مقالات ودراسات

الناقد محمد جمال الدين يكتب: تشكيل الوعى والمتعة الجمالية في عرض “رجل القلعة “

المسرح نيوز ـ القاهرة| محمد جمال الدين

ـ

 

تتعدد الأعمال المسرحية التى تمزج التاريخ بالتراث والأسطورة ، كما هو الحال فى عرض رجل القلعة  الذى قدمته فرقة المنصورة القومية ، على خشبة مسرح المعهد العالى للفنون المسرحية ، ضمن فعاليات المهرجان الختامى لفرق الأقاليم فى دروته الثالثة والأربعين ، تأليف محمد أبو العلا السلامونى ، دراماتورج وإخراج خالد حسونه ، حيث عمد الدراماتورج / المخرج خالد حسونه من خلال عرضه ، خلق علاقة ثنائية بين الأسطورة والتاريخ ، حيث نلمح إعتماده الأساسى على مساحة من الخيال في السرد و الوصف التاريخي ، كذلك مساحة من التأريخ في الوصف والسرد الأسطوري عبر شخصية هيلانه الجارية عند  محمد علي ، والتي مثلت فى العرض معادلا لطموحه ، دورها يقوم علي النبؤه ، بوصفها أحد عناصر التراث كى يصبح معادلا لمأساة محمد علي وضياع طموحاته كبطل تراجيدي  ، نقطة ضعفه أنه انفرد بالسلطة وتخلي عن الشعب ، وعندما ينهزم يعود إليه فلا يجده ولا يقف معه .

من خلال أحداث العرض نستشرف سعى الدراماتورج / المخرج  على الإشتباك مع الواقع المعاش ، وتأكيد خلق شخصية البطل التراجيدى ( محمد على ) ، من خلال طرح العديد من التساؤلات ، وترك الإجابة للأحداث أمام المتلقى ، من تلك الفرضيات التى يطرحها الدراماتورج / المخرج فى عرضه ومن خلال معالجته لنص السلامونى ، هل يسعي الإنسان إلي العظمة أم أنها هي التي تسعي للانسان ؟ وإلى أي حد تلعب الأقدار دورها في بلوغ الانسان العظمة التي ينشدها ؟ وحين تتحقق لماذا تتحول إلي قلعة حصينة يري فيها الإنسان من حوله من فوق أبراجها العالية ، ورويدا رويدا يتحول ساكن القلعة إلي رجل تسكنه القلعة فتتحكم فيه فلا يسمع إلا صدي صوته ؟ وهى تساؤلات وفرضيات متعاقبة تعاقب منطقى .

 

تتناول مسرحية رجل القلعة  قصة إعتلاء محمد علي باشا عرش مصر كأول حاكم ينصبه الشعب بارادته  ، وبرغم خلو النص الأصلى للمسرحية من أي إسقاطات سياسية مباشرة الا أن الدراماتورج / المخرج  خالد حسونه ، عمد أن تكون رؤيته للمسرحية معتمدة فى مجملها على إسقاط سياسي مباشر لما يحدث في واقعنا المعاش ، فالمسرحية تحمل رسالة مباشرة موجهة لكل حاكم في محاولة لتوضيح العواقب التي يمكن أن تحدث له حين ينفصل عن شعبه  ويسكن قلعته الحصينة ، فلا يري من محكوميه  إلا القشور ولا يسمع منهم إلا ما يريد أن يسمعه  ، وحين يشعر بخطأه وحاجته لمحكوميه ليقفوا بجانبه ضد القوي الكبري ينزل من علياءه ، ليجدهم  وقد تحولوا إلي مسوخ  لا يعرفون في حياتهم إلا مشاكلهم وقوت يومهم ، فقد قنعوا بدور المحكومين بلا إرادة  أو رغبة في التغيير .

اختار الدراماتورج / المخرج أن يقدم المسرحية بأسلوب الفلاش باك فى بعض أحداث عرضه  كى نعرف سر عقدة الذنب تجاه السيد مكرم وهي نقضه للعهد معه بألا يسكن القلعة وأن يحكم مصر من منزله وألا يفرض ضرائب أو قوانين دون الرجوع لمجلس الحكماء ، ذلك العهد الذي اعتبره محمد علي الثمن للوصول إلي عرش مصر الذي كثيرا ما داعب خياله ، وبعد أن تحقق حلمه واستطاع الشعب المصري أن يفرضه بعد حرب شعبية رضخ علي أثرها الباب العالي لتعيين محمد علي واليا علي  مصر  ، لكن محمد على لم يستطع أن يقاوم إغراء الوصول إلي القلعة كثيرا ، فلم يحافظ علي عهده مع عمر مكرم بألا يسكن القلعة ، لان مكرم كان يري أن من يحكم مصر من داخل القلعة لا يسمع إلا نفسه ، فقد كان  محمد علي يريد أن يظل الحاكم الأول وأن يبقي الفرد الذي يتحكم في الكل ، فكان قراره بنقض العهد وفرض ضرائب جديدة والصعود للقلعة وتأليب العلماء علي عمر مكرم حتي نجح في ذلك واستصدار حكم من الاشراف بعزله ونفيه  حتي وفاته ، ومن وقتها عاش محمد علي بعقدة الذنب لما فعله مع نقيب الاشراف .

 

كان حلم محمد علي أن  يخلق من مصر دولة كبري لا تخضع للباب العالي فحلم العظمة كان المحرك الاول لمحمد علي في قيامه بضرب كل الثوابت والتوسع الذي هدد الباب العالي لتكوين إمبراطورة كبيرة لا تخضع لاحد ،  ذلك الطموح الذي ما كان ليغيب عن أعين الدول الكبري التي تحالفت مع الباب العالي للتصدي له ولأحلامه التوسعية ، وحين احتاج محمد علي للشعب لكي يسانده أمام الدول الكبري نزل من قلعته ليبحث عن هذا الشعب الذي تحول إلي مسخ فلم يجد هناك شعب طيب فالحياة لديهم أصبحت تلاهي فكل منهم مشغول بهمومه الذاتية ففشل في استقطاب الشعب حوله بعد أن ابتعد عنهم لسنوات طويلة فلم يراهم إلا من خلال أبراج قلعته العالية  لينكسر حلم محمد علي ويخضع لتوقيع اتفاقية لندن .

من خلال ما سبق حاول الدراماتورج / المخرج  خالد حسونه  أن يكشف العلاقة بين الحاكم والشعب مشتبكا فى الوقت ذاته مع اللحظة الآنية ، من خلال وقائع تم إختيارها بعناية توضح صراع الحاكم وسلوكه قبل انفراده بالحكم وبعده ، كما عمد  أيضا إلى خلق حالة تواصل بين عرضه وبين المتلقى حيث قام بخلق إطار سردى للدخول إلى أحداث العرض عن طريق مجموعة من الممثلين فى رحلة إلى متحف محمد على ، هؤلاء الجوقة أراد منهم المخرج خلق حالة تواصل مع المتلقى كما قلنا سلفا ، كما أراد منها أيضا تكثيف الأحداث وربطها واختزال بعض المناطق الدرامية والأحداث الموجودة فى النص الأصلى ، تلك المجموعة التى فى زيارة لتلك المتحف تتعرض لمجموعة من المفارقات فهم يكتشفون أن التماثيل تتحرك فى نوع أقرب ما يكون بما يسمى دراما الحلم ، بل ويكتشفون أن هناك من يقف بديلا لتمثال خورشيد باشا فى نوع من الكوميديا ذات الطابع الذى يغلب عليه الفانتازيا ، تأكيدا على رغبة المخرج فى إحداث تفاعل من جمهوره، من خلال تلك الحيلة يدخل بنا المخرج إلى عالم أحداث عرضه ، أيضا حاول المخرج جذب المتلقى لعرضه من خلال إنشطار شخصية محمد على ، على خشبة المسرح شخصيتين، إحداهما شخصية محمد على الشاب الطموح القوى والذى نجح فى تجسيده تامر محمود بما يمتلكه من أبعاد للشخصية تتلائم مع القيام بمثل هذا الدور ، والشخصية الأخرى وهى محمد على فى فترة شيخوخته بما يمتلكه من خبرة تكفى كى يستكشف الحقيقة ، وقام بأداء الدور القدير رجائى فتحى بما يمتلكه من خبرة كبيرة فى عالم المسرح  ، كل هذا فى إطار شكل فرجوى تراثى جديد .

الحوار فى العرض كعادة خالد حسونه فى معالجاته للدراما المسرحية  ، قصير متبادل من الممثلين وجمله أيضا جاءت قصيرة وسريعة مما أسهم فى زيادة الإيقاع و شحن المتلقى بشحنات إنفعالية ، كما أن إستخدام المناجاة وخلق الشخصيات المعنوية كان فاعل داخل العمل معبرا بذلك عن حالات شعورية داخل شخوص الفعل المسرحى ، لذا يمكن القول بأن الحوار فى هذا العمل شارك بفعالية فى إعطاء المتلقى شعورا بسمات و صفات كل شخصية فى العرض كاشفا أيضا عما يدور فى أعماق كل شخصية من أفكار و أحاسيس .

 

قام الدراماتورج / المخرج  فى نهاية العرض بتقديم إشتباك مع اللحظة الآنية من خلال أغنية الفنال ، مفادها أن الحكم المطلق مفسدة مطلقة ، تؤدى إلى ضياع الأوطان وأن الحفاظ على الأرض والأوطان لابد وأن يكون عن طريق اتحاد الحاكم والمحكوم وعكس ذلك لا محال فالأوطان سوف تضيع فى بحور الظلمات .

 

على المستوى التمثيلى حملت الشخصيات الرئيسية والثانوية فى العرض ، خاصة  رجائى فتحى ، تامر محمود ، هبه جمال ، ميادة سويلم ، شيماء فاروق  ، أشرف عوده ،  إنطلاقا ً من إحترافيتهم التمثيلية  فى عالم المسرح ، والتى لا يمكن أن نطلق عليهم وصف هواة ، ثورة من العلامات التي تختزن داخل سياق هذا العرض المسرحى ، فجاء العرض مشحون بالإنفعالات وملغم بالأحداث المتداخلة التي عايشها المتلقي لقرب المسافة الجمالية ، بوصفه جزءا من الأحداث ، جالسا في فضاء العرض المسرحى ، مترقبا ما تؤول إليه أحداث العرض من نتائج سواء أكانت إيجابية أم سلبية ، وعليه يحسب للمخرج هنا قيامه بقيادة هذا الفريق الذى يجمع بين أعضائه العديد من أصحاب التاريخ الكبير فى عالم المسرح ، مع التطعيم بالكثير من الطاقات الشابة الواعدة حسبما أعتقد ، وقدرته على قيادة هذا الفريق ، والوعى الشديد بكيفية التشكيل داخل الفراغ المسرحى عبر خطوط حركة بسيطة غير معقدة لكنها فى الوقت ذاته ثرية فى المغزى والمعنى الدلالى ، كما لا يمكن إغفال تسكينه للشخصيات عبر عما تتطلبه أبعاد الشخصية الدرامية .

أما عن الآشعار فقد تم توظيفها توظيفا سليما بوصفها فى دراما هذا العرض لغة تعبير وإيحاء وتحفيز وجداني،  فلم تكن وظيفتها تقليدية بل تجاوزت ذلك  لتخلق أبعاد معنوية ونفسية وحالات مسرحية متكاملة العناصر أضفت أبعادا جديدة مستقلة ومتفاعلة مع البناء المسرحي العام فى العرض ، تغنيه وتشارك في مساره، بل تصنعه في كثير من الأحيان .

 

على مستوى الألحان والموسيقى استطاع الملحن رجب الشاذلى أن يقدم معادل سمعى للصورة المسرحية والأحداث الدرامية بعناية شديدة ، فالألحان داخل نسيج هذا العرض كانت فاعل أساسى ، تشرح وتشكل الوعى الإدراكى والدلالى لدى المتلقى ، حيث استطاع الملحن من خلال إعتماده على مقامات الكرد والصبا والحجاز والنوا والبياتى خلق حالة مسرحية سمعية تغنى الصورة ، من خلال التنقل بين المقامات الموسيقية والعودة مرة أخرى إلى المقام الأساسى المبنى عليه الخط اللحنى لتأكيد المعانى الدرامية ، كما تم توظيف الممثل محمد الفقى وهو مطرب وممثل وله عدة تجارب إخراجية فى الغناء الحى داخل أحداث العرض بصورة خلقت حالة جمالية شديدة الثراء لما يتمتع به هذا المطرب من مساحات وطبقات صوتية شاسعة جعلته قادر على تقديم قالب غنائى لايف بصورة مبهرة ، علاوة على الوعى الكامل لديه بأن الغناء المسرحى يختلف عن غناء الطرب البحت ، كما جاء التوزيع الموسيقى متسقا مع الثيمة الدرامية من خلال تعدد الخطوط اللحنية المتفرعة من البناء اللحنى الأصلى فيما يعرف بالكونتربونط والهارمونية الموسيقية ، مطعم ببعض الإيقاعات التى جاءت فى المكس ميوزيك أعلى من الخط المليودى ، وكانت الثغرة الوحيدة فى ألحان وموسيقى هذا العرض  .

 

على المستوى التشكيلى ، اتسم ديكور العرض لمصممه شادى قطامش بالقيم الجمالية والمعانى الدلالية ، من حيث اعتماده على المساحات الشاسعة من الإبهار فى الرؤية التشكيلية من خلال ضخامة الديكور ، فجاء الديكور مؤكدا ودال على أحداث العرض ، حيث قسم الخشبة إلى مستويين ،المستوى الأعلى القلعة ، والآخر المحكمة أو قاعة الحكمة التى يجتمع فيها زعماء الأمة والعلماء ،كما جعل فى المستوى الأعلى كرسى العرش فى إضاءة حمراء كنوع من أنواع التصدير المسرحى ، إضافة إلى فصل منزل السيد عمر مكرم عن هذا التكوين كى يدلل على رمزية هذه الشخصية ، كما عبرت الإضاءة فى العرض ، من خلال زوايا التسليط والمساقط الضوئية في صياغة صورة العمل الفني للمسرحية ،فجاءت مرة بشكل عمودي لتسلط على الممثل الذي يقف تحتها ، كما اشتركت الإضاءة الخلفية في إضفاء المتعة الجمالية للمتفرجين، و تقريب صورة الحدث معبرة عن المعنى ومشكلة للجانب الجمالي البصري التكويني ، فالإضاءة فى العرض كشفت عن تأثيرها الكبير في مكونات الصورة وخلقت الجو النفسي العام للعمل الذي عبرت عنه الألوان والمساقط الضوئية المركزة والعامة ، مما أسهمت في إيصال المعنى السيكلوجي للشخصيات ،  والإنتقال بين أماكن الأحداث عبر اللحظات الضوئية فى كثير من الأحيان ، وتم إستخدامها أيضا لإضفاء التأثير النفسى المعبر عن حرارة مشاهد الأحداث ، كما  ارتدت شخصيات المسرحية أزياء إعتيادية منتقاة من الحقبة الزمنية بالنسبة للشخصيات التاريخية ، وملابس عصرية بالنسبة لمجموعة الجوقة / زوار المتحف وجاءت معبرة عن قيم ومعاني ودلالات جمالية تأويلية ، أيضا جاء المكياج  واضحا من خلال خطوط المكياج البسيطة النقية ، والتي جاءت لإيضاح ملامح الوجه من خلال المكياج التصحيحي لملامح الشخصية الحياتية لتأتي مماثلة للشخصية الممثلة .

 

أخيرا الإستعراضات والتعبيرات الحركية  فى العرض جاءت لتزيد الصورة الجمالية قيم جمالية و معانى تأويلية فهى تارة تعلق و تارة أخرى تصف وثالثة تمهد للأحداث فى نسيج هارمونى متجانس دال على الرؤية الإخراجية والقيم الفلسفية الجمالية المرغوب توصيلها إلى المتلقى .

  

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى