مقالات ودراسات

الناقد المغربي أحمد بلخيري يكتب: مقاربة دراماتورجية للنص الدرامي”المنسي”!


المسرح نيوز ـ المغرب| أحمد بلخيري*
ناقد مسرحي مغربي
ـ
النسيان لغة الغفلة وفقدان الذاكرة. الغفلة، وهي سهو، مؤقتة؛ أما فقدان الذاكرة فقد يكون مؤقتا أو دائما. وهما معا، أي الغفلة وفقدان الذاكرة، مرتبطان بالإنسان الحي غير الميت.
من النسيان اشتُق عنوان هذا النص الدرامي “المنسي”1 لمحمد بلهيسي. عنوان تدل صيغته اللغوية على أنه اسم مفعول إذ هو موضوع النسيان. لذا، فإن فعل النسيان ليس من المنسي بل من غيره لأنه موضوع للنسيان. وقد قُدِّم هذا المنسي، وهو ميت، في النص الدرامي باعتباره وليا من أولياء الله. هذه العبارة لها صلة بالقداسة الدينية لأنه يوجد فيها اسم الله، ثم إن الولي ولي الله أي المحِبُّ الذي يكون اللهُ موضوعَ حبه. لذا فهو منقطع للعبادة باعتباره تابعا وعبدا لله. لكن هل كان هذا المنسي منسيا فعلا في النص الدرامي المشار إليه؟. كانت كتابة هذا النص الدرامي سنة 1972. فقد ذيَّل الكاتب هذا النص بالعبارة التالية:”انتهيت بعون الله ومشيئته من كتابة هذا النص بتازة في 17 أكتوبر 1972″2. حدد هذا التذييل زمان ومكان الكتابة.
وحسب ما جاء في أحد النصوص الموازية في بداية الكتاب، فقد تم عرض هذا النص مسرحيا بعنوان آخر هو “سيد المنسي” خلال الموسم المسرحي سنة 1975. ليست “سيد المنسي” هي “المنسي”، ليس على مستوى اللغة فقط فهذا جلي، بل، زيادة على ذلك، هناك فرق في الدلالة. الفرق الأساسي بينهما، على مستوى الدلالة، هو أن العنوان الأول يضفي على الشخصية المعنية نوعا من القداسة؛ أما العنوان الثاني فيجردها منها. قدم المخرج المسرحي عبد القادر الزرهوني العرض المسرحي “سيد المنسي” خلال الموسم المسرحي المذكور تحت هذا العنوان، فأسبغ عليه قداسة دينية على مستوى العنوان. أما الكاتب محمد بلهيسي فاختار “المنسي” مع حذف كلمة “سيد”.
قد يدل هذا الحذف على تجريد شخصية “المنسي” من القداسة الدينية. وهذا يتماشى مع الرسالة الأساسية في هذا النص الدرامي التي تبدو جلية في آخره. مؤدى هذه الرسالة هو ضرورة العودة إلى الله وتنقية الدار من الداخل، أي الإصلاح الديني من داخل الدين نفسه3 . تجريد المنسي من القداسة الدينية لا ينفي عنه الصلاح، فهو “ولي صالح”4 حسب “ابا جلول” وشخصية درامية أساسية. اختلاف العنوانين لايعني أن هناك اختلافا في الرؤية الإصلاحية بين المخرج والكاتب. قد يكون سبب الاختلاف في العنوانين هو أن المخرج ركز على منظور الشخصيات الدرامية التي كانت تنظر إلى “المنسي” بعين القداسة قبل اكتشاف الحقيقة بفضل حيلة “أبا جلول” في نهاية النص الدرامي. أما الكاتب فركز في العنوان على جوهر الرسالة الإصلاحية الداعية، دراميا، إلى نزع القداسة عن الشعوذة وعن الولي.
هذا النص الدرامي تم تقسيمه من لدن الكاتب أفقيا إلى أرقام بلغ عددها خمسة عشر رقما، تتفاوت حجما من حيث عدد الصفحات. وقد يتكون الرقم الواحد من أكثر من مشهد واحد كما هو الشأن بالنسبة لرقم 9. ولكل رقم عنوان يرتبط بالحدث أو الأحداث الدرامية التي هو عنوان وتكثيف دلالي لها. يمكن إعادة تقسيم هذا النص الدرامي أفقيا أيضا، لسبب إجرائي تحليلي، تبعا لسيرورة وتطور الأحداث فيه، إلى أربعة أقسام5 هي :1-الاستهلال 2-الهدايا 3- الحيلة 4-النهاية.
وهكذا يمكن تقسيم هذا النص الدرامي على النحو التالي:1- الاستهلال= 1+ 2. 2- الهدايا = من 3 إلى 12. 3- الحيلة= 13+14. 4 – النهاية = 15. 1-الاستهلال كان “استهلال” عنوانا للأحداث الدرامية الأولى في النص الدرامي. أما الاستهلال في التقسيم الرباعي المشار إليه، فيضم علاوة على “استهلال” ما جاء تحت عنوان: “المخفي…أباجلول…والبدايات”، وقد كان رقمه اثنين (2) أي أنه جاء بعد “استهلال” مباشرة. لذلك فإن الاستهلال، في التقسيم الإجرائي المشار إليه، يتضمنهما معا. السبب الداعي إلى جمعهما في هذا الاستهلال هو أنهما معا كانا ممهدين ل “قصية”أي قصة السيد المخفي التي تم تقديمها دراميا في كل الأرقام اللاحقة. في العنوان رقم 2 تركيز على شخصيتين دراميتين فقط هما المخفي، الذي أزيلت عنه كلمة “السيد” في العنوان فقط، وأبا جلول لأنهما الشخصيتان اللتان تجسدان المفارقة والتناقض في النص. نتيجة لذلك، يمكن القول إنهما قطبا الصراع الدرامي في النص. منذ البداية، أي انطلاقا مما تضمنه “استهلال” النص، كانت الإشارة إلى الفلس أي المال باعتباره محركا وحافزا للصراع لدى شخصية السيد المخفي، والقيم باعتبارها كذلك محركا وحافزا للصراع لدى شخصية أبا جلول. الأول باعتباره محتالا مقنَّعا بالدين، والثاني باعتباره فاضحا للاحتيال والتقنُّع بالدين خدمة لهدف شخصي هدف السيد المخفي. تبعا لهذا، يمكن القول إن أساس الصراع صراع بين المال والمادة من جهة، والقيم من جهة أخرى. لكن قبل ربط الرغبة في الحصول على المال عن طريق الاحتيال واستغلال الدين بشخصية السيد المخفي، كان قد تم ربطه بالإنسان بصفة عامة، أو كما جاء في النص ب”بني آدم”.
وبهذا كان الانتقال من تعبير عام إلى تعيين محدد يتمثل في شخصية السيد المخفي. المال يؤثر في الإنسان تأثيرا سلبيا. هذا ما أشار إليه “استهلال” النص. فالمال يتلف العقل، ويجعل الإنسان تائها، ويسعى طالبه إلى امتلاك الدنيا بعد إصابته باللهفة. هذا كله يكون سببا في “هجر الأحباب”6، و”هجر الأصحاب”7، وانعدام الخير، وعدم الخوف من الله.
كل هذا ينطبق على من يجعل المال قيمة القيم في الحياة. ولأن الأمر على هذا النحو، يجوز القول بأن حب المال والرغبة في الحصول عليه عن طريق الخداع والاحتيال والتدليس، وبتعبير أبا جلول “اهبل تربح”8، جعلت عالم الإنسان عموما بدون قيم. كان كل هذا تمهيدا للتركيز على شخصية السيد المخفي الذي هجر موطنه الأصلي إلى مكان آخر كان فيه غريبا، إنه المكان حيث يوجد السيد المنسي، وحيث تجرى أحداث النص، في ضريح الولي “السيد المنسي”. يمكن القول إن الغربة عن المكان ساعدت في إخفاء شخصية السيد المخفي الحقيقية، لنلاحظ اسم هذه الشخصية المشتقة من الخفاء،عن الآخرين عدا أبا جلول الذي يبدو من بداية النص9 أنه يعرف حقيقة السيد المخفي؛ لذا لم تنطل عليه حيل هذا الأخير. وبفضل معرفته هذه الحقيقة، ازداد الصراع الدرامي عمقا في هذا النص الدرامي. لغته الدرامية تفصح عن هذا العمق، وعن هذا الصراع الذي ازداد عمقا بسبب وقوع الشخصيات الأخرى في فخ احتيال السيد المخفي ومساعديه المستفيدين بدورهم من غنائم الاحتيال واستغلال الدين. بسبب هذا الاحتيال صار السيد المخفي “مقدَّما”، بالمعنى الصوفي، و”مجذوبا”، ومَقامه مرفوعا، وكلامه مسموعا عند أولئك. أما شخصية أبا جلول فهي النقيض المباشر لشخصية السيد المخفي، وبسبب هذا التناقض تطور الصراع الدرامي في النص. للسيد المخفي “قصة” مع السيد المنسي طُلب منه في البداية أن يحكيها. وكان “الحكي” دراميا أي عن طريق الدراما وليس عن طريق السرد.
فبعد شظف العيش في موطنه الأصلي، قرر الذهاب إلى ضريح السيد المنسي فكان التحول الذي طرأ على حياته التي “تحسنت”10. التحول من الحالة الأولى إلى الحالة الثانية راجع إلى التقنع واستغلال الخرافة والدين. التقنع يتعلق بالسيد المخفي، والخرافة تتعلق به وبالشخصيات الأخرى عدا أبا جلول. إنها قاسم مشترك بينهما، مع فارق أساسي يتمثل في من يستغلها لصالحه ومن هم ضحيتها بسبب الجهل. استثمر إذن المتقنِّع بالدين الخرافة لصالحه. أما وسيلة التقنُّع فليست سوى التدين لغة وسلوكا، صلاة وعبادة ومظهرا خارجيا (الشعكوكة). في إطار هذا التقنُّع والكشف عنه، ذُكر سبب قدوم السيد المخفي إلى ضريح السيد المنسي. السبب عند الأول هو النية، أما السبب عند الثاني فهو “الزفزافي والنفنافي…والبرق والرعد…والغيام…والليالي الشتوية…هي اللي جعلته يقصد السقف، قالا: النية… النية؟ ايوا زيدني على النية….”11. لم تكن النية إذن هي السببَ عند أبا جلول، التي سخر منها بعد تساؤل يدل على الاختلاف في تفسير سبب القدوم إلى السيد المنسي، بل شدة البرد والرعد والغيام في فصل الشتاء هي التي جعلت السيد المخفي يقصد ليس الولي بل السقف من أجل الاحتماء.
إن تحديد السقف باعتباره الهدف وليس الولي من لدن أبا جلول يعني تجريد السيد المخفي من النية الدينية، وبالتالي من الهالة الدينية التي أسبغتها عليه الشخصيات الأخرى. هكذا يتضح أن الاستهلال، وفق التقسيم الرباعي السابق الذكر، قدم معطيات عن “قصة” السيد المخفي. أما القصة نفسها فتم تقديمها دراميا في ما تبقى من هذا التقسيم. مع ملاحظة أن نتيجتها معروفة لدى أبا جلول قبل عرضها دراميا في النص12. تتلخص هذه النتيجة في معرفة حقيقة شخصية السيد المخفي عنده، فهو ليس فقيها ولا مجذوبا، بل هو دجال مشعوذ محتال. في هذا الاستهلال كانت الإشارة إلى موضوعتين أساسيتين في هذا النص الدرامي، هما حُب كسب المال عن طريق الدجل والاحتيال من جهة، وثنائية الخرافة والعقل من جهة أخرى. وقد كان التداخل بين طرفي هذه الثنائية،عن طريق الصراع الدرامي، في النسيج الدرامي في النص من خلال الحوار الدرامي. تجسد العقل شخصية أبا جلول، وتجسد الخرافة أوالتفكير الخرافي باقي شخصيات النص الدرامي ضحايا هذا النوع من التفكير، قبل حيلة أبا جلول التي بفضلها كان فضح وتعرية هذا التفكير الأخير. من نتائج هذا الفضح والتعرية التحول الذي طرأ على ضحايا التفكير الخرافي. 2- الهدايا: وسيلة وهدف تنقسم الهدايا في النص إلى قسمين، إذ منها المادي ومنها المعنوي/النفسي أو الوجداني. وهي وسيلة وهدف كذلك.
هي وسيلة بالنسبة لمانحيها، وهدف بالنسبة للسيد المخفي. 2-1 الهدايا المادية تتكون هذه الهدايا من الشمع، والطبق المغطى بمنديل مطرز، والدجاجة ذات اللون الأسود، والزرابي، والأفرشة (الغطاوات)، وغلة الأرض، والبخور، والكسوة مختلفة الأشكال والألوان، والذبيحة…13. وقد تُفسر عبارة “أطباق من اللويز والجوهر”14، حسب تعبير السيد المخفي، بالمعنى المجازي. تختلف أنواع الهدايا كما تختلف نوايا وأهداف مانحيها، ومنها طلب العمل أو الشغل، ولكنها مستعملة في النص في أجواء الشعوذة وفق منظور أبا جلول، وأجواء القداسة وفق منظور المانحين. مانحو هذه الهدايا شخصيات تطلب من خلالها السعادة، والهناء، والغنيمة، والعمل، واللقاء مع المحبوبة، والفرج بعد الضيق أو المصيبة كما جاء في النص. ومادامت هذه الأمور كلها مطلوبة فإنها غير موجودة على صعيد الواقع حسب كل حالة على حدة. ولأن كل هذا يحدث في فضاء “مقدس”، حيث الولي وخديمه وبركة هذا الأخير، حسب اعتقاد هذه الشخصيات وحسب ادعاء هذا الأخير، فإن هذه المطلوبات تندرج في إطار القداسة.
ولإضفاء مزيد من الهالة على هذه الأخيرة، علاوة على المكان وادعاء البركة والتقنع بالتدين، وترسيخها وتعميقها بشكل أفضل، كان استعمال طوائف دينية هي درقاوة وحمادشة وعيساوة. من منظور بنيوي، لم يكن هذا الاستعمال مقحما أي مفصولا عن البنية الدرامية، بل كان مرتبطا بها وبتطور الأحداث الدرامية. فقبل ظهور ودخول تلك الطوائف مباشرة قال السيد المخفي: أنا شفت ما لاتشوفــــــــــه فهذا الولي15 عيـــــن الرجال على القبور طافوا جماعات ف كل حــين عجبتني دنيا الأهــــــوال وبنيت فيـــــــــها داري وجدت قوم من ناس الحال يتغناوا بلغز أســراري وجد السيد المخفي في الولي “عينا” إذ هو مصدر الخيرات المتدفقة عليه بفضل الهدايا. فعرفت وضعيته تحولا جذريا، من ضنك العيش، قبل قدومه إلى الولي، إلى بُحبوحته بفضل وفرة الهدايا بعد قدومه إليه وادعاء خدمته. لهذا أعجب ب “دنيا الأهوال” حيث يطوف الرجال جماعات على القبور، وحيث يتغنى “قوم من ناس الحال” بلغز أسراره حسب قوله. كان الإعجاب لأن هذه الوفرة لم تكن مألوفة لديه في المكان الذي منه أتى إلى الولي،و”العجب النظر إلى شيء غير مألوف ولا معتاد”16.
بعد هذا مباشرة ظهرت الطوائف المذكورة. ظهورها إذن جزء من البنية الدرامية. استعمال هذه الطوائف في هذا النص الدرامي، لم يكن من أجل ممارسة الجذبة والتطَهُّر النفسي. إن استعمالها مندرج في إطار الحيلة التي لجأ إليها السيد المخفي ومساعده الراضي، أو “الألاعيب”17 كما جاء في أحد الإرشادات المسرحية، لإضفاء المزيد من القداسة على الفضاء والأحداث. وكلما ازدادت القداسة ازدادت الهدايا، وبزوال الأولى تزول الثانية. هناك إذن علاقة جدلية بين القداسة والهدايا. أعجبَت “دنيا الأهوال” هذه السيد المخفي فبنى فيها “داره” حيث كان التغني ب”لغز أسراره” من قبل تلك الطوائف. ولأن الرسالة الأساسية في هذا النص الدرامي هي الإصلاح الديني، فإن استعمال وتوظيف تلك الطوائف كان في إطار النقد وليس في إطار التكريس. لذلك، يمكن القول إن طقوسها، التي استعملت فيها البندير والقرقبة والعافية، أي النار، و”الجناوة”، أي السكاكين، والجذبة، كان لها في هذا النص مردود. هذا إذا تم النظر إلى كلمة “مردود” بمعنى الفائدة الفكرية. كان التركيز على هذا النقد باستعمال مسرح العرائس. في هذا السياق، ورد في النص مايلي:”تنطفئ الإنارة تدريجيا…موسيقى هادئة…ينسحب الممثلون…يظهر شخصان وهما يدفعان بصندوق مسرح العرائس الذي يتوسط خشبة المسرح…يسلط الضوء عليه تدريجيا…ي
طل من فتحته ممثلون وهم يشخصون أدوارهم على شكل كراكوزات… !!) الرجل س: شوف، شوف، شوف… الوجوه كلها محروقة … الرجل ص: بمشاهبهوم تحرقوا !!… الرجل ع: صنعوا باش يفناوا !!! اللي ضرباتو يده ما يبكي… الرجل و: فكرو حتى عياوا، وف التالي كلاهوم تفكيرهم. الرجل ص: قالوها زمان: اللي حفر شي حفرة كيطيح فيها… الرجل ع: واللي اصنع شي هراوة يأكل بها… (تظهر الأم في الزاوية اليمنى من الخشبة، بعيدة عن مسرح العرائس) الأم رحمة : كبدتي محروقة من ولدي !! الرجل س : الكبدة ما تعنى…والعين ما تغنى. الرجل و : من يوم ازرع الله الروح ف سيدنا آدم وهي كلها كبود. (إضاءة شاملة تعم جنبات الخشبة…ممثلان يسحبان مسرح العرائس خارج بقعة الضوء…ليعود المشهد كما كان عليه…)18 . استعملت تلك الطقوس في النص من أجل التنبيه إلى خطورتها على العقل والوجدان، مع تحميل المسؤولية في ذلك، من خلال مسرح العرائس، إلى المريدين أنفسهم الذين صنعوا وسيلة فنائهم، المجازي، مثلما صنعوا العصا التي يُضربون بها وهي عصا مجازية أيضا. كما يبرز النص أن استغلالها فيه لم يكن الغرض منه دينيا تعبديا، بل كان غرضا يصب في المصلحة الشخصية؛ إنها جزء من “الألاعيب”. المصلحة الشخصية اقتضت استغلال الموسم، وجعلت “الشفاء رهينا بقيمة الهدية”19، “شفاء”مزعوم وهدايا حقيقية. لهذا كانت نهاية النص تتضمن بديلا مغايرا لهذه المصلحة تماما. إنه لفائدة الجماعة. وقد يكون تقديم الهدايا مصحوبا بالركوع وتقبيل الكتف من لدن مانحيها ولمس رؤوسهم بيد السيد المخفي. الركوع وتقبيل الكتف علامتا الخضوع والطاعة والاستسلام وهيمنة الخرافة على الأذهان. أما اللمس فعلامة حركية تدل على البركة والقداسة اللتين يتمتع بهما السيد المخفي حسب المريدين.
كل هذا يحدث في فضاء الولي حيث يوجد خديمه السيد المخفي، وهو فضاء يُعتبر مقدسا من قبل المريدين. 2-2 الهدية المعنوية/النفسية فضلا عن الهدايا المادية، توجد في النص الدرامي هدية من نوع خاص. لكنها لاتخرج عن نطاق الشعوذة والاحتيال. ويبدو أن استعمال هذه الهدية الأخيرة الغرض منه هو المزيد من تعرية شخصية السيد المخفي والكشف عنها. قصدت امرأة، واسمها رحمة، السيد المخفي من أجل علاج ابنها “الأحمق”. لكن السيد المخفي مالت نفسه إليها. وصف خديها بكونهما ورديين، وفي عينيها الكحل، وهي في الخمسين من عمرها، وجميلة. احتال20 لكي ينفرد بها، وحول اسمها إلى اسم دلع: “لا لا رحيمو”. ولأنها أرملة فقد زال المانع الشرعي، المتمثل هنا في الزوج المتوفي، للارتباط بها أو لوطئها. لهذا تسربت لغة الحب والغرام إلى لغة السيد المخفي، إذ تحولت لغته من المجال الديني إلى مجال الحب والغرام أمام رحمة. لكن هل الارتباط الذي يريده ارتباط شرعي ودائم، أم ارتباط ظرفي وعابر تلبية لنزوة. إن السيد المخفي لاثقة فيه حسب أبا جلول، لهذا حذرها من مغبة الثقة فيه. وإذا كان الأمر على هذا النحو، فإن توظيف رحمة كان من أجل المزيد من تسليط الضوء، دراميا، على شخصية السيد المخفي. ويبدو أن رحمة كانت تثق في البداية في السيد المخفي قبل الإفصاح عن رغبته.
فمقابل دعوات السيد المخفي، من أجل شفاء ابنها، فإن طلبه “مقبول ولو نهدي نفسي”21 كما قالت. هل استعملت هذه العبارة الأخيرة من لدن المؤلف، على لسان المرأة، لإغراء السيد المخفي كي يفصح عن رغبته؟ يبدو أن الأمر كذلك. لكن المؤكد، من خلال لغة النص، أن السيد المخفي شعُر أن في قلب المرأة “غبينة”22 . هي إذن عنده ضعيفة من جهة النفس. ألم ترغب في تقديم نفسها هدية له لكي يعالج ابنها بواسطة دعواته؟. الحوار المتعلق بهذه الهدية الأخيرة يجري في فضاء مقدس وأجواء مقدسة بالنسبة للمرأة ولكل مانحي الهدايا الآخرين. أما السيد المخفي فيدرك أنها جزء من ألاعيبه. وبهذا قد يكون هذا الحوار، وكذلك مجموع الأحداث المتعلقة برحمة في هذا النص الدرامي، وسيلة للكشف عن جانب من شخصية السيد المخفي. وقد تم التمهيد لهذا الكشف حين تمت الإشارة سابقا إلى كونه وحيدا. هذه الوحدانية فُسرت باعتبارها زهدا من قبل الشيخ حمزة23 ، والزهد طريق الجد24 عند الراضي. لكن الأمر ليس كذلك بالنسبة للسيد المخفي. بناء على هذا، كان الحديث عن موضوع “مدَنَّس”، موضوع الحب والغرام، في فضاء مقدس. يبدو مقدسا بالنسبة لمانحي الهدايا والمريدين. ابن رحمة “أحمق” فاقد للعقل والتوازن النفسي. رأى ثم تحدث، في فضاء الضريح، عن صراع بين إخوة أعداء. هذا الصراع هو مبعث ضحك بالنسبة للشيباني، لكن الابن “الأحمق” استنكر هذا الصراع. يتجلى هذا في قوله:”كيتخاصموا…يا لطيف، يا لطيف، يا لطيف !!…شي كيضرب شي…والشيباني كيضحك عليهم…”25. ولأنه “أحمق” حسب اعتقاد أمه فإنها فسرت الصراع أو الخصام بأنه لعب فقط. يبدو من خلال موضوع الخصام، الذي شخصته الجماعة، أنه يتعلق بجيران لهم سطح منزل مشترك. لكن اللافت هو أن هذا الخصام يحدث في فضاء “مقام ولي الله”26. لهذا أمر السيد المخفي بإخراجهم منه. قد يكون سبب هذا الأمر هو أن هذا الخصام لافائدة منه بالنسبة لهذا الأخير. والفائدة عنده هي الهدايا.
هذا،ويمكن المطابقة بين الشيباني،الذي يضحك، والسيد المخفي. الضحك بسبب الخصام تعبير عن موقف. فقد يكون، في هذه الحالة، تعبيرا عن سخرية واستهزاء. الاستنكار مقابل السخرية والاستهزاء. وإذا صح هذا، فإن “الأحمق” ينطق بالحكمة. إذ لايمكن أن يكون وجود هذه الشخصية، باعتبارها جزء من البنية الدرامية، زائدا بدون دلالة. زد على ذلك، أن صراعا نشب بين الإخوة في نهاية النص الدرامي بعد انكشاف احتيال السيد المخفي بفضل حيلة أبا جلول حول الأرض؛ صراع يدل على عدم اتفاق الإخوة. ورغم عدم وجود شخصية الابن “الأحمق” في هذا الصراع الأخير، فإنه يمكن القول بأن “حكمته” واستنكاره استشراف لما سيحدث لاحقا بين الإخوة وموقف منه. لهذا انتصرت حكمة أبا جلول في الأخير كما سيتبين لاحقا. 3- الحيلة إذا كان التعرف يؤدي إلى التحول في التراجيديا حسب أرسطو، فإن الحيلة في هذا النص الدرامي أدت إلى حدوث تحول في الأحداث و الوعي ورسخت البطولة الفردية. فقد تقمص أبا جلول شخصية الولي المنسي بمساعدة أحد الأوفياء. ومن أجل نجاح الحيلة غير أبا جلول من ملامح وجهه انسجاما مع الدور. المنسي الميت غدا، بسبب هذه الحيلة، شخصية حيةََ تتكلم. فكان الحوار المباشر، دراميا، بينه وبين المريدين. ركز هذا الحوار على الجانب الإصلاحي الديني، وتنبيه المريدين الغافلين الذين سمحوا في العالي أي الله وقصدوا الولي. ولأن الولي المنسي عندهم في منزلة “المقدس”، فقد اعتقدوا أنه المنسي فعلا دون أن يفطنوا إلى الحيلة.
ساعد هذا الأمرُ في تركيز الرسالة الإصلاحية والتحول في الوعي. والسيد المخفي عند المنسي/أبا جلول هو عدو الله، وهذا هو رأي ابا جلول في الحقيقة وليس رأي المنسي الميت. ولأنه عدو الله عند المنسي/أبا جلول فقد زالت عنه مظاهر التقديس تماما على مستوى الوعي وعي المريدين. وقد كانت لغة أبا جلول/المنسي، في دوره الجديد، منسجمة مع الرؤية الفكرية الإصلاحية المؤطرة لهذا النص الدرامي. ركزت لغته، من خلال حواره مع الجماعة، التي اعتقدت أنه فعلا المنسي، على أربعة عناصر هي:1-انهيار العقل 2- الله حي دائم 3- المنسي مات 4- الضلال. الجماعة في ضلال بسبب انهيار العقل، وهو عقل ديني، لأنها قصدت الولي الذي مات وسمحت في الله وحده الحي الدائم الذي لايموت. كانت نتيجة تغير مجرى الأحداث بفضل الحيلة أن تغير وعي الناس كذلك. إن الرجل س والرجل ص اللذين كانا من جملة مقدمي الهدايا قبل الحيلة27 قد أعلنا عن هذا التغير في الوعي بعدها. من حوارهما الدال على ذلك ما يلي: “الرجل س: جا اليوم اللي ما ينفع فيه كذوب… الرجل ص : لاهدية للولي ولا كلام مجذوب… “28 . بعد الحيلة كان التمييز بين الأمس واليوم.
بالأمس كان الكذب، وكانت الهدايا، و”النية”، والخداع إلخ. أما اليوم فجاء وقت الحساب وفضح المستور 29 . الاختلاف بين الأمس واليوم، على مستوى الوعي في النص، كان بفضل الحيلة. أدى التحولُ في الوعي بالنسبة للمريدين إلى تحول في وضعية شخصية السيد المخفي. انتقل بموجبه من فضاء القداسة إلى فضاء مدنس. لذلك، بدا في نهاية النص الدرامي مكبل اليدين والرجلين ومنهارا على المستوى النفسي. هذه النهاية توحي بنهاية نمط من التفكير قائم على الخرافة والشعوذة واستغلال تديُّن الآخرين. وقد رسخت الحيلةُ البطولةَ الفردية. ملامح البطولة الفردية الخاصة بأبا جلول واضحة من بداية النص الدرامي. يتجلى هذا الوضوح في لغة هذا الأخير وأفقه الفكري اللذين يختلفان جذريا عن لغة وممارسة السيد المخفي. تجسد الشخصية الأولى الرغبة في النهوض بالعقل، وعبادة الله وحده وعدم الشرك به، والدعوة إلى خدمة البلاد أي الوطن30 إذ يمكن المطابقة بينهما دلاليا حسب السياق . أما الشخصية الثانية فتجسد التفكير الخرافي، والاحتيال، والشعوذة، واستغلال الدين وتديُّن الناس لتحقيق مكاسب شخصية. الأفق الفكري لشخصية ابا جلول مرتبط بالمستقبل أي بالإصلاح الفكري في إطار الدين؛ أما ممارسة السيد المخفي فترتبط بالواقع النصي أي بالحاضر، واقع الخرافة والشعوذة. الإصلاح الفكري المنشود بديل عن الخرافة والشعوذة. وهذه هي الرسالة الأساسية في هذا النص الدرامي. 4- النهاية بعد التحول الذي طرأ على سير الأحداث الدرامية بفضل الحيلة، أشار المخفي، وهو تحت قبضة المريدين، إلى مفهوم الخوف. هو لا يخاف إلا إذا كان الصفاء وحب الأرض والبلاد، أي الوطن، لأن فيها كلَّها قضاء على انتهازيته ونهاية لها. وهذا يفيد أن هذه الشخصية ضد الصفاء ولاتحب البلاد أي الوطن. إنه يحب ذاته فقط: مصالحه الذاتية الفردية. لكن مفهوم الأرض أحيا في المريدين الصراع من أجلها لتحقيق مكاسب شخصية. لكن لتجاوز الرؤية الفردية الذاتية، التي تكون سببا في النزاع، اقترح عليهم أبا جلول “ورشة عمل جماعية”31. هذا الاقتراح المقصود ينسجم مع الدور البطولي لهذه الشخصية في النص الدرامي.
شملت الورشة الجماعية، تشخيصا، الصناعة والرياضة والتجارة والثقافة… إلخ. العبارة المختزلة في”إلخ” تدل على أن هناك مجالات أخرى. هذه المجالات كلها هي نقيض للخرافة والشعوذة ومايرتبط بهما على مستويي الوعي والسلوك. انتصرت في الأخير الورشة الجماعية، إذ بقدر ما تشتغل المجموعة، التي هي تجاوز للسلوك والاختيار الفردي، “بقدر ما ينسحب المخفي والراضي وأتباعهما محاولين الهرب”32 في المشهد الأخير. في هذا المشهد الأخير كان الانتصار للعقل وللحل الجماعي؛ وكانت الإدانة للمخفي، الذي جُرد من كلمة “السيد”، والراضي واثنين من أتباعهما. علامتا الإدانة هما “بقعة ضوء حمراء”33 وكذلك “قضبان السجن”34 حيث كانوا يقبعون. العلامة الأولى مشَفَّرة، ذلك أن اللون الأحمر علامة على
خطورة الشعوذة على المجتمع لأنها تمنعه من التقدم والإنتاج، وتُرسخ فيه الاستهلاك دون الإنتاج، بالنسبة لشخصية السيد المخفي، وكذلك التفكير الخرافي المنسوب إلى الدين الإسلامي. بناء على ما سبق، يمكن القول إن التواصل الدرامي بين السيد المخفي والمريدين، قبل الحيلة، كان يطبعه الانسجام، حيث تمكَّن من استغلال الشقاق والنفاق والجهل والغفلة والأمية، وهي كلها تخص المريدين، لتحقيق مآربه الشخصية المتمثلة في المال وجمال رحمة. لذا يجوز القول إن إغراء المال والجمال محركان أساسيان لكل أفعال السيد المخفي في النص الدرامي. ولتحقيق هدفه تقنَّع بقناع الدين، فهو لم يكن يصلي ولم يكن يقوم بأداء الشعائر الدينية الإسلامية. زد على هذا جهل وأمية المريدين. لكن بعد الحيلة تغير مضمون التواصل بين الطرفين بعد التغيُّر الذي حدث في وعي المريدين. بناء على هذا التحول تحولَ الانسجام إلى صراع.
وخلافا لذلك، لم يكن التواصل الدرامي بين أباجلول والمريدين يطبعه الانسجام بسبب جهل وأمية المريدين قبل الحيلة. أما بعد الحيلة فكان الانسجام في التواصل بين الطرفين بعد أن انكشفت خيوط لعبة السيد المخفي. سبب الاختلاف بين التواصلين راجع إلى اختلاف الشخصيتين الرئيسيتين المتناقضتين واختلاف نوعي التفكير لديهما: شخصية السيد المخفي وشخصية أبا جلول. هذا، ويكشف معجم اللغة الدرامية من بداية النص الدرامي إلى نهايته الخاص بكل شخصية من تينك الشخصيتين ذلك التناقض الذي هو أساس الصراع. غير أن السيد المخفي لايرى في ذلك التناقض سوى حسد له من لدن أبا جلول. تبعا لهذا الرأي، يمكن القول إن سبب الصراع والتناقض بينهما نفسي وشخصي. لكن الأحداث الدرامية،لاسيما في نهايتها، كشفت أن السبب فيهما، أي الصراع والتناقض، يتجاوز ما هو شخصي إلى ما هو جماعي، وما هو نفسي إلى ما هو فكري، وبالتحديد إلى إصلاح فكري ديني جماعي يتجاوز المصلحة الشخصية الذاتية الضيقة. بناء على ما سبق، يمكن تجسيد الصراع والحوار الدرامي في النص في مثلث يتضمن الأطراف الثلاثة في الصراع والحوار الدراميين، وهم: السيد المخفي، والمريدون، وأبا جلول. هذا علما بأن السيد المخفي استعان بمساعدين وبطوائف دينية وبالقناع مظهرا وسلوكا ولغة. وهذا هو المثلث: كان التجاوب في التواصل بين السيد المخفي والمريدين متحققا من بداية النص الدرامي، بعد الاستهلال، إلى أن لجأ أبا جلول إلى الحيلة. لهذا تم الترميز له بخط مستقيم متصل ذي سهمين. لكن بعد الحيلة انقطع التجاوب فكانت المطالبة بعقابه. تم الترميز لذلك بخط متقطع يوجد بعد الخط المتصل. وبالمقابل، لم يكن هناك انسجام فكري بين أبا جلول والمريدين من بداية النص الدرامي، بعد الاستهلال، إلى الحيلة. الأوصاف التي وُصف بها من لدنهم تكشف ذلك.
بعد هذه الأخيرة، أي الحيلة، كان التجاوب والانسجام بين الطرفين. لهذا كان الخط المتصل بعد الخط المتقطع. في التحول الذي طرأ للمريدين نجاح لأبا جلول وإخفاق للسيد المخفي. نجح إذن أبا جلول في النهاية وأخفق السيد المخفي. النتيجة الفكرية المترتبة عن ذينك، النجاح والإخفاق، هي انتصار العقل الديني الإصلاحي على الخرافة والشعوذة واستغلال جهل وأمية الناس. ومن بداية النص إلى نهايته لم يكن هناك أي تجاوب في الحوار بين أبا جلول والسيد المخفي. لهذا تم الترميز لذلك بخط متقطع. يجسد هذا الخط المتقطع الصراع الأساسي في هذا النص الدرامي. هذا، وتجدر الإشارة إلى أن حكاية السيد المخفي وقعت، فنيا، قبل تقديمها دراميا في هذا النص. فقد طُلب منه حكايتها (القصية أي القصة) في بداية النص الدرامي. الحوار التالي دليل على ذلك: “المدني: بغيناك تعاود لنا القصية… الشيخ حمزة: وتحكي لنا ما جرى لك مع سيد الأولياء…”35. في هذا العالم الدرامي،عالم الشعوذة والقداسة معا، يوجد في الأعلى الله، ثم الولي (المنسي)، فالخديم (السيد المخفي). الخديم، وصيغة الكلمة من صيغ المبالغة، هو المتفاني في خدمة الولي. الولي تابع لله، والخديم خديم للولي. الله غير مجسَّد لأنه مقولة مجرَّدة، بينما ضريح الولي مجسَّد ومرئي. ويبدو أن المانحين يتوسلون إلى الله، أي إلى المجرد، عبر المجسّد. المجسَّد واسطة بين المريدين مانحي الهدايا والله. هذه الواسطة هي التي يرفضها أبا جلول. وهو ليس ضد الولي “المنسي” الذي وصفه في نهاية النص بكونه صالحا، ولكنه ضد “العدو” الذي “استولى عليه”36 أي ضد السيد المخفي. الفرق بين الولي المنسي والسيد المخفي هو أن الأول ميت، وصالح من الصلحاء، ولايستغل الناس. أما الثاني فحي ويستغل الناس باسم الدين. بناء على هذا، كانت الدعوة إلى نسيان “المنسي” من جهة، وربط العقل بالله وحده، دون واسطة، وبالإنتاج في شتى المجالات من جهة أخرى. ويبدو من خلال النص والعنوان أن “المنسي” كان منسيا في ضريحه. لكن السيد المخفي، بعد لجوئه إلى الضريح قادما إليه من مكان آخر، “أحيا” هذه الشخصية من أجل نشر الخرافة والشعوذة والاستغلال كسبا للمال. هذا جواب عن سؤال سابق. لهذا كانت أول جملة لفظية في النص تتعلق بالمال الذي أتلف العقل، عقل السيد المخفي؛ الإتلاف هنا بمعنى اتباع طريق “الشيطان” كما ورد في النص. وقد كان الاستغلال مزدوجا: معنويا وماديا. يتجلى الاستغلال المعنوي في استغلال شخصية “السيد المنسي”، ويتجلى الاستغلال المادي في الهدايا التي كان يقدمها المريدون بسبب الجهل. وقد بنى الكاتب، دراميا، أحداث هذا النص بأسلوب درامي يعتمد على الزجل. وتبدو ثقافته المسرحية، باعتباره مخرجا مسرحيا، من خلال عنايته بفضاء الخشبة في هذا النص المقسم إلى أرقام. وقد ذُيل هذا النص الدرامي “المنسي” بإشارة زمنية تتعلق بيوم الانتهاء من كتابته . حسب تلك الإشارة الزمنية، كانت نهاية كتابته يوم 17 أكتوبر 1972. هذا يدل على أن هذا النص كُتب قبل البيانات التي ظهرت تحت عنوان “الاحتفالية” في زمن لاحق،جيث ظهر بيانها الأول في نهاية سبعينيات القرن العشرين. وظف هذا النص الدرامي إذن الموسم، و”المجذوب”، والطوائف والزوايا (درقاوة، عيساوة، كناوة…) قبل ظهور تلك البيانات.
كان هذا التوظيف في سياق انتقادي، ذلك أن توظيفها كان مقرونا بالممارسات التي كان يلجأ إليها السيد المخفي من أجل إيهام المريدين ولتحقيق مآربه الشخصية. لقد قدم هذا النص الدرامي صورة، بأسلوب درامي، عن استغلال الدين والمقدس في الشعوذة في المجتمع المغربي في بداية سبعينيات القرن العشرين. لكن هذه الظاهرة لم تختف من هذا المجتمع اليوم رغم التقدم التقني،ورغم الفضائيات،ورغم شبكة الإنترنيت. فهل مازالت العقلانية بعيدة عن المجتمع المغربي، المجتمع وليس النخبة، أو هو بعيد عنها؟إذا كان الجواب بالإيجاب،وهو كذلك،فما هو السبب أو الأسباب في ذلك؟. الجواب موكول إلى الأبحاث السوسيولوجية بالدرجة الأولى.
هوامش:
1-محمد بلهيسي، المنسي مسرحية زجلية، منشورات ومضة، طنجة، المغرب، ط/1، 2014. 2- نفسه، ص/146. 3- نفسه، ص/142/143. 4- نفسه، ص/142. 5-1-الاستهلال=01استهلال 02 …المخفي… أبا جلول…والبدايات. 2 الهدايا= 03 جماعة المريدين في خدمة المنسي… 04 من أراد الشفاء فليعجل بالأداء 05 …المخفي…أبا جلول… والمكاشفة !!! 06 المخفي…الأم…وصراع الإخوة !! 07 اشرح يا لفاهم للغافل يصبح فاهم !!! 08 الأم رحمة تبوح بهمومها… !! 09 الكلام كثير والسكات أحسن… !!10 الشفاء رهين بقيمة الهدية… !! 11 …حديث المقاهي… !! 12 موعد المنسي مع ناس الموسم… !! 3- الحيلة= 13 أبا جلول يحبك حيلة للتخلص من المشعوذ… ! 14 …دقت ساعة المكاشفة… !!. 4- النهاية= الايبيلوك = 15. 6-7 نفسه، ص/53. 8- نفسه، ص/56. 9- في بداية “المشهد” الثاني قال أبا جلول: بان عيبك اخونا، ما عندك هروب، كل شي تفضح…شي قال عليك مجدوب… وشس قال عليك معدن لكذوب…” ص/61. 10- نفسه، ص/62. 11- نفسه، ص/64. 12- من تلك المعرفة على سبيل المثال قول أبا جلول معلقا بعد ذكر الشيخ حمزة أن السيد المخفي سُمي المقدم وصار كلامه مسموعا : “بالكلام الخاوي…والسحاسح…والكذوب… وتحرميات…وخرجان الطريق…باش كتدوخ عباد الله”. ص/65. 13-استُعملت هذه النقط لوجود كلمة “هديات” أي هدايا دون تحديد في الصفحة رقم 126. 14-نفسه، ص/101. 15- نفسه، ص/69. كُتبت الوالي بدل الولي. 16- جمال الدين محمد بن مكرم ابن منظور الافريقي المصري، لسان العرب، دار صادر، بيروت، لبنان، ج/1، ص/581. 17- نفسه، ص/123. 18- نفسه، ص/109/110. 19- عنوان “الفصل” رقم 10 في النص. 20- قال في هذا الصدد السيد المخفي: “كل شي يخرج علي…بغيت لا ل ارحيموا…عندي بزاف مانقول لها”. وأمره مطاع عند مريده الراضي. 21- نفسه، ص/90. 22- نفسه، ص/97. 23- نفسه، ص/74. 24- نفسه، ص/75. 25- نفسه، ص/94. 26- نفسه، ص/95. 27- نفسه، ص/102. 28- نفسه، ص/130. 29- نفسه، ص/130. 30- نفسه، ص/131. “خدم بلادك بالجد…”. 31-32- 33-34-نفسه، ص/146. 35- نفسه، ص/61. 36- نفسه، ص/142.

 


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock