مقالات ودراسات

حصريا.. الأكاديمي العراقي د. “ثابت الليثي” يكتب لـ “المسرح نيوز”: مقاربة الاشتغال السريالي في النص المسرحي!


المسرح نيوز ـ العراق| د. ثابت الليثي*

أكاديمي عراقي يقيم في موسكو*

ـ

 

بدايةً.. لتحقيق مقاربة النص السريالي لابد أولا من محاولة للتعرف على مفهوم النص المسرحي، إذ لا يمكن العبور على مفهوم النص باعتباره وحدة لغوية محددة بعينها عبر التدوين، رغم انفتاح المصطلح على مفاهيم عدة مقاربة، مثل النص البصري، النص الحركي، النص الموسيقي، وكلها تجاوز الرمزية اللغوية نحو إنشاءات لأنظمة رمزية وإشارية بصرية أو سمعية لا لغوية. إلا أن ما يوحد بين كل تلك المفاهيم هو مبدأ التماسك الموضوعي. فالنص لا يكون نصا إلا حين الترابط في كليته باعتباره موضوعا. والنص المسرحي أدبي كون “الأدب تركيب لغوي مفصول عن أي شيء خارج ذاته، وهو كيان باطني الرؤيا مغلق، يحتوي الحياة والحقيقة في نظام العلاقات اللغوية”([1]).

 

 

نصل من ذلك إلى أن النص المسرحي أدبي كونه لغوي، وهو المدونة على الورق، إلا انه يعتبر موضوعا، وهو بعيد عن خشبة المسرح، ما ينفك يتحول على المسرح إلى العرض باعتباره إدراكا له، حيث “العرض بعناصره يعطي النص أبعادا ومعاني جديدة ابعد أثرا على المتلقي، وقد يتمكن المخرج المبدع من خلق نص رديف عبر الوسائل والدلالات الكامنة في العرض لإظهار البنية العميقة للنص، والتي قد تخفى على القارئ”([2]) فتأتي تعددية القراءة مع تكرارية العرض باعتباره إدراك جديد في كل مرة من ذلك التكرار.

 

 

إن ذلك الحضور والاقتران للعرض مع النص المسرحي يجسد الطبيعة المزدوجة للنص المسرحي وتعقيداتها الإشكالية، باعتباره نصا أدبيا قائم على لغة مكتوبة ومتداخل مع السرديات من الأجناس الأدبية مثل الرواية والقصة لما يشترك به معها من توافر استراتيجيات الحبكة والشخصية والثيمة والزمان والمكان على الرغم من مغايرتها التقنية عن تلك في النص المسرحي، هذا من جانب، ومن جانب آخر، النص المسرحي باعتباره فنا دراميا قائما على المحاكاة، أي التجسيد المباشر دون السرد الذي إن ورد في النص فهو يرد بلا راوٍ وعلى لسان الشخصية كمعالجة للإعلام والإخبار عما لا يمكن تجسيده بشرط ألا يخرج عن النسق المحاكي، كما قدم ذلك أرسطو في كتابه فن الشعر. فهو نص تحضر فيه القدرة والإمكانية التقنية، وكذلك القوانين المادية للعرض، إلى حد أن يكون النص المسرحي مصدرا لمخطط الإخراج الأولي، ولفرضية المخرج، وبما في النص من مضمرات تكون نقطة انطلاق فيفعل تحفيز لجماليات النص نحو خلق “أطر متنوعة للفكرة وللفعل وللتأمل، أو ما يسمى حسب التسلسل المذكور، الثيم والحبكة والأطروحة بأطر مشهدية محددة، لأن هذه الحوافز باجتماعها وتركيبها تقدم الموضوع الدرامي الذي سيشتغل عليه المخرج ويبني تصوراته وخطته الإخراجية من خلاله”([3])

 

 

إن النص المسرحي وهو المدونة يمتلك بفعل انتظامه كبنية علامية تشكل موضوعا بذاته عبر نظام دوالها وما تحيل إليه من مدلولات، يمتلك أن يتقدم إلى موقع الوثيقة التاريخية، إذ أن ما فيه من انساق تطلق جملة خطابات تشكل أنموذج الحضاري والثقافي في العصر. وبفتح الشفرة في تلك الخطابات عبر فعل التلقي والقراءة للنص أو العرض له، يمكِّن من اكتشاف الأنساق الحضارية والتاريخية والاجتماعية السائدة في العصر، والتي شكلت انعكاسا في بنية النص ذاته. إلا أن وثائقية النص المسرحي لا تأتي من مطابقته الواقعية، بل من انعكاس العصر في فعل تشكيله وبناءه، كما أن ذلك الانعكاس يأتي مندرجا في سياق الفعل الحضاري المتصل واستمرارية التجربة الإنسانية، وهو ما يحقق بعدا آخر في النص هو الشمولية الإنسانية عندما لا يكتفي بالكشف عن الأنساق الثقافية والاجتماعية في عصره، بل يتجاوز ذلك إلى حمل الشفرة للفعل الإنساني المستمر والمتواصل عبر العصور، الماضي، والواقع الحاضر، والمستقبل، وبالتالي الكشف عن كلية النسق الحضاري وإمكانية التنبؤ باحتماليات الفعل الإنساني فيه، وذلك هو تاريخانية النص المسرحي، إذ “يبقى النص الدرامي خالدا إذا توافر على ما سمي بالروح الشمولي وذلك بانتمائه كنص إلى زمنه التاريخي، وفي نفاذه إلى أجواء وفضاءات معاصرة متوالدة  مستقبليا”([4])

 

 

إن التعددية في المستويات الفكرية والجمالية للنص المسرحي تتيح تعددية القراءة الفكرية والجمالية وبالتالي تحوله إلى مادة إبداعية عبر فعالية إدراك هو العرض، وما تتيحه أطر النص من تعميق ذلك الإدراك/العرض وتشكيل أنظمته وهي أنظمة العرض بذاته، وبالتالي تحول العرض إلى الحيود عن موضوعه المدرك، وهو النص، إلى حدود تشكيل موضوعه الخاص عبر اطر العرض السينوغرافية، وبما يخلق متواليات من النصوص الدرامية اللغوية واللالغوية المتناسلة من بعضها البعض باعتبارها حيودات في موضوعها عن مدونة النص اللغوي للمؤلف، مثل نص الإخراج، ونص العرض، بل إن تكرار العرض ينتج في كل مرة نصا جديدا، كل منها يمثل نصا أنتجته مقاربة القراءة، حيث العرض قراءة وإنتاج للنص في كل مرة يتحقق فيها العرض، إذ ليس “بالضرورة أن يتقيد المخرج بإبداع المؤلف إلى حد الإتباع، لأن حرفية الإتباع تستبعد مضمونية الإبداع، وتسقط النص في أحادية رؤية فنية”([5]).

 

 

ويذهب البعض في اعتبار النص نظام تام موحد للعناصر المسرحية العارضة أو اطر العرض المسرحي من مرئيات ومؤثرات سمعية وموسيقى، وممثل وشخصية إلى حد تطابق المستويات الفكرية والجمالية ما بين النص والعرض، بحيث يستحيل العرض إلى ترجمة بصرية للبنية اللغوية للنص، وتجسيد تام لأطر النص، وعندها النص بنية مغلقة على ذاتها محددة موضوعها. وهو ما يتقاطع مع تعددية المستويات الفكرية والجمالية للنص المسرحي وبالتالي إسقاط خاصية الغنى المضموني فيه وتحويله إلى عسف المنظور الواحد والتسطيح بقصد تحديده موضوعيا وغلقه بما يؤدي إلى تملكه عبر فعالية التجسيد، وتحت دعوى تقديم النص الأدبي إلى المرتبة الأولى في المسرح ، وكما تذهب في ذلك آن اوبرسفيلد([6]).

 

 

وهنالك من يذهب في اعتبار النص نظام رمزي قابل لما لانهاية من القراءات تبعا لمقاربات القارئ/المتلقي، ومع تلك المقاربات في تعددية القراءة تنكسر الوحدة الثيمية للنص، والاتجاه نحو تشكيل المتواليات من النصوص الفرعية إلى حد تحول النص إلى بنية ذاتية بالنسبة للقارئ/المتلقي ومغرقة في الخصوصية الفردية له، وهو ما يضعف قصدية الخطاب الذي يطلقه النص، ليتحول فعل التخاطب إلى فعل اتصالي يجري في مستوى الإرادة والرغبة للفرد/المتلقي، وهو مستوى موحد ما بين أطراف التخاطب، وذلك ما يسحب الخطاب بكليته من فضاء الوعي والقصدية، إلى حدود فضاء اللاوعي. أي تحول العرض من القصدية والتنظيم الواعي في فعل الإبداع المسرحي، إلى جو الطقس والتواصل اللاواعي فيه، كما يذهب في ذلك مدنسو النص، والذي يشترط منطقيا عندهم وجود النص أولا، ثم تدنيسه.

 

 

نخلص من ذلك إلى أن النص المسرحي كائن أصلي متشكل قبل إدراكه، الذي هو العرض، وبذلك هو يحتفظ بمستوى من الحضور في فعل الإبداع المسرحي مهما تعددت الاتجاهات الفنية في تحقيق ذلك الإبداع، ولا يمكن العبور عليه أو إلغاءه كونه يشكل المرجعية الأولى في ذلك الفعل الإبداعي، ومصدر النصوص الفرعية فيه، وما يبث من خطابات، وموضوعا للقراءات المتعددة عبر ما يبتنيه الإخراج والدراماتورجية من مقاربات القراءة.

 

 

إن لغوية النص المسرحي التي تحيله إلى طبيعته الأدبية تصطدم مع الموقف السريالي من الأدب، حيث تستبدله بالشعر لما يشكل الشعر من فعالية متحررة، فهو “انتولوجيا وحياتيا ويبدو له على انه يملك مفاتيح الحرية ويحتوي رسالة السعادة الإنسانية”([7])خالقا وموجدا عالم الخارق المدهش، ولا حدود لإمكاناته التي هي إمكانات الذهن الخلاق. فتعلن السريالية الثورة الجمالية والأخلاقية بوجه الأنظمة الأدبية السائدة والقوانين الجمالية، بل وفكرة الجمال بذاته. إذ الجمال التقليدي قيمة مجردة وبالتالي موضوعا للتأمل خارج الذات وتجربة الحياة، وهو ما تقوم عليه الأدبية وتكرسه في النص المسرحي وعبر أطره. بينما السريالية تدمج ممارسة الحياة نفسها بممارسة الفن، فلا انفصال للجمال عن تجربة العيش، ولا يمكن أن يكون موضوعا خارجي للتأمل. إذ أن الجمال هو فعالية الحياة بذاتها، والقيمة الفعلية المستحصلة من تجربة الحياة، والتي هي تجربة تحرر وتملك للذات، مثلما هي تجربة تعرف واكتشاف المدهش الخارق، حيث “الشاعر هو من يلهم ويحث على أعمال جديدة، وأفكار مجهولة ويغرق في مجرى حياة الناس. لم يعد يعمل في برج عاجي، بل يفرز الشعر طبيعيا في الحياة اليومية، التي يتعايش معها ويطلب منها باستمرار مواضيع إثارة جديدة”([8]) وبذلك تجاوز الأدبية والجمال التقليدي، وتنحو بفكرة الجمال نحو مفهوم الخارق المدهش الذي ينكشف في لحظات الممارسة الحياتية.

 

 

وانطلاقا من أن النص المسرحي لغة، فهو محكوم بنظام عقلي، باعتبار اللغة هي أعتى الأنظمة العقلية التي تكرس مركزية العقل، وبما يجعل من النص حضور العقل على بياض الورقة. فالنص محكوم بقوانين الارتباط المنطقي، والبناء النفسي، والتشكيل الجمالي. ومن ذلك تنطلق السريالية في مغايرة التركيب اللغوي بهدف كسر المنطقية العقلية فيه، وإنشاء أنظمة لاعقلية تتشكل الظاهرة على أساسها وتسهم في اكتشاف الحقيقة من جوانبها الممنوعة والملعونة. فتكون اللغة السريالية لغة تلقائية متصلة تماما بالذهن المتحرر، وباستمراريتها تكامل نفسها، وتحقق منطقها الخاص وصولا إلى الوعي الخارق، وهو أشبه بحالة الاستنارة الصوفية. ولا يقطع تلك الحالة إلا التوقف في تلك التلقائية، وبالتالي فقدان اللغة لاتصالها بالذهن وامتدادها عنه، وعندها تخضع للضرورة الظرفية الخارجية والعقل النفعي. ويصف بريتون تلك اللغة التلقائية ومحاذير انقطاعها بأنه “يكفي توقف بسيط في اندفاعي ليفقدني تسردي.

 

 

فالكلمات، مجموعة الكلمات المتباعدة تمارس بينها اشد التضامن…هذه اللغة المطلقة العنان…تمنحني وعيا مدهشا”([9]) فاللغة السريالية تنكسر فيها المنطقية العقلية مقابل تدفق محتويات اللاوعي. وبالتالي يستحيل النص المسرحي إلى صياغة لذلك التداعي الحر، والتي تحققها استراتيجيات الصدفة من جانب، ومن جانب آخر الطبيعة الفوتوغرافية للكتابة الآلية في تجسيد كلية الفعالية الذهنية، وهي كلية التجربة الحياتية، وكما يذهب في ذلك بريتون باعتباره من وسائط ضرب القصدية الجمالية التقليدية، وأدبية النص عندما يعلن انتفاء الحاجة للموهبة في إنتاج النص “ويعجبه أن يعتبر نفسه جهازا مسجلا أو على انه مرآة”([10]) وبذلك يستحيل النص المسرحي إلى وسط للإدراك أكثر منه موضوعا للإدراك. حيث تدرك ما كنت تجهله عن مدى معرفتك، وبالتالي اكتشاف أبعاد معرفتك الخافية عنك. وهو فعل مغرق في الذاتية الفردية، يحققه القارئ/المتلقي/المخرج/المصمم/الممثل، كل من زاويته الخاصة، أي المقاربة الذاتية للقراءة.

 

 

وهو ما يمنع اطر النص عن تحقيق وحدة موضوعية تفرز أي معنى عقلي قابل للتداول في فضاء الوعي، وبدلا عن ذلك تعمل على تحقيق مستوى اتصالي يتشكل من موضوعات الرغبة والإرادة والتأثيرات اللاواعية لفواعل الكبح والإرجاء والتحويل في النشاط النفسي الداخلي لمجموعة المؤلف/النص، والقارئ/المتلقي، حيث العمل على اللاوعي كمستوى اتصالي موحد بين تلك الجماعة. وذلك ما يؤدي إلى تفكك النص، وتحوله إلى شبكة تداعيات هي حواريات ما بين الفرد وذاته منزهة عن الغاية، وخارج كل وحدة موضوعية. ومحيلة النص السريالي إلى مستوى من الغنائية العالية، يتناسب مع خروج السريالية على الأدبية واعتناقها الشعر فعالية للروح وتجربة للعيش و وسطا للمعرفة.

 

 

إن المجاوزة السريالية للقصدية الجمالية وأنظمة الأدبية في بناء النص، تمثلت في إنتاج النص المسرحي بتقنيات الكتابة الآلية، وشعرية الصدفة، والارتجال كما عند آرتو حيث “تفرض فكرة المسرحية التي تخلق على المسرح مباشرة، وتصطدم بعقبات الإخراج واكتشاف لغة ايجابية تتخلى عن الحدود المعتادة للمشاعر والكلمات”([11]). أو يأتي النص عن طريق الكولاج الذي يتضمن حركة أكثر من فكرة في النص بما يؤدي إلى القصص المتعارض والتناقض وكسر مسار الأحداث والمفارقة السردية وهارمونية الفوضى. وذلك على صورة الحلم وفعالية الذاكرة في تشكيله، حيث لا نستعيد الحلم إلا مقطعا وبصيغة الكولاج، وذلك بفعل نشاط الذاكرة التي “تدعي حق إحداث حذف فيه وعدم اعتبار نقاط الانتقال وتزويدنا بسلسلة أحلام بدلا من الحلم … صورا متميزة يكون الربط بينها من شأن الإرادة”([12])، أو قد ينبني النص المسرحي السريالي على شكل المونتاج العرضي القائم على التزامن وتعدد مستويات المشهد، مستعيرة ذلك من تقنيات السينما، والتي شكلت حقلا سرياليا متميزا، وميدان التحقق السريالي الأكثر توفيقا حيث النحو باتجاه “وسائل تعبير جديدة، كما هي الكرامفون والفلم، اللذين يربطان الحركة بالفن”([13])

 

 

ولم تستطع السريالية مجاوزة البنية اللغوية المنتجة للنص أكثر من مغايرتها ومقاربتها مع مادية العرض، وما اصطلح عليه باللغة الملموسة المشبعة للحواس، كما ذهب آرتو، حيث “بدلا من أن يتم كل من التأليف والإبداع في رأس المؤلف، يتمان في الطبيعة ذاتها، في الفضاء الحقيقي، وستظل النتيجة النهائية دقيقة محددة، كنتيجة أي عمل مكتوب، ومضافا إليها ثراء موضوعي هائل”([14]) وهي دعوة لإنتاج نص مادي حسي يشغل الفضاء، حيث تستحيل الكلمة إلى أصوات توقيعية، وعلى طريقة الكلمات المحررة للمستقبلية، وكذلك المعنى فيها إلى نبضات حسية عبر إنشائية الإضاءة واللون والحركة والمنظر والزى. وهو ما يعني تقديم الفني على الأدبي في ثنائية النص المسرحي، والاحتفاء بالعرض وفن الإخراج، ودون إلغاء النص المدونة، بل منح اللغة أهمية من خلال إيجاد وسائل تعبير جديدة لها، وبانتظاماتها تشكل ذلك النص المادي الحسي، والذي لا يتحقق إلا من خلال علاقاته مع مدونة النص باعتبارها مرجعية إبداعية.

 

 

وحيث أن الوثائقية هي متلازمة حتمية للنص المسرحي تبعا للبنية اللغوية المنتجة للنص، نجد وثائقية النص السريالي لا تتجه نحو الواقع الخارجي المحكوم بالعرف والانتظام العقلاني والمنطقية الرياضية، بل تتجه إلى جوهر الحياة باعتبارها تجربة ذهنية، فيأخذ بتصويرها إلى حد حضورها في الفعل الإبداعي، الذي هو نفسه فعل عيش تلك التجربة بتمامها واستعادة ما اسقط عنها بفعل تعسف العقل والسلوك الذرائعي الذي يحدد الأطر الضيقة لها ويفرضها عليها بمفهوم الواقع، حيث “يعلن أراغون: إن القيمة الوثائقية لنص سريالي هي التي لصورة فوتوغرافية”([15]) غير أن لا يعني الانشغال في هذا الجانب إلى حد تحويل وثائقية النص السريالي إلى فعل التحليل   النفسي. كما أن النص السريالي لا يحمل انعكاس الواقع على فعل بناءه وتشكيله. بل أن النص بذاته هو الفعالية الذهنية، أي التجربة الحياتية الحقة بما تملك من فاعلية تحقيق العالم على صورة الذات، والاندماج فيه بنفس الوقت. حيث النص هو الفعل الإبداعي وهو نفسه فعل العيش وهو التجربة الذهنية، وبالتالي لا يقدم النص المسرحي السريالي وثائقية بالإحالة إلى واقع تشكله وعبر ما انعكس فيه من مؤثرات. بل يكون هو نفسه كلية الحالة التي هي حالة عيش، وحالة تشكل وتكون، وحالة اكتشاف وإيجاد.

 

 

كما أن احتفاء السريالية بالآنية، شكل تقاطعها مع التاريخانية. ففي الممارسة السريالية يتم التقاط اللحظة من السياق الزمني للتجربة الحياتية في جانبها الواقعي، واعتماد تلك اللحظة زمنا لتحقيق الرغبة، وحيث الرغبة أزلية ممتدة في تحقيق موضوعاتها، ولا يمكن إنهاءها، أو إشباعها، يستحيل زمنها وهو تلك اللحظة الملتقطة، إلى زمن أزلي ممتد بلا انتهاء، مثلما يستحيل المزاج فيها إلى حقيقة كلية شاملة. وان ذلك الامتداد يكون خلال زمن تلك اللحظة الفيزيائي، والذي عند انقضائه تنطوي تلك اللحظة، ليتم التقاط لحظة أخرى خلال الممارسة السريالية. كما أن تقلب المزاج السريالي يجعل لكل لحظة ملتقطة حقيقة مطلقة خاصة تعيش فيها، وتنطوي معها عند انقضائها، وبالتالي لا يتم تحقيق أية رؤية شمولية تكشف عن مسيرة النسق الحضاري نحو غايته. بينما الأساس المفهومي للنزعة التاريخانية اكتمال النسق الحضاري نحو غايته وتحقيق المطابقة التامة ما بين واقع التجربة الحياتية والمثال المطلق، والذي يكون غاية مسعى الفعل الإنساني، وهو ما يسميه هيغل بتجلي الروح المطلق في الواقع، حيث أن تلك المسيرة هي التاريخ، ووحداتها الزمنية مرتبطة بقانون الجدل بما يجعل لكل وحدة شمولية وكلية تلك المسيرة([16])

 

 

ومن ذلك تنتفي التاريخانية من النص المسرحي السريالي، باعتباره إبداعا لا يتحقق “إلا في حالة خاصة عن طريق الكشف المباغت، وعندما ينفلت الكاتب والقارئ من قبضة الزمن، ويتحقق ذلك لما ينطوي الزمن على نفسه يعاكس وجهته العادية مرتدا إلى نقطة البدء”([17]) ليخرج عن سياقه الفيزيائي متحولا إلى زمن نسبي بالنسبة إلى موضوع الرغبة وامتداده. أي لا يعبر النص المسرحي السريالي عن نسق حضاري إلا في حدود اللحظة الآنية ومزاجها.

 

 

وحيث أن النص المسرحي تحققه أطره التي تكسبه سمة جنسه ونوعه والخصوصية الإبداعية. فأن النص المسرحي وفق هذا يعاني في المقاربة السريالية المغايرة في أطره وبما يحقق النص السريالي.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

المصادر:

([1]) ايغلتن ، تيري : مقدمة في نظرية الأدب ، ت : إبراهيم جاسم العلي ( بغداد : دار الشؤون الثقافية العامة ، 1992 ) ص 102

([2]) جلال ، زياد : مدخل إلى السيمياء في المسرح ( عمان : منشورات وزارة الثقافة ، 1992 ) ص 48

[3])) يوسف ، عقيل مهدي : النص والميزانسين ( بغداد : دار الشؤون الثقافية العامة ، 2006 ) ص 12

([4]) يوسف ، عقيل مهدي : في بنية العرض المسرحي ( بغداد : مطبعة اسعد ، ب ت ) ص 34

([5]) صمودي ، مصطفى : قراءات مسرحية ( دمشق : منشورات اتحاد الكتاب العرب ، 2000 ) ص 70

([6]) ينظر : كانوفا ، ماري – كلود : الكوميديا ، ت : علاء شطنان التميمي ( بغداد : دار الشؤون الثقافية العامة ، 2006 ) ص 270

([7]) آلكيه ، فردينان : فلسفة السريالية ، مصدر سابق ، ص 42

([8]) نادو ، موريس : تاريخ السريالية ، ت : نتيجة الحلاق (دمشق:وزارة الثقافة،1992) ص 74

([9]) بريتون ، اندريه : بيانات السريالية ، مصدر سابق ، ص 52

([10]) آلكيه ، فردينان : فلسفة السريالية ، مصدر سابق ، ص 21

([11]) آرتو ، أنتونان : المسرح وقرينه ، ت : سامية اسعد ( القاهرة : دار النهضة العربية ، 1973 ) ص 34

([12])بريتون ، اندريه : بيانات السريالية ، مصدر سابق ، ص 23

([13]) ابولينير ، غيوم : الروح الجديدة والشعراء ، ت : عصام عبد اللطيف احمد ، مجلة الثقافة الأجنبية ، العدد 2، بغداد ، 2004 ، ص 80

([14]) آرتو ، أنتونان : المسرح وقرينه ، مصدر سابق ، ص 98

([15]) آلكيه ، فردينان : فلسفة السريالية ، مصدر سابق ، ص 28

([16])ينظر: أيكن ، هنري : عصر الأيديولوجيا ، ت: محي الدين صبحي ، ط 2(بيروت:دار الطليعة للطباعة والنشر،1982) ص 55

([17]) العروي ، عبد الله : مفهوم التاريخ ، ط 4 (الدار البيضاء : المركز الثقافي العربي ، 2005 ) ص

([1]) ايغلتن ، تيري : مقدمة في نظرية الأدب ، ت : إبراهيم جاسم العلي ( بغداد : دار الشؤون الثقافية العامة ، 1992 ) ص 102

([1]) جلال ، زياد : مدخل إلى السيمياء في المسرح ( عمان : منشورات وزارة الثقافة ، 1992 ) ص 48

[1])) يوسف ، عقيل مهدي : النص والميزانسين ( بغداد : دار الشؤون الثقافية العامة ، 2006 ) ص 12

([1]) يوسف ، عقيل مهدي : في بنية العرض المسرحي ( بغداد : مطبعة اسعد ، ب ت ) ص 34

([1]) صمودي ، مصطفى : قراءات مسرحية ( دمشق : منشورات اتحاد الكتاب العرب ، 2000 ) ص 70

([1]) ينظر : كانوفا ، ماري – كلود : الكوميديا ، ت : علاء شطنان التميمي ( بغداد : دار الشؤون الثقافية العامة ، 2006 ) ص 270

([1]) آلكيه ، فردينان : فلسفة السريالية ، مصدر سابق ، ص 42

([1]) نادو ، موريس : تاريخ السريالية ، ت : نتيجة الحلاق (دمشق:وزارة الثقافة،1992) ص 74

([1]) بريتون ، اندريه : بيانات السريالية ، مصدر سابق ، ص 52

([1]) آلكيه ، فردينان : فلسفة السريالية ، مصدر سابق ، ص 21

([1]) آرتو ، أنتونان : المسرح وقرينه ، ت : سامية اسعد ( القاهرة : دار النهضة العربية ، 1973 ) ص 34

([1])بريتون ، اندريه : بيانات السريالية ، مصدر سابق ، ص 23

([1]) ابولينير ، غيوم : الروح الجديدة والشعراء ، ت : عصام عبد اللطيف احمد ، مجلة الثقافة الأجنبية ، العدد 2، بغداد ، 2004 ، ص 80

([1]) آرتو ، أنتونان : المسرح وقرينه ، مصدر سابق ، ص 98

([1]) آلكيه ، فردينان : فلسفة السريالية ، مصدر سابق ، ص 28

([1])ينظر: أيكن ، هنري : عصر الأيديولوجيا ، ت: محي الدين صبحي ، ط 2(بيروت:دار الطليعة للطباعة والنشر،1982) ص 55

([1]) العروي ، عبد الله : مفهوم التاريخ ، ط 4 (الدار البيضاء : المركز الثقافي العربي ، 2005 ) ص 371

 


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock