مقالات ودراسات

الناقد المسرحي حيدر الشطري يكتب: كولاجية الصورة وفيزيائية الدلالة.. في العرض المسرحي”انتروبيا”

مقاربات نقدية للدورة السادسة من مهرجان بلد الصمود الدولي بالعراق 2020


المسرح نيوز ـ  مقالات ودراسات | القاهرة

ـ

 

كولاجية الصورة وفيزيائية الدلالة في عرض مسرحية ( انتروبيا ) ينص القانون الثاني للديناميكا الحرارية في علم الفيزياء على مبدأ أساسي يقول: ( ان أي تغير يحدث تلقائيا في نظام فيزيائي لا بد وأن يصحبه ازدياد في مقدار إنتروبيته ) . والإنتروبيا تعني القصور الحراري (بالإنجليزية: Entropy)‏ أصل الكلمة مأخوذ عن اليونانية ومعناها ( تحول ) . ولغرض الحفر المعرفي والبحث في المعاني الدلالية للعتبة الاولى للعرض وثرياه ( العنوان ) الذي اقترحه كاتب سيناريو ( انتروبيا ) ومخرجه الفنان علي العبادي نتوصل الى حقيقة فيزيائية حتمية مفادها أن القاء قطرة حبر زرقاء اللون في قدح ماء يؤدي الى ان قطرة الحبر ستنتشر تدريجياً في الماء حتى تصل الحالة الى التجانس الشاذ بين المحلولين المختلفين في خواصهما وهذا يعني ان انتروبية النظام قد ازدادت وبالتالي ان عشوائيته قد تمكنت من السيادة في حالة النظام حتى لا يكاد الفصل بين المحلولين في هذا التزاوج الغير شرعي الذي نتج بينهما الا بوجود مؤثر خارجي اي ( شغل ). من كل ما تقدم حاول ( علي العبادي ) ان يقدم مادته الصورية في الاستفادة من هذا المعنى الفيزيائي الذي يتحول الى ابعاد فلسفية بالغة المعنى تغور بعيدا في اصل الحقيقة التي ارتآها صانعو العرض فيما لو قاموا بإسقاط هذا المعنى على الحالة العراقية بكل تجلياتها وصورها وتمظهراتها التي تحاول ان ترسم صور متعددة ومتتالية للخيبات والنكسات والخسارات . أُبتُني سيناريو ( انتروبيا ) على ست لوحات صورية اذا ما اجتمعت بتسلسل منطقي تراتبي معين فأنها تبحث في تصوير حال شخصية عراقية لا غيرها.
لذلك قدِّمت هذه المقترحات الصورية بطريقة اللصق الكولاجي وبتكنيك فني استعراضي يقوم على تجميع كل هذه الأشكال المختلفة لتقديم وجبة مسرحية تسعى الى ان تكون معبرة تعبيراً حياً عن معاناة شخصية واحدة او عدة شخصيات في كل هذه الصور المتتالية , وقد حرص المخرج على استخدام هذه التقنية لتحقيق عملية تلقي منتجة وتأثيره جذري كبير لدى المتلقي . ولم يكن كل ذلك ليتحقق لولا انه قدم باسلوب ( مايم الظل ) والذي يساعد في خلق فضاءات دلالية سينوغرافية ظلية لا يمكن تحقيقها اذا ما قدمت باسلوب فني آخر فالفضاء الظلي بخصوصيته الباهرة يفضي الى رسم عوالم تخيلية بعيدة بالغة الدلالة تنتج تواصل معرفي مع الجمهور. وقد لجأ المخرج الى تقديم فرجته الصورية عبر بالاستعانة بالتقنيات الالكترونية لإضافة مشاهد لا يمكن تحقيقها على المسرح كمشاهد التفجيرات وبعض المشاهد السينمائية خارج الخشبة وفتح مساحات ظلية صورية اخرى لتوسعة جغرافية المكان الظلية. اللوحة الاولى وقد عنونها كاتب النص ب ( الانتخابات )
وقد افترض لها مكاناً لقاعة اقتراع …استندت هذه اللوحة على خلفية ظلية زرقاء تصور رحلة البطل المضنية عبر الزمن للوصول الى قاعة اقتراع حيث يجد البطل نفسه امام ان يقوم بعملية اقتراع في صندوق يتحول دلالياً الى مرحاض تخرج من داخله الصراصير فيما بعد والتي لا يمكن ان يتخلص من براثنها …وتلك هي اولى خطوات البطل في رحلته السيزيفية عبر كل الجهات والتي جعلت من العرض ان ينحى منحىً كولاجياً لعدم تسييره باتجاه واحد. اللوحة الثانية وعنوانها ( خط احمر) وكان مكانها الافتراضي ( ساحة التحرير ) حيث يتم الاعلان عن بدأ اللوحة بصوت تزمير وضرب متوالي على الة الدف بين شخصيتين للإيحاء بكل ما تحمل هذه الساحة في الذاكرة العراقية من مرموزات واخرها التظاهرات الاصلاحية التي خرجت من هناك وليتفاجأ المشاهد بدخول شخصية اخرى تدخل في الحدث المسرحي تحاول سرقة مجهودات الشخصيتين السابقتين وبالتالي الصعود فوقهما وركوب موجة حراكهما التغييري , وتلك هي ثانية الخطوات نحو الصعود بالجدث المأساوي الى قمته. اللوحة الثالثة وكان عنوانها ( طفولة+ سبايكر ) وأُقترح لها مكانين افتراضيين الاول كان حديقة والثاني نهراً. وقدمت هذه اللوحة بخلفيتين الاولى ظلية فديوية والثانية حمراء اللون وهي تصور رحلة ثانوية داخل رحلة العرض الطويلة تتمثل ببداية الطفولة المستلبة التي تتعرض الى القهر والظلم وتنتهي بالقتل بعد بلوغ مرحلة الشباب ومن ثم الرمي بالنهر الذي يصطبغ بلون الدم القاني. اللوحة الرابعة وكان عنوانها ( لعبة المنضدة) ولم يحدد لا النص ولا العرض مكاناً افتراضيا للفعل المسرحي فيها ربما للإبقاء على احتمالية حدوث ذلك الفعل في كل مكان يكون فيه الانسان موجوداً . وتعتمد هذه اللوحة على لعبتين ايمائيتين تتحدد الاولى بفكرة سحب البساط من تحت رجلي الاخر لغرض اسقاطه والثانية تصور الصراع بين الشخصيتين بلعبة المنضدة التي لا يتم فيها تبادل الضرب بالكرة وانما بأشياء تتعدد انواعها فتتعدد ابعادها التأويلية لذلك تطرزت هذه اللوحة بأفلام فيديوية مصورة وجاهزة.
اللوحة الخامسة وكان عنوانها ( المتحف ) ولم يكن غير المتحف من مكان افتراضي لها , اعتمدت هذه اللوحة على تقديم تشكيلات ايمائية لتماثيل تحاول شخصية طارئة التأثير عليها بتغيير اشكالها وتغيير ملامحها الفنية وعندما لم تستطع النيل منها تتحول الشخصية الى مطرقة تقوم بتكسير هذه التماثيل وتدميرها . اللوحة السادسة وكان عنوانها ( الدوران في حلقة مفرغة ) والمكان المقترح لفضاء العرض صحراء مترامية الاطراف , وقدمت هذه اللوحة بخلفية فيديوية فقط يتعامل معها الممثل لتحقيق فضاء متكامل حيث تلاحق الطائرة كل الذين يتواجدون على الارض وليس هناك من مفر فوقها وحيث لم تعد ان تسع اللائذ بها من جحيم القنابل الملقاة فوق رأسه .وهكذا تنتهي هذه الرحلة بمصير شخصياتها الى ما كانت تنذر به كل اللوحات السابقة والتي مهدت له منذ اللوحة الاولى. شكرا لكل القائمين على هذا العرض الذي قدمته مجموعة من الشباب المسرحي الذين حملوا رسالة المسرح مشعلا يضيء دروب المعرفة في تجربة تمتلك الكثير من مقومات نجاحها وتبشر بولادة باب مسرحيين واعدين.


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock