الكاتب والناقد أحمد زحام يكتب: مونودراما أمرأة عنيفة في متتالية صفاء البيلي

أحمد زحام

كاتب وناقد مصري

ـ

هل يعقل أن نعيش في القرن الواحد والعشرين بلا حرية ولا عدالة ولا نظام ؟

سؤال يبدو في أوله عاديا ، لكنه عندما يكون داخل عمل مسرحي يعبر عن حالة شعورية تبين لنا الكاتبة صفاء البيلي مادتها وموضوعها ، يكون الأمر مختلفا ، خاصة عندما يكون صرخة في وجه مجتمع يستعد لخوض ثورته  فالحالة الشعورية التي تصدرها زبيدة محور العمل المونودرامي تجسد هذه الثورة رغم تقديم الكاتبة لنهاية تراها موضوعية متوافقة مع دراما العمل .

نحن أمام عمل مسرحي أدبي  ، به آليات القص  تعاملت فيه الكاتبة بحرفية أدبية ، تم تقديمه كعرض على خشبة المسرح ،  قدمته في البداية الفنانة رباب طارق في مصر وعرض في الجزائر عدة مرات .. ثم وسام صبحي في السودان .. ثم شيماء عباس في مهرجان المستقلين على مسرح الهناجر .

نص يبين لنا الصراع القائم بين الحاكم والمحكوم ، الحاكم في مرادفاته المختلفة ، في تجليات ديكتاتوريته ، وسحق الآخر ، في مجتمع لا ينتصر للمرأة أو للرجل ، وكما تقول على لسان زبيدة ” وطالبت بتحرير الرجل ولم أطالب بتحرير المرأة “

 في لحظة القهر التراكمي للشخصية .

وجاءت إمرأة عنيفة في عدة صور متتالية لتجسد هذا القهر الواقع عليها  ، وان خرجت الكاتبة  من خصوصية المرأة في الصراع في مناطق كثيرة من النص الدرامي إلى العام ، فالبطل الواحد الذي يجسد الشخصية إمرأة في صراعها الدائم مع واقع شديد القساوة ، وهي التي تقوم بإيصال رسالة المسرحية للمتلقي ، تجد تعاطفا نوعي.

فالكتابة المسرحية تحاكي الواقع عبر مواصفات زمكانية للعملية المسرحية , والنص يؤكد أن ما طرحته المؤلفة يعتبر حوارا مفتوحا ومشروعا مستمرا طالما هناك صراع ، وهناك ما يحاكيه لأن النص يوضح الحالة المزرية التي وصل إليها الإنسان المصري الذي أقحم بمجموعة من الأحداث جعلته لا يعرف مصيره الذي سيلقاه , ولا ماذا سيفعل إزاء ما يفرض عليه وهو لا حول ولا قوة حين افتقد حريته .

نحن أمام مسرحية البطل الواحد الذي يلتحم بوجدان المتلقي ، فهو الذي له وحده حق الكلام ، فالشخصية التي تقدمها المؤلفة  تعرضت للاعتقال والتعذيب والقسوة ، ارتكبت فعلا مشينا ألا وهو محاكاة ابن المسئول الكبير ، فكان عليهم قهرها .

حالة من التذمر تنتاب زبيدة من تلاميذها الذين يكسرون قواعد اللعبة ( دائما يرفعون المفعول وينصبون الفاعل ) فكيف يجرءون على خرق النظام والعقود ، ولكن هي التي خرقت هذا النظام عندما قامت بتأنيب ابن المسئول الكبير ، وهذا الخطأ الذي ارتكبته في حق النظام الذي يمثله هذا الابن أعطى الحق للدب الكبير أن يعاقبها ذلك الدب الذي يعلن ملكيته للعالم المحيط بها

( تقلده ) أنا من يدفع راتبك

( باصرار ) لا .. الدولة

( تقلده متملظا ) لا بل الدب الكبير يا زبيده

( تهدئه ) سيدي لم أقصد أقسم لك

( تقلده ) هذه منطقتي وشارعي ومدرستي

( تشرح له ) طبعا .. طبعا سيدي ووزارتك بل ودولتك أيضا

ومن هنا بدأت رحلة     ، وكانت تظن أن الفارق الطبقي والحقد الاجتماعي بين التلاميذ والدب الصغير سيجعلهم يقفون معها ( تركوني والتفوا حول سيدهم الدب الصغير ) الذي يسيل لعابهم ويأكلون من فضلاته

 والحكاية من أولها تبدو لنا حكاية عادية ، فنحن أمام مدرسة وتلميذ  في متلازمة تحدث كثيرا في المدارس المصرية ، فهي تنقل لنا هذه الصورة من خلاف توظيف حادثة عادية :

” الولد السمين الذي لا يدري من الدنيا غير الطعام والشراب ، والذي يظل طوال اليوم يأكل ويأكل ، والأولاد ينظرون إليه ولعابهم يسيل ….

تمتمت : يالك من دب صغير ” .

بداية التصادم والصراع مع ابن السلطة الذكورية  الذي ينصب المبتدأ ويرفع ما يريد رفعه .

يقول سعد الله ونوس : إن المسرح منذ نشأته كان سياسيا

تتحول الحادثة العادية إلى صراع سياسي ، ولكن لمن الغلبة اليوم ، لسيدي المسئول الكبير ، فما كان على زبيدة إلا أن تعي حجمها ، فالمنطقة التي تعيش فيها منطقة الدب الكبير كما تحب أن تطلق عليه زبيدة  فكما يقول : هذه منطقتي ، وشارعي ، ومدرستي ، و…….

فلماذا لا يقول هذا لزبيدة ومصر قد قسموها إلى عزب ، ومناطق نفوذ ، فمن الحاكم اليوم الدب الكبير .

داهية / الجحيم .. مرادفتان لمصير قد أعد لها .

وفي مشهد المحاكمة الذي أعد لها لخروجها عن النص الذي حدده لها الحاكم ” الدب الكبير كما تحب أن تطلق عليه زبيدة “

” (ترتدي قناعا لرجل وتتكلم بليونة)

أنتِ مؤسسة للحركة التي تكونت مؤخرا لقلب النظام؟

(مندهشة) أنا؟

(تقلده) لا فائدة من الإنكار. فالتهمة ثابتة

(تصرخ) أريد محاميا

(تقلده وهو يقاطعها) ألا تمتلكين لسانا؟

دافعي عن نفسك

ألستِ الرأس المدبر؟

ألا تديرين بيتك وكراً للـ.. (يغمز) للاجتماعات الغامضة؟ “

التهمة جاهزة ، وان كانت في معرض حديثها فيما بعد تقدم نفسها أنها عروبية ، وتظاهرت من أجل تطهير العراق والقدس من أيدي المحتلين ، وفك الحصار عن أسطول الحرية وراشيل كوري ، وفتح المعابر أمام العزل في غزة .

(تقلده ممسكة بعض الأوراق)

” أليست هذه لك؟

وجدناها في بيتك

وهذه الكتب.. عن ناصر، لينين وماركس وماركيز وهرقليطس و مكيافيللي وأرسطو وسيد قطب وحسن البنا وطه حسين ونصر حامد أبو زيد والجابري ثم ما هذا..هه؟ اليهودي التائه! واسمع يا عبد السميع.. وورد أقل، ومأساة الحلاج والفتوحات المكية، والإمتاع والمؤانسة وابن الفارض والناس في بلادي ومدن الأسمنت؟

أف.. من أنت بالضبط؟

 (يصمت ثم يكمل) أين كتب النساء؟ كتب الزينة والطبخ؟!”

ويزج بها في المعتقل دون أن تقدم لنا صورته وهي التي حرصت على تتبع الشخصية في مراحلها من بدأ الواقعة حتى صرخة الموت ، فنحن أمام أطوار مختلفة كل طور منها يقدم الآخر ، وتختلف معها الحالة الشعورية لزبيدة .

