مقالات ودراسات

 الكاتب المسرحي السوري أحمد اسماعيل اسماعيل.. يكتب عن:  “الكوميديا  ووسائل الإضحاك”


المسرح نيوز ـ القاهرة ـ مقالات ودراسات

ـ

 أحمد اسماعيل اسماعيل

 

إذا كان الضحك يقوم على أساس المفارقة وعدم التناسب, ويرضي شعورنا بالتفوق، من خلال هزيمة الآخر، المضحوك منه، فإن الكوميديا، هي الضحك وقد اكتسى صبغة جمالية تقوم على أساس التوافق والترابط, فتسمو به بدراية ووعي، وتعالج القبيح والمعوج في الخلق والسلوك، وتقدمه في شكل فني مشوق غير قبيح ولا معوج, لا يهدف إلى تجميله؛ بل الارتقاء به فنياً، بغية تعريته وفهمه.

اشتق اسم الكوميديا من “الكوموس” أحد أعياد “ديونيزوس” إله الخمر والخصب، التي كانت في بداية أمرها مجرد أناشيد وأغان غير منتظمة, يتخللها كثير من العبارات الهزلية والنكات المضحكة, والمحاورات الساخرة، يتنطع لها أناس مخمورون يؤدون حركات ساخرة، ويقلدون بعضهم بعضاً، بسخرية مليئة بالدعابات والشتائم وما شابه ذلك, وقد اختلفت ملل اليونان في أصل نشأة هذا الفن, ونسبته كلُّ ملّة إليها, غير أن ظهور الشاعر الهزلي “أبيكارم” في صقلية, الذي جعل للملهاة قصة لها عقدة وموضوع تتابع حلقاته تنتهي إلى حلّ, ونظّم أعمال الممثلين والمغنين وأقوالهم, وقيدها بقواعد, وأقامها على أوضاع شبيهة بالأوضاع التي كانت عليها المأساة, قد جعل أرسطو يحسم الأمر ويقّر لصقلية وشاعرها قصب السبق في بلاد الإغريق، ولم تأخذ الكوميديا شكلها الأكثر وضوحاً إلا على يد  “أرستوفانيس” عميد هذا الفن، من خلال مسرحيات ساخرة نذكر منها: السحب، الضفادع، الطيور..ثم تلاه كتاب آخرون في العهد الروماني “بلوتس، برنس” ومن ثم، وبعد قرون: موليير ,شكسبير , كونجريف , برناردشو ..

كان من الطبيعي أن يتزامن تغير وتبدل الكوميديا، أسباباً وأهدافاً، مع تبدل الأحوال وتغير الزمن, وكذلك القيم والعادات, فلقد شهد تاريخ هذا الفن، ومنذ نشوئه قبل حوالي خمسة وعشرين قرناً،  صياغات فنية, وأشكالاً وفلسفات عديدة، ليصبح بالإمكان تحديد هذا الفن من خلال جملة من الوسائل والأساليب، منها ما يتم تحديده من خلال الهدف، ومنها من خلال الأداة، ومنها من خلال الوسيلة.. ولقد كان للعلامة “آلارديس نيكول” فضل تحديدها، وذلك من خلال تصنيفها في خمس وسائل أساسية هي:

1- الإضحاك بوساطة السجايا المادية للشخصيات ( الجسمانية ) :

تركز هذه الوسيلة على العيوب الجسمية والشكلية لشخصيات المسرحية، مثل الطول أو القِصَر المفرطين, أو الأنف الكبير أو العيون الجاحظة أو غيرها من العيوب، وتحط من إنسانية الإنسان، وتثير شفقة المتلقي أكثر مما تثير ضحكه، بل أن مشاعر التفوق فيها أكثر حضوراً وفاعلية من مشاعر الشفقة،  ولذلك نجد أن كثيراً من الكتاب يربط بين استخدامها وفعل من الأفعال المنبوذة، أو السلوك الشائن.

ويُعد الحط من مقام المضحوك منه, وعدم الملائمة، وسيلتين لإثارة الضحك, كالضحك من عيب خلقي، أو من منظر امرأة خشنة مسترجلة ترافق رجلاً رقيقاً في حديثه وسلوكه، مصدراً أولياً وبدائياً في إثارة الضحك.

2- الإضحاك بوساطة السجايا الخلقية و العقلية :

تثير السجايا الخلقية أو العقلية ضحكنا أيضاً, وذلك تبعاً لنظرتنا الفردية والاجتماعية لهذه السجايا, كالغرور والحماقة وما شابههما من سمات, وضحكنا هنا لا يكون بالضرورة من السجايا السيئة المعروفة كالنفاق أو الجبن أو البخل أو غيرها، فقد تثير سجية أو سمة اجتماعية سامية, كالإخلاص مثلاً, أو الطيبة، ضحكنا أيضاً، إلا أن الضحك هنا لا يكون موجه للسمة بعينها، بل إلى من يجسدها بتصلب، ويتمسك بها بجمود, دون أن يكون ذلك بالتوافق والانسجام مع أخلاقيات المجتمع الاستهلاكية.

إضافة إلى ذلك، ثمة ضحك ناشئ عن عدم التناسب, وآخر عن عدم الملائمة الذهنية في عقل الشخصية الواحدة.: مرضى الأعصاب نموذجاً.

الإضحاك بوساطة السلوك :

إذا كان السلوك هو ترجمة فعلية لأخلاق ووعي الشخصية, فإن هذه الأخلاق، وهذا الوعي، هما نتيجة تربية اجتماعية معينة, نشأت على أساسها هذه الشخصية، ولذلك يشكل تجاوز الشخصية، وعدم توافق سلوكها مع مجتمعها أولى المظاهر المثيرة للضحك، ويثار الضحك أيضاً في عدم ملائمة سلوك بعض الشخصيات حين تجد نفسها في بيئة أخرى غير بيئتها، الاجتماعية أو الطبيعية، المختلفة عنها: عادات وتقاليد ودرجات اجتماعية.

ومثل هذه المواقف كثيرة الحدوث في حياتنا اليومية: كسلوك البدوي في مجتمع متحضر, أو سلوك رجل دين متزمت في حفلة لا تخلو من تجاوزات لأخلاقه. ولقد لجأ فنانون كثر إلى استخدام هذه الوسيلة بقصد المفارقة الشكلية والتهريج، أو لإبراز سوءات طبقة أو فئة اجتماعية أو شخصية معينة، كشارلي شابلن. ويتعدى الضحك الناشئ عن السلوك هذا النمط، إلى ضحك آخر ينتج أو ينشأ عن آلية في سلوك بعض الشخصيات التي تكونت بفعل التكرار والزمن, فتصلبت وتقولبت في إطار هذه الآلية, كالآلية في سلوك المحامي أو الطبيب أو المعلم .. ولقد توسلت مسارح كثيرة، وفي مراحل معينة من عمر هذا الفن، هذه الطرائق لإثارة ضحك المتلقي.

4- الإضحاك بوساطة الكلام :

يحظى هذا النوع من الإضحاك بأهمية كبيرة, فالكلام يكشف عن أخلاق وطباع صاحبه, كما أشار إلى ذلك علي بن أبي طالب كرم الله وجهه بقوله (المرء مخبوء تحت لسانه، إذا تكلم بان) فالكلام يبرز ما في الموقف من إضحاك ويركزه, فالتشويه في الكلام مثلاً، وبالتضافر مع وسائل إضحاك أخرى، يوصل الملهاة إلى ذروة عالية, ولقد استخدم المسرح العربي هذه الوسيلة إلى درجة الاستهلاك، بل الابتذال،

  • الإضحاك بوساطة الموقف :

لا شك أن الموقف هو الأساس الذي تقوم عليه عقدة أية ملهاة، وهذا النوع من الضحك لا يخلو من خشونة وقسوة أيضاً, لأنه في الأغلب الأعم يقوم على مبدأ الحط من المقام؛ مقام المضحوك منه، أو عدم التناسب في الموقف بين شخصيتين شاذتين، إحداهما شاذة والأخرى عادية طبيعية، نجد مثال ذلك لدى شكسبير في مسرحية “زوجات وندسور المرحات” وكذلك في “ملهاة الأخطاء”. ورغم ذلك يُعد الضحك بوساطة المواقف أكثر  الوسائل رقياً، شريطة أن يتم استثماره بشكل مناسب، وبلا ابتذال.

إن هذا التقسيم لوسائل الإضحاك في المسرح لا يعني البتة ضرورة الفصل التام فيما بينها في المسرحية الواحدة، نصاً أو عرضاً، فالمسرحية الناجحة في إثارة الضحك هي تلك التي أجادت في استعمال أكثر من وسيلة من هذه الوسائل، ففي تضافر هذه الوسائل كلّها أو بعضها، وتوافقها في عمل كوميدي، وبشكل مدروس وموظف إخراجياً، ضمانة لتقديم فن كوميدي راق, يرتقي بنا, ونرتقي به. فالكوميديا الصحيحة فن يجد فيه الحزانى وقتاً للترويح والتنفيس عن أسباب حزنهم، والسعداء مزيداً من المتعة و السرور، لأنها الفن الأكثر واقعية ” مادة ووسيلة ” والأكثر التصاقاً بالإنسان وجوهره، ولقد اعتبرها بعضهم سلاحاً فعالاً يمكن الاستفادة منه في أوقات الحرب والسلم، وإبّان الحرب على وجه الخصوص، لأن الجمهور وقتها يكون مثقلاً بالهم، وفاقداً للثقة بنفسه، إذ أن الكوميديا وسيلة تملك من القدرة ما لا تملكه وسيلة أو أداة أخرى، فنية أو غير فنية،  على توفير سعادة نابعة من شعور المتلقي بالنصر والتفوق ..والمرح.

إن مسؤولية الفنان في جوهرها تضاهي مسؤولية السياسي و العسكري, لخطورة دور الفن في تشكيل وعي وذوق الجمهور، هذا الشريك، والعنصر الفاعل في مسيرة الحياة والتاريخ، والذي لا يمكننا، بمعزل عنه،  تحقيق أدنى ما نصبو إليه من غايات.

 

مراجع

  • عبد الواحد ، د. علي وافي : الأدب اليوناني القديم . دار المعارف. مصر.
  • نيكول , آلارديس : علم المسرحية. ترجمة دريني خشبة. المطبعة النموذجية .مصر.

 


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock