د. لعزيز محمد.. وقراءة أولية في مسرحية “لوزيعة” للحسين الشعبي.. حين ينتصر المسرح للبسطاء من الناس.. وللسياسة
المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات
ـ
د. لعزيز محمد
لوزيعة
على الرغم من أن الكاتب المسرحي الحسين الشعبي يعد من الكتاب المسرحيين المغاربة المقلين في نشر إنتاجاتهم الدرامية، بحيث إنه لم ينشر غير مسرحية واحدة هي مسرحية “الساروت”[1]، وأن مسرحيته الثانية “لوزيعة”[2] لم تبرح المطبعة لحد كتابة هذه السطور،
وأما الباقي ومنها مسرحية “الجنرال حمو” فلا تزال حبيسة أدراج مكتبته الخاصة، ومع ذلك فإن هاتين المسرحيتين تعطيان المتتبع نظرة عن توجهه المسرحي، ويسمحان لنا بالقول إن الحسين الشعبي واحد من الكتاب الدراميين المغاربة الذين يخطون لأنفسهم مسارا خاصا..
فإذا كانت مسرحية “الساروت” قد عانقت سنوات الرصاص والجمر والمآسي التي تخلقت أثناءها وبعدها، فإن المسرحية الثانية “لوزيعة” قد نحت هي الأخرى المنحى ذاته تقريبا بانتصارها للمقهورين والضعفاء ضد الظلم والجشع والقواد والشيوخ وأذنابهم.
فعلى امتداد ثمانية مشاهد يحتضن فضاء إحدى القرى المغربية الهامشية (الفيلاج) أحداثا تتمحور حول إرسال جهات خارجية أطنانا من السماد / لانكري كإعانة للفلاحين بهذه القرية، وتصور المسرحية أشكالا من الفساد الإداري وجشع الطفيليات السياسية التي تمارس أنماطا من التحايل ومن المراوغات للظفر بالنصيب الأوفر من السماد من داخل عملية تقسيم تلك المساعدة الخارجية على أهل (الفيلاج)،
كشف الواقع
وما يتخلق عن هذه العملية من صراعات بين القائمين على التوزيع والمستفيدين المفترضين منه، رغم أن التعاونية الفلاحية لم تتوصل بالإعانة بعد، وربما لا تزال مشروعا ورقيا أو دعايات وشائعات لا تمت إلى الحقيقة بصلة، إلا أنها فضحت رؤى كل واحد من المنخرطين في اللعبة المسرحية والتي تجري أطوارها بين ساحة القرية ومكتب رئيس التعاونية الفلاحية ومكتب رئيس التدخلات السريعة بوزارة الإصلاح الزراعي.
فبين هذه الفضاءات المشهدية الثلاث وزع الكاتب مواقف وأوضاعا وحالات إنسانية، حاولت اللغة الدرامية تقديمها بنوع من الدقة، تنم عن وعي الكاتب بهدفه منها حين كان يوجه حديثه إلى كل من السينوغراف والمخرج مقترحا كيفية تنظيم أشيائها وأكسسواراتها وكيفية تمثلها والترميز لها،
ومما يقترح من أثاث للمكتب الإداري للتعاونية: مقاعد خشبية متهالكة، وصينية شاي، ولجام حصان أو منجل، وقطع حديدية مختلفة الأشكال، وسلالم صغيرة، وأكياس، وصناديق، وعلب تبن، وعجلات جرار وحبال وعربة وأدوات فلاحة.. وبخصوص مكتب التدخلات السريعة بوزارة الإصلاح الزراعي فيختار له شكلا غريبا كأن يكون ثلاثي الأضلاع مثلا، ومؤثثاته الإدارية موضوعة بشكل غريب أيضا، بينما لا تضم ساحة القرية غير شجرة يابسة وبعض الأعواد والأخشاب والأحجار،
المؤلف وتوجهه الإخراجي
وإلى جانب هذه المؤثثات كما تقدمها الإرشادات المسرحية يفرض المؤلف توجهه الإخراجي، حيث تظهر توجيهاته منذ البداية للمخرج لطريقة التشخيص والتموضع على الخشبة، حيث تنطلق المسرحية بـ “المقدم احميدة” “من داخل القاعة وسط الجمهور بعد أن يستوي المتفرجون في أماكنهم متجها نحو الخشبة”،
إلى جانب إرشادات أخرى تقدم أوضاع الممثلين وترسم تحركاتهم، وتحدد إيقاع حركاتهم، أكثر من ذلك إنها ترسم كيفية النطق ونوعية اللغة المستعملة وطريقة نطقها، بل إنها تقدم نوايا الشخصيات ورؤاها ورأيها عما يدور في محيطها، كل ذلك من أجل تقديم رؤى مشهدية متكاملة انطلاقا من منطوق النص، ونحن نعتقد أن كل هذا التحكم في الجزئيات تقف وراءه رغبة الكاتب في تقديم قراءة دراماتورجية أولى لعمله تتماشى وطروحاته الفكرية كما سنرى بعد قليل.
ملامح في النص
ولعل أهم ملمح يطفو على سطح القراءة الأولية لنص “لوزيعة” هو هذا الركام من الشخصيات التي تتوزع بين طبقتين أو فئتين يمثل فيها: “الحاج العديمة” الثري المستبد، و”الرايس حمان” رئيس التعاونية الفلاحية، و”الشيخ فرواضو” (شيخ الفيلاج)، و”المقدم احميدة” (مقدم الفيلاج) ورئيس مكتب التدخلات السريعة بوزارة الإصلاح الزراعي وحاجبه والسكرتيرة الخاصة لمكتبه، كل هؤلاء يمثلون سلطات إدارية ومالية وقانوينة، مقابل فئة ثانية تتكون من ستة فلاحين يتقدمهم “المختار” وزوجته “أم العيد”، و”الطاهر” وطيف زوجته التي لا تحضر إلا كذكرى،
وقد ورد على لسان “أم العيد” سبب غيابها: “لا أسي الطاهر مات هربش من الحقيقة، مراتك فاطنة ماتت مسكينة بالغبينة والفقصة، قتلها الظلم والتعدو، ما صبراتش تعيش مذلولة”.. وإلى جانب فاطنة الذكرى تحضر خمس شخصيات دون ملامح محددة في المشهد السابع في واقع عجائبي وفنتازي شكلت تدخلاتهم أحلاما مجهضة وأماني معلقة على هذه القسمة..
يقول الشخص 1 مخاطبا لوزيعة: “يمتى تطلي علينا وترحمينا ملي تجي يا حبيبتي يا لوزيعة غادي نشري بقرة وثور وغنتزوج بنت عمي كبور…”؛ ويقول الشخص 2: “بغيت نولي بخير.. هنا غادي نحفر بير يولي الماء غير مشرشر والفيلاج مضوي.. وهنا غادي نبني دار.. ماشي بحال هاذ الخربة لي عايشين فيها حنا طناش…” ويقول الشخص 3: “.. يمتى نحل عيني شي نهار ونلقى راسي جالس على كرسي من البونج..”؛
لغة الهجين
وهكذا دواليك أحلام صغيرة وأماني معلقة على حضور لوزيعة التي تحولت إلى حلم وخلاص من واقع يتحكم فيه ويسيطر عليه “كروش لحرام..” كما جاء على لسان “أم العيد” زوجة الفلاح “المختار”.
وبغض النظر عما تحمله تسميات هذه الشخصيات من دلالة فاضحة لنوعية فكرها وتفكيرها، فإن ما يجمع بين كل هذه الشخصيات هو لغتها الهجينة في مجملها، غير أن الفارق بين لغة الفئتين هو تميز لغة الفئة الأولى بالتنطع والادعائية كما هو شأن كلام رئيس التعاونية الذي يتظاهر بالمعقولية والرزانة: “الله يخليكم جميع الفلاحين ديال التعاونية ما يغيبو على الفيلاج حتى يتسلمو حقهم من لانكري”
وهو الخطاب الذي يخرجه للعلن “المقدم حميدة” حين يصيح بين أهل القرية: “أسيادنا أحبابنا أعباد الله ما تسمعو غير كلام الخير، قاليكم الشيخ قاليه القايد قاليه الحاج العديمة باش نقول ليكم أنا…” لتظهر هذه اللغة أولا تحكم هذه الفئة في الفئة الثانية من جهة، وتظهر من جهة ثانية تراتبيتها الذاتية وتحكم أفرادها بعضهم في البعض الآخر، والتي تسير بشكل تصاعدي من “المقدم احميدة” وصولا إلى البرلماني “الحاج العديمة” مرورا بـ “الشيخ فرواضو”،
ومن الشخوص التي لا أسماء محددة لها إلى رئيس مكتب التدخلات السريعة بوزارة الإصلاح الزراعي مرورا بباقي موظفي المكتب وهي كلها سلطات غالبة في الأعم من الحالات ومتحكمة خصوصا في المعلومة المتعلقة بالسماد وفي عملية تزويعه المفترضة، كما تظهر تلك اللغة أيضا تناقض خطابها المعلن مع خطابها المضمر والمتسمين بالتناقض إن على مستوى المضمون أو الحقيقة.
وليس في خطاب أي فئة من الفئتين كما تجلوهما حوارات النص أي أبعاد فلسفية أو أدبية عميقة، فهي لا تعدو أن تكون حوارات نثرية ذات بعد نثري خالص، من تم فنيتها في نص “لوزيعة”، وقيمتها مادامت تعبر عن واقع نثري هو الآخر، يسائل التسلط والاحتيال والمكر والخديعة وسلب الضعفاء أشياءهم وحتى أحلامهم، وليس في تلك الحوارات أي أفكار عصية على الفهم، يتقبل الجمهور العمل وهو منغمس في ثناياه لأنه خطاب له أبعاد سوسيوثقافية متميزة،
الكتابة الدرامية عند الشعبي
وتلك إحدى خاصيات الكتابة الدرامية عند الحسين الشعبي، ففي جل كتاباته يحضر الإنسان ومكانته وعلاقاته، يكفي أن نستدل على ذلك هنا بالتركيز على المرأة كعنصر بان للعمل المسرحي في مسرحياته: “الساروت” و”الجنرال حمو” و”لوزيعة”، في هذه الأخيرة نجد أن كل المشاهد التي يظهر فيها “المختار” الفلاح تحضر زوجته “أم العيد” باعتبارها سندا قويا له، ودفاعه الأول، وهو يعلم جيدا أنها حاميته، لذلك شكلت “أم العيد”، كما هي “فاطنة” في النص، المحفز على تطور الأحداث ومحركها،
فقد كانت “فاطنة”، رغم موتها واختفائها، الأداة التي حولت توجهات الفلاح الطاهر وتطلعاته، وحولت خوفه وتردده إلى مدافع على تغيير الواقع الذي يعيشه الفلاح الصغير المضطهد محاولا إيقاف طمع أصحاب السلطة، ففي كل المشاهد التي تحضر فيها المرأة يكون دورها أساسيا في إقامة التوازن في الصراع الدائر بين الفلاحين وأصحاب القرار السياسي والإداري والفلاحي أي أصحاب السلطة، لقد وقفت المرأة في “لوزيعة” ضد نزع السماد وضد نزع الأرض وبالتالي نزع الكرامة الإنسانية؛
وسعت إلى أن تجعل الفلاح مشاركا فعليا ضد هؤلاء المستبدين، ولعبت دور المساعد في المربع السيميائي الكريماسي بدفاعها عن الذات التي تتعرض للسلب، وهي تسعى فوق كل ذلك إلى تغيير الواقع الذي تخطط له تلك السلطة.
من تم جاز لنا القول إن البعد الاجتماعي في النص يتكشف منذ بدايته، فخيوط أخطبوط الاستغلال تتنامى بتنامي الشخصيات وتنامي النص ذاته، فهذا “الحاج العديمة” الذي كان يساعد الفلاحين ويقوم على شؤونهم ويمد يد العون لهم جميعا لا تتوانى زبانيته على تعداد أفضاله على أهل القرية، منها إصلاح مسجد القرية، ومساعدتهم على كنس الحاسي بعدما جف ماؤه، وعمله على إطلاق سراح أبناء القرية في حال اعتقالهم.
بل إنه هو من كان يرفه عنهم ويجلب لهم “الشيخات في عيد العرش باش يفوج عليهم”، وغيرها من الإعانات والمساعدات التي لا تخدم غير نفسه، إلا أنه مع مجيء السماد وملاحظته أن الفلاحين لم يعترفوا بتلك الأفضال تحول خطاب الإعانة والمساعدة إلى التعنيف اللغوي والزجر من قبيل “سير كون تحشم شي شوية” مخاطبا “المختار”، أو كأن يقول “الرايس حمان” على لسانه وهو ينهر الفلاحين: “غادي نفرقو هاذ المجمع…. يالله، الله يفرقنا بلا ذنوب، والله يعرضنا ويعرضكم السلامة”. في مقابل ذلك تتنامى أيضا شخصيات الفئة الثانية، فـ “الطاهر” الفلاح الذي كان مترددا طيلة المشهدين الأولين في تدخلاته وأقواله وتصرفاته،
نجده ابتداء من المشهد الثالث يغير مواقفه، فذاكرته الموشومة بقتل زوجته من قبل “الحاج العديمة”، وعجزه عن نسيان وقائع الاعتداء عليه وعلى أرضه بموجب مكائد المستبد كما يعترف هو نفسه: “الفلوس لي سلفني العام الفايت دار لي بيهم السريفة في عنقي، قاجني وما خلانيش نتفافى ولا نتنفس”،
ورغم كل محاولات الفلاح الصغير “الطاهر” ورغم دفاع زوجته “فاطنة” والتي ناضلت ضد “الحاج العديمة” مذكرة إياه بأصول ثروته التي حصل عليها حين كان “خدام عند الخونة” كل ذلك لم يشفع للظلم أن يمتد وأن يعتدي وأن يقتل، وهو ما يلخصه المختار بقوله: “الحاج العديمة طغى وكثر ظلمو وحنا ما حدنا ساكتين غادي يزيد في الجبروت ديالو ويقوى طمعو..”، إنه الظلم الذي عبر عنه “الطاهر” بأنه لا يزال “منقوش على جلد ظهري، وموشوم في مخي”.
شخصيات متقاربة متكافئة
ومع أن أعداد شخصيات كل فئة تكاد تكون متقاربة إلا أن المواجهة بينهم، لم تكن متكافئة، فكفة الصراع ظلت تميل جهة الانتهازيين والنفعيين والمسؤولين الإداريين، بموجب تردد بعض الفلاحين وعدم اجتماعهم على كلمة واحدة في البداية، هكذا نلاحظ أنه في الوقت الذي كان خطاب الفئة الأولى يعج بالتمويه وبالمراوغة.
ويستند إلى لغة متفائلة تدعي بأن الخير سيعم البلاد والعباد، وأن كل فلاح سيستلم حقه من المعاونة، نجد “المختار” ممثلا للفئة الثانية محتاطا وحذرا من خطاب المتسلطين يقول “المختار”: “لا لا هاذي ما تكون غير شي ديخية بغاو يدبروها عاود ثاني باش يستافدو بوحودهم..”، وفي صراعهم ضده نجدهم يروجون ضد المختار كلاما من قبيل “أنت في راسك العجينة” أو “مالك على هاذ الزيادة في الهضرة” أو “هاذ المختار في راسو شي بلان” أو “آش هاذ الدخول والخروج في الهضرة يا المختار بلعربي”… إنها أساليب سعى من ورائها “الحاج العديمة” و”الشيخ فرواضو” و”الرايس حمان” و”المقدم احميدة” إلى ثني “المختار” – ومن ورائه كل الفلاحين الآخرين – عن الاعتراض أو الاحتجاج.
ومن أجل إسكات صوت المعارضة يلجأ رئيس التعاونية إلى تأنيب المختار قائلا له: “لا لا ما شبهتيش لبوك، بوك الله يرحمه ويواليه برحمة الله ما زال بين عيني مسكين الله يعمرها دار، كانت هضرتو مع الجماعة مسكمة ماشي أجي أفم وقول، وما كانش كيهز الراس، لا لا أنت ما خرجتيش ليه”، ويقف وراء هذا الموقف من “المختار” أنه “زعما واعي وقاري شي شوية” إنه الشخصية التي تدرك تلاعبات القائمين على التعاونية وكل المستفيدين منها والذين ظلوا يتذرعون بضرورة البحث عن معايير معينة لتوزيع السماد، غير أن إلحاح الفلاح “المختار” على معرفة الطريقة جعلت “الرايس حمان”.
في لحظة غضب يفصح عن قوانين ومعايير التوزيع المسكوت عنها حين يقول له: “واش بحال لي عندو فدان واحد بحال لي عندو فيرمة؟ واش بحال لي عندو دجاجة ونعجة بحال لي عندو – والله يزيدو – قطعان من الغنم والبقر؟”؛ غير أن هذا الإفصاح لم يزد “المختار” إلا إصرارا على الجهر بأن “جميع الفلاحين ديال التعاونية متساوين في الأرض لي كيخدموها بعرق كتافهم”، وتزداد نبرة “المختار” حدة عندما يصرخ في وجه البرلماني “الحاج العديمة”: “واش ما قداتكومش الهكتارات ديال الغابة والأراضي والفيرمات لي كتملكوها باش تجيو تزاحمونا في التعاونية؟” وكلما تصاعدت نبرة المختار ضد خصومه قابله هؤلاء دوما بلغة السلطة والعنف، وكلما بدر منه احتجاج أو مقدماته تكررت اللازمة التالية:
المقدم احميدة: لي فيه التخرشيش
الشيخ فرواضو: يتقطع ليه الريش
المقدم احميدة: ولي رجليه خرجو الشواري
الشيخ فرواضو: نوليو معاه دراري
النص والصراع
ولعل ثنايا النص تفصح عن أن الصراع يتجاوز السماد وطريقة توزيعه، فهذه “أم العيد” تعري البرلماني “الحاج العديمة” وتفضح أساليبه حين تقول: “كيخلي التراكتورات ديالو وكيتزاحم معانا في السربيس على التراكتور والمازوط ديال التعاونية…. وكيخلي الموطور ديال الما لي عندو في الفيرمة ديالو وكيسقي بالما ديال التعاونية وحنا كنخلصو الفاكتورة بلا مراقبة..”، ويتمادى “المختار” و”أم العيد” في فضح “الحاج العديمة ورباعتو” في استغلال الضعفاء والتعاونية وممتلكاتها من أجل تحقيق مآرب شخصية،
وهو الصراع الذي لا يتوانى في التصاعد بين الفئتين والقوتين على امتداد المسرحية، تارة بصيغته الفردية وتارة أخرى بصيغته الجماعية، وهذا الصراع ظل ظاهرا وبارزا بين قوتين ماديتين وذهنيتين معا، الأمر الذي يسمح بالقول إن الصراع في نص “لوزيعة” يتجاوز النمط الكلاسيكي لاعتماده على الأوضاع والمواقف والرؤى، فبقدر ما تسعى الفئة الأولى إلى الحفاظ على مصالحها ووضعها الاعتباري ومواقفها من السماد وطريقة توزيعه، بالقدر ذاته تروم الفئة الثانية الحفاظ على وضعها الوجودي وتبني مواقف تسمح بالوقوف ضد محاولات السلب والتحايل التي يمارسها المتسلطون.
وإلى جانب هذا الصراع الخارجي حول السماد، نجد صراعا آخر نابضا بالصدق والعمق، نجد مثيلا له عند الفلاح “الطاهر” الذي ظل نزاله مع قوى الفساد والطغيان يضطرم بدواخله وفي أعماق قلبه وعقله، غير أن الصراع في النص، بشكل عام، ظل صراعا طبيعيا بعيدا عن الافتعال والتكلف، فحياة الفلاحين العادية تدخل أمام السلطة وجبروتها مرحلة أعلى من القهر والإذلال اللذين يستدعيان النضال والدفاع عن الحق في الوجود، ولعل القيمة الأساس لهذا الصراع تكمن في مساهمته ومواكبته في تطوير الحوار وتنامي الشخصيات نفسها، والعلائق الإنسانية التي يتم نسجها تلبية لحاجات الإنسان الزمنية.
ويقف وراء هذا الصراع بألوانه وطبيعته رؤية المؤلف الحسين الشعبي للعملية برمتها، والمتجلية في استحضار البعد السياسي في مسرحه، وهو البعد الذي ظل حاضرا في جل انشغاله الإبداعي، ففي نص “لوزيعة” لا تخطئ العين انتقادات لوظيفة البرلمان التشريعية وغياب البرلمانيين عن حضور الجلسات، وغياب المنتخبين عن المجالس القروية، واستغلال العمل السياسي كأداة لتسليط الشرعية على السلوكات والأقوال، ونفاق الإعلام العمومي، وكذبه وتزييفه للحقائق الاجتماعية: الصحية والتعليمية والمعيشية والاقتصادية للفقراء والفلاحين والمهمشين،
استغلال السلطة والبطالة
وأيضا استغلال سلطة الوظيفة العمومية، والشطط في استعمالها، إلى جانب البطالة المستشرية في أوساط الشباب، والفقر والديون التي تتراكم على ذوي الدخل المحدود، كل هذه المظاهر توحي بأن النص لا يتجاوز المظهر الانتقادي للواقع، وهو أبسط أشكال أنواع الممارسة السياسية، غير أننا نعتقد أن للنص أبعادا سياسية أعمق مما تشي به تلك الانتقادات انطلاقا من تبنينا لتعريف “السياسة”، والذي نتبنى بشأنه تعريف ستيفان كوليني الذي يورده جو كيهلر في كتابه “المسرح والسياسة” وفيه أن مصطلح السياسة هو: “تلك المحاولة.. التي يتم من خلالها تحديد علاقات القوة في فضاء ما”[3] علاقات القوة الواردة في هذا التعريف هي نفسها التي يحاولها كل من الفريقين اتجاه الآخر – كما بينا ذلك قبل قليل – فـ “الحاج العديمة” و”الشيخ فرواضو” و”المقدم احميدة” ورئيس التعاونية ورئيس مكتب الإصلاح الزراعي ومعاونوه..
لوزيعة.. نص سياسي
كل هؤلاء يرغبون في الظفر والاستحواذ على الخير جميعه، بينما يسعى الفلاحون جميعهم ومن تبعهم إلى الانتصار وإفشال خطة الفريق الأول، وفي ذلك كله ما يجعل من نص “لوزيعة” نصا سياسيا بامتياز. أكثر من ذلك فإن “توزيع القوة عادة ما يفتقر للعدالة” فعلى امتداد النص ظل التمويه والخداع من أجل حصول “الحاج العديمة ورباعتو” على أكبر حصة من السماد مقابل حرص الفلاحين وحذرهم من حصول ذلك، وتمسكهم بنصيبهم منه، وهو الصراع أو تنازع القوى الذي واكب شخصيات النص منذ بدايته، ولئن “كانت السياسة في واقع الأمر هي عملية مستمرة ولا تتوقف عند مرحلة بعينها” [4]، فإن هذه العملية بالذات كانت قد ابتدأت قبل مجيء لانكري / السماد حين كان الأمر لا يزال خبرا وظل يتطور على امتداد النص / العرض المسرحي حتى نهايته.
على الرغم من أن السماد لم يحضر ولم يصل إلى القرية، مما يجعل من فعل السياسة ممتدا في الزمن، وينتقل من فضاء مكتب التعاونية إلى فضاء ساحة القرية، إلى فضاء مكتب وزارة الإصلاح الزراعي، ففي كل هذه الفضاءات مورست محاولات سياسية أي محاولات الاستحواذ ضد محاولات استرجاع الفلاحين نصيبهم من لانكري.
فالسياسة في هذه المسرحية لا تعدو أن تكون الأذى والقهر والابتزاز الذي يمارسه “الحاج العديمة” البرلماني و”الشيخ فرواضو” و”المقدم احميدة” ومن جرى مجراهم ضد الفلاحين من أجل إذلالهم ونهب حقوقهم، مقابل تشبث هؤلاء الأخيرين بالحق في السماد، والدفاع عن الأرض، والعيش الكريم، هي إذن مواجهة وصراع مصالح بين فئتين، وصراع مشاعر في الآن ذاته، ونحن نعتقد أن أفضال هذا النوع من المسرح هو التأكيد على قوة الفن الدرامي على الارتباط بمجريات الأحداث داخل المجتمع وداخل الواقع القروي بالخصوص الذي تعالجه مسرحية “لوزيعة”.
ولعل المتتبع للكتابة الدرامية المغربية يلحظ حضور كتابات درامية مغربية كثيرة تسعى إلى معالجة الواقع بواسطة المسرح، وإلى وضع اليد على المتغيرات التي يحتاجها الإنسان المغربي في الظروف المختلفة، وهو ما يجعل من هذه الكتابات سليلة نظيراتها التي سادت مع تخلق المسرح المغربي ونشأته، لأنها كتابات تحمل نبض الناس البسطاء وهم يخوضون غمار اليومي، ويكافحون من أجل حياة تحفظ كرامتهم، هو مسرح يتحدث لغتهم التي تطفح بآثار الاكتواء بنيران التسلط والجبروت.
والحسين الشعبي يعي جيدا أن الهدف من المسرح ليس هو الفكر الذي يحمله فحسب، بل إن المسرح هو أيضا وأساسا الإمتاع، وهو التسلية كما قال ذات يوم بريشت في “الأراغون الصغير”، غير أن ذلك لا يمنع من أن يظل المسرح ذاك الفن الذي يحمل على عاتقه فعل التنوير ويستهدف تعليم الناس وجعلهم يدركون واقعهم ويساهمون في الوعي به وبظروفه التي قد لا تبدو للعيان. كما أن صاحب “لوزيعة” يدرك بصدق أيضا أن المسرح يعبر عن زمانه،
وهو ابن للواقع الذي يفرزه دون أن يكون نسخة منه، مثله في ذلك مثل المسرحيين الكبار من مثل ستانيسلافسكي الذي سئل يوما: ماذا تقدم إذا ذهبت بفرقتك إلى الأرياف؟ أجاب: “شكسبير وتشيخوف وكل شيء تقريبا ماعدا المسرحيات الفلاحية، فهم يعرفون مشاكلهم أكثر منا”، والحقيقة أن تقديم “لوزيعة” في المسارح المغربية (والتي لا توجد إلا في المدن) تفضح ليس فقط محاولات السيطرة على السماد وتسلط كبار الملاك على الأراضي الفلاحية ونهب خيرات الفلاحين، ولكنها تفضح أساسا فعل التسلط والابتزاز أينما كان، وتفضح البيروقراطية واستغلال الإقطاع للضعفاء والبسطاء، من أجل إجهاض أحلامهم الصغيرة وتغيير حياتهم، وتلك أمور كلها لا تهمنا نحن فقط، ولكنها ديدن كل الشعوب في كل زمان وكل مكان.
إننا مع مسرحية “لوزيعة” للحسين الشعبي بإزاء نموذج لمسرح سياسي صريح يسعى من خلاله المؤلف إلى التواصل مع المجتمع عبر المسرح طبعا وإلى التأثير السياسي في عالم ما وراء المسرح، وهو ما يسمح لنا بتوصيف مسرح الحسين الشعبي بأنه مسرح سياسي مادام إنتاجه يصب في التوجه نفسه،
ويرمي إلى النتيجة ذاتها رغم أن كل عمل من أعماله له مدخله السياسي المرتبط بموضوع خاص مختلف عن موضوع العمل الآخر، صحيح أن قواسم مشتركة توحد بينها من قبيل مساندة الضعفاء والفلاحين والأشخاص العاديين والمعتقلين ضد الحكام والمتسلطين والإداريين والقواد والبوليس وكل رموز القوة والعنف والسيطرة والأذى.
مزج المتعة بالسخرية
وليس معنى هذا أن الحسين الشعبي ينحاز جهة الملتزم والجاد في الواقع ويستجلبه للمسرح، ولكنه يمزج ذلك كله بكل أسباب تحقق الفن، وتنزيل متعته بالسخرية واستحضار المفارقات وتوفير أدوات البناء الدرامي الجمالي وغير تلك الأسباب حتى لا يصبح العمل المسرحي رسالة توجيهية ترمي إلى تغيير الواقع أو استصلاحه رغبة منه في البقاء في دائرة المسرح.
وهذه اليقظة من السياسي في المسرحي، والخوف من اتسام العمل بالقصور الفني بسبب النسغ السياسي الفج والادعائي هو ما جعل الشعبي أكثر التصاقا بالفن المسرحي بل إنه السبب ذاته الذي جعله يوظف المسرح داخل عمل “لوزيعة” فيما يعرف بالمسرح داخل المسرح أو الميتامسرح كما هو الأمر في المشهد الثامن حين يخلع “الحاج العديمة” و”الشيخ فرواضو” ملابس التمثيل، يقول الحاج العديمة: “هاذ النهاية ما عاجبانيش..
فاين هو الكاتب ديال المسرحية نتفاهمو معاه..”. ويقول الحاجب: “غادي تفاهم مع الكاتب بشي خنشة ديال لانكري؟” وهي عبارات تشكل نموذجا قويا للسخرية السوداء التي يطفح بها النص. ومهما يكن من أمر فإن النمط المسرحي الذي يشتغل عليه الحسين الشعبي له رواده عبر العالم، والذين شكلوا في فترة ما من تاريخ المسرح موجة من الداعين إلى التغيير الاجتماعي عن طريق المسرح كما هو شأن أوغسطو بوال وبريشت وأرطو ومايرخولد وغيرهم كثير.
كما أن له بالمغرب رواده وجمهوره العريض أيضا، خصوصا وأنه مسرح يعبر عن رغبة الجماهير في العدل والخير والمساواة والحرية وغير ذلك من النظم والقيم التي يسعى الكاتب المسرحي الحسين الشعبي جاهدا كي يحافظ فيها على فنية إبداعه المسرحي وجماليته من جهة، ويزاوج خلاله بين جلب المتعة والمنفعة المجتمعية علما أن وظيفة المسرح أكثر سموا من أي منفعة، فهدفه يظل دوما في ذاته ولذاته.
ــــ
[1]– فازت هذه المسرحية بجائزة برج النور لأفضل نص مسرحي في الدورة التاسعة لمهرجان فاس الدولي للمسرح الاحترافي سنة 2014
[2]– تجب الاشارة إلى أن الحسين الشعبي استوحى تأليف هذا النص عن قصة قصيرة للكاتب التركي عزيز نسين بعنوان “السماد الكيماوي” وهو من حيث تاريخ تأليفه أسبق من نص الساروت وأن فرقة مسرحية من مدينة القنيطرة كانت قد قدمته على خشبات المسرح سنة 2001 بإخراج يوسف الساسي و سينوغرافيا الحسين الهوفي.
[3]– جو كيهلر ” المسرح والسياسة ” ترجمة لبنى اسماعيل ، ط1، المركز القومي للترجمة، 2015 القاهرة، مصر، ص: 11
[4]– نفسه