مقالات ودراسات

الناقد والباحث د. محي عبد الحي يكتب: دور المسرح فى تشكيل القيم المجتمعية.. “رؤية أنثروبولوجية”


المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات

ـ

د. محي عبد الحي*

*ناقد وباحث أنثربولوجي مصري

تُعد عملية تشَكّل القيم وتكونها داخل المجتمع من أعقد العمليات التى تقوم بها الوزارات والهيئات والمؤسسات والجمعيات والأجهزة وغيرهم من المعنيين بمنظومة القيم؛ من حيث طبيعة المصدر الأساس لهذه القيم؛ ومن حيث محاولة حصرها وضبطها وتصنيفها حسب الموضوع الخاص بها؛ فنقول: القيم السياسية، القيم الاجتماعية، القيم الدينية، القيم الوطنية، والقيم الجمالية..إلخ، وتُعد القيم من أهم عناصر الثقافة لأنها تشمل مضمون الثقافة، حيث إن القيم تتشكل لدى الإنسان فى المجتمع، من خلال مجموعة الأفكار، والمعارف، والرموز التى يكتسبها كعضو في المجتمع، وبالتالى فإن القيم تحدد وتوجه سلوك الفرد فى المجتمع، وفقاً للثقافة السائدة والتى تُعد الأفكار والمفاهيم والمعايير جزءًا من هذه الثقافة.
وتعتبر عملية نقل القيم عبر المسرح إحدى العمليات الاجتماعية المهمة فى صياغة الجانب القيمى للجمهور المتلقى، وذلك بحكم الخصائص التى يمتاز بها المسرح، كجمعه بين مجموعة متداخلة من القيم ( الثقافية، والاجتماعية، والسياسية، والدينية، والجمالية، والفنية..إلخ ) من جهة، وامتلاكه وسائل تثبيت وتدعيم وتشكيل تلك القيم لدى المتلقى من جهة أخرى من خلال عناصر العرض المتنوعة، والمسرح مرآة كاشفة لمسيرة الإنسان الثقافية، تتجلى فى مختلف المعتقدات والأنساق الاجتماعية، التى يعيشها ويطورها بتطور أوضاعه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وغيرها، متأثرًا وعارضًا شارحًا أو مؤثرًا مشاركًا فى بلورتها ونشرها، وللمسرح دور جوهرى فى إنجاز المهام النقدية والإبداعية التى تتصدى لها الثقافة، فالمسرح بأنواعه قد تناول فى بداية تاريخه قضية الإنسان فى الكون، وعلاقته مع أسرار الحياة، وظواهر القوى الميتافيزيقية، ثم اتخذ الفرد محورًا لمواضيعه، وفى مرحلة متقدمة عكس المسرح مجتمع الأفراد كموضوع للفرجة؛ ذلك أن الصراعات التى عرفتها المجتمعات بين طبقاتها وما تتحرك فى ثناياها من أنماط بشرية، كانت موضوعاتها ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالمسرح وعلاقته بالمجتمع الإنسانى.
ومن ثم فإن ما يدور على المسرح من أحداث ووقائع يتجلى فيها مكنونات النفس البشرية وصراعاتها المختلفة بين الفضيلة والرذيلة ومتناقضات الحياة، فالمسرح يصور الأحداث سواء أكانت للممثلين الذين يعيشون أدوارهم فى حالة اندماج حقيقى أم للمشاهدين الذين يحررون ذواتهم من ظغوط الحياة اليومية، والمسرح لا يتحقق دوره وهدفه فقط عما يدور فوق خشبته؛ بل يتعـدى ذلـك لكى يتجاوز العلاقة المباشرة المحصورة فى الزمان أو المكان إلى علاقته بالمجتمع؛ حيث يحقق المسرح المتعة من خلال معايشة عالمين فى لحظة واحدة، عالم حاضر وهو عالم الفرجة الآنية، كنشـاط ملموس، وعالم الغائب وهو ما تشير عليه الدلالات المكونة للعرض، وما ترمز إليه وما تحيل عليه من عوالم ومرجعيات وفضاءات فيها الواقـع وفيهـا المتخيل.
وقد شُغل المسرح منذ نشأته بقضايا الإنسان وصراعاته المختلفة، فمنذ النشأة الأولى وهو مرتبط بالتطورات السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، باعتباره وسيلة وأداة للتغيير والتعبير عن تلك التطورات، وفى الكثير من البلدان ساهم المسرح فى صنع الثورات، وفى بلدان أخرى حارب المسرح الفساد، ولعب دورًا فى توعية الناس لمحاربة الفساد، وفى أماكن أخرى أصبح المسرح مساحة للحوارات العقلانية لإنتاج الوعى والمعرفة، وفى بعض الأماكن أصبح المسرح سلعة تجارية رخيصة للربح، وفى بعض البلدان أصبح المسرح قناة دعائية لتقديس السلطات.
والمسرح عبر تاريخه الطويل كان ومازال يؤدى دورًا مهمًا فى إحداث تشكيل قيم مجتمعية؛ بل ويشارك ويواكب التغيرات الحياتية فى المجتمع، وبالتالى فإن النظر فى قضية المسرح وتشكُل القيم المجتمعية تقودنا إلى أن المجتمع يتغير بعوامل مختلفة داخلية أو خارجية، طبيعية أو مصنوعة، وإن له عناصر مشتركة من القيم والسلوكيات والثقافة والمظاهر الحضارية، ومن ثم فإن التشكُل يشمل أيضًا التحولات فى القيم والسلوكيات والثقافة والمظاهر الحضارية، ولا يمكن وصفه بالثبات، حيث إنه يحمل فى داخله القابلية للتغيير فى إحدى مناحى الحياة الاجتماعية أو الاقتصادية أو الثقافية أو السياسية ..الخ، والتى تؤدى بدورها إلى تغيرات فى المناحى الأخرى؛ إذ أن تغير النظام الاقتصادى يؤدى إلى تغير فى شكل الثقافة، كما تؤدى التغيرات السياسية إلى تغيرات فى الاقتصاد…إلخ، وعليه فإن التغير فى إحدى المناحى هو تغير للمجتمع بكامله.
وقد شهد المجتمع المصرى العديد من التغيرات الاجتماعية والثقاقية والسياسية والدينية والاقتصادية، اتخذت صورًا مختلفة من حيث مضمونها وأشكالها, خاصة اهتزاز القيم واضطراب المعايير الاجتماعية والأخلاقية، فصاغت سلوك المصريين، وأفسحت المجال لقيم سلبية معوقة للسلوك النمطى للشخصية المصرية، الأمر الذى أدى إلى ظهور العديد من الانحرافات والمشاكل، كالعنف وإدمان المخدرات والتعصب والسلبية واللامبالاة، وانتشار صور من السلوك لم تكن مألوفة من قبل، أثرت بشكل مباشر على النسق القيمى لدى أفراد المجتمع؛ وأدت ما يسمى بأزمة القيم الأخلاقية، مما أسهم أيضًا فى فرض أسس ثقافية حديثة، كذلك أسهمت أدوات الاتصال والمعلومات فى غرس قيم معينة، أدت إلى مشكلات عديدة منها: البحث عن الهوية والذاتية الثقافية؛ وبات الصراع واضحًا بين الآصالة وبين المعاصرة، خاصة ما تنقله الحضارة الغربية من أفكار وقيم مستحدثة على المجتمع المصرى، وعلى هذا فإن المردود الثقافى من المحتمل أن تختلط فيه القيم، مما قد يؤدى إلى استحداث قيم وضعف قيم أخرى، خاصة قيم الولاء والانتماء وعدم التمسك بالهوية الثقافية العربية، ومن ثم تأتى أهمية المسرح ودوره التنويرى الثقافى للعمل على مناهضة وكشف القيم السالبة، وتأكيد وغرس القيم الإيجابية والأصيلة فى المجتمع وتوعيته.
من ثم تنبع مسؤولية المسرحيين والقائمين على المهرجانات والمؤتمرات وكل المعنيين بالحياة المسرحية فى توعية المجتمع بنشر الأفكار الأصيلة والمعاصرة والتحررية والخبرات العلمية والعملية والعالمية، إلى جانب التعرض النقدى للظواهر المتخلفة وللجمود المعرفى، والكشف المتواتر لعمليات التشويه المتواصلة للقيم الثقافية.
وجدير بالذكر إن أُشير إلى الأوضاع الراهنة للمسرح المصرى من حيث التصور المستقبلى لتطويره، والتأصيل لبحث العلاقة
بين الوضع المسرحى الراهن والتجارب الحديثة، وعلاقة المسرح بالدولة والمجتمع وبقية المؤسسات الأخرى، وتبادل الخبرات العربية والغربية، ووضع قضية الهوية القومية للمسرح فى سياقيها المعرفى والتاريخى العام للثقافة العربية، ووضعها موضع الحوار على أنها القضية الأولى فى وجدان المسرحيين وفى ممارستهم المسرحية، كل هذا مما لاشك فيه يجعلنا نأمل أن يكون مهرجان الإسكندرية المسرحى العربى للمعاهد والكليات المتخصصة نواة لقضايا مجتمعية حقيقية قائمة على معايير علمية وفنية، تؤصل للقيم المجتمعية الإيجابية، وأن تُتبع فى المهرجانات والمناسبات القادمة.
وكذلك يجدر بى أن أُشير إلى حاجتنا لإقامة مهرجانات مسرحية كثيرة مثل: مهرجان الإسكندرية المسرحى العربى للمعاهد والكليات المتخصصة، لأن مثل هذه المهرجانات المسرحية تقدم تجارب تأخذ عن بعضها وتتنافس فيما بينها لتشكل فى النهاية تيارًا معينًا يُعبر عن خصوصية المشاركين أولاً، والانفتاح على الآخر ثانيًا، وتناقل الخبرات والأوضاع الراهنة فى المجتمعات ثالثًا، وكذلك يجدر بى أن أتقدم بتحية إعزاز وتقدير لوزيرة الثقافة المصرية دكتورة إيناس عبد الدايم، والدكتور أشرف زكى رئيس أكاديمية الفنون “مؤسس المهرجان”، والهيئة العربية للمسرح “داعمة المهرجان” على إقامة هذا المهرجان، وتحية تقدير للدكتور علاء عبد العزيز سليمان رئيس المهرجان، وكل القائمين على هذا المهرجان من كُتَّاب ونقَّاد ومخرجين وممثلين ومهندسى الديكور، وجميع من رسخ أو ساهم بإثراء الحراك والحياة المسرحية.
ــــــــــــــــ

المقال منشور في نشرة مهرجان الأسكندرية المسرحي العربي للمعاهذ والكليات المتخصصة


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock