مقالات ودراسات

الناقد والباحث المسرحي أحمد بلخيري يكتب: النبي والفانتاستيك والاحتجاج في “مقبرة” العراقي “علي العبادي” (1ـ 2)


المسرح نيوز ـ القاهرة ـ مقالات ودراسات

ـ

بقلم:   أحمد بلخيري

ناقد وباحث مسرحي

 

“مقبرة” هو عنوان نص درامي لعلي العبادي الكاتب المسرحي العراقي. عنوان جاء، من الناحية اللغوية، في صيغتي التنكير، أي أن هذه المقبرة غير محددة، والمفرد. إنها غير محددة على مستوى العنوان. وهي تدخل في حقل دلالي مرتبط بالموت، إنها مكان القبور أي مكان الموتى. والعنوان نص من النصوص الموازية، ومعرفته ضرورية لأنها تؤثر في قراءة النص الدرامي1. يوحي العنوان بأن الأحداث الدرامية ستجري في الفضاء المذكور. والموت مصير طبيعي ونهاية حتمية للإنسان حيث يكون الانتقال من الوجود إلى العدم. ولمَّا كان الأمر كذلك، فلماذا كتابة نص درامي عن الموت؟ الموت هنا، أي في النص الدرامي، هو غير الموت الطبيعي، والموتى أيضا هم موتى غير طبيعيين.

 

إننا في فضاء التخييل والفانتاستيك من أجل مقصدية يبدو أنها مرمى كتابة هذا النص الدرامي، ومن أجل خدمة أطروحة معينة تصارع أطروحة أخرى مضادة. ليس العنوان وحده هو الذي يرتبط، من حيث الدال والمدلول معا، بالموت. أسماء الشخصيات الثلاث فيه ترتبط كذلك بالموت. إنها كلها تحمل اسما/صفة هو الدفان، الذي هو الشخص الذي يقوم بعملية دفن الموتى. لكنها تختلف من حيث الأرقام 1-2-3. هذه الأرقام هي عنصر تمييزي لتلك الشخصيات الثلاث، كل على حدة. ورغم كون تلك الشخصيات الثلاث تمتهن مهنة واحدة في فضاء واحد، فقد كانت بداية الحوار فيما بينها هو سؤال “أين أنت؟”، أي السؤال عن المكان الذي توجد فيه الشخصيتان الأخريان. إنه سؤال جاء بعد اختفاء كل شخصية على حدة، اختفاء دام أسبوعا. في هذا الأسبوع كانت تنقية أنف إحدى الشخصيات مما علق به من كائنات حية، ودفنت فيه شخصية أخرى فمها. لا يقتصر المعنى العميق الخفي في تنقية الأنف على المعنى الظاهري السطحي.

 

 

كما أنه لا يمكن أن تأخذ جملة/جواب الدفان الثالث غير المعنى المجازي، إذ كيف يمكن أن يقوم إنسان بوضع الكفن لفمه؟ إن وضع الكفن للفم يفيد منعه من ممارسة وظيفته الطبيعية ومنها الكلام. لكن، هل كان فعل تكفين الفم بإرادة الشخصية المعنية؟ هذه الجملة “أنا، أنت ، نحن مقبرة متجولة” تقدم الجواب المتمثل في عدم الإرداة. دفن الموتى هو وسيلة كسب بالنسبة للدفانين الثلاثة. وإذا كانت كلمة الدفن تعني لغة”الستر والمواراة”، فإن هؤلاء الدفانين الثلاثة يقومون بستر الجثث ومواراتها في المقبرة. وبالمقابل، فإن المقبرة “تسترهم” من الفقر لأن عملهم عمل مأجور وبه يعيشون. لذا، فإن عدم وجود الموت، وبالنتيجة عدم وجود الموتى، ليس في صالحهم.

 

 

من هنا كان الاختفاء مدة أسبوع المدة الزمنية التي لم يشتغلوا فيها لانعدام وجود الموتى. بدأ النص الدرامي بالتركيز، من خلال الحوار الدرامي، على مشكل خاص بأولئك الدفانين، إنه “القحط” بسبب عدم وجود الموت. الموت عند الدفانين نقيض القحط، وهذا لا يزول إلا بالموت. وفي زواله “حياة” لهم. القحط لغة “احتباس المطر ويُبس الأرض”2 . القحط في الأصل، من الناحية اللغوية، مرتبط بالأرض؛ لكنه هنا ارتبط بالموت. لذا، فإن كلمة”قحط”، في هذا الاستعمال، تعبير مجازي، يدعو إلى التأويل والتفسير انطلاقا من السياق الدرامي. إن قحط الموت يعني “احتباس” الموت و”يُبسها” أي عدم وجود الموت. دفع عدم الوجود هذا الشخصيات الثلاث إلى التساؤل عن سبب عدم وجوده، خلال ذلك الأسبوع، إلى افتراض أن السبب في عدم وجوده هو أنه” ربما هو مشغول بأشياء أخرى أكبر من أن نفهمها” حسب افتراض الدفان الثالث. وهو انشغال مجازي لا يمكن أن يكون حقيقة، لأن الانشغال الفكري عمل يتعلق بالإنسان. والافتراض الثاني هو أنه “ربما يعقد بروتوكولات مع عدة دول من أجل الاستثمار بها ؟” حسب الدفان الأول.

 

 

من الناحية اللغوية، فإن فاعل فعل “يعقد” هو الموت. لكن الكلمات التالية: “بروتوكولات”، “الدول”، “الاستثمار بها”، لا يمكن أن يقوم بها الموت. إنها كلمات تندرج في حقل دلالي بشري، أي أنها مرتبطة بالإنسان الحي وليس الميت؛ وهي غير مرتبطة بالموت، لأنها تقتضي أو تتطلب الحياة. ثم إنها كلمات تندرج في حقل دلالي محدد يتعلق بالسياسة تحديدا. وقد حددت مجاورة كلمة الاستثمار للكلمتين الأخريين، وقد أتت بعدهما، مجال الاستثمار، إنه استثمار سياسي. ولا بد في كل استثمار، بغض النظر عن نوعه، من موضوع للاستثمار؛ وهو هنا “الموتى”. بناء على هذا، يمكن القول بأن للموت معنيين، معنى معجميا يحدده المعجم ((Dénotation ، ومعنى إيحائيا (Connotation) يحدده السياق. الكلمات المسندة إلى الموت، في المعنى الأول، أي برتوكولات، والدول، والاستثمار بها، قد استعملت استعمالا مجازيا لأنها كلها ترتبط بالإنسان وليس بالموت في الوقع. وفي المعنى الثاني، يكون الموت قد استعمل استعمالا إيحائيا. وإذا تم فهم وتفسير الموت وإعطاؤه معنى غير المعنى المعجمي، فإن تلك الكلمات قد تكتسب معنى معجميا. وكيفما كان المعنى، فإنه لا يخرج عن نطاق السياسة. هذا المعنى المزدوج لا يتعلق بالموت فقط في النص الدرامي، بل يتعلق أيضا بالموتى كما سيتبين لاحقا.

 

 

وهو يخلق أفقا للتخييل والتأويل. دفع عدم وجود الموت إلى الإقرار بضرورة “فصله” (كيف يكون فصل الموت؟) من لدن الدفان الأول، لكن إقراره قوبل بالرفض من لدن الدفانين الآخرين، لسبب محدد هو أنه هو مصدر عيشهم جميعا. يمكن القول بأن المقصود بالموت في السياق الأخير هو المعنى المعجمي.

 

 

أمام هذا الرفض، كان البحث عن عمل دفعا للبطالة ومن أجل العيش. ومثلما أن مزاولة دفن الموتى تؤشر على وضعية اجتماعية دنيا، فإن الاقتراحات لمزاولة غيرها كانت منسجمة مع ذلك المؤشر. فقد تم اقتراح مزاولة الشحاذة. وبعد رفض هذه، كان اقتراح مزاولة صباغة الأحذية. ممارسة الشحاذة هي عملية، وليست عملا، غير منتجة لأن ممارسها يعيش على حساب إنتاج الآخرين. وهي رُفضت ليس لهذا السبب، وإنما لكثرة ممارسيها. كثرنها غير مفيدة لهم من الناحية المادية. ثم إن تعبير الشحاذ الثالث، معلقا على هذا الاقتراح، وهو “ما أكثرهم”، أي الشحاذون، مؤشر لغوي على وضعية اجتماعية عامة. أما صباغة الأحذية فهي، حسب الدفان الثالث، غير مجدية.

 

 

فقد علق على هذا الاقتراح قائلا:”ههههههههههه، منذ سنوات وأنا أصبغ حذائي وكلمّا أكثرت (في النص:أكثر) من تلميعها تزداد اتساخاً هههههههههههههه ” .بدأ تعليقه بعلامة، هههههه، وانتهى بها. وهي تدل على السخرية من الاقتراح، لأنه لا يفضي إلا إلى نقيضه بالنسبة له، ومن خلاله بالنسبة لهم. المُلاحظ أن الاقتراح يتعلق بصباغة الأحذية، والسياق يدل على صباغة أحذية الآخرين. لكن الدفان الثالث حوَّل معنى الاقتراح إلى الذات الفردية أي إلى حذائه. مع هذا التحويل، يجوز القول بأنه أعطى لمعنى صباغة الأحذية معنى هو غير المعنى المتضمن في الاقتراح. وعلى كل حال، فإذا كانت الشحاذة عير منتجة فإن صباغة الأحذية غير مجدية. وقد اقترح الدفان الثاني أن يموت هو، وهذا، حسب النص، تضحية منه، ثم يدفنه الآخران. وهو اقتراح أدى إلى المزيد من تسليط الضوء، دراميا، على هذه الشخصيات الثلاث التي تتخذ من دفن الموتى وسيلة للعيش. لكن ما الجدوى من دفنه بدون مقابل مادي؟. وعليه، فإن موت أحدهم هو غير مجد لأنه لا يرقى حتى إلى ثمن”رغيف خبز”. ويبدو أن الغاية من هذا الاقتراح هي الوصول إلى هذه النتيجة بالذات. هكذا تبين الأحداث الدرامية كيف أن للنقود دورا في تحريك الأحداث الدرامية في النص الدرامي “مقبرة”.

 

 

كما تبين هذه الأخيرة وضعية الهشاشة التي توجد عليها الشخصيات الثلاث. المقبرة ودعوة الموتى للاستيقاظ في أطار البحث عن عمل من أجل العيش، اقترح الدفان الثالث، القوادة لأنها تدر دخلا وفيرا. وهذا خلافا للشحاذة وصباغة الأحذية. لكن مَن من الشخصيات تقوم بهذا الدور؟ لقد رفض الدفان الأول القيام به بمبرر اجتماعي قائلا:”أنا أنحدر من عائلة معروفة ، وذلك سوف يجلب العار لي ولعائلتي التي طالما وعدتها أن أكون باراً لها”. كما رفضها الدفان الثاني بشكل مطلق. وكانا قد أعلنا رغبتهما في التضحية قبل معرفة الدور المطلوب: دور “قَواد”. يبدو أن الشخصيتين رفضتا القيام بهذا الدور انتصارا للقيم، هذا كان في البداية. لكن بمجرد معرفتهما أن هذا هو الدور الوحيد الكفيل بجلب المال الوفير تحول الرفض إلى قبول في إطار القرعة. لذا، فقد انتصر المال على القيم.

 

 

كان اللجوء إلى القرعة بوصفها وسيلة ناجعة تضمن المساواة بين الشخصيات الدرامية الثلاث. وقد كانت نتيجتها أن الذي اقترح ونظّم القرعة هو الذي ظهر اسمه في عملية إجراء القرعة. نماما كما سيحدث مع الدفان الأول ودور “النبي”. ورغم أن الدفان الثالث هو صاحب الاقتراح، فقد رفض في البداية القيام بهذا الدور. وقد تم إبلاغ الرسالة الدرامية، في هذا السياق، والمعنى الدرامي بثلاث وسائل/لغات درامية مختلفة. يتضح هذا من خلال هذا الحوار: “الدفان الأول: (مندهشا) أنت إنه اسمك ! الدفان الثالث: أنا…(يقاطعه الدفانان) الدفان الأول والثاني: يصفقان الدفان الثالث: قررت..( يقاطعه الدفانان) الدفان الأول والثاني: (يصفقان) الدفان الثالث: أن…(يقاطعه الدفانان) الدفان الأول والثاني: (يصفقان)..نحن معك. الدفان الثالث: يومئ بالحديث، (يقاطعه الدفانان) الدفان الأول والثاني: (يصفقان)..نحن معك. الدفان الثالث: مرة أخرى يومئ بالحديث، (يصفقان)..نحن معك”.

 

 

في هذا الحوار نلاحظ وجود بداية جمل لفظية بالنسبة للدفان الثالث. هذا الأخير عبر باللغة اللفظية وكذلك بالإيماءة. أما بالنسبة للدفانين فقد كان التعبير بالتصفيق، وكذلك باللغة اللفظية. إن إنتاج المعنى ليس حكرا على اللغة اللفظية. وفي هذا الحوار، فإن هناك المعنى الخاص بالدفان الثالث، يقابله المعنى الخاص بالدفانين الأول والثاني. وعليه، فإن اللغة الدرامية هنا تتكون من اللغة اللفظية، والإيماءة، والتصفيق. في هذا المشهد، الذي ظهرت فيه شخصية القَواد، أمر هذا الأخير الدفان الأول والثاني بإيقاظ الموتى. ومن أجل ماذا؟ كي يشاركوا الدفانين الاحتجاج على عدم وجود الموت !. بسبب هذه الدعوة، كان البوح الممزوج بالخوف وتوقع الأسوأ.وقد كانت الشخصية الدرامية، في سياق هذا المشهد، تعيش ثلاثة أزمنة دفعة واحدة: الماضي حيث كانت هذه الشخصية سببا في دفن أنواع من الموتى.

 

 

فهناك الجثة التي بلا رأس، والتي بلا يد، وعشرات الجثث المغتسلة بالدم، والأطفال. وهناك الخوف في الحاضر، وكذلك التوقع، وهو سيء بالنظر إلى أفعال الشخصيات الثلاث سابقا مع الموتى، وهو مرتبط بالمستقبل: “سيقتلونني حتماً”، و “ماذا سأقول إلى تلك الجثة…؟” (الدفان الأول). هي إذن موت غير طبيعية في مقبرة غير محددة العمر. لكن ما هو سبب هذا الموت غير الطبيعي؟ الجواب موجود في المشهد الأخير. هذا، وتجدر الإشارة إلى أن وظيفة الدفانين هي دفن الموتى. وأصحاب الجثث المشار إليها، ومنها المبتور ومنها الدامي، ضحايا. علامتا الجريمة البتر والدم. لكن من هو الجلاد؟. وبسبب العجز عن إيقاظ الموتى، وبالنتيجة عدم مشاركتهم الدفانين الاحتجاج طلبا للموت، وهذا في مصلحة الدفانين، كان اقتراح حل ثالث.

(يتبع: هذا الجزء الأول من التحليل).

 


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock