مقالات ودراسات

المسرحي السوري الكبير عبد الفتاح رواس قلعه جي يكتب للمسرح نيوز: الشباب والتجريب المسرحي


المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات

ـ

 

الشباب والتجريب المسرحي

                                                                            

عبد الفتاح رواس قلعه جي

مع سيادة المدارس التجريبية المسرحية في العالم ، وظهور تيار ما بعد التجريب، وانتقال ذلك إلى مسارحنا، ارتبط مفهوم التجريب لدينا بمغامرات المسرحيين الشباب وهذا ما نلاحظه في بعض عروض المسرح الجامعي وبعض الفرق الخاصة، والمسرحيين المخضرمين، وكان الإصرار هذا العام على متابعة دورات المهرجان التجريبي بالقاهرة رغم جائحة الكورونا دليل على إرادة الاستمرار و البحث على حياة متجددة لفن المسرح. 

1- تحديد مصطلح الشباب

  • هل يتحدد الشباب بعمر معين ؟ ثم من أين يبدأ وأين ينتهي ؟ بمعنى أن هذا المصطلح يتحدد زمنيا.
  • أم يتحدد الشباب بالعقل المتجدد المفارق لذاته وللعالم باستمرار ؟ فهو في تجريب مستمر. وهذه المفارقة لا تقوم بالضرورة على تغيير ثوابت:كالموقف من الإنسان ، والعدل ، والسلطة، والقيم الكبرى..الخ، ولكنه قائم على التجليات المتجددة دائما لهذه الثوابت بالإضافة إلى الصيرورة في القيم الفكرية والجمالية. بمعنى أن هذا المصطلح لا يتحدد زمنيا وإنما يتحدد بالطاقة الحيوية الشابة المتجددة التي ترهص بالمتغير أو تشتمله، سواء أكان المخرج في عقد العشرينات أم في الستينات.

وبهذا فإن أفضل التجريبيين تقانة وفكرا ووضوح رؤية هم أولئك المخرجون الذين تمرسوا بتقديم

عروض تقليدية واكتنزوا تلك الطاقة الحيوية الشابة المتجددة .

حدود التجريب ومعناه

هل يعني التجريب مضمونا أو مضمونات مما يلي: التمرد على القواعد. حرية التعبير. اختراق المألوف الدرامي. إبداع معملي. ثورة في تقنيات العرض والسينوغرافيا . أم البحث عن وسائل جديدة مغايرة للوسائل الفنية السائدة لتقديم رؤية جديدة للعالم وهكذا ليس بالضرورة اعتبار كل جديد تجريباً. كم أن المسرح التجريبي عندما توضع له القواعد لم يعد تجريبا. المسرح الطليعي الذي مهد له أنتونين آرتو وألفرد جاري وأبولنيير اعتبر مسرحا تجريبيا بدأ بمنطق الحلم وبالكلمة في منظومات لغوية غير مألوفة قائمة على التفكيك هي معادلة لعالم يشهد الانهيار بعد حربيين مدمرتين، كأنما يعبر بأساليب تختلف من كاتب طليعي إلى آخر عن لا معقولية الوضع الإنساني.

3- التجريب ووهم التجريب:

التجريب فعل واع واضح القصد والفكر ، مبني على رؤية فكرية وجمالية جديدة للعالم . وما نراه اليوم أن كثيرا من المخرجين الشباب يقعون في هلوسات فكرية وحركية وبصرية معتقدين أنهم كلما أمعنوا في الإبهام والضياع كلما كانوا أكثر تجريبا. مما يدفعنا إلى التفريق بقوة ما بين التجربة والتجريب.

التجريب في المسرح الغربي أخذ اتجاهات متعددة وفي حركة متسارعة ، ونحن بطبيعتنا نلهث في متابعة أشكال المستجدات في الإبداع من غير أن تكون لها جذورها الفكرية والاجتماعية لدينا .

في المسرح الحركي ثمة اهتمام فائق بجسد الممثل ، والاستعاضة عن النص الملفوظ بلغة الجسد كأداة تعبير وتوصيل.

وفي مسرح الموت عند كانتور المخرج البولوني ثمة اهتمام فائق بالسينوغرافيا ، واقتحام أرواح الأجداد

لخشبة المسرح على شكل مانيكانات، واستغناء عن المكان المسرحي المعروف، واستعانة بممثلين غير متمرنين ليحتفظ بطزاجة الإنسان.

أما في مسرح الصور فالسيادة للأفكار، أفكار المؤلف المسجلة على شريط، فهو مسرح أفكار . ويلقى بالممثل من نافذة العرض أو يكون دوره ثانويا، لتدخل من باب العرض الوسيع وتحل محله مجموعة من الصور.

في المسرح العادي هنالك أهمية كبيرة للتعبير اللغوي كوسيلة رئيسية للسرد والحوار، أما في مسرح الصور فإن الفنان يؤكد على البعد الكيفي من فنون تشكيلية كالرسم والنحت كوسيلة بالغة الأهمية في السرد،  فهو مسرح تجريدي، غير أنه يؤنسن الأشياء، وهو مسرح ساكن غير متحرك يعتمد على مشاهِد يمارس الاستغراق الذهني في فهم وربط الأفكار والرموز. مثال ذلك فورمان في مسرحيته تملق الجماهير وهوكاتب مسرحي وفيلسوف،  يعمل على مسرح الهستيريا الأنطولوجي من القاعدة الفلسفية النفسية والجمالية، ومسرحياته مشحونة بالدلالة ، لكن هذه الدلالة لا تظهر، وارتباط الأشياء المقطعة لا يتم إلا بالمشاهدة على خشبة المسرح.

المسرح الهستيري الأنطولوجي يمسرح عمليات التفكير في مجموعة من الصور عالية التعقيد. وفورمان يرى أن اللغة المنطوقة لغة مسطحة مقولبة وليست وسيلة للحوار؛ لهذا فهو يحيل التصويت إلى شريط مسجل، أما الممثلون فهم مجرد متحدثين لإيصال الأفكار.

ومثله أيضا ويلسون في مسرحيته خطاب إلى الملكة فكتوريا التي يعتبرها عملا أوبراليا بالرغم من عدم وجود مغنين أو غناء. أما موسيقاها فخطب تمثيلية شفوية ذات موضوعات متعددة منها : الحرب الأهلية. الاستعمار الثقافي. الحرب الأهلية. القنبلة الذرية. الحضارات القديمة. إنها تبدو كتعليق سياسي واجتماعي على أحوال الناس. وهي مسرحية تطهيرية، فيها تصوير للحياة الأمريكية الخالية من المعنى بطريقة غير مألوفة.

كل ذلك يؤكد أن اتجاهات المسرح التجريبي الحديث انطلقت من قواعد فلسفية ورؤى تجاه الحياة والمتغيرات وتعبيرا عن منعطفات اجتماعية وسياسية جديدة وحاسمة في حياة مجتمعاتها، فكانت تمردا صارخا وحركة واعية وموقفا نقديا في الأشكال والمضامين تجاه رواهن العصر الذي يشيِّئ الإنسان ويهمشه أمام ثورة التقنيات ورغبة الاستيلاء على العالم والإنسان بعد أن تحولت أرضنا إلي قرية يملكها إقطاعي متغطرس.

3  –الدعوة إلى حركة تأصيل لمسرح تجريبي عربي

 هذه ليست دعوة تأريخية إلى إثبات وجود أو عدم وجود مثل هذا المسرح لدينا، ولكنها دعوة إلى قراءة الواقع الراهن، والواقع الذي مضى أو مازال مستمرا ( التراث )، من فكر وسياسة واجتماع وأحداث، قراءة فلسفية مستغرقة ثم الخروج باتجاهات في التجريب خاصة بنا منطلقة من وعينا الجمالي والفني والفكري.

هنا لابد أن نسأل . هل التجريب خاص بالمخرج أم بالمؤلف أم بهما معا؟

لابد من الإقرار بأن الكتاب المسرحيين هم الذين حملوا لواء التغيير في أصول المسرح لأنهم كانوا محور الظاهرة المسرحية في كل عصر. والتجريب الذي يبدأ مع المؤلف المسرحي كحامل فكر يكون أكثر عمقا وفكرا وارتباطا بالأصول، فهو تجريب متصل بالجذور المسرحية وغير منقطع عنها.

مع ظهور المخرج في القرن التاسع عشر وأوائل العشرين أصبح تدخل المؤلف في العرض المسرحي بمثابة تدخل في مجال آخر غريب عنه. وفي منتصف القرن العشرين حقق المخرج انتصاره الكامل ، وانقطع ذلك التعاون بين المؤلف والمخرج كالذي شهدناه بين تشيكوف وستلانسلافسكي.

في العقدين الأخيرين من القرن العشرين انتزع المخرجون التجريب من أيدي الكتاب المسرحيين . وقاموا بتدمير ركائز العرض المسرحي الأساسية : النص والممثل والجمهور والمكان المسرحي. هكذا وصل بهم الأمر إلى حد إلغاء المؤلف ـ النص . وشهدنا عروضا تجريبية بلا نصوص. وإلى اعتبار الممثل قيمة ثانوية، وإلى حد تقديم عرض مسرحي في حافلة متحركة ضمن شوارع مدينة. وبالرغم من أن بعضها عروض فائقة الجمال إلا أنها سرعان ما تذوب في زحمة المتغيرات المسرحية ، فليس فيها  أسماء أعلام ولا نصوص تخلد في تاريخ المسرح والأدب المسرحي.

في دورات مهرجان المسرح التجريبي بالقاهرة أثبت المسرح التجريبي العربي ، وبالرغم من عمر المسرح العربي المحدود عامة، وقوفه بجدارة إلى جانب التجريب في دول عريقة في المسرح في العالم، وذلك من خلال العروض الناجحة والجوائز التي فازت بها أسماء وعروض عربية كجواد الأسدي في تقاسيم على العنبر، وعبد الله السعداوي البحريني في الكمامة، والأفيال لوليد عوني، وكلام الليل لتوفيق الجبالي، والآلية لمانويل جيجي الذي فاز بجائزة أفضل تقنية، بالإضافة إلى أسماء ممثلين وممثلات وعروض أخرى.

وخلال متابعتي لعروض مسرحية ودورات مهرجانية ، وبخاصة عروض المسرح الجامعي ، وفرق تجريبية شابة وجدت أن مساحة التجريب إما أنها قائمة على تكريس همس الجسد كأداة تعبير وانحسار الكلمة كما في فرقة ليش التي قدمت من المسرح الحركي عرضها ” كل هالوقت ” للثنائي نورا مراد وباسم عيسى أو أن مساحة التجريب تطال الموروث الشعبي ، وتعنى على قدر بالكلمة الرامزة المكثفة ، وعلى قدر أكبر بالمشهدية البصرية المثيرة للدهشة بكل جمالياتها ودلالاتها في الرسم واللون والإضاءة والإيقاع لتكون مخزنا لأفكار المخرج ووسيلة إيصال ، وهنا يقف السينوغراف منافسا رئيسا للمخرج ومزاحما على إنتاج العرض المسرحي.

عمدت إلى استقراء وتحليل ما أتيح لي من مشاهدة عروض تجريبية لشبابنا فوجدت أنهم ما عمدوا إلى التجريب سعيا وراء فانتازيا شكلانية ، وإنما ثمة هموم اجتماعية أو سياسية أو مصيرية تؤرقهم باستمرار. وقد لجؤوا إلى التجريب ليس سعيا إلى التقليد وإنما لأنهم وجدوا أن الخطاب المسرحي التقليدي ما عاد مثمرا في عصر انحسر فيه دور الكلمة في التغيير بعد سيادتها كعملة رديئة فاضت من أفواه الخطباء المدجلين. هذه الكلمة ما عادت تثير صدمة لدى المتفرج ، فهم بحاجة إلى إدخال الكلمة نفسها إلى معمل التجريب وتوليد مشهدية حركية وبصرية معادلة لها ومعبرة عن رفضهم الكبير. وذلك بغية إنتاج خطاب مسرحي جديد.

إذن نحن أمام مجموعات من الشباب المغامرين بالكلمة يحتلون خشبة المسرح في مهرجانات متعددة وعروض فردية، خلعوا عن أنفسهم عباءة الخوف والمحاباة، وراحوا يثيرون أسئلة في الوجود، ويحملون ثقافة الغربة والانكسار في عروض مسرحية داكنة ومشهدية بصرية مؤلمة تستبطن عمق المعاناة الإنسانية في مجتمع غريب التشكل

يعود بقوة مسرح اللامعقول وأنواع أخرى من المسرح التجريبي على يد هؤلاء المغامرين الذين لا يجمعهم تجمع سوى الإحساس المشترك بخروج الحياة عن منطقيتها وقواعد لعبتها التاريخية، والغموض والقلق اللذين يكتنفان مستقبل الإنسان والإنسانية، وتفكك العلاقات، وانعدام التواصل، وبروز الجانب المتوحش في الكائن الاجتماعي والقائم السياسي، والبحث عبثا عن الحرية كقارة مفقودة، وتكاثف دكنة الشعور بفقدان الأمن الفردي والأسري الاجتماعي والاقتصادي.

إنها ثقافة الخوف من الآني والآتي في عصر الحصار والانكسارات، والهجرة والتهجير، واعتقال الكلمة، والخوف من المستقبل والمعيشة تحت خط الفقر.

أعتقد أنها بداية سليمة لإنتاج مسرحنا التجريبي الحديث على قواعد الاتصال والأصالة وليس على قواعد الانفصال والتقليد.

يبقى التجريب تيارا ضمن تيارات عديدة في حركة وتاريخ المسرح، وإذا كان بعض شبابنا المغامرين يريدون أن يسيروا فيه، وهذا حق تقتضيه ديموقراطية المسرح وحريته ، فلا بد كي يكون هذا التجريب منطلقا من تجربتنا وهويتنا، وكي ننتج مسرحا عكسيا، من أن نضع في الاعتبار ما يلي:

– التزود بثقافة عربية وإنسانية محيطة، والانطلاق منها والبناء عليها، لأن التجريب يقوم على المعرفة، وهذه المعرفة ضرورية في تكوين رؤية الفنان.

– التجريب لا يعني غياب الواقع عن العرض المسرحي والاكتفاء بالتشكيلات والتكوينات الجمالية،- وإنما هو في حقيقته سبر وفهم عميقان له ، وإخراج للواقع من واقعيته الصلبة إلى حالة أخرى متحركة يكون فيها أشبه باللدائن المرنة القابلة للتشكل حسب رؤية منتجي العرض المسرحي واستشرافهم للواقع الممكن.

-التجريب لا يعني التنكر للتراث وإلغاء الموروث الشعبي أو الأدبي أو الديني أو الاجتماعي الحياتي، بل وبالعكس فإن  هذه الموروثات كخلاصات تجارب مكثفة، وحكايات لها جاذبيتها ومثيرة للدهشة والتأمل  يمكن أن تكون مادة رائعة ولدائن طيعة حين إعادة إنتاجها وتشكيلها في العملية المعملية في المختبر المسرحي.

-لا يمكن القبول بمبدأ موت المؤلف والنص المسرحي بدعاوى التجريب في المسرح، إذ ليس من صالح العرض المسرحي أن يلغي المخرج المؤلف أو العكس، ولا أن يلغي السينوغراف المخرج .

_ التجريب لا يعني بالضرورة أو في النهاية تدمير العرض المسرحي، وإلا فإننا بذلك نكون قد خرجنا من جنس في الفن إلى جنس آخر لا علاقة له بالمسرح.

^^^^^^^^^^^^^^^^^^

 


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock