“القبعة …وزهرة الأوركيد” نص مسرحي.. للكاتب الجزائري محمد الكامل بن زيد

المسرح نيوز ـ القاهرة| نصوص

ـ

 

 

القبعة …وزهرة الأوركيد

 

 

أنتم أيها الـــ ….لكم القبعة

وأنا الـ…. لي زهرة الأوركيد

محمد الكامل

 

الشخصيات:

 

الجدة : امرأة مسنة.

ساعد :شاب يهوى الموسيقى.

سعد : شاب يهوى الرسم.

أصوات الباعة

صوت أنثوي

 

 

 

المنظر:

 

غرفة واسعة.. تبعثرت في كل أرجاءها لوحات فنية على حواملها ..تظهر كلها إلا لوحة واحــدة تظل مغطاة ..فيما احتل بيانو قديم جانبا قصيا قرب نافذة تطل على الشارع ..

أصوات الباعة والمارة تتعالى  بين الفينة والفينة ..

تدخل امرأة مسنة ..حاملة في يدها المبخرة ..تقرأ ما تيسر من القرآن والأدعية المستجابة ..تتجول في الغرفة ببطء شديد وبعد أن تلقي نظرة خاطفة  إلى الشارع عبر النافـــذة تجلس فوق كرسي خشــبي وتبــدأ  بتدليك ركبتيها ..

 

 

الجدة 🙁متذمرة)..الآلام الفظيعة تعذبني ..تقتلني..لا حول ولا قوة إلا بالله ..عظامي تزداد وهنا كل يوم والحال هو الحال ..

(تنتظـــر لحظات ثم تقف جاذبة منديلا من جيــــب  كنزتها  وتحاول تنظيف اللوحات الفنيـــة والبيانو برفق ..تتوقف عند صورة معلقة على الحائط ..الصورة تبرز وجها ملائكـيا جمـيلا لامرأة في الثلاثين من عمرها بين ذراعيها طفلان.. تحدق فيها مليا ..تتنهد حتى تدمع عيناها حزنا)..

 الله يرحمك يا بنيتي العزيزة ..الله يرحمك ..(تجلس مرة أخرى على الكرسي الخشبي ثم تقول بصوت بائس وحزين)  لقد أرهقت كثيرا في الآونة الأخيرة ..و أنت يا أعز الناس ما كنت لأسمح لنفسي بأن أزعجك في نومتك البرزخية ..(تتأمل الصـورة ثــم تتجول ببصرها في أرجاء الغرفــة ..ثم بصبر يكاد ينفد) آه يــا عزيـــزتي..مــاذا عـــساي أن أقـــول؟..سامحيـــني أرجوك.. سامحيـني..لم تعد لدي تلك القدرة على التحمل ..وإني كما ترين أشارف على نهاية الطريق .. (تطأطئ رأسها أسفا) الولدان التوأمان..سعد وساعد.. (تطرق بإذنها  كأنها تسترق السمـع إلى صوت قادم من الصورة المعلقة) تقولين ما بهما؟..لا..لاشيء ..صحتهما في خير والحمد لله ..ماذا؟ ..ماذا؟ ..  لا أسمعك جيدا انتظري سأقترب منك (تقترب أكثر فأكثر من الصورة المعلقة ثم تكمل حديثها مع الصـورة) المشكلة في ظاهرها بسيطة إلا أنها أعمق وأعمق ..إنها الأمانة وولداك أمانة في عنقي .. أحرص جاهدة على أن تتمّ مهمتي على أحسن وجه .. (تصمت لحظات كأنها تنصت مرة أخرى ثم تبتسم) العفو بلا منّة منّي هما حفيداي ..فقط أقول..كنت أقول..لقد تجاوزا عتبة الجامعة إلا أن أفعالهما لا تزال صبيانية.. لا تمـر دقيقة إلا وأجـدني أقف حائـلا بينهما.. العمــر يمضـي وجسدي أصابه الوهن ..(ترسل نظرات عتاب وغضب إلى الصورة) ..تضحكين ..تضحكين ..لك كل الحق ..أنا التي تستأهل ..أنا التي تستأهل..

( يدخل سعد ينظر إلى الدخان المنتشر عبر أرجاء الغرفة.. )
سعد: (يحرك يديه مبعــدا الدخان مستاءً).. آه  يا جدتي العادة دائما ..
الجدة: (في إصرار)..نعم هي العــادة ..عساها تجلب لكما الخير وتبعد عنك وعن أخيك عين الحسود
سعد: (رافعا يديه إلى السماء ساخــرا) ..أتمنى ..
الجدة:(في حماس)..الناس القدامى كانوا صادقين في أقوالهم إذ لم يتركوا لنا شيئـا لنخــوض فـيه ..عين الحسود تدخلك إلى القبر ..
سعد: (يضحك )..إلى القبر ..هذه فيها شيء من المبالغة   يا جدتي ..
الجدة: (متأسفة)..اضحــك.. اضحــك كما تشاء .. يؤسفني ألا ترى معي  أن حياتكما أنت وأخاك ستذهب هباء منثورا .. (في قلق شديد) انظر مليا معي ..لقد جعلتما هاته الغرفة قبرا.. (تشير إلى  ما حولها) ..
سعد:أتسمين هذا قبرا ..هذا الجمال ..هذا الإبداع قبر! .. (يتحرك بخفة بين ألواحه..ينظر إلى البيانو يقترب منه يضع يده عليه في استهزاء) ..هذا قبر!
الجدة: (منزعجة).. لا تلمس بيانو أخيك ..
سعد: (ساخرا )..هاته الخردة ..آسف
الجدة: (في امتعاض )..لا تزد الطين بلة يا سعد ..
سعد:شئـت أم رفضت يا جدتي العزيزة ..هي خردة ..
الجدة: (صارخة).. قلت لك  لا تزد الطين بلة يا سعد..ثم أيهـا العزيـز تعال..اقترب مني ..لوحاتك الجميلة ماذا تفعل هناك ..كل مرة ترسم لوحة تضيّق بها علينا المكان حتى أصبحنا بالكاد نجد ممرا بينها كي نتجول في هاته الغرفة ( تتوقف لحظة ثم تستطرد ).. كم من مرة قلت إن أعمالــكما لا تقدر بثمن ..
سعد: (في فخر)..نعم لا تقدر بثمن
الجدة: (تحرك رأسها صعودا وهبوطا )..لكني لم أر
سعد: (مغتاظا ).. جدتي هذه إهانة !
المباراة على أشدها ..النتيجة واحد لصفر
سعد:(يضع فرشاة كانت في يده متحسرا)..الملعب ملعبك يا جدتي ..وأنت الحكم..فكيف لنا أن نفوز.. ؟!
الجدة: (بصوت حزين) ..لا أريد أن أجرحك أنت وأخاك حين أذكركما بأنكما لطالما رجوتماني حتى أمدكما بالمال ..تارة هبة..وتارة قرضا لا أرى له  أثرا ..وتارة …
سعد: (مقاطعا في غضب)..إهانة أخرى ..والنتيجـة على ما يبدو سترتفع هذا المساء ..
الجدة: قلت لك أنا لا أقصد إهانتك ..أردت أن أعرف متى ستمطر السـماء بكرمها فتبيع أنت  اللوحات وأخوك الألحان..
سعد:ستمطر السماء.. ستمطر السماء.. إن شاء الله ستمطر
الجدة: (متهكمة )..أملي فيها كبير ..
سعد:ولن أرسلك إلى العمرة ولا إلى الحج كما وعدتك من قبل ..أصلا لن تري وجهي مرة أخرى ..سأترك هذه الغرفة.. هذا البيت ..هذا الشارع ..هذه المدينة ..سأجوب العالم ولن ألتفت خلفي أبدا
الجدة: كفاك مزاحا ..وإني أقسم بأغلظ الأيمان أن عين الحسود قد تملكتكما وأسرتكما كليا ..
سعد:عدنا إلى سيرة عين الحسود.. يا جدتي العالم تغــيّر..النــاس أصبحت تطير مع الطيور وتغوص مع الأسماك وتسبح في الفضاء مع النجـوم..لقد أصبح الأمر في هذا العصر بميقات ..
الجدة: ولو..
سعد: (في حزم) ..ألا تعلمين أنهم قريبا سيصنعون بشرا مثلنا ؟
الجدة: (مذهولة ومضطربة) ..أستغفر الله ..أستغفر الله.. الخلق لله ..الخلق لله
سعد: (يضحك مجددا )..رجال ونساء
الجدة: (متعجبة وغاضبة) ..رجال ونساء!
سعد:رجال ونساء
الجدة: (تضحك مستهزئة)..صح ..صح ..إذن قل لهم يأتونني بامرأة جميلة لها جسدٌ نضرٌ مثلا أبادلها هذا الجسد المهترئ..
سعد: (في خبث) لماذا؟.. ألم تكوني جميلة ؟
الجدة:(في ثورة غضب) الله يلعن إبليسك ..الله يلعن إبليسك..أنا كنت سيدة النساء جمالا ..كنت أجــمل بنات البلــدة..كل النــاس حفيت أقدامهم في سبيلي ..
سعد:الله ..الله يا جدتي العزيزة ..المباراة تسلك منعرجا آخر ..والنتيجة تكاد تعدل
الجدة: وأضيف لك شيئا ..حتى ابن الباش آغا بن قانة وابن محافظ الشرطة الفرنسية كانا ضمن من كانوا ..
سعد: (يغمزها بطرف عينه )..آه يا جدتي إني كبير وأميّز الأمور جيدا .. النتيجة عدلت في الدقائق الأخيرة ..رائع ..رائع ..
الجدة: (تزداد ثورتها)..يلعن إبليسك ..نظرك الضعيف أعماك عن الشمس..أمك الله يرحمها ألم تكن فائقة الجمال ..
سعد: (يطأطئ رأسه متحسرا بعد أن يلقي نظرة طويلـــة إلى الصــورة المعلقة)..الله يرحمها كانت سلطانة الجمال ..
الجدة: أمك يا عزيزي..الناس كانوا سيجنون  على جمالها ولا أظن أن أصل  الجمال يخفى عليك أيها المعتوه ..
(يدخل ساعد يشتّم رائحة البخور فيمتعض كثيرا .. فهو مصاب بمرض الحساسية ولا يحتملها .. يسرع بوضع واقي على أنفه وفمه .. )
ساعد: (غاضــبا) يا إلهي.. العادة نفســها يا جدتي..
الجدة: (في إصرار) ..العادة نفسـها وستبـقى نفسـها ..فلا بد لعين الحسود أن ترحل من هنا ..
ساعد: بخورك سيقودني إلى القبر.. فهلا انتهيت ..أتوسل إليك يا جدتي.. فلن يصيبنا إلا ما قدّر لنا ..انظري إلى الباعة في الخارج.. (يشيــر إلى النافذة )..لم تصبهم عين الحسود لا في قليل ولا في كثير ..
سعد: (مقاطعا ضاحكا) ..ألم تقولي لي يا جدتي منذ قليل أن عين الحسود تأخذ إلى القبر ؟ ..أعتقد أنها قصرت في حق هذا القادم علينا ..فلتأخذه  ونستريح منه ..
(يشير ساعد إلى سعد بحركة صمت فيستشيط هذا الأخير غضبا ويحاول أن يقترب من سعد فتقف الجدة حائلا بينهما ..)
الجدة: لا يهمني أحد ..أنتما التوأمان أغلى شيء عندي ..أنتما وصية المرحومة ولا بد أن أحافظ عليكما ..
سعد: (يقترب من الجدة ويحضنها في حب) .. يا ساعد يكفي هذا.. لا تكن قاسيا على جدتنا الغالية..
ساعد:(غاضبا)..اسمع من فضلك أسدي لي خدمة..لا تتدخل حين أتحدث مع الجدة..فقد سئمت مثل هاته الأفعال ولم أعد أطيقها..
سعد: (ينتفض).. اسمع أنت..لا تنس أنها جدتي ولي فيها  ما لك ..
الجدة: (تضرب كفا بكف) ..ها قد بدأ الأمر وستضعانني كالتمثال بينكما ككل مرة ..
سعد: لقد أغضبتها مرة أخرى ..الذنب ذنبك هاته المرة..
ساعد: منفعلا )أرجوك يا سعد لا تصب الزيت على الـنار..أنا ألومها خوفا على صحتي ..
الجدة: وأنا لا أخشى على صحتك ..أعزكما الله .. هو ذنبي أنا.. لذا من الأحسن لي أن أذهب إلى المطبخ..  (تخرج)
ساعد: لا لا أقصد جدتي هو عتاب ولوم حبيب ..يحاول أن يمسك بيدها فتنزعها برفق ثم تمضي إلى خارج الغرفة)
سعد: (معنفا).. ألا تكبر أبدا ..ماذا لو انتظرت في بهو الصالة قليلا حتى ينقشع دخان البخور وتذهب رائحته
ساعد: بالله عليك.. (يذهـــب ناحيـة النافذة كي يستنشق هواءً رطبا مروحا بيديه في آن واحد..)
سعد: ما قمت به الآن يجعلني أزداد إيمانا أنك لا تملك الحس والذوق الفني ..
ساعد: (متكئــا على شــبابـيك النافذة مغمض العينين ).. أرجوك لا تجرني إلى حافة البئر ..
سعد: كما تشاء ..أنا فقط أضمن حقي أن الحس والذوق الفني في أعماقي وليس في أعماق توأمي..
ساعد: أنا لست في مزاج جيد.. فاخرج من دائرتي..
سعد: تقصد دوائرك الضيقة المظلمة التي لا يمكن لها يوما أن ترى الشمس الحارقة ..
ساعد: (يصفق بحرارة )..حسن ..حسن ..رميت الحبل وأنا أتلقفه ..
سعد:(يتحرك بين لوحاته بخفة)..ليس علي أن أقول لك أن الرسم أحسن والغوص في خطوطه كان صعبا عليك ..
ساعد: وليس ذنبي أنك لم تفهم الموسيقى ولم تبحـر في عوالمها.. وليس علي أن أذكرك أن الحقيقة التي يؤمن بها الجميع ..الموسيقى كانت ولا تزال هي الحياة..
سعد: (يبتسم متهكما) ..أنت مخطئ يا توأمي .. من مجّد الحياة أليس الرسم ..ألم تخبرنا تلك الرسومات الحائطــية في الكهوف،المغارات والأهرامـــات وغيـــرها عن تاريخ الأمم.. الحضارات كلها عرفنا سرها بفضل الرسم..الحضارة الآشورية، الفرعونية ، الإغريقية و.. و.. و ..
ساعد: وهل تعلم أن زرياب عاش وعاش وسيظل يعيش ؟
سعد: وهل تعلم أن دافنشي عاش وعاش وسيظل يعيش ؟
ساعد: وهل تعلم أن موزار عاش وعاش وسيظل يعيش ؟
سعد: وهل تعلم أن بيكاسو عاش وعاش وسيظل يعيش ؟
ساعد: هل تعلم ؟
سعد: هل تعلم؟
ساعد: اسمع لو أننا نعدهم سنبقى  إلى يوم القيامة ..
سعد: دعني أخمن .. (يصمت قليلا ثم يستطرد) ..أفهم من كلامك أنك تريد أن تقول بأنك موسيقار كبير وأنك ستبقى خالدا إلى يوم القيامة ..
ساعد: لم لا؟.. ألحاني الرائعة ستخلد اسمي ..عبقري الموسيقى ساعد.. (ينقر بأصابعه فوق مفاتيح البيانو ثم يقدم حركة كأنه يحيي جمهـورا خفيا ..)
سعد: (يصفــق بحــرارة )..جميـل ..جميل لكنها أضغاث أحلام  يا توأمي ..سعد
(يُسمع عبر النافذة صوت أحد الباعة في الشارع وهو يصرخ عاليا :معنا أجمل العروض..موسيقى موزار ، بتهوفن، شترواس ، فاردي بـ 100دج ، هذا عرضنا الأخير لهذا اليوم  لم يبق لنا الكثير من الأقراص .. )
سعد: (تغلبه نوبة ضحك حتى يكاد يسقط من شدتها) .. يا أخي العزيز أيها المبدع الخالد ..ستباع موسيقاك بـ 100 دج
( في حنق وغضب شديدين يسرع ساعد إلى النافذة حاملا حذاءه كي يرميه على وجه البائع كاعتراض وفمه يردد بصوت عال ..امش أيها الـ..امش أيها الــ…..،  إلا أن نوبة من الضحك تغلبه هو أيضا حين سمع بائعا آخر يصرخ بأعلى صوته : لوحات دافنتشي ، بيكاسو ، فان جوخ ، اسياخم ، خدة ،بايـة ، بـ 100دج ، العرض الأخير ..اشتروا ما تبقى لدي ودعوني أعود إلى بيتي .. )
سعد: (ينتفض).. اللعنة عليهم جميعا ..باعة لا يفقهون شيئا.. أكيد لا يملكون حسا فنيا  ولا ذوقا إبداعيا ..
ساعد: هذا ما ينقصني.. بائع غبي مثل هذا يحطم تاريخ البشرية بـ 100 دج ..
سعد: أسرع ..أسرع و انـظر ..هل تعرف أحدا منهما ؟
ساعد: (يطل عبر النافذة )..للأسف لم أميّزهما فقد رحلا بسرعة ..رميا قنبلتيـهما وهربا .. (يطبق كفيه في توتر)..اللعنة ..اللعنة.. لم هذا الشارع يحمل بين جانبيه مثل هؤلاء ..؟
سعد: لا عليك التاريخ يذكر أن جميع العباقرة عانوا من ويلات واضطهادات شتى ..
ساعد: طبعا تقصدني
سعد: مغرور
ساعد: ليس أقل منك
( تدخل الجدة حاملة في يديها صينية مغطاة بغطاء .. ينظر إليها سعد وساعد في ذهول وفضول .. )
الجدة: هذا ما تفلحان فيه .. النكاف والتذمر ..الجسم كبير والعقل صغير  
سعد: لا لا يا جدتي .. لا تزيدي الطينة بلة .
ساعد: لا تنسي أننا عظماء في الفن ..والعظماء كانت بينهم  مناوشات ومشادات ..وهم كثيرون
سعد: (يهز رأسه وكتفيه  دون أن يعقب)
الجدة: (في تهكم) .. الكبار يبقون كبارا  والصغار …
ساعد: (مقاطعا في استياء)..لا ..لا يا جدتي ..أرجوك نحن صغار ..نحن صغار ..ما هذا ؟ إهانة تلو إهانة؟
سعد: أيام قلائل وسترين الصحافة تحيط بي من كل مكان
ساعد: و ستشاهدينني في القنوات التلفازية..
الجدة: (تمط شفتيها )..احلما ..احلما
سعد: النجاح لا بد له من  صبر عظيم  
الجدة: وأنا لا بد لي من عقل كبير حتى يمكنني أن أصبر عليكما
( بست ..بست..صوت أنثوي جميل يأتي عبر النافذة ..يرتبك سعد وساعد وينظر كل منهما إلى الآخر ..

الجدة لم تنتبه ..سعد وساعد يتظاهران بعدم سماع صوت الأنثى..بست ..بست ..الصوت يعلو شيئا فشيئا دون أن تسمعه الجدة ..سعد وساعد يزداد توترهما..غير أنهما يتظاهران بعدم  الاكتراث كأن شيئا لم يكن ..وكأن النداء لا يعنيهما .. )

ساعد: (يعض على أصابعه وهو يدور حول البيانو) ..أهذا هو الوقت المناسب ؟
سعد: (يعض فرشاته )..كأنها هي ؟
ساعد: ساعة نحس
سعد: (بصوت يكاد يسمع) ..دائما أوصيها باختيار الوقت  المناسب ..الغبية ..
ساعد: من تقصد ؟
سعد: لا شيء ..لا شيء كنت أحدث نفسي
ساعد: لا تحسبني مغفلا
سعد: (مصرا) .. ما بك توأمي ؟..قلت لا شيء ..لا شيء
ساعد: أنت تتحدث عنها ؟
سعد: من ؟
ساعد: هي ؟
سعد: من ؟
ساعد: هي ؟
سعد: من هي ؟
ساعد: من سمعت صوتها
سعد: (متظاهــرا بالاستغراب)..صوتها !..عن أي صوت تتحدث ؟
ساعد: الصوت القادم من الشارع ..صوتها ..
سعد: (يفرقع أصابعه في وجه توأمه) ..أفق ..أفق ..خيالك خانك  وسبقك إلى القبر ..
ساعد: يا نصفي الآخر ..أعرفك جيدا حين تكذب
سعد: أعتقد أن البخور فعل فعلته ..ولا أشك أنك ستلحق خيالك عما قريب
ساعد: (تتغير نبرة صوته بعد أن يعلو وجهه الغضب) ..هل تعرفها ؟
سعد: (بأعصاب باردة) .. من  ؟..أقول من ؟
ساعد: (يشير إلى الشارع )..هي ..هي
سعد: بالله عليك ..من؟ ..من ؟
ساعد: (ثائرا)..أنا توأمك وأعرفك علم اليقين ..أنت تكذب وتخفي عني سرها
سعد: يا رجل بالله عليك ..غيّر السيرة حتى لا نصل إلى ما لا نحمد عقباه ..
ساعد: سعد
سعد: ساعد
( التوتر تزداد حدته في ظل تعنت سعد وادعائه بأنه لم يسمع صوتا في حين يصر ساعد على أن أخاه سمع الصوت وليس من حقه أن ينكر ..

الجدة تنتبه إلى أن التوأمين اتخذا جانبا قصيا من الغرفـة كأن بينهـما ســرا  لا يريدانها أن تطــلع عليه ..ازداد قلقها حين شاهدت أن جسديهما تلاصقا فيما بينها بشكل يوحي أن صداما سيحدث فتسرع لتقف سدا بينهما .. )

الجدة: (تتساءل هلعة) ..ماذا يحدث ؟
سعد:لا أعرف.. اسأليه
الجدة:ساعد ماذا يحدث ؟
ساعد: بل اسأليه ..
سعد: لماذا تحاول التهرب..؟ ألم تكن منذ لحظات تحترق كي تتأكد من أني سمعت صوتا أنثويا ينادي من النافذة؟ ..جدتي لقد جن جنونه ..
الجدة:صوت أنثوي ..أين؟.. متى ؟
سعد:لقد تجلت لي أنيابه..لم أفقه ماذا حدث له كأن التي كانت تنادي عليه هي عشيقته ..
ساعد: (منتفضـا غضبا).. أيها الخبيــث ..لقد سمعتها ؟
سعد:نعم سمعتها ..هل ارتحت الآن ؟
ساعد: أيها المخادع..أحرقت أعصابي.. و أرهقتني وأغضبتني ..فلماذا ؟ لماذا ؟
سعد:كنت أظن أنها  تقصدني مثلما اعتادت
ساعد: (في حنق ).. ماذا.. ماذا ؟
سعد: هذه ليست المرة الأولى ..صدقا لم أعرف أنك تعرفها وتحبها …فأنا عكسك تماما كانت رؤيتي لها كرؤية لوحة فنية لا أكثر ولا أقل ..أما أن يصل الأمر إلى أن أغضب لأجلها مثلما فعلــت الآن فهذا آخــر  الأحزان …. صدقا  يا توأمي أراها امرأة لعوبا..
ساعد: لا.. لا تقل عنها ..إنها ..إنها ..
سعد: (مكملا حديثه وهو يحاول الإمساك بذراع أخيــه).. توأمــي ..هي الحقيقة ..هاته المرأة شكلها وسلوكها يوحيان بالكثير والكثير ..إنها لوحة فنية مغشوشة ..
ساعد: لا ..لا تتحدث معي .. (يدفعه بقوة) ..لقد فاق خيالك حدود التصور وكذبك قطع حبل الود دون شفقة ..
الجدة: (مذهولة) ..لم أظن أن الأمر سيصل إلى هذا الحد ..إنها فتنة ..فتنة
سعد: (محتارا) ..لعن من أيقظها ..
ساعد: (يحاول  الخـروج  فتمنعه الجدة) ..دعيني يا جدتي ..فهذا المخادع منذ أن دخلت عليكما وهو يحاول استفزازي ..وها قد نجح ..
الجدة: إلى أين ؟!..اجلس واستغفر الله ..
ساعد: أكاد اختنق ..يحاول فتح أزرار قميصه ..يا إلهي ..  يا إلهي .. (ينظر ناحية النافذة كأنه يحدث نفسه بالذهاب إليها كي يستنشق الهواء لكنه يكابر ).. لن أذهب ..لن أذهب
( الصوت الأنثوي ينادي من جديد )..بست ..بست
الجدة: (بكـل ما أوتيـت من قـوة تصــرخ).. يا ملعونة ..يا ملعونة
(تنزع حذاءها وترميه عبر النافذة فيتغير الصوت الأنثــوي وينتفــض فيصير أشبه بمواء القطط الضالة.. ثم يطبق صمت جنائزي في الغرفة لتتعالى بعده ضحكة الجدة تعقبها ضحكات التوأمين .. )
الجدة: النساء فتنة .. النساء فتنة .. لم أتصور أن الأمر سيصل إلى هذا الحد.. (تبتسم خفية  وتسرها في نفسها ).. لقد كبر التوأمان ..
ساعد: (في حركة ثقيلة يجلس فوق مقعد البيانو )..أنا آسف لا أعرف ماذا حدث لي ..
سعد: يجلس فوق كرسي الرسم ..ولا أنا ..
ساعد: لحنت لها أجمل لحن ..
الجدة:لا تستحق
سعد: لا تستحق
ساعد: (ينظر إلى توأمه لحظات ثم يحرك رأسه ).. لا تستحق
سعد: (ينظـر ببطء شديد في الأرجاء) ..كأن عين الحسود لا تزال تخيم فوقنا ..بيننا ..حولنا
(في إصرار)..نعم ورب البيـــت المعمور..هي عين الحسود.. الحمد لله أنكما اعترفتما أخيرا ..
سعد: كادت أن تؤدي بنا إلى القبر
الجدة: الحمد لله
سعد: جدتي .. (كمن تذكر شيئا) ..قبل أن يحدث ما حدث ألم تدخلي علينا حاملة في يديك شيئا ما ؟
الجدة:بلى ..بلى
سعد: ماذا كنت تحملين بين يديك ؟
الجدة:صينية ..
ساعد: صينية ؟ ..وماذا يوجد عليها ؟
الجدة:ألستما عبقريين ..ألا ترتديان القبعتين اللتين تزعمان أنهما رمز العبقرية ؟!.. ألم تصدّعا رأسي صباح مساء بأن القبعة لها تأثير على الإبداع وأن لها طاقة خفية سحرية تجعل كلّ من يرتديها يغوص في عوالم العظمة والنرجسية تمكنه من معرفة كل شيء.. أم أن كل ما أخبرتماني به كان مجرد خزعبلات وافتراء ؟!..
سعد: نعم ..أنا عبقري في الرسم وهذه قبعتي ..
ساعد: (يستعيد قليلا من حيويته )..وأنا عبقري في الموسيقى وهذه قبعتي ..
الجدة: (في سخرية )..وأنا عبقرية في إخفاء الأشياء وهذه صينيتي ..
سعد وساعد : (في صوت واحد).. هذه نبصم عليها بالأصابع العشرة ..
الجدة: لنبدأ اللعبة ..الشاطر منكما يخبرني ما تحت الغطاء..
سعد: (يتظاهر باللامبالاة )..ليس لدينا الوقت للعب..
ساعد: (يتكئ على البيانو )..وقتنا غال ولن نضيعه في التخمين..
الجدة:لم أفهم شيئا إلى حد الساعة ..ليوم كامل  تغطان في نوم عميــق ..تستيقظان ربع ساعة ..ثم تعودان إلى النوم  ..
سعد: (يبتسم ابتسامة بلهاء )..ربع الساعة ذاك  يا جدتي العزيزة هو أصل كل شيء !
ساعد: هو بداية الفكرة ونهايتها ..!
سعد: أتريديـن أن تعلــمي ماذا نفعل في ربع الساعة ؟
الجدة: (مستهزئة) ماذا تفعلان أيها العظيمان؟
سعد: (في تفاخر) ..أرسم لوحة عظيمة
ساعد: (في اعتزاز )..أضع لحنا خالدا
الجدة:إني خائفة أن يكون كلامكما كمـن رمى حجرا في النهر ..
ساعد: (يفرقع أصابعه فرحا يسرع إلى الجدة فيقبلها على رأسها )..هل تدركين أن جملتك الأخيرة ..رمى الحجر في النهر ألهمتني مفتاحا لموسيقى جديدة .. (يسرع إلى البيانو ويبدأ  العزف)..
سعد: (يفعل ما فعله ساعد مع الجدة) ..وأنا أعطتني اللمسة السحرية لرسمها على اللوحة .. (يسرع حاملا ريشته) ..
الجدة: (تجلس فوق الكرسي الخشبي بعد أن وضعت الصينية فوق طاولة صغيرة ..ثم تبــدأ تأملهــما بعيـن الشفقـة) .. حقا مساكين ..
( يحاول سعد أن يرسم فلا يستطيع ..فيما تتوقف أصابع ساعد عن العزف ..فيتبادلان النظارات مع جدتهما وهما يتأملان  الصينية .. )
سعد: إننا لم نستطع فعل شيء
ساعد: كل تركيزنا أصابه شلل ..
الجدة: (تضحك) ..النتيجة واحد لصفر ..
سعد: (متوسلا )..بالله عليك قولي  لنا ماذا يوجد تحت الغطاء ..
ساعد:(محتجـا بطريقة صبيانيـة)..لا يمكنني الانتظار..(يسرع إلى الصينية كي ينزع الغطاء فيعترضه سعد .. )
سعد: اَبعد يدك ..أنا الأول
ساعد: أتيت  قبلي بدقيقة
سعد: القدامى قالوا من فاتك بدقيقة فاتك بالعمر والحيلة ..
ساعد: قديمة جدا ..أظنها من العصر الحجري ..ولا تجدي نفعا معي ..
سعد: هكذا دائما يا ساعد الرفض مبدؤك..
الجدة: (تتنهد بعمق) ..شجار ..جدال ..لا يمكن أن تتفقا أبدا.. سأرفــع الغطاء لأني توقعت فشلكما ..فقط عندي رجاء ..
سعد: وما هو ؟
ساعد: نعم ما هو ؟
الجدة:في كل مرة ترياني فيها انزعا  القبعتين من فوق رأسيكما
سعد: مستحيل
ساعد: لا ..لا مستحيل
الجدة:أنا التي فزت ويحق لي فرض  شروطي
سعد: إلا هذه ..هذا ليس عدلا ..اطلبي أي شيء إلا قبعتي
ساعد: وقبعتي ..
الجدة:أنا حرة ..
سعد: ظلم ..
ساعد: استغلال موقف ..هذه ليست من شيّم الكبار
الجدة:نعم ..نعم أنا الكبيرة وأنتما الصغيران ..اعترفا
سعد:أووه يا جدتي ..إهانات ..إهانات
الجدة:ماذا تريدان مني ؟..فقدتما الروح الرياضية وليس لي  إلا أن أخرج بالصينية ..
سعد:لا تفعلي
ساعد: لا تذهبي
الجدة:مستحيل
سعد:أرجوك
ساعد: نعم أرجوك
الجدة: اعترفا ..اعتذرا
سعد وساعد: نعتذر ..نعتذر
الجدة:جميل ..جميل ..هي من أندر الأوقات التي تتفقا فيها على رأي واحد ولأجلها سأنزع الغطاء..
سعد:مذهولا ..زهرة الأوركيد؟
ساعد: زهرة الأوركيد؟
الجدة: (تبتسم في حنان) نعم زهرة الأوركيد..
سعد:وماذا سنفعل بها ؟
ساعد: وما محلها من الإعراب هنا جدتي ؟
الجدة: (تخفي دمعات نزلت عبر وجنتيها) أليست جميلة ؟
 سعد:لا أخفي سرا.. إنها رائعة ..
ساعد: مذهلة ..
الجدة: (في حزن عميق)..زهرة الأوركيد هي الزهرة الوحيدة التي أحبتها الراحلة أمكما من بين كل الأزهار ..وقد أوصتني أن أقتني دائما واحدة كلما ذبلت الأولى.. وها هي الزهرة الجديدة تشــرف على الذبول..ومحل الزهور وسط المدينة لم يعد يملك غيرها  ..
سعد:الجمال يعشق الجمال
ساعد: لذا كان عشقي للموسيقى جارفا
سعد:وعشقي للرسم  كان أيضا جارفا
الجدة:كانت تحبكما كثيرا..هي من أورثتكما الجينات الخاصة بالرسم والموسيقى..فقد كانت رسامة مبدعة وعازفة مرهفة..
سعد: (يقترب من إحدى اللوحات وينزع غطاءها ببـــطء شديــد..كانت اللوحة لأمهما ..يتأملها مليــا) تودين أن نعيد للزهرة بريقها ..
الجدة:بدأت اقتنع بعبقريتك ..
ساعد: أن نحافظ عليها ليست مشكلة..المشكلة أنك تقولين أنها تذبل فكيف نجعلها تستعيد روحها ..
الجدة:هي أمامكما ..
ساعد: (يلوح بيديه عاليا) ..صعب ..صعب
الجدة:ألم تقولا أن الرسم والموسيقى يبعثان في الروح حياة جديدة ؟!
سعد وساعد :  (في صوت واحد )..نعم وسنظل
الجدة:ألم تصرا على أنهما غذاء ودواء ..؟!
سعد وساعد : (في صوت واحد )..لن نحيد عن قناعتنا أبدا ..أبدا
الجدة: (معاتبة)..ألم تتعبا رأسي الصغير وفكري البسيط والمتواضع ..بأن كهنة معبد أبيدوس عند القدماء المصريين فعلوا الكثير والكثير .. ؟!
سعد وساعد :  نعم ..نعم ..
الجدة: ألم تحكيا لي كيف أمكن إيقاف نزيف أوديوس المجروح في الأساطير اليونانية القديمة رغم أني  لا أعرف أصلا من هو أوديوس .. ؟!
سعد وساعد :  نعم ..نعم ..
الجدة:ألم تشيدا بما كان يفعله ابن سينا ؟
سعد وساعد :  نعم ..نعم ..
الجدة:كم أبدعتما في إلقاء الكم الهائل من الدروس والمحاضرات الكثيرة والطويلة، المملة علي إيمانا منكما ويقينا أن الموسيقى لم تعد مجرد أنغام وألحان ، وأن الفن التشكيلي ليس فقط لوحة تُرسم ، أو مجسماً يُنحت ، إنما تعدى كل منهما ليكون ذلك أحد أساليب علاج الأمراض العضوية والنفسية..
سعد وساعد :  نعم ..نعم ..
الجدة:إذا  افعلا شيئا ..
ساعد: (مهزوما )..تطلبين المستحيل ..
الجدة:(بصوت جنائزي) ..زمن رحيل الزهرة إلى الضفة الأخرى لن يطول ..سويعات قليلة سنشهد جميعنا بأسى مدمر وبجوارح ثكلى احتضارها ..احتضار آخر زهرة أوركيد في هذا البيـــت ..في هذا الشارع ..في هاته المدينة ..
سعد:كلامــك مؤثــر ..يزلــزل كياننا ..لكن..لكن .. (يتعلثم )
الجدة: (تهز كتفيها كالمتشفي) ..أظـن أنه يحق لي  أن أسحب ما قلته آنفا ..آسفة ..لستما من العبقرية في شيء..
سعد:ليس الأمر بهاته البساطة ولا دخل هنا للعبقرية ..
الجدة:حاولا ..
سعد: (يفكر في عمق ثم ينتفض) ..لا أستطيع ..لا أستطيع.. (يشد على قبعته في عصبية)
ساعد: وأنا أيضا  لا أستطيع ..لا أقدر .. (لا يكتفي بما فعل توأمه بل يرمي قبعته أرضا ويدوسها) ..اللعنة على هاتـه القبعة إن لم تجد لي مخرجا ..
سعد: (في غضب شديد) ..نعم عليها اللعنة ..
الجدة: (تستفزهما أكثر فأكثر) ..حاولا..ألا تحبّا  أمكما ؟
سعد: (مخاطـبا ساعد في يأس) ..إنها تجرنا إلى البئر ..
ساعد: وبئر عميقة جدا ..
الجدة:لا بئر ولا هم يحزنون ..كلمة واحدة ..هل يمكن أم لا ؟
ساعد: (أحس بمهانة )..اللعنة على هاته القبعة ..لا يمكن أن اعتمرها مرة أخرى .. (يقترب من النافذة ودون تردد يرميها إلى الشارع )..
سعد: (مذهولا )..شيء لا يصدق..
الجدة:أنا من جهتي ..توقعت الكثير والكثير إلا أن يرمي أحدكما قبعته فهذه……..
ساعد: (مقاطعا )..لم يكن بالأمر الهيّن ..خيبت أملى في أن تحقق لي ما أرجوه ..
سعد: (يبتسم ابتسامة بلهاء مستاء ً)..أصبحت رؤوسنا عارية ..منها إلى السماء ..
الجدة:ضاحكة ..ارتاح الأصلع من حك الرأس
( يُسمع طرق متسارع عنيف على باب البيت.. يخيم على الجميـع توتر لبعض الوقــت ..يسرع ساعد ليتفقد الطارق ..لحظات يعود وقد بدا عليه غضب شديد.. )

 

ساعد: (صائحا )..غير معقول ..غير معقول..
الجدة: (فزعة) ..ماذا حدث ؟..ماذا حدث؟
ساعد: (يضــرب كفيه ببعضهـما).. شيء لا يصدق! شيء لا يصدق !
سعد:ماذا جرى ..أفزعتنا ..
ساعد: (يدور حول نفسه )..ماذا حدث للجميع ..ماذا دهاهم ؟!
الجدة: (متوسلة)..أيها المخلوق ..ملأت ركبنا بالماء
سعد:تحدث ..تكلم ..لا تزد الطين بلة
ساعد: القبعة التي رميتها أعيدت إلي( يظهرها لهما)
سعد: (متأكدا ) ..نعم ..نعم.. إنها هي ..حقا هي ..فما الذي جعلك تنفجر كالبركان المـارد أو كالثور الهائج ..لتجعلنا نضيع في غيابات أسئلة  ما لها قرار ؟..
ساعد: لـيس هذا مقصـدي ..من أتى بهـا رجل بدا  في أرذل العمر لكنه قوي البنية.. كان رفقة ثلة من أصدقائه ..
الجدة:وماذا بعد ؟!
سعد:كان عصبيا للغاية ..في حالة هستيرية مرعبة ..لقد أسمعني كلمات نابية وتجرأ علي حتى أنه كاد أن يضربني ..لولا لطف من الله ثم أصدقاؤه الذين فرقوا بيننا ..
الجدة:ماذا !..ماذا !..أراد بك سوءا ؟! ..هذه وقاحة ! !
سعد: (يضرب بريشته إحدى اللوحات ).. ولماذا لم تستنجد بي ؟!
ساعد:(مواصلا حديثه )..دون مقدمات رمى القبعة في  وجهي ..لعنها ولعنني ولعن اليوم الذي رأى فيه قبعة ..مدعيا  أنها نذير شؤم
الجدة:لا بد من أنه معتوه ؟!
سعد:أكيد معتوه ..
الجدة: (منفعلة)..ولماذا كل هذا الحمق والتحامل ؟
ساعد:أصدقاؤه بعد أن أخذوه بعيدا إلى مخرج الشارع طلبوا مني أن أعذره..وأن أتجاوز عن تصرفاته..فالرجل يعيش حالة انهيار ..
سعد:وما ذنبك ؟..وما علاقة القبعة بما حدث؟
ساعد: تماما هذا ما أردت معرفته ..فقد أدخلني تصرفه بئرا عميقة جدا شديدة  الظلمة ..لقد جعلني أعيش للحظات في عالم آخر..
الجدة:وماذا قالوا ؟
ساعد: الرجل كان من أشهر  المبدعين في هاته البلاد، وكان له بيت كبير أشبه بقصر.. جعله مدرسة لمحبي وعشاق الفنون الذين طالما توافدوا عليه من كل صوب وحدب حتى من خارج البلاد
سعد: (تتغير سحنته التي بدا عليها الكثير من الحزن والتأسف) ثم ماذا؟ ..ماذا ؟
ساعد: هي الحرب الملعونة ..لم يحتمل رؤيــة مقتل رواد مدرسته في غارة جوية غادرة ..لم يحتمل تناثر أشلائهم وتطاير قبعاتهم في الأرجاء..
الجدة: (حزينة ومستدركة )..الرجل لم يكن معتوها ..مسكين ..
ساعد: الأدهى والأمر ..أن قيادة الجيش أعلنتها خطأ في التقدير من قبل الطيار.. ظن أن البيت مخبأ للعدو ..
سعد: (مستنكرا )..ببساطة ..
ساعد: الطيار كان مخمورا ..
سعد: هكذا  إذا ! !
ساعد: وكان للطيار …
سعد: (مقاطعا) ..لا تكمل ..البقية واضحة وضوح الشمس ..فعلا.. مسكين
الجدة: (تبكي في حرقة)..ماذا حدث للجميع؟ ..ماذا دهى الناس؟ هل أصبحت النفس البشرية رخيصة ..؟
ساعد: هذا ما حزّ فـّي حتى أفقدني صوابي ..المسكين ما إن وقعت  القبعة فوق كتفه ورآها حتى انقلبت حاله .. المسكين ..لم يقدر أن يتجاوز الحادثة..
سعد:كان الله في عونه..
ساعد: نعم ..كان الله في عونه
الجدة:(تحدق في زهرة الأوركيد)..هل قدر القبعة أن تضل طريقها خارج جدران هذا البيت ..؟ !
ساعد: هنا مماتها ..
سعد: ومحياها ..هنا
الجدة: (متأثرة)..كم كنت أتمنى أن القبعة تفعل شيئا لهاته الزهرة الذابلة ..المسكينة ..أقصد أن تثير فيها ما أثارت في الرجل المسكين ..
( يتبادل التوأمان النظرات ..نظرات كلها إشفاق وحزن وحرقة لفعل شيء لزهــرة الأوركيـد أمام إصرار جدتهما..ودون أن يهمسا بكلمة يمضي ساعد إلى البيانو ويحاول العزف فيما يرفع سعد ريشته ليرسم .. )
الجدة: رائع ..رائع
سعد:(يطيل التفكير ثم يبدأ في الرسم وعيناه تدمعان .. لأجلك يا أمي سأفعل  كل شيء ..
ساعد:(ينظر إلى توأمه مليــا ثم يـبدأ العزف)..وأنا أيضا يا  أمي سأحرق أصابعي عزفا  إكراما لك ..
الجدة: (تتأملهما مليا ثم تبتسم ..تدنو من ساعد تقبله على رأسه ثم تقترب من سعد لتحضنه في دفء بعد أن رفعت رأسه المطأطأ )..قد يكون إحياء زهرة الأوركيد ضربا من الخيال إلا أنني فخـورة بكما ..فعلتما ما كنت آمله منذ زمن بعيد ..
( يُسمع صوت لبائع في الشارع يغـني بصوت جميل ..زهــرة الأوركيــد..زهـــرة الحــب والجمـال الرباني..الزهــرة الخالدة ..نحن نبيـع الحب ..نحن نبيـع الأمل والحياة .. )
الجدة:أتسمعان ؟
سعد وساعد :  (في صوت واحد) ..سمعنا
الجدة: (فرحة).. السماء أمطرت يا توأمان ..
سعد وساعد :  (فرحين )..الحمد لله جاء الفرج ..
الجدة:ماذا تنتظران ..أسرعا
سعد وساعد :  (يخرجان جيوبهما الفارغة في استحياء) .. لا نملك مالا ..
الجدة: (تضحك)  ..هذه المرة من عندي
(يقبلان جدتهما ومن ثم يسرعان صوب  الباب  ..وقبل أن يخرجا ترمي لهما الجدة قبعتيهما  .. )

– الآن أسمح لكل منكما بارتداء القبعة ..

سعد وساعد (يرفعان القبعتين تحية تقدير و إجلال)…شكرا شكرا لك أيتها السيدة العظيمة .. يا أعظم  جدة ..      
(تجلس الجدة فوق الكرسي الخشبي وهي تقبل زهرة الأوركيد..تنظر فيما حولها..ثم إلى اللوحات وإلى البيانو .لتبتسم ابتسامة اعتزاز ..تحدق في الصورة المعلقة .. )

 

–  الآن يحق لك أن  تضحكي ..

ستارة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock