حصريا.. الناقد الفلسطيني تحسين يقين يكتب.. مسرحية “فندق العالمين” الجزائرية: سحر الفن في التأمل والمساءلة واغتنام الفرصة أخلاقيا!
المسرح نيوز ـ فلسطين | تحسين يقين*
ناقد مسرحي فلسطيني
ـ
احتجت وقتا للتخلص من الأثر النفسي للمسرحية، لقد أخذت بها!
أهم هذه المشاعر جاءت إثر لعب الدكتورة س بأحد النزلاء، حين تنادي عليه، حيث وجد نفسه مرة واحدة أمام خيارين، إما العودة إلى الحياة أو الرحيل عنها، وفي ظل خوفه، تخبره بأن ذلك إنذار كاذب!
وأظن أن المسرحية قد قصدت إيصال المشاهد إلى تأمل رحلته في الحياة، بحيث يسائل نفسه ويحاسبها، قبل الرحيل!
وسواء أكان الرحيل رحيلا عن الحياة، بمعنى الموت، أو الرحيل الرمزي عن الفضاء الذي يضطرب فيه، كإنسان له نفوذ ومطامع!
وأظن أن هذا هو البعد السياسي للمسرحية، وهو مقصدها الذي يأتي بشكل غير مباشر.
تطرح مسرحية “فندق العالمين”الجزائريةأسئلة فلسفية ووجودية: أين نذهب عندما نسقط في غيبوبة, ونصبح في منزلة بين المنزلتين, أي بين الحياة والموت؟ وهي مقتبسة عن نصالكاتب الفرنسي إريك إيمانويل شميت كتبه عام 2003،بعد حادثة تعرض لها الكاتب بعد زيارته الصحراء الجزائرية عام 1989 حيث تاه عن الفريق المرافق ووجد نفسه وحيدا، فأعاد النظر في معتقداته.
ورغم الاحتمالية العالية لفكرة الحياة والموت، وأثر ذلك على سلوك الأفراد تحت التأثير الحاد لفكرة الرحيل عن الحياة، والتعرض للمحاسبة بعد الحياة، إلا أن المتأمل بعمق يرى أن “الرحيل” كفكرة كما أسلفنا قادرة أن تحركنا من دواخلنا، لنقف أمام أنفسنا والآخرين للبوح بما كنا نخبئه!
وكأنني بالمسرحية تقول، هناك دوما فرصة للفعل الأخلاقي والإنساني!
أبدع المخرج أحمد العقون في تحويل النص ليس على الخشبة فقط، بل في داخل كل منا، بحيث خاطب الجانب الجواني منا لا السطحي.
بهو فندق في عمقه فضاء حركة شخوص كأنهم حراس يراقبون النزلاء، عمود ابيض يعبر عن “المصعد” في المنتصف عليه اضاءة يضيء وينطفئ، وهو يشكل مصير النزيل، حيث عندما يتم النداء على أحد النزلاء، فمعنى ذلك انتهاء فترة الغيبوبة، فهو إلى موت، وهنا يصعد المصعد إلى أعلى، وإما إلى حياة، فيهبط المصعد إلى أسفل فينجو!
ستطول ردود فعل المشاهدين، إزاء العرض المسرحي، كأنه نص من المسرح الذهني لتوفيق الحكيم، حيث يتم محاكاة المشاهد للممثل، فهو-ونحن، معرضون بالفعل لمثل هذه الحالة.
هي مسرحية فلسفية تتحدث بعمق عن وجودنا وعن حقيقة الحياة والموت، والحضور والغياب،من خلال الدخول عميقا في البحث عن أجوبة حول الهدف من هذا الوجود.
دارت وقائعها داخل مكان غير محدد، قد يكون فندقا، كما يسميه المؤلف «فندق العالمين»، حيث لا أحد من نزلائه الخمسة يعلم كيف وصل إلى هنا ومتى سيغادر،حيث تلتقي خمس شخصيات مختلفة تفكر في ماضيها ومستقبلها، أما حاضرها فلا تدري ما هو على وجه التحديد.
في ظل توقعها الحياة او الموت، يستعيد الضمير جزءا من عافيته، فينطق صاحبه بما يرى الصواب، كأنه في قوله يعبر عن توقه بالخلاص.
أما لماذا نرى العرض رسائل فلسفية وجودية ذات ابعاد سياسية-اقتصادية، فلأن العرض لا يكتفي بالتعرض للبعد الديني للمسرحية، بقدر إيحائه حول التزام الانسان تجاه الآخرين في المجتمع، لأن علاقته بالله هي علاقة خاصة محدودة، فيما تكون علاقته في المجتمع مهمة كونها تؤثر على الاخرين.
لذلك نستطيع نفسير اللونين الأبيض والرمادي ليس فقط من حادثة تعرض الفنان عبد الرحمن زعبوبي للغيبوبة لثلاثة ايام لم يتذكر منها سواهما، بل للسياق النفسي المعبّر عن حالة التردد، يشفع لذلك تشابه حالة التردد مع اللون الرمادي.
هو خوف الإنسان-المواطن.
لذلك بحث الرأسمالي عن خلاصه، فيما بحث المحب عن مصير الصبية، وصولا إلى إمكانية التحررمن الخوف نفسه.
المصير..في الدنيا وبعدها..
- أي فندق؟
- فندق أو مستشفى ربما!
- هناك؟
- الفنادق كثيرة يا صاح، ربما فندقنا ليس على الأرض، ولا في السماء، ربما هو في النفس!
- في النفس!
- تعال إذن إلى حيث يكون!
كان فيلما ليوسف شاهين، استدعى الماضي مسقطا عليه الحاضر، لنقده من أجل التغيير، لكن من لحظة إنتاج الفيلم عام 1997، حتى ما صار يعرف بوهم الربيع العربي، لم يأخذ التغيير مجراه الحقيقي، بل صار بحثا عن خلاص أفراد وقوى لا خلاص شعوب.
يأخذني الفن إلى التحولات السياسية وطنيا وقوميا وعاميا..وشخصيا!
وتأخذني تلك التحولات إلى الأدب والفن..
وهنا، وهناك ثمة ارتباط بين خلاصنا كأفراد فرد وخلاصنا كشعب؛ فلا أظن أن هناك تناقضا، فخلاص العام خلاص للذات. ومجموع خلاصات الذوات الشرعي مقوي للخلاص العام.
في الفن، حسب شكسبير وغيره من الكتاب الذين يرصدون ردود أفعال الشخصيات تجاه الأحداث، حيث تظهر معادن النفوس، فإن الرواية والفيلم والمسرحية بشكل خاص، تكون جميعا مجالا للتصوير، بما تملك من مقومات السرد.
هنا سنكون مع عمل مسرحي عميق جدا، يعيد الفرصة لنا كبشر إلى الاهتمام الجاد بالهموم العامة، لتعميق الالتزام الإنساني.
ثمة فرصة قبل الرحيل، لكن بوقت كاف للاعتدال والعدل والعدالة..ولن يكون وقتها حتى الرحيل بمعنى الموت رحيلا، بل بقاء جميلا خالدا.
خرجت من قاعة العرض، أفكر وفي النفس مشاعر شتى، منها الزهد بما هو ذاتي أنانيّ. وكم تمنيت وقتها لو شاهد الساسة هذه المسرحية.
الساسة يقرؤون، ويشاهدون، ويفكرون ويشعرون..
هل هم كذلك؟
المهم: أن تتجلى تلك الطاقات الإنسانية في القيادة والحكم وصنع القرارات بما ينتصر للمواطن والإنسان..
المصير!
هنا، وهناك ثمة ارتباط عضوي، موضوعي، شكلا ومضمونا بين ما هو خلاص فرد وخلاص شعب؛ فتهديد غياب فرد عن المشهد العام، ربما، يجعله يدفع أثمانا وطنية وقومية من أجل البقاء.
وهنا نردد دوما حق تقرير المصير لشعبنا؛ لعلنا نتعمق فيما هو خلاص حقيقي لنا جميعا.
لعلنا جميعا شعبا وقادة نتأمل في الأدب والفن..
Ytahseen2001@yahoo.com