وفي مشهد الملهى الليلي بعد خروجها من المعتقل يعدّ العنصر النفسي عنصراً أصيلاً وبارزاً ، فقد استطاع أن يفسر لنا ( القيم الأخلاقية  ) الكامنة في الشخصية ، فالشخصية مازالت في حالة انفعال دائم ، ترفض الإطاحة بها من تلك القيم ، وتصبح خارجها .

” حتى أنت ؟

كيف تجرأت لأن تطلب مني أن ..؟

أعرف أنني أعمل في مرقص

أنت تافه مثلهم !

(تواجهه) نعم وافقت أن أراقصك

أراقصك فقط

ماذا؟

ستشكونني للسيدة؟

فليكن!

(تتجه إلى الناحية الأخرى، تدافع بارتباك) هو ..

هو يطلب مني أنْ..

(تتكلم بلسان السيدة) أن ماذا؟

(توشوشها، فيما تأخذ مكان السيدة متضايقة) آه هذا شيء عادي

(في ذهول وتطويل) عادي؟!”

وتلقى خارج المكان ، هل ترى الكاتبة في هذا المرقص ( الملهى الليلي ) تعبير موحيا مؤثرا في  سحقها باعتبار أن هذا الوطن المعاش من مفرداته المدرسة والتحقيق والمحكمة والملهى الليلي كما نراه نحن معها ؟

ولكنها أرادت أن تمسك أوراق اللعبة في يدها ، وتصبح هي اللاعبة التي لها الحق في تحريك قطع الشطرنج في صورها الحقيقية :

” وبإمكاني التحكم في رقعة الشطرنج كلها،

فلأعتبرها العالم

(تقف وتلف حول المنضدة تتنفس بعمق) إيه أيها العالم!

هل تأتيني طوعا لأحكمك لمرة واحدة

حتى ولو كان على سبيل الافتراض؟

إذن..فلأبدأ الآن ولأحرك الملك “..

ولكن ماذا لوكسبت

” أدير المقهى لأسبوع بالأجر الذي أحدد؟

ياه .. جميل جدا”

وماذا لوخسرت :

” أعمل خادمة في مقهاكم أسبوعا دون أجر؟ “

وتعمل أسبوعا في مقهاهم بدون أجر ، فهي لم تستطع أن تمسك العالم بيدها ، في هذا المشهد المغرب عن واقعية بقية المشاهد والذي أرادت أن يكون استراحة لزبيدة  المنهزمة دوما بأن يكون لها حق الاختيار بين الهزيمة والفوز ، ولأنها لم تعتاد الفوز والانتصار فقد لحق بها الهزيمة من خلال الصراع  .

ثم تدخل في مناجاة مع النفس تقدم فيها استرجاعا لواقع ماضيها ، وغلب على الكاتبة في تلك المناجاة طابعها الشعري فجاءت موحية بالحالة الشعورية التي تعيشها زبيدة والتي تتمرد عليها بالموت ، من خلال صناعة كفنها .

النص يلحق بالمسرح السياسي كونه يقدم فن صدامي من خلال صراع الايدلوجيات الحاضرة من خلال مواقف مختلفة بين الأفراد حول مجتمع طبقي سلطوي .

ربطت الكاتبة صفاء البيلي  المسرح بالمجتمع أو أعطت لنا تفسيرا اجتماعيا للواقع المعاش قبل ثورة 25 يناير في جميع أشكاله ، باعتباره صورة من الواقع

لقد رسمت صورة لفظية غنية وموحية ومثيرة للانفعال بشكلها الأدبي ، وفي الوقت ذاته ،و في نفوس الآخرين. وهو ما يمثل شرط العمل المسرحي وغايته .

 ويعتبر مسرح المونودراما من أقل العروض تكلفة ، ولكنها غير مشاعا بين الأشكال الأخرى ، ولا توجد مسابقات في تأليف هذا النوع من الكتابة تتبناه مؤسسة أهلية أو حكومية ، وتبقى الأمل .

 ,

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock