مقالات ودراسات

الناقد حيدر عبد الله الشطري يكتب عن مونودراما .. “حاويات بلا وطن” الحروب.. الهلاك.. والموت المجاني.


المسرح نيوز ـ العراق| مقالات ودراسات

ـ

بقلم: حيدر عبدالله الشطري

 

 

دائما ما يسعى القائمون على التجارب المسرحية الى تأصيل محاولاتهم الغنية هذه والتي تخضع دائما لخبرات عملية تحاكي الواقع عبر مواصفات تخضع للعملية المسرحية لتتشكل بعد ذلك وفق مشروع مستمر مع استمرارية الانسان في ممارسة حياته الطبيعية , وتعميق هذه التجارب الجادة التي تتخذ من الانسان مادة لها والبحث في مصيره ووجوده باعتباره كائن يجب ان لا يقع عليه فعل الظلم والانهزام.

 

وتعددت هذه التجارب الحية بتعدد كل انواع القهر الذي يتعرض له الانسان في كل عصر وزمان وماذا سيفعل ازاء هذه الافعال المأساوية التي تقع على كاهله وكيفية مواجهته لها واستعادة حريته المستلبة ووجوده الانساني .

 

وهكذا كان الانسان دوماً مثار بحث في كل الطروحات الفكرية التي يسعى الفن الى الاشتغال عليها باعتباره طرفا لصراع مع قوى كبيرة تحاول دائماً ان تلقيه في غيابات جِباب او حاويات نفايات او طوامير مظلمة في مصائر مجهولة كثيرة وعليه في كل مرة ان يواجه هذه التحديات وبالتالي عليه ان يخرج منها ليعلن عن انتصاره مقابل قهره.

 

من كل ما تقدم تشكل خطاب عرض ( حاويات بلا وطن ) تأليف قاسم مطرود وتمثيل جورج تلبه والذي حاول التركيز على مشاكل الانسان العصري الذي يجد نفسه مجرداً من كل شيء سوى من اصراره على الحياة والبحث عن مصيره بعيدا عن دوامات القهر والاستلاب التي تطحنه وتحاول غلبته والقضاء عليه.

 

النص :ــ

يعتبر نص ( حاويات بلا وطن) من النصوص المونودرامية المهمة للكاتب العراقي   قاسم مطرود والتي حاول من خلالها تجسيد مأساة الانسان العراقي المعاصر

يقول كاتب النص :ــ

( كتبت هذه المسرحية عن أسرة سكنت الحاوية لأسباب يعرفها الدكتاتور قبل غيره، وكنت أزورهم بين الحين والآخر واجلس وأتحاور معهم، وجل ما صنعته من اجلهم هو تدوين حكايتهم على الورق , وبعد عشر سنوات، عدت إلى النص ثانية، بعد مشاهدتي لآلاف الأسر التي تسكن الحاويات أو تلتحف العراء، لا مأوى لها ولا أمان، فوجدت هذا النص وكأني كتبته يوم أمس، ووفقا لإنجازات الحروب تحول اسم النص إلى حاويات بلا وطن ليتوافق مع غايات تجار اللحم الآدمي في أبشع عصر.)

هو واحد من النصوص التي تتمظهر فيها طروحات قاسم السياسية والتي يريد من خلالها ان يحمل السياسات الخاطئة التي يتعرض لها الانسان وكذلك الحروب التي تؤدي به الى الهلاك والموت المجاني.

وهذا ما تغافل عنه نص العرض قليلاً ولم يُشر اليه بالقدر الكافي وتهاون عن التركيز على الاسباب السياسية باعتبارها هي من انتجت المآلات التي اوصلت بطل العرض الى ان يعيش في حاوية , واكتفى بعرض معاناته والامه وهو يعيش حياة في مكان هو ليس مكانه الحقيقي , وكان للاختزال وعملية البتر التي تعرض لها النص الدور الكبير في ضياع بعض من معانيه ودلالاته والتي اكد عليها بصورة واضحة وجلية .

وربما كان هذا الاختزال مقصودا من قبل القائم على العرض وممثله بسبب خصوصيته باعتباره عرضا قدم في زمن ( الكورونا ) والتي توجب عليه ان يؤسس لفضاء عرض على قدر الزمان والمكان الذي يعرض فيه والذي لا يستوعب كثيرا كل طروحات النص التي تشترط توفير امكانيات مسرحية اخرى نعرفها جيداً.

العرض : ــ

ماهي المعالجة المسرحية التي يقوم بها المخرج المسرحي لتأسيس مكان العرض اذا كان محجورا في بيته وعليه ان يقدم عرضه من خلاله …؟

ذلك هو السؤال الذي ستحدد الاجابة عليه مدى نجاح ذلك العرض من عدمه…!

لقد كانت البيئة التي يقترحها النص للعرض هي لمكان محاط بأكوام من التراب والنفايات وخيم بالية أو سقائف من أعمدة الخشب وبعض البطانيات الممزقة التي تحركها الريح…حاوية نفايات كبيرة صدئة ودون انتظام تمتد حبال بين حاوية أو سقيفة، معلقة عليها ملابس مختلفة الألوان والإشكال…علب صفيح منتشر  بشكل عشوائي وقناني الماء البلاستيكية وكأن المكان مهجور منذ آلاف السنين .

فكيف لكل ذلك الزحام والاحتشاد ان تستوعبه صالة بيت صغيرة يحاول من خلالها الممثل ان يقدم عرضه بانسيابية عبر منظومة جمالية منضبطة …؟

لذلك حاول ( جورج تلبه ) جاهدا ان يقتصد في كل ذلك ويعمل على تأسيس مكانه بالاعتماد على انتاج علاماتي لوحدات العرض الديكورية البسيطة وكانت المنضدة المفردة الابرز التي ركز الممثل بالتعامل معها باعتبارها المفرد الرئيسية للعرض والتي تمثل ( الحاوية ) الايقونة التي يقترحها النص , والتركيز على الاداء الحركي له في التعبير عن مضامين العرض ورسائله التي يسعى الى بثها وبالتالي السعي الى مد جسور من التواصل مع المتلقي لغرض توصيل تلك الرسائل.

وقد ركز العرض على انشاء بنيته الجمالية بالاعتماد على التوافق بين الممثل وعناصر العرض الاخرى التي اكتظت بها الصالة ( الخشبة ) , وربما كان على مقدم العرض ان يذهب الى اماكن اخرى في البيت ( الحديقة ) مثلا لتكون مكانا اكثر استيعابا لهذا الانشاء البصري ولكي يفترش عليها الممثل كل عناصر العرض بسلاسة وانسجام والتي يتطلبها اي عرض  يسعى الى الاقناع .

التمثيل : ــ

اجاد الممثل ( جورج تلبه) في التعبير عن شخصية الرجل المستلب والمقهور الذي يعيش في حاوية وقد جسد نموذجاً صوتياً وجسدياً محاولاً تحقيق درجة من التوازن الحركي الذي يحدده المكان وضيقه , واسترسل في اداء منضبط وصدق داخلي في التعبير, وتحولات تمثيلية متعددة ينتقل بها من الهمس الى الصراخ .

وكان ممثلا يفهم تقانات التمثيل التي من خلالها يستطيع سبر اغوار الشخصية والتغلغل في داخلها ومن ثم تجسيدها تجسيداً حيا يسعى الى التوافق بين ادواته التعبيرية .

وهكذا يبقى علينا ان نشير الى اننا يجب ان نقف وقفة متأملة وباحثة امام هذه العروض الاستثنائية التي تشتغل في وقت عصيب وتقدم نفسها في الوقت الذي كنا نعتقد فيه ان المسرح سيتعرض الى سبات طويل وانه سيُرغم على استراحة قسرية تمنعه من الاعلان عن نفسه كما هو دوما , وان نشد على ايادي اولئك الذين حرصوا على ان يكون المسرح شاهداً على ما يتعرض له العالم حتى ولو بنصف حضور هو بمثابة وجود لابد منه لتحقيق هدف المسرح الاسمى في عدم غيابه عن الاحداث في كل ما تعرضت له الانسانية على الدوام

 

 


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock