحتذى والمثال المتميز الذي يوفر الأجوبة حول مسائل التخلف والتراجع في الثقافة المحلية”(ص126). أي تشبه المغلوب بالغالب(بلغة ابن خلدون) أو ارتداء المستعمَر قناع المستعمِر(بلغة فراز فانون).
فإذا كانت حصيلة الإنتاج المسرحي نهاية الستينيات تتقاسمها تجربتان أساسيتان: تجربة الفرقة البلدية مع علي بن عياد/ تجربة الفرقة الجهوية القارة بالكاف. فإن المشهد المسرحي التونسي خلال مرحلة السبعينات والثمانينات سيعرف تحولات عميقة جذرية، لكن عوالم الانحسار ستظل مطروحة، من ذلك مثلا: غياب الوضعية قانونية وكذا النصوص التشريعية التي ترسخ المسرح كفعل وكممارسة مؤسساتية، أضف إلى ذلك أزمة الجمهور(وهي أزمة مفتعلة كما سنرى) مع غياب تام لاستراتيجية ناجعة للتوزيع.(مشاكل أشار إليها تحت مبحث أزمة المسرح عتبات التقييم في الفصل الثالث).
3-البديل الممكن
يشير الباحث في الفصل الثالث إلى ظهور بدائل مسرحية في المشهد الفرجوي التونسي؛ بدائل تراوحت كما حددها بين البديل العفوي/البديل الحر… يقول متحدثا عن ظهور فرقة المغرب العربي -التي سيتتبع منجزها في الباب السادس-: “إن ظهور “فرقة المغرب العربي” للمسرح كفرقة شبه محترفة وشبه هاوية في بداية السبعينيات 1973م وتواصل أعمالها إلى منتصف الثمانينيات، قد قدمت نفسها كبديل ممكن للممارسة المسرحية في تونس ضمن مسرح رسمي له متمماته وأطره”
وفي خط موازٍ، وفي الفترة نفسها، ظهرت تجربة أخرى أخذت في التشكل والتبلور، شكلت بديلا طبع مرحلة المنتصف الثاني من السبعينيات والثمانينيات، هذا البديل الذي وصفه محمود الماجري ب”التاجر” هذا الخيار بحسب الباحث لا يخلو من سلبيات ومخاطر.
وبالرغم من استمرار تأسيس الفرق المسرحية وتناسلها المستمر، في إطار سياسة اللامركزية التي انتهجتها الدولة، فإنها بقيت في خطاباتها وثيقة الصلة ب(النظام) وخطابه الرسمي بعيدا عن الهموم الحقيقية التي أتخن بها المجتمع، هذه الصلة ظلت ممتدة حتى مع ظهور التيار التأصيلي الذي ترصده الباحث في البحث الخامس تحت عنوان عريض: مسرح التراث محاكاة الأيديولوجيا المهيمنة، الذي تزعمه عز الدين المديني زعيم حركة الطليعة الأدبية.
غير أن التوق لتأسيس مسرح شعبي ظل قائما، إذ كان الباب السادس وهو الباب الأخير الذي اشتغل فيه الباحث على رصد وتتبع المنجز المسرحي لفرقة المغرب العربي، من حيث البدائل التي طرحتها، أو من حيث اختياراتها الدراماتورجية على مستوى الكتابة أو الإخراج…
4-خاتمة/تأكيد
ليخلص الباحث، في خاتمة مقتضبة، تجمع ما تفرق في تلك المسارات التي طبعت المشهد المسرحي التونسي، مدينا بقوة ممارسة تحجج الدولة فيما يخص الجمهور؛ معتبرا في الآن ذاته أن فرقة المغرب العربي، التي نشأت نشأة عفوية واستطاعت أن تضمن لنفسها قاعدة جماهيرية عريضة، دليل كاف يفند فرضية تحجج الدولة بأن الأزمة أزمة جمهور. حجة باطلة/مردودة.
وعلى هذا الأساس، أكد الباحث أن مشروع بناء مسرح شعبي، ممكن، لكن شريطة أن ينبع عن إرادة، أي أن يدخل في إطار مشروع ثقافي يقوم بتلك الوظيفة الاجتماعية التي نادى بها بيان الأحد عشر، وهو مشروع عند الباحث لا يمكن بناؤه إلا من خلال الدولة… تأكيدا لكون المسرح مؤسسة مؤسساتية.
قبل ختم هذه القراءة المتواضعة؛ نرى من المناسب الإشارة إلى مسرحية [مرض الزهايمر]للتونسية مريم بوسالمي؛ كما أوردها الناقد المغربي حسن المنيعي في سياق حضوره لفعاليات الدورة الرابعة لمهرجان المسرح العربي الذي نظمته الهيئة العربية للمسرح ،(يناير2012) بعمان.
يقول الناقد متحدثا عن المسرحية: استمدت المخرجة/الكاتبة موضوع عملها من مرض جدتها التي كانت لا تستطيع التعرف على أي فرد من العائلة بعد أن داهمها الزهايمر. إلا أن المسرحية لا ترصد هذه الحالة العائلية، وإنما تُحوّلُ موضوعة المرض إلى فرجة شيقة تعرض أحداثها شخصيتان: الأب المحامي الذي انهارت ذاكرته إلى حد أنه فقد مفهوم الزمان والمكان، ولم يعد يتذكر أي شيء، ثم الابن الذي يتكفل به.
يعتبر الباحث أن المسرحية تصور صراعا بين جيلين لكل واحد منهما نظرته الخاصة عن العالم والحياة اليومية. متنبها إلى عشق الابن وولعه بالشعر وحلمه بعوالمه المشرقة. ومن المفارقة فإنه الابن يحاول أن ينصهر في ذات والده ليساعده على التذكر، ولكي لا يصاب هو أيضا بمرضه. اختلت العلاقة بينهما، ليتجمد في هذا الإطار كل شيء بما في ذلك الكلمات. ليفضي هذا التذبذب إلى قتل الابن أباه في النهاية.
معتبرا أن المسرحية ذات حمولة فكرية باذخة، مشيرا إلى كون علاقة الابن بأبيه تلك العلاقة المتذبذبة بين الحب والكراهية ماهي إلا إشارة إلى موقف الشباب التونسي من النظام الشمولي القمعي الذي قوض أحلامهم، حيث يعتبر الأب رمزا للسلطة (النظام)، بينما يرمز الابن إلى المثقف المهمش الذي يستعرض شريط أوضاع فاسدة ستجعل حدا لها حركة الربيع فبتونس.[ii]
فالتباس السياسي بالمسرحي متشعب جدا، من منطلق أن تونس كانت مهدا للربيع العربي، ومن منطلق كذلك أن من هذه الزاوية شرع الدكتور عبد الحليم مسعودي في رسم ملامح، وارتسامات تاريخ المسرح التونسي. فحلم تأسيس مسرح شعبي سيظل ممكنا شريطة أن تكون الدولة طرفا في رسم ملامحه، انتصارا لأطروحة كون المسرح ضرورة ملحة في الحياة، لكن سيصبح ضروريا بالفعل بدل التوق، عندما يحتضن قضايا الجماهير، ويتبنى مشاكلهم… ليستشعر المواطن أن المسرح فعلا هو أداة من الأدوات التي تواجه الظلم والقمع وفقدان الأمان، هذا المشروع لن يتم إلا في مجتمع يؤمن بالديموقراطية، اعتبارا لكون المسرح هو فن ديموقراطي في نهاية المطاف.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
إحالات
[i] – د.خالد أمين: الفن المسرحي وأسطورة الأصل، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية/جامعة عبد المالك السعدي-تطوان،2002، ص41
[ii] -د. حسن المنيعي: حركية الفرجة في المسرح:الواقع والتطلعات. منشوراتالموركز الدولي لدراسات الفرجة-سلسلة رقم26،2014، ص34